الحسينُ عليه السلام على وجهِ الثرَى

قالوا: ومكَثَ الحسينُ عليه السلام طَويلاً من النَّهارِ مَطروحَاً عَلَى وَجهِ الأرضِ وهوَ مغشيٌّ عليهِ، ولو شَاؤوا أنْ يقتلوهُ لَفعلُوا، إلَّا أنَّ كلَّ قبيلةٍ تتَّكِلُ على الأُخرى وتكرَهُ الإقدامَ.

فعندَها صاحَ شِمرُ بالناسِ: ويحَكُمْ، مَا وقوفُكُمْ؟! ومَا تنتظرونَ بالرجلِ؟! وقدْ أثخنَتْهُ السهامُ والرماحُ، احملُوا عليهِ، اقتلوهُ، ثكلتْكُمْ أمُّهاتُكُمْ.

فحَمَلُوا عليهِ مِنْ كلِّ جانبٍ:
فضَربَهُ لعينٌ على كتِفِهِ اليُسرى...
وضربَهُ آخرُ على عاتقِهِ المُقَدَّسِ...


وطعنَهُ سِنانٌ بالرمحِ على تَرقُوَتِهِ1، ثمَّ انتزعَ الرمحَ وطعنَهُ في بواني صدرِهِ، ثمَّ رماهُ بسهمٍ وَقَعَ في نحرِهِ..
فَنزعَ السهمَ مِن نَحرهِ وَقَرَنَ كفّيهِ جَميعَاً فلمَّا امتلأتَا مِن دِمائِه خَضَّبَ بِهمَا رأسَهُ ولِحيتَهُ وهوَ يقولُ: "هكَذَا ألقَى اللهَ مُخَضَّباً بِدَمي مَغصُوباً عَليَّ حَقِّي"...


  73


يقولُ هِلالُ بنُ نافعٍ: كنتُ واقفاً نحوَ الحسينِ وهوَ يجودُ بنفسِهِ، فواللهِ، ما رأيتُ قتيلاً قطُّ مضمَّخاً بدمِهِ أحسنَ وجهاً ولا أنوَرَ، ولقدْ شَغلَنِي نورُ وجهِهِ عن الفِكرةِ في قتلِهِ..

ولمّا اشتدَّ بهِ الحالُ رفعَ طَرْفَهُ إلى السماءِ وقالَ: "اللهُمَّ أنتَ مُتَعالي المكانِ، عظيمُ الجبروتِ، شديدُ المِحال
2، غنيٌّ عَنِ الخلائقِ، عريضُ الكِبْرياءِ، قادرٌ علَى مَا تشاءُ، قريبُ الرَّحمةِ، صادِقُ الوَعْدِ، سَابِغُ النِّعمةِ، حَسَنُ البلاءِ، قريبٌ إذا دُعِيتَ، مُحيطٌ بما خَلَقْتَ، قابِلُ التوبةِ لمن تابَ إليكَ، قادرٌ على ما أَرَدْتَ، مُدرِكٌ ما طَلَبتَ، شَكورٌ إذا شُكِرتَ، ذَكورٌ إذا ذُكِرتَ، أدعوكَ مُحتَاجاً وأرغبُ إليك فَقيراً، وأفزَعُ إليك خائِفاً، وأَبكِي مَكروباً، وأستعينُ بكَ ضَعِيفاً، وأتَوَكَّلُ عَليكَ كَافِياً.

"اللهُمَّ احكُمْ بَينَنَا وبينَ قومِنَا، فإنَّهم غرُّونَا وخَذَلُونَا، وغدَرُوا بِنَا وقتلونا، ونحنُ عِترةُ نبيِّكَ، وَوِلدُ حبيبِكَ محمَّدٍ الذي اصطفيتَه بالرسالةِ، وائتمنتَهُ على الوحيِ، فاجعَل لنَا من أمرِنا فرَجاً ومخرَجاً يا أَرحم الراحمينَ".

"صَبراً على قضائِكَ يا ربِّ، لا إلهَ سِواكَ يا غياثَ المُستَغيثينَ، ما لي ربٌّ سِواكَ ولا معبودٌ غيرُكَ، صبراً على حُكْمِك، يا غِياثَ من لا غِيَاثَ له، يا دائماً لا نَفَادَ له، يا مُحييَ المَوتى، يا قائِماً على كلِّ نَفسٍ بما كَسبَت، أُحكُم بَيني وبيَنهم وأنتَ خيرُ الحاكِمينَ".


  74


  هوامش

1-التُرْقُوة: بضمّ التّاء وسكون الرّاء وضمّ القاف: وهي العظم المتّصل الممتدّ من ثغرة النحر إلى المنكب، ولكلّ واحد ترقوتان إحداهما في طرف اليمين، والأخرى في طرف اليسار.
2-شديد المحال: أي شديد العقوبة والنّكال، ويقال: المكر والخديعة، ويقال: القوّة والشدّة.