صلاةُ الظهيرة

واشتدَّ القتالُ بين الفريقَينِ حتَّى الزوالِ، فالتفَتَ أبو ثَمامةَ الصائديُّ إلى الشمسِ قد زالتْ، فقالَ للحسينِ عليه السلام: نَفسي لكَ الفداءُ، إنِّي أرى هؤلاءِ قد اقتربوا منكَ، لا واللهِ لا تُقتَلُ حتَّى أُقتلَ دونَك إنْ شاءَ اللهُ، وأُخضَّبَ بدمي، وأُحِبُّ أنْ ألقَى ربِّي وقد صلّيتُ معَكَ هذه الصلاةَ التي دَنَا وقتُها.
فرفَعَ الحسينُ عليه السلام رأسَه إلى السماءِ، وقالَ: "ذكرتَ الصلاةَ، جَعَلَكَ اللهُ من المصلّينَ الذاكرينَ، نعم هذا أوّلُ وقتِها، سَلُوا القومَ أنْ يَكُفُّوا عنّا حتَّى نصلّي".
فَفَعَلُوا.

فقالَ الحُصينُ بنُ نُمَيرٍ: إنَّها لا تُقبَلُ.
فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ: زَعَمتَ أنّها لا تُقبَلُ من آلِ الرسولِ وتُقْبَلُ منك..؟!
فحمَلَ عليهِ الحُصَينُ، فضربَ حبيبٌ وجهَ فرسِه بالسيفِ، فشبَّت‏ به الفرسُ، ووقَعَ عنها، وحمَلهُ أصحابُه واستنقذوهُ.
ثمَّ خَرَجَ حَبيبُ بنُ مُظَاهِرٍ وَعُمْرُهُ يَنوفُ على الخامسةِ والسبعينَ وقَاتَلَ قِتالاً شَديداً، فقَتلَ منهم عدداً كبيراً. وبينما


  37


 هو يقاتلُ حمَلَ عليه بَديلُ بنُ صُرَيمٍ، فضرَبهُ حبيبٌ بالسيفِ على رأسِه فقَتَلَهُ، وحمَلَ على حبيبٍ رجلٌ آخرُ من تميمٍ، فطَعَنه بالرُّمحِ، فسقطَ حبيب إلى الأرضِ فذَهَبَ لِيقومَ، وإذا الحُصَينُ يضرِبهُ بالسيفِ على رأسهِ، فسقطَ لِوجهِه يخورُ مضرَّجاً بدمهِ، ونزَلَ التميميُّ فاحْتَزَّ رأسَه، فهدَّ مقتلُهُ الحسينَ عليه السلام واسترجعَ كثيراً، وقالَ: "عِندَ اللهِ أَحتَسِبُ نفسي وحُماةَ أصحابي".

ولمّا قُتِلَ حبيبٌ أخَذَ الحرُّ يقاتِلُ راجلاً، فحمَلَ على القومِ معَ زهيرِ بنِ القَيْنِ، فكانَ إذا شَدَّ أحدُهُما فاستلْحَمَ شدَّ الآخَرُ واستنقذَهُ، ففعَلا ذلكَ ساعةً.

فبَيْنا الناسُ يتجاوَلُونَ ويقْتتِلُونَ والحُرُّ يَحْمِلُ على القومِ مُقْدِماً..يضرِبُهُمْ بسيفِهِ، إذ تكاثَرَ عليهِ الرجَّالة حتَّى أردَوْهُ صَريعاً، فحمَلَهُ الأصحابُ ووضعُوهُ بينْ يَدَي الإمامِ الحسينِ عليه السلام وبهِ رَمَقٌ، فجعَلَ الحسينُ عليه السلام يمسَحُ وجهَهُ ويقولُ: "أنتَ الحرُّ كما سمَّتْكَ أمُّكَ، وأنتَ الحرُّ في الدنيا وأنتَ الحرُّ في الآخرةِ".

لَنِعْمَ الحُرُّ حُرُّ بَنِي رِيَاح صَبُورٌ عِنْدَ مُشْتَبَكِ الرِمَاحِ
ونِعْمَ الحُرُّ إِذْ وَاسَى حُسَيْنا  وجَادَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَبَاحِ


ثمَّ إنَّ الحسينَ عليه السلام قالَ لزُهيرِ بْنِ القَينِ وسعيدِ بنِ عبدِ اللهِ: "تَقدّما أمامي حتَّى أُصلِّيَ الظُّهرَ".


  38


فتقدَّما أمامَه بنِصْفِ مَنْ بقيَ معَه منْ أصحابِه، فصلّى الحسينُ عليه السلام بالنِّصفِ الآخَرِ، فكلّما جاءتِ السهامُ نحوَ الحسينِ عليه السلام يميناً وشِمالاً قامَ سعيدٌ بينَ يَدَيهِ، فما زالَ يتلقّى النَّبلَ بنَحْرِهِ وصَدرهِ، حتَّى أُثخِنَ بالجِراحِ، وسقطَ إلى الأرضِ، وهُوَ يقولُ: اللهُمَّ العَنْهُم لَعنَ عادٍ وثمودَ، اللهُمَّ أَبلِغْ نبيَّك عنّي السلامَ، وأَبلِغْه ما لَقِيتُ من ألمِ الجِراحِ، فإنّي أردتُ بذلكَ ثوابَكَ في نُصْرَةِ ذُرِّيةِ نبيِّكَ محمّدٍ صلى الله عليه واله. ثمَّ التَفَتْ إلى الحسينِ عليه السلام (وكانَ قد فَرَغَ من صَلاته) وقالَ: أَوَفَيتُ يا بْنَ رسولِ الله؟
قالَ الحسينُ عليه السلام: "نعمْ، أنتَ أمامي في الجنَّةِ".

ثمَّ قضَى نَحبَه فوُجِدَ بهِ ثلاثةَ عَشَرَ سَهماً، سِوى ما به من ضَربِ السيوفِ وطَعْنِ الرِّماحِ.

بِأَبِي مَنْ شَرَوْا لِقَاءَ حُسَيْنٍ بِفِرَاقِ النُفُوسِ وَالأَرْوَاحِ
وَقَفُوا يَدْرَؤُونَ سُمْرَ العَوَالِي عَنْهُ وَالنَبْلَ وِقَفْةَ الأَشْبَاحِ
فَوَقَوْهُ بِيضَ الظُبَا بِالنُحُورِ الـ ـبيضِ وَالنَبْلَ بِالوُجُوهِ الصِّبَاحِ

  39