الحملة الثانية

ثمَّ قالَ الحسينُ عليه السلام لبَقيَّةِ أصحابِه: "يا كِرامُ، هذهِ الجنَّةُ فُتِحَتْ أبوابُها، واتَّصلَتْ أنهارُها، وأينَعتْ ثِمارُها، وهذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه واله والشهداءُ الذينَ قُتلوا في سبيلِ اللهِ، يَتوقَّعونَ قُدومَكُم ويتباشرونَ بكم، فحامُوا عن دينِ اللهِ ودينِ نبيّهِ صلى الله عليه واله، وذُبُّوا عن حُرَمِ الرسولِ صلى الله عليه واله ".

وخرجتْ حرائرُ الرسالةِ وبناتُ الزهراءِ عليها السلام من الخيمةِ، وصِحنَ: يا مَعشرَ المسلمينَ، ويا عُصبةَ المؤمنينَ، إدفَعوا عن حُرَمِ الرسولِ صلى الله عليه واله وعن إمامِكُم المنافقينَ، لتكونوا معَنا في جِوارِ جَدِّنا رسولِ الله صلى الله عليه واله.

فعندَ ذلكَ بكى أصحابُ الحسينِ عليه السلام، وقالوا: نفوسُنا دونَ أنفسِكُم، ودماؤنا دونَ دمائِكم، وأرواحُنا لكم الفداءُ، فواللهِ لا يصِلُ إليكم أحَدٌ بمكروهٍ وفينا عِرقٌ يَضرِبُ. ثمَّ خرجَ زهيرُ بنُ القَينِ، فوَضَعَ يدَه على مَنكِبِ الحسينِ عليه السلام وقالَ مستأذناً:

أَقـدِمْ فُدِيــتَ هــادياً مَهدِيّا

فاليومَ ألقَى جَدَّك النبيّا


  40


وحَسَــناً والمرتضَــى علـــيّا

وذا الجَــناحَينِ الفـتى الكَمِيّا1

وأسَدَ اللهِ الشهيدَ الحَيّا

 

فقالَ الحسينُ عليه السلام: "وأنا ألْقاهم على إِثْرِكَ".
فقاتلَ زُهيرٌ حتَّى قتلَ مَقتلةً عظيمةً، ثمَّ عَطفَ عليه رَجُلانِ فقتلاهُ.

فوقفَ عنده الحسينُ عليه السلام وقالَ: "لا يُبْعِدَنَّكَ اللهُ يا زهيرُ، ولَعَنَ قاتلِيكَ.. لَعْنَ الذين مُسِخُوا قِرَدَةً وخنازيرَ".
ووقفَ عابسُ بنُ أبي شبيبٍ الشاكريُّ أمامَ الحسينِ عليه السلام وقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ، واللهِ ما أمسَى على ظهرِ الأرضِ قريبٌ ولا بعيدٌ أعزَّ عليَّ ولا أحبَّ إليَّ منك، ولوْ قَدِرتُ على أنْ أدفعَ عنك الضَّيْمَ والقتلَ بشي‏ءٍ أعزَّ عليَّ من نفسي ودمي لَفعلتُ. السلامُ عليكَ يا أبا عبدِ اللهِ، أُشْهِدُ اللهَ أَنِّي على هُداكَ وهُدى أبيكَ. ثمَّ مَشى بالسيف نحوهم، فأخذَ ينادي: أَلَا رَجلٌ لرجلٍ؟ فأحْجَموا عنه، ونادى أحدُهم: أيّها الناسُ، هذا أسَدُ الأُسودِ، هذا أشجعُ الناسِ، هذا بنُ أبي شبيبٍ، لا يخرُجَنَّ إليه أحدٌ منكمْ.


  41


فصاحَ عُمَرُ بنُ سعدٍ: أرضخُوه2 بالحجارةِ. فرموه بالحجارةِ مِن كلِّ جانبٍ. فلمّا رأى ذلكَ، ألقَى دِرعَه ومِغْفَرَهُ وشدَّ على الناسِ، فهَزَمَهم بينَ يدَيهِ. ثمَّ إنَّهم تَعَطَّفوا عليهِ من كلِّ جانبٍ، فقُتِلَ واحتُزَّ رأسُهُ، وتخاصَموا فيهِ كلٌّ يقولُ: أنا قتلتُه، فقالَ ابنُ سعدٍ: لا تختصموا، هذا لم يَقتلْه رجلٌ واحدٌ.

وجَعَلَ نافعُ بنُ هِلالٍ يرميهِم بالسهامِ. ولمّا نَفدَتْ سِهامُهُ، جرَّدَ سيفَه، فحَمَلَ على القومِ، فأحاطُوا بهِ يَرمُونَه بالحِجارةِ والنِّصالِ، حتَّى كَسَرُوا عَضُدَيهِ، وأخذوهُ أسيراً، فأمْسَكَهُ شِمرُ وأصحابُه يسوقونَه إلى ابنِ سعدٍ، فقالَ: الحمدُ لله الذي جعلَ مَنايانا على يدِ شِرارِ خَلْقِهِ. وبَرَزَ بعدَ ذلكَ أَنَسُ بنُ الحَرْثِ الكاهِلي، وكان شيخاً كبيراً صَحابيّاً رأى النبيَّ صلى الله عليه واله وسمِعَ حديثَه، وشَهِدَ معه بَدْراً وحُنيناً، فاستأذن الحسين عليه السلام ، وبرز شادّاً وَسَطَه بالعِمامةِ رافعاً حاجِبَيْهِ بالعِصابةِ عن عينَيهِ. فلمّا نَظَرَ إليهِ الحسينُ عليه السلام بهذهِ الهَيئةِ بَكى، وقالَ: "شَكَرَ اللهُ سَعيَكَ يا شيخ".
فقتَلَ جَمعاً منهم وقُتلَ (رضوان الله عليه).

وأقبلَتْ أمُّ عَمْروٍ إلى وَلَدِها عَمْرِو بنِ جُنادةَ الأنصاريِّ الذي


  42


لم يبلُغِ الحُلُمَ وقد قُتِلَ أبوهُ جُنادةُ في الحَملةِ الأولى، فأَلْبَسَتْهُ لامَةَ الحربِ، وقالتْ له: بُنَيَّ عَمْرو، اخْرُجْ وقاتِلْ بينَ يَدَي ابنِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه واله، فخرجَ الغُلامُ واستأذنَ الحسينَ عليه السلام في القتالِ، فأبى الحسينُ عليه السلام أنْ يأذَنَ له، وقالَ: "هذا غلامٌ قُتلَ أبوهُ في المعركةِ، ولَعلَّ أمَّه تَكرَهُ خروجَه".
فقالَ الغلامُ: إنَّ‏ أُمِّي هيَ التي أمرَتني بذلكَ.

فأَذِنَ له الحسينُ عليه السلام، فبرزَ إلى الحربَ وهُوَ يقولُ:

أميري حُسـينٌ ونِعْـــمَ الأميرْ سُرورُ فؤادِ البشـيرِ النذيرْ
علــــيٌّ وفـاطـــــمةٌ والــداهُ فهلْ تَعْلَمُونَ لَهُ مـِنْ نَظيرْ
لهُ طلعةٌ مثلُ شمـسِ الضُّحى‏ لهُ غُـرَّةٌ مثــلُ بـــدرٍ منيرْ

وقاتلَ فمَا أسرَعَ أنْ قُتلَ، فاحتُزَّ رأسُه ورُميَ بهِ إلى جِهةِ مُعَسْكَرِ الحسينِ عليه السلام، فأَخَذَتْ أُمُّهُ الرأسَ، ومَسَحَتِ الدمَ عنهُ، وهِيَ تقولُ: أحْسَنتَ يا بُنَيَّ، يا سرورَ قلبي ويا قُرَّةَ عَيني.

ربيت يبني وبالربى ما خاب ظني ونلت الشهادة عنك وعني
لكن فراقك نزع والله الروح مني والله تكسرون القلب يقصار الاعمار

وعادَتْ إلى المخيّمِ، فأخذتْ عَمودَ خَيمةٍ وحمَلَتْ على القومِ وهِيَ تقولُ:


  43


أنا عَجوزٌ في النسا ضعيفةْ خاويـــــةٌ بالــيةٌ نحيــفةْ
أضرِبُكُم بضربةٍ عنــــيفةْ دونَ بني فاطمةَ الشريــفةْ

 

شحال العجوز التنتظر مصرع ولدها للموت فارقها وخلاها وحدها
تناديه يبني الوجد قطَّع كبدها لا هي بديره ولا أهل عدها ولا دار

وضرَبَتْ رَجُلَينِ بالعمودِ فدعا لها الحسينُ عليه السلام وأمرَ بِرَدِّها إلى المخيَّمِ فرَجَعَتْ.
وكانَ للحسينِ عليه السلام غُلامٌ تُرْكِيٌّ اسْمُه سُليمانُ، فاستأذَنَه في القتالِ فأذِنَ له، فحَمَلَ على القومِ وقتلَ جماعةً كثيرةً، ثمَّ وقعَ صَريعاً، فاستغاثَ بالحسينِ عليه السلام فأتاهُ واعتنَقَهُ، ففتحَ الغلامُ عينَه ورأى الحسينَ عليه السلام فتبسَّمَ، وأخذَ يفتَخِرُ ويقولُ: مَنْ مِثلي وابنُ رسولِ اللهِ واضعٌ خَدَّه على خَدِّي؟ ثمَّ فاضَتْ نفْسُه بين يَدَي الحسين عليه السلام.

ثمَّ جاءَ حَنظَلةُ بنُ أسعدَ الشِّبامِيُّ فوقف بينَ يدَي الحسينِ عليه السلام يَقِيهِ السهامَ والرماحَ والسيوفَ بوَجْههِ ونَحْرهِ، وأخذَ ينادي:
﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ *وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ *يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن


  44


 يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد3.

يا قومِ لا تقتلوا حسينَاً فَيُسْحِتَكُمُ 4 اللهُ بعذابٍ وقدْ خابَ مَنِ افترَى. فقالَ لهُ الحسينُ عليه السلام: "يا ابنَ أسعدَ، رَحِمَكَ اللهُ إنَّهُم استَوجَبُوا العذابَ حينَ رَدُّوا عليكَ ما دَعَوتَهم إليهِ منَ الحقِّ ونَهَضوا إليكَ يشتمونَكَ وأصحابَك، فكيفَ بهمُ الآنَ وقدْ قتلوا إخوانَك الصالحين؟" قالَ: صَدَقْتَ جُعِلْتُ فِداك. أَفَلا نروحُ إلى الآخِرَةِ ونَلحَقُ بإخوانِنا؟

فقالَ: "بلى، رُحْ إلى ما هو خَيرٌ لكَ منَ الدنيا وما فيها وإلى مُلْكٍ لا يَبلَى". فقالَ: السلامُ عليكَ يا بن رسول الله، صلّى اللهُ عليكَ وعلى أهلِ بيتِك وعَرَّفَ بَيْنَنا وبينَك في الجنَّة، فقالَ: "آمينَ، آمينَ"، ثمَّ تَقدَّمَ وقاتلَ قتالَ الأبطالِ وصَبَرَ على احتمالِ الأهوالِ حتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللهُ.

ولم يزَلْ أصحابُ الحسينِ عليه السلام يُسارعونَ إلى القتلِ بين يدَيهِ، وكانَ الرجلُ بعدَ الرجلِ يَأتِي إلى الحسينِ عليه السلام ويقولُ: السلامُ عليكَ يا بنَ رسولِ اللهِ، فيُجيبُه الحسينُ عليه السلام:"وعليكَ السلامُ ونحنُ خَلفَكَ". ويقرأُ:
﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا5.
حتَّى قُتلوا بأجمعِهم (رضوان الله عليهم).


  45


  هوامش

1-الكَميَّا: الشجاع المتكمّي أي المتغطّي بسلاحه.
2-الرضخ: كسر الرأس، والمراضخة بالسهام: المراماة.
3- غافر: 30- 33.
4-يسحتكم: يستأصلكم. أسحت الشيء استأصله.
5-الأحزاب : 23.