المحاضرة الثالثة: خصائص المجتمع المسلم (3)

تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى1.

الهدف:

التركيز على فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في صلاح المجتمع.


229


المقدَّمة
تبين هذه الآية أنّ الإعراض عن المنهج الإلهي في الحياة هو السبب المباشر لحياة الشقاء والضنك، وفي الآية إشارة لطيفة باستخدامه كلمة الإعراض التي تعني انشغال المرء بما هو أهمّ في نظره، فالإنسان إذا اشتغل بما أهمّه أعرض عمّا لا يعنيه كثيراً، ولذلك وصف المؤمنون بأنهم عن اللغو معرضون لانشغالهم بالذكر وصالح الأعمال، وبالتالي فإنّ المسلمين لمّا انشغلوا بنهج آخر غير النهج الإلهي وانجذبوا إليه وانبهروا به ومالوا إلى التشبه به عن ضعف في الإيمان وانكسار في الإرادة كان أن أورثوا الأمة وبال فعالهم وحوّلوا حياتهم من الأمن والسلامة واليسر إلى ضنكٍ وبؤسٍ وشقاء.

محاور الموضوع

والحديث عن المجتمع الإسلامي حديث عن مجتمع ديني محكوم في قوانينه وقواعده وأنظمته وكلّ مجرياته بالبعد الديني الرسالي الوارد عن الله تعالة عبر أنبيائه ورسله، وعبر


230


ما اختزنه كتاب الله من مفاهيم وأحكام شرعية، فالمجتمع الديني ليس مجتمعاً مادياً أو براغماتياً أو قبلياً أو حزبياً أو ما شاكل.

ومن هذه الصفات التي ينبغي توفّرها في هذا المجتمع:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال تعالى:
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ2
وما أحوجنا اليوم إلى هذه الفريضة لإصلاح المجتمع والنهوض به، بل ما أحوجنا اليوم إلى هذه الثقافة في صفوف أهلنا وعدم التواكل في أداء هذه الفريضة التي باتت اليوم تُحارب تحت شعارات الحرية الفردية والاختيار الخاصّ وغيرها من العناوينالتي تسمح للفساد أن يتغلغل في المجتمع كالنعاس، فيتسلّل إلى بيوت الجميع ويفتك بلا هوادة.

قال تعالى:
﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ3.


231


لعلّ أهمّ مؤشّرات الخير في الأمة مدى قيامها كأمة بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أنّ تحسّس المنكر ليس تحسّساً فردياً وإنما هو همٌّ جماعيّ ونشر المعروف ليس رغبة شخصية وإنما هو طموح عامّ للأمة، فالأمة التي تحافظ على هذه الفريضة هي وحدها الأمة التي يُتوسّم فيها الخير والصلاح، وبالتالي فإنّ تخلّيها عن هذه الفريضة وإسقاطها لهذه الراية كفيلٌ بإخراجها عن جادة الخير والصلاح إلى مهاوي الشرّ والفساد والرذيلة.

وفي الحديث عن ضرورة التزام المجتمع فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى:
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ4.

وقال تعالى مؤكّداً أنّ هذه الفريضة هي سمة مجتمع أهل الإيمان:
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ5.


232


وفي كلتا الآيتين يظهر وجوب الأمر من الله بضرورة إقامة هذه الفريضة.

ويبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة عدم المداراة والتواكل والتخاذل في هذه الفريضة ويبين أنّ القرب والبعد من الله نقيض القرب والبعد عن أهل الفسق والفجور فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "تقرّبوا إلى الله تعالى ببغض أهل المعاصي، وألقوهم بوجوه مكفهرّة، والتمسوا رضا الله بسخطهم، وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم"6.

وتحتل هذه الفريضة مكانة خاصّة في الشريعة الإسلامية، بل ترقى إلى كونها محور هذه الشريعة وركيزتها الأساس، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "قوام الشريعة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود"7.

وبطبيعة الحال فإنه إذا كانت هذه الفريضة قوام الشريعة أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر له مقام خاصّ عبّرت عنه النصوص بأنه مقام خليفة الله، وكأنّ القيام بهذه


233


الفريضة من شأنه استبطان كافّة الفضائل الأخرى، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في الأرض، وخليفة رسوله"8.

وحثّت الشريعة على عدم التهاون في أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأيّ ذريعةٍ أو سبب، بل إنّ مناخ الروايات يشير إلى ضمانةٍ إلهيةٍ يتكفل بها الله تعالى أن لا يصيب محبِّي هذه الفريضة أيّ ضرر في ماله أو عمره مهما بلغ حجمالتحدّي أو المواجهة مع تاركي المعروف وفاعلي المنكر، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر"9.

وفي الحديث عن آثار ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تشرح النصوص الشريفة أنّ ذلك مما يورث تسلّط الأشرار والعذاب الإلهي وفقدان البركة والرحمة والإضرار بالمجتمع والعداوة مع الله وصولاً إلى اعتباره الموت الحقيقيّ.


234


وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتبراً أنّ ترك هذه الفريضة من هوان النفس وحقارتها إذ يقول: "لا يحقّرنّ أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله وكيف يحقّر أحدنا نفسه ؟ قال: يرى أنّ عليه مقالاً، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عزّ وجلّ يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيكذا وكذا ؟ فيقول: خشية الناس ! فيقول: فإياي كنت أحقّ أن تخشى"10.

وفي الختام يجب أنّ نُسلّم أن البشرية يوم أن انحرفت عن منهج الله أصابها البلاء والعذاب الشديد.. هذا من حيث انحراف أمم الأرض غير المسلمة، أمّا المسلمون على وجه الخصوص فقد وصلوا إلى دركات من الانحطاط لم يبلغها من قبلهم ممن فرطوافي خصائص مجتمعهم.

وما يجب أن تسعى إليه أمة الإسلام اليوم عن طريق علمائها ودعاتها ومفكّريها ومثقّفيها هو البلوغ بهذه المجتمعات الممزقة التي أهلكتها العادات المخالفة للدين والشهوات المفرطة، والأخلاق السيئة، إلى درجات عليا من درجات


235


الخير والصلاح, حتىتكون مهيأة لقيادة الأرض، ويتمّ ذلك من خلال غرس مبادئ وخصائص المجتمع الإسلاميّ، عن طريق الكلمة المؤثّرة والقدوة الحسنة، والكتاب النافع، والمقالة الهادفة، والأعمال الحسنة..


236


هوامش

1- سورة طه، الآية 124.
2- سورة آل عمران، الآية 104
3- سورة آل عمران، الآية 110.
4- سورة لقمان، الآية 17.
5- سورة التوبة، الآية 71.
6- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1953.
7- المصدر السابق، ص1940.
8- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص1940.
9- المصدر السابق، ص1944.
10- المصدر السابق، ص1952.