المحاضرة الثانية: الخوف من الله وتجنّب مَعْصِيَتِه

الهدف:
بيان ضرورة معرفة الله لحصول الخوف للعبد في الدنيا حتّى يدرك الأمن يوم الأهوال.

تصدير الموضوع:

"وعزّتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين".


25


مقدّمة:
عندما يبلغ الإنسان سنّ التكليف ويوكّل الله به ملكين في الليل وآخرين في النهار ويشرعان بإحصاء الأعمال له أو عليه فإنّ بعض النّاس يقضون حياتهم باللهو واللعب ويغفلون عما يراد بهم ثمّ ينتقلون من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة كانتقالهم من عالم الأرحام إلى عالم الدنيا، هؤلاء الخائبون الذين أنساهم الله أنفسهم كما نسوا الله يوم العمل وهؤلاء الخائفون الخاسرون الذين خسروا أنفسهم لتركهم التجارة في دار الكسب فطال عليهم الأمد، ففي الآخرة خائفون لأنّهم في الأولى كانوا آمنين، فخوفهم خوف الذلّ والمهانة لا خوف الخشية والمهابة، وأمنهم أمن النائمين السامدين لا أمن الراجين العاملين، والبعض الآخر اتّخذ لنفسه "الخوف شعاراً والحزن دثارا1، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة2، لقد وفقوا للاستعانة على بعد المسافة بطول المخافة"3، فقد بلغوا رأس الحكمة لمعرفتهم أنّها لا تكمن إلّا في الخوف من الله تعالى، فحينما يأوون إلى فُرشُهم فهم على حذر، وإذا استيقظوا فهم على وجل، وكلّ ذلك لأنّهم عرفوا الله حقّاً، فالخوف من الله بقدر معرفته والخشية منه تعالى بمقدار علمه، هنيئاً لهم: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا4، "وطوبى لنفس أدَّت إلى


26


ربّها فرضها... وهجرت في الليل غُمْضَها... افترشت أرضها وتوسّدت كفّها في معشرٍ أسهر عيونهم خوفُ معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبُهم"5.

محاور الموضوع
من عَرَفَ الله خَافَ الله:

كلّما ازداد الإنسان معرفة بربّه كلّما ازداد حبّاً له وخوفاً منه، ويكفي من معرفته الحدّ الأدنى كأنْ يعرف بأنّه هو خالقه وبارئه ومصوّره، منه المبدأ واليه المعاد، ويحصي عليه عمله في دار الدنيا بعد أن جعلها دار عمل، ثمّ يحشره إليه ويسأله عن كلّ كبيرة وصغيرة ثمّ يثيبه على ما صلح من أعماله، ويعاقبه على ما اقترفت يداه من الإثم والمعاصي، وهكذا فكلّ من كان بالله أكثر معرفة كان من الله أكثر مخافة6. وجاء في حكمة آل داوود: "يابن آدم، أصبح قلبك قاسياً وأنت لعظمة? ناسياً، فلو كنت بالله عالماً وبعظمته عارفاً لم تزل منه خائفا..."7.

ففي كثير من الحالات يترك المرء عملاً لوجود ناظر ينظر إليه ويهجر فعلاً لاحتمال وجود من يطّلع عليه أيكون الله سبحانه وتعالى أهون الناظرين إليه وأخفّ المُطَّلعين عليه؟ وهكذا لو خافَ تعجيل العقوبة وتسريع الحساب أيكون من المبادرين إلى ارتكاب الذنب واقتراف المعصية؟ بالتأكيد لا،


27


إذن فليعلم أنّه كما يستحي من وجود ناظر إليه فليستحِ من وجود خالقه، وكما يخاف من العقوبة المعجَّلة فليخف من العقوبة المؤجّلة لأنّ كلَّ أجلٍ سيصبح عاجلاً، فما أجمل ما صوّره لنا الإمام السجّاد عليه السلام كما جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي حيث يقول عليه السلام: "واعف عن توبيخي بكرم وجهك فلو اطّلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ولو خفتُ تعجيل العقوبة لاجتنبته لا لأنّك أهون الناظرين إليّ وأخفّ المطّلعين عليّ".

المؤمن يعمل بين مخافتين:

إذا وصل الإنسان في سيره إلى منتصف الطريق فيجب أن ينظر فيما مضى من الأَجَل، وليتأمّل فيما احْتَطَبَهُ على ظهره، وكيف يخفّف الأثقال ويفكّ الأغلال، وفيما يأتي من الأجل وما بقي له من العمر وليتدبَّر فيما يكتسبه أَلَهُ أم عليه؟ فهو على كلّ حال ما بعد الدنيا من مُسْتَعَتب وقد ورد في ذلك عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "ألا وإنّ المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد المؤمن نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، الشيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فوالله الذي نفس محمّد بيده ما بعد الدنيا من مُسْتَعْتَب وما بعدها من دار إلّا الجنّة والنّار"8.


28


المؤمن يشعر بالتقصير دائماً:
أخطر المسالك وأعظم المهالك فيما لو اتّكل العبد على عمله ووثق به بل على المؤمن أن يشعر نفسه بالتقصير ويصبح وجلاً ويمسي خائفاً، وإلّا لوقع في الغرور، ودخله العُجب، وهو من أوثق فرص الشيطان ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين، وليكن كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ المؤمن لا يصبح إلّا خائفاً وإن كان مُحسناً، ولا يُمسي إلّا خائفاً وإن كان مُحسناً"9. بل عليه أن يعمل وَيَجدّ ويجتهد ثمّ يأمل الجود الإلهيّ في الفوز برضوانه ويتّكل في النجاة من عقابه على فضله كما جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي: "لست اتّكل في النّجاة من عقابك على أعمالنا بل بفضلك علينا لأنّك أهل التقوى وأهل المغفرة"، وممّا جاء في مناجاة الخائفين لمولانا الإمام زين العابدين عليه السلام: "الهي أجرنا من أليم غضبك وعظم سخطك يا حنّان يا منّان... نجِّني برحمتك منعذاب النّار وفضيحة العار إذا امتاز الأخيار من الأشرار وحالت الأحوال وهالت الأهوال وقرب المحسنون وبعد المسيئون، ووفّيت كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون".

سيماء الخائفين:

عندما يدخل الخوف قلب امرئ يجعله في حيرة من أمره ويذهله عن كامل شؤونه، يلوذ ممّا يخاف منه بالفرار ولم يعقب، ويلوذ بمن يأمنه ملتجئا من دون استئذان، وهذه هي حالة كلّ خائف مرعوب أو راج


29


مرهوب فكيف إذا كان خائفاً من ربّه أو فارّاً من ذنبه فالأحرى به أن يفرَّ إلى ملجأ ويأوي إلى مأمنٍ، وتظهر علامات لا يقدر على إخفائها:
منها: ما يبدو على جسمه كالنّحول والوهن من شدّة المرض، وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين عليه السلام وهو يصف المتّقين حيث قال: "قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ويقول قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم، لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون ومن أعمالهم مشفقون"10.

ومنها: ما يصيب قلوبهم بالانكسار من خشية الله كما جاء عنه عليه السلام أيضاً حيث قال: "إنّ لله عباداً كسرت قلوبهم خشية? فاستكفوا عن المنطق وإنّهم لعظماء عقلاء أَلِبَّاء نبلاء، يسبقون إليه بالأعمال الزاكية، لا يتكثّرون له الكثير ولا يرضون له القليل، ويرون أنفسهم أنّهم شرار، وإنّهم الأكياس الأبرار"11.

ومنها: صفات يتحلّى بها، كطرد حبّ الشرف والذكر المُبْعِدَين عن الخوف من المولى تعالى، كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ حبّ الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب"12.

ومنها: ما ينعكس على سلوكه ككفّ الأذى ووقوع الظلم على الآخرين


30


كما في الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام حيث قال: "من خاف ربّه كفّ ظلمه"13.

أنواع الخوف:

يعتبر الخوف من الكيفيّات النفسانيّة ومن المفاهيم المشكّكة فتختلف شدّة وضعفاً بحسب الحالة التي يكون عليها الخائف وقد ذكر له أنواع خمسة: خوف وخشية ووجل ورهبة وهيبة، فالخوف للعاصين، والخشية للعالمين، والوجل للمخبتين، والرهبة للعابدين، والهيبة للعارفين، أمّا الخوف فلأجل الذنوب قال الله عزَّ وجلّ: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، والخشية لأجل المعرفة قال الله عزَّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء، وأمّا الوجل فلأجل ترك الخدمة قال الله عزَّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، والرهبة لرؤية التقصير قال الله عزَّ وجل: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا، والهيبة لأجل شهادة الحقّ عند كشف الأسرار أسرار العارفين قال الله عزَّ وجلّ: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ14.


31


آثار الخوف:
إنّ لكلّ شيء أثراً وأثر الذنوب سجن النّفس من الذنوب فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "الخوف سجن النّفس من الذنوب ورادعها عن المعاصي"15. وقال عليه السلام: "نعم الحاجز عن المعاصي الخوف"16.


32


هوامش

1- بحار الأنوار، ج 7، ص 382.
2- من كلام لأمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتّقين.
3- بحار الأنوار، ج 77، ص 44.
4- سورة السجدة، الآية: 16.
5- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج3، ص 75.
6- بحار الأنوار، ج70، ص 373.
7- المصدر نفسه، ص382
8- بحار الأنوار، ج70، ص 382.
9- بحار الأنوار، ج70، ص 382.
10- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج2، ص 162.
11- بحار الأنوار، ج69، ص 286.
12- الكافي، ج2، ص 69.
13- تفسير نور الثقلين، ج2، ص 69.
14- الخصال، ج1، ص 282؛ بحار الأنوار، ج70، ص381.
15- غرر الحكم.
16- المصدر نفسه.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي