المحاضرة الثانية: الجَفَافُ الرُّوحيّ، وفُتُور الإيمان، وَسُبُل مُعَالَجَتِه

الهدف:
التعرّف على أسباب الانحراف السلوكيّ وسُبل معالجته.

تصدير الموضوع:

رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الارتقاء إلى الفضائل صعب منجي، والانحطاط إلى الرذائل سهل مُردي"1.


77


مقدّمة
رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"2. إنّ الغاية من التكليف الإلهيّ وبعثه الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين للنّاس هي تحقيق الكمال الروحيّ والنفسيّ للإنسان، وإنشاء المجتمع الإسلاميّ الفاضل, الذي تتوازن فيه علاقات أفراده وتتكامل، ولم تكتف الشريعة بهذه الإرشادات فحسب بل إنّها صبغت الفرائض بصبغة ذات أبعاد روحيّة لتنعكس في حياة الإنسان كلّها، فالصلاة مثلاً، إضافة إلى كونها فريضة إلهيّة، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإنّها تربّي المصلّي على الممارسات الأخلاقيّة الإيجابيّة والمثلى ما يحصّنه من الوقوع في الذنوب.

محاور الموضوع
أسباب انحراف الإنسان ووقوعه في المعاصي

السؤال المهمّ هنا: لماذا ينحرف الإنسان عن رسالة السماء في سلوكه مع أنّه يحافظ على اعتقاده بالدّين؟ والجواب باختصار: هناك أسباب كلّيّة تؤثّر سلباً على سلوك الإنسان، ويتفرّع عنها الكثير من الجزئيّات، منها:
السبب الأوّل: ضعف الإيمان

إنّ أهمّ سبب من أسباب الوقوع في المعاصي هو ضعف الرادع الدينيّ


78


عند الإنسان، أو ما تحدّثت عنه الروايات بعنوان "ضعف الإيمان"، فنحن نشاهد في مجتمعنا كثيراً من النّاس يشكون من قسوة قلوبهم، ومن قلّة خشوعهم في صلاتهم، ونرى من سلوكيّات بعضهم غلبة حرصهم على الدنيا ويأسهم وقنوطهم وحزنهم في الظروف والمصائب القاسية، بالإضافة إلى الأنانيّة والغرور والتعصُّب، إلى غيرها من الأمراض المتعدّدة والتي ترجع إلى سبب واحد وهو ضعف الإيمان، الذي يزداد ويشتدّ بالطاعات وينقص ويضعف بالمعاصي، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ3.

وهناك أسباب متعدّدة لضعف الإيمان نشير إلى أهمّها:

1- غلبة الهوى وطول الأمل: فغلبة الهوى تجعل الإنسان يميل إلى الشهوات، وطول الأمل ينسيه الآخرة ويجذبه للدنيا.
2- ارتكاب الكبائر والفواحش.
3- ارتياد أماكن المعصية.
4- ترك تعاهد القرآن والذهاب إلى المساجد والأماكن المقدَّسة.
5- ترك مجالسة العلماء وأهل العبادة.


79


السبب الثاني: سيطرة القوى والغرائز
خلق الله مجموعة من الغرائز والقوى في الإنسان بما ينسجم مع تكوينه كالقوّة الشهويّة والقوّة الغضبيّة والقوّة الوهميّة، ولكن إن لم يعرفها ولم يسعَ إلى توجيهها ستؤدّي به لا محالة إلى هلاكه الحتميّ ووقوعه في المعاصي. وإنّ هذه القوى الباطنيّة المودعة في الإنسان قد تؤثّر سلباً أو إيجاباً في سلوكه وعلاقته بالله تعالى، فالإنسان في حركته التصاعديّة العقليّة قد يصل إلى درجة أعلى من الملائكة إذا ابتعد عن الذنب بإرادته واختياره وتحكيمه لعقله وسيطرته على غرائزه، وقد يصل في حركته التنازليّة من خلال اتباعه للشهوات إلى درجة يصبح فيها كالأنعام بل أضلّ سبيلاً، روي عن أمير المؤمنين عليه السلام "إنّ الله خصّ الملك بالعقل دون الشهوة والغضب. وخصَّ الحيوانات بهما دونه، وشرّف الإنسان بإعطاء الجميع، فإن انقادت شهوته وغضبه لعقله صار أفضل من الملائكة لوصوله إلى هذه المرتبة مع وجود المنازع والملائكة ليس لهم مزاحم..."4.

السبب الثالث: جلساء السوء

من الأمور الخطيرة التي توقع الإنسان بالمعصية هي مصاحبة الأشرار (جلساء السوء) لأنّهم يزيّنون لصاحبهم ويجعلونه مثلهم. فالإنسان يتأثّر بمن يصاحب والصديق يترك تأثيراته السلبيّة والإيجابيّة بشكل لا شعوريّ في صديقه، ما يجعل مسألة الصداقة ذات ارتباط وعلاقة قويّة بمصير الإنسان


80


في كثير من المجالات. ولمصاحبة ومجالسة أصحاب السوء مضارٌّ كثيرة نذكر منها:
- إنّه قد يشكّك بعقائدك الحقّة ويصرفك عنها إلى العقائد المنحرفة.
- يدعو جليسه إلى مماثلته في الوقوع في المحرّمات والمنكرات، والمرء بطبعه يتأثّر بالعادات السلوكيّة لجليسه وبأخلاقه.
- إنّ مجالستهم فيها هدر ومضيعة للوقت الذي يحاسَب عليه يوم القيامة.

السبب الرابع: ضعف قوّة عفّة النّفس

تقع "العفَّة" في النقطة المقابلة لـ "شهوة البطن والفرج" وهي عبارة عن حصول حالة للنفس تمتنع بها من غلبة الشهوة، وتحفظها من الميول والشهوات النفسانيّة، وقد ذكر علماء الأخلاق في تعريف العفّة أنّها الحدّ الوسط بين الشهوة والخمود. ولا يمكن لأيّ شخص أن يسير نحو الكمال من دون التحلّي بها ونجد في حياتنا الدنيويّة أنّ كرامة الإنسان وشخصيّته وسمعته رهينة بالتحلّي بهذه الفضيلة الأخلاقيّة5، عن الإمام عليّ عليه السلام "أفضل العبادة العفاف"6، وعنه عليه السلام: في وصيته لمحمد بن أبي بكر لما ولاه مصر: "يا محمد بن أبي بكر، أعلم أن أفضل العفة الورع في دين الله والعمل بطاعته..."7. وهي أفضل شيمة، وعنه عليه السلام: "العفّة أفضل الفتوّة"، وأفضل شيمة، والعفاف زينة الفقر، وعنه عليه السلام: "زكاة الجمال العفاف"8.


81


وأكثر ما يؤدّي إلى الابتذال وضعف العفّة أو عدم وجود العفاف هو:
- وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة وما تقدّمه من سموم عبر شاشاتها ووسائلها المختلفة.
- حملات الإفساد الموجّهة للمرأة، وتزيين الفاحشة لها، وذلك بالدعوة للتبرّج والسفور، وترك الحجاب.
- تأخّر الزواج عند الشباب، وذلك بسبب صعوبة المعيشة وارتفاع المهور.

سُبل التوجيه والعلاج

هنالك العديد من الوسائل والأساليب التي تساهم في تعزيز قوّة الإلتزام بالسلوك السويّ المنسجم مع أحكام الشريعة الإسلاميّة منها:
الأوّل: مخالفة الأهواء والمحاسبة، والنقد الذاتيّ

إنّ كلّ إنسان له أهواؤه - قلَّت أو كثرت - وهي تتعلّق بالمال، الأكل والشرب، الجاه والمركز، التحكّم والسيطرة على الآخرين... والمهمّة الملِحّة هنا، هي إضعاف تأثير هذه الأهواء في السلوك، والتحكّم فيها، وعدم السماح لها بالسيطرة على النّفس، وهذا ما ينتج من مجموعة عوامل من أهمّها مخالفة الهوى. قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى9.


82


الثاني: قراءة القرآن بتدبّر
والقرآن يمثّل كلمات الله التي تتضمّن المبادئ العالية لتربية الإنسان وارتباطه بالله تعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ10.

الثالث: ممارسة الشعائر الإسلاميّة

فإنّها بمثابة الغذاء للمؤمن الذي ينمّي لديه قوّة الإيمان بالله ويصعد بوجوده نحو الكمال الإلهيّ، ومن مصاديق الشعائر الإسلاميّة: الصلاة، الصوم، الإنفاق، الحجّ، قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ11.

الرابع: الذكر

ويتمثّل بأنواع الدعاء وبألفاظ التهليل والتكبير والتسبيح والتمجيد، قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ12. وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا13, وعن الإمام الصادق عليه السلام: "...من أشدّ ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيراً".

الخامس: تذكّر الموت

وحساب القبر والمراحل التي سوف يواجهها الإنسان في الحياة الآخرة،


83


وما أعدّ الله للمطيعين من نعيم وما أوعد به العاصين من عذاب، وقد أشار الإمام عليّ عليه السلام في كتابه إلى محمّد بن أبي بكر بقوله: "وكفى بالموت واعظاً" وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: "أكثروا ذكر الموت، فإنّه هادم اللذّات..."14.


84


هوامش

1- ميزان الحكمة، ج3، ص 2432.
2- بحار الأنوار، ج16، ص21.
3- سورة التوبة، الآية:124- 125.
4- جامع السعادات، النراقي،ج1، ص56.
5- الأخلاق في القرآن الكريم، آية الله ناصر مكارم الشيرازي،ج1، ص 102.
6- الكافي، ج 2، ص379.
7- بحار الأنوار، ج 77، ص 390.
8- غرر الحكم، الحكمة: 729- 730.
9- سورة النازعات، الآية: 40-41.
10- سورة الإسراء، الآية: 9.
11- سورة فاطر، الآية: 10.
12- سورة الرعد، الآية: 28.
13- سورة آل عمران، الآية: 41.
14- وسائل الشيعة،ج 2، باب استحباب كثرة ذكر الموت.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي