المصيبة الراتبة

مقدّمة المجلس

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضَلُ الصلاةِ والسلامِ على نبيِّ الرحمةِ والهدى محمَّدٍ المصطفى وآلِهِ المعصومين، أعلامِ الدينِ وقواعدِ العلمِ، الذينَ قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ فيهِمْ:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً1.

وجعلَ أجرَ نبيِّهِ محمّدٍ صلواتُهُ عليهِ وعليهمْ مودَّتَهُمْ في كتابِهِ، فقال:
﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى2.
وقال محذّراً من انقلابِ أمّتِهِ عليهِ وعليهم:
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ3.


9


والحمدُ للهِ الذي مَنَّ علينا من بينِهِمْ بسفينةِ النجاة، ومِصباحِ الهدى، الإمامِ الحسينِ بْنِ عليّ علي السلام الذي أجمعَ المسلمون على أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالَ فيه:
"حسينٌ مني وأنا من حسين"4.

"حسينٌ سِبْطٌ من الأسباط".

"أحبَّ الله من أحبَّ حسينا".


أعظمَ اللهُ أجورَنا بمُصابِنا بالحسينِ علي السلام، وجعَلَنا وإيَّاكُمْ من الطالبيَن بثارِهِ معَ الإمامِ المهديِّ من آلِ محمَّدٍ صلواتُ اللهِ عليهِ وعليهِمْ.
أعظمَ اللهُ لكُمُ الأجرَ سادتي يا رسولَ اللهِ، ويا أميرَ المؤمنينَ، ويا أبا محمَّدٍ الحسنَ المُجتبى وأهلَ البيتِ جميعاً، وأعظمَ اللهُ لكَ الأجرَ سيِّدي يا بقيَّةَ اللهِ في الأرضِينَ صاحبَ العصرِ والزمانِ، بمُصابِ المولى أبي عبدِ اللهِ الحسينِ صلواتُ اللهِ عليه.


10


من قصيدةٍ للسيد مهدي الأعرجي قدس سره


حتّى مَتَى أَجْفَانُنَا عَبْرى         وَإِلى مَتَى أَكْبَادُنَا حَرّى
قَدْ حَلَّ فِينَا يَا ابنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ    مَا لَم نُطِقْ فِي حَمْلِهَا صَبْرا
نَهْضَاً فَقَد كَادَت شَريعةُ أحمَدٍ    تُمحَى وتَنشَأُ شِرعةٌ أُخرَى
طالَ احتجابُكَ سيدي مَا آنَ أنْ   نَحظَى بتلكَ الطلعةِ الغرّا؟!
تُغضِي وتتركُ ثارَ جدِِّك مُذ      أَتَتْ حربٌ له بجنودِها تَتْرَى
وعليه حرَّمتِ الفُراتُ وإنَّما      خُلقَ الفُرَاتُ لأُمِّه مَهْرَا
فغَدَى يَكِرُّ عليهم فَتَخَالُه          الكرَّار مَهمَا طَالَ أَوْ كرَّا
حتَّى إِذا أَفْنَى الجُمُوعَ وفَلّ بيـ   ضَ الماضِياتِ وحَطَّمَ السّمرَا
عمَدَتْ إليهِ يدُ القَضَا فرمَتْهُ فِي    سَهمٍ أصابَ حشاشةَ الزَّهْرا
فهَوَى عَلَى وجهِ الصَّعيدِ مُصَافِحاً   في خَدِّه خَدَّ الثَّرَى قَسْرا
أَفدِيهِ مَطروحَاً بعرصَةِ كربَلا     والخيلُ منه رضَّت الصَّدرَا
أفدِيهِ مَطروحَاً بعرصَةِ كربَلا      والقومُ لم يَدَعُوا له طَمْرَا
تركُوه عُرياناً عَلَى حَرّ الصَّفا        ملقىً ثلاثاً لَم يَجِد قَبْرَا


11


يوم عاشوراء

لما أصبحَ الحسينُ علي السلام يومَ عاشوراءَ وصلَّى بأصحابهِ صلاةَ الصُبحِ، قامَ خطيباً فيهِمْ، فحَمِدَ اللهَ وأَثْنى عليهِ، ثُمَّ قالْ:
"إنَّ اللهَ تعالى قد أذِنَ في قتلِكُمْ وقتلي في هذا اليوم، فعليكُمْ بالصبَّرِ والقتالْ".

ثُمَّ صفَّهُمْ للحرب وكانوا ـ على روايةٍ ـ اثنينِ وثلاثينَ فارساً وأربعين راجلاً.

فجعلَ زهيرَ بنَ القَيْنِ في الميمنةْ، وحبيبَ بنَ مُظاهِرٍ في الميسرةْ، وَثَبتَ هوَ علي السلام في القلبْ، وأعطَى رايتَهُ العُظمى أخاهُ العباسَ علي السلام. وجعَلُوا البيوتَ في ظُهورِهِم، وأمرَ الحسينُ عليه السلام بحطَبٍ وقصَبٍ أنْ يُجْعَلَ في خندَقٍ كانوا حَفَروه، وأنْ تُضْرَمَ بهِ النارُ فلا يأتيهِمُ العدوُّ من ورائِهِم.

وعبَّأَ عمرُ بنُ سعدٍ أصحابَهُ، وكانوا على بعضِ الرِواياتِ ثلاثينَ ألفاً، فجعَلَ عمرَو بنَ الحَجّاجِ في المَيْمَنةِ، وشِمْرَ بنَ ذي الجوشَنِ في


13


الميسَرةْ، وعلى الخَيْلِ عَزْرَةَ بنَ قيسْ، وعلى الرَجَّالةِ شَبَثَ بنَ رِبعيّ، وأعطَى رايتَهُ ذُويداً مولاه.

ولمّا نظرَ الحسينُ علي السلام إلى جمعِهِمْ كأنَّهُمُ السيلُ المنحَدِرُ، رفَعَ يديهِ بالدعاءِ قائلاً:
"أللهُمَ أنتَ ثِقتي في كلِّ كَرْب، ورَجائي في كلِّ شدَّةْ، وأنتَ لي في كلِّ أمرٍ نزَلَ بي ثِقةٌ وعُدَّةٌ، كمْ منْ همٍّ يَضْعُفُ فيهِ الفؤادُ، وتقِلُّ فيهِ الحِيلةُ، ويَخْذُلُ فيهِ الصديقُ، ويَشْمَتُ فيهِ العدُوُ، أنزلْتُهُ بكَ، وشكَوْتُهُ إليكَ، رَغْبةً مِنّي إليكَ عمَّنْ سِواكَ، ففرَّجْتَهُ وكشفتَهُ، فأنتَ وَلِيُّ كلِّ نِعمةٍ، وصاحبُ كلِّ حسنةٍ، ومنتهَى كلِّ رغبةٍ".

وأقْبلَ القومُ يَجُولُونَ حولَ مُعَسْكرِ الحسينِ عليه السلام وينظُرونَ إلى النّارِ تضطرِمُ في الخندَق، فنادى شمرُ بنُ ذي الجَوشنِ بأعلى صوتِه: يا حسين، تعجَّلْتَ بالنارِ في الدنيا قبلَ يومِ القِيامة.

فرفعَ الحسينُ عليه السلام رأسَهُ قائلاً:
"مَنْ هذا؟ كأنّه شِمرُ بنُ ذي الجَوْشَن؟".
فقالوا: نعم.
فقالَ عليه السلام :
".. أنتَ أَوْلى بها صِلِيّاً".


14


فقالَ لهُ مسلمُ بنُ عَوْسَجة: يا ابنَ رسولِ الله- جُعِلْتُ فِداك-(وقالَ له): ألا أرميه بسهم؟، فمنعه الحسين عليه السلام وقال له: "لا تَرْمِهِ، فإنّي أكرَهُ أنْ أبدأَهُمْ
بقِتال".
وجاءَ رجلٌ منْ بَني تميمٍ يُقالُ لهُ عبدُ اللهِ بنَ حَوْزة، حتَّى وقَفَ حِيالَ الحسينِ عليه السلام ، فقالَ له: أبشِرْ يا حسينُ بالنار!
فقال عليه السلام :
"بل أُقدِمُ على ربٍّ رحيمٍ وشفيعٍ مُطاع".
ثُمَّ قالَ: مَنْ هذا؟
قالوا: ابنُ حوزة.
قالَ عليه السلام :
"حازَهُ اللهُ إلى النار".
فاضطربَتْ فرَسُهُ في جَدْوَلٍ، فعلقَتْ رِجْلُهُ بالرِّكابِ، ووقَعَ رأسُهُ في الأرْضِ، ونفَرتْ بهِ الفرَس، وعجَّلَ اللهُ بروحِهِ إلى النار.


15

خطبة الحسين علي السلام الأولى

ثّم دعا الحسينُ علي السلام براحلتِهِ فركِبَها، وتقدَّمَ نحوَ القومِ ونادى بأعلى صوتٍ يُسمِعُ جلَّهم:
"أيُّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجَلُوا حتى أعِظَكُمْ بما يحِقُّ لكُمْ عليّ، وحتّى أُعْذَرَ إليكُمْ، فإنْ أعطيتُموني النَّصفَ كنتُمْ بذلكَ أسعد، وإنْ لم تُعطوني النَّصفَ من أنفسِكُمْ فأجمعِوا رأْيَكُمْ ثمّ لا يكُنْ أمرُكُمْ عليكُمْ غُمّةً. ثُمَّ اقضُوا إليَّ ولا تُنْظِرونْ، إنَّ وليِّيَ اللهُ الذي نزَّلَ الكتابَ وهو يتولَّى الصالحين".

ثم حمِدَ اللهَ وأثنى عليه وذكَرَهُ بما هو أهلُهُ وصلَّى على النبيِّ وآلهِ وعلى الملائكةِ والأنبياء.

ثم قال علي السلام:
"أيّها الناس: فانسِبوُني فانظُروا مَنْ أنا؟ ثُّمَ ارْجِعوا إلى أنفسِكُمْ وعاتِبوها، فانظُروا هلْ يصلُحُ لكُمْ قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟! ألستُ ابنَ بنتِ نبيِّكُمْ، وابنَ وصيِّهِ وابنَ عمِّهِ وأوَّلَ المؤمنِينَ المصدِّقِ لرسولِ اللهِ بما جاءَ بهِ من عندِ ربِّه؟ أوليسَ حمزةُ سيّدُ الشهداءِ عمّي؟ أوليسَ جعفرٌ الطيّارُ في الجنَّةِ بجناحَيْنِ عمّي؟ أَوَلَمْ يبلُغْكُمْ ما قالَ رسولُ اللهِ لي ولأخي: هذانِ سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّة؟


16


فإن صدَّقتموني بما أقولُ وهوَ الحَقُّ، فواللهِ ما تعمَّدْتُ كَذِباً منذُ علمْتُ أنَّ اللهَ يمقُتُ عليْهِ أهلَه، وإنْ كذَّبتُمُوني فإنَّ فيكُمْ منْ إنْ سأَلتُموهُ عن ذلكَ أخبرَكُم. سلُوا جابرَ بنَ عبدِ اللهِ الأنصاري، وأبا سعيدٍ الخِدْريّ، وسهلَ بنَ سعدٍ الساعديّ، وزيدَ بنَ أرقَمْ، وأَنَسَ بنَ مالكْ، يُخْبِرُوكُمْ أنّهم سمعُوا هذهِ المقالةَ من رسولِ اللهِ إليَّ ولأخي، أَمَا في هذا حاجزٌ لكُمْ عن سفكِ دمي؟!".

ثمّ قال لهم الحسين علي السلام:
"فإن كنتم في شكٍّ من هذا! أفتشُكُّونَ أنّي ابنُ بنتِ نبيِّكم! فواللهِ ما بينَ المشرقِ والمغربِ ابنُ بنتِ نبيٍّ غيري فيكُمْ ولا في غيرِكُمْ. ويحَكُمْ! أتطلبونني بقتيلٍ منكم قتلتُهُ! أو مالٍ لكمُ استهلكتُهُ! أو بقِصاصِ جراحة!؟".
 


17


فأخذوا لا يكلِّمونه. فنادى علي السلام:
"يا شَبثَ بن ربعيّ، يا حجّارَ بنَ أبجَر، يا قيسَ بنَ الأشعث، يا يزيدَ بنَ الحارث، ألم تكتُبوا إليَّ أنْ قد أينعَتِ الثِّمارُ واخْضَرَّ الجَناب، وإنّما تُقْدِمُ على جندٍ لك مُجنَّدة؟!".

فقال له قيسُ بنُ الأشعث: ما ندري ما تقول! ولكن انَزِلْ على حُكْمِ بني عمِّك، فإنّهم لا يُرونَكَ إلا ما تحبّ!.

فقال له الحسينُ علي السلام:
"أنت أخو أخيك، أتريدُ أن يطلبَكَ بنو هاشمٍ بأكثرَ من دمِ مسلمِ بنِ عقيل، لا واللهِ، لا أُعطيهِمْ بيدي إعطاءَ الذليلِ، ولا أُقِرُّ إقرارَ العبيد. عبادَ اللهِ، إنيّ عُذْتُ بربّي وربِّكُمْ أنْ ترجُمون، أعوذُ بربِّي وربِّكُمْ من كلِّ متكبِّرٍ لا يؤمنُ بيومِ الحساب".

ثُمَّ إنَّهُ أناخَ راحلتَهُ وأمرَ عُقبةَ بنَ سَمعانَ فعَقلَها، وأقبلوا يزحفونَ نحوَه.
 


18


خطبة زهير بن القين


قالَ الراوي: فخرَجَ إلينا زهيرُ بنُ القَيْنِ على فرَسٍ له ذَنوب، شاكٍ في السلاحِ فقال:
"يا أهلَ الكوفةِ، نَذارِ لكُمْ من عذابِ اللهِ نَذارِ، إنَّ حقاً على المسلمِ نصيحةُ أخيهِ المسلِم، ونحنُ حتَّى الآنَ إخوةٌ وعلى دينٍ واحدٍ وملَّةٍ واحدةٍ ما لمْ يقَعْ بينَنا وبينَكُمُ السيفُ، وأنتُمْ للنصيحةِ مِنَّا أهل، فإذا وقعَ السيفُ انقطعَتِ العِصمةُ وكنَّا أمّةً وأنتُمْ أمّة. إنَّ اللهَ قدِ ابتلانا وإيَّاكُمْ بذُريَّةِ نبيِّهِ محمّدٍ لينظُرَ ما نحنُ وأنتُمْ عاملون، إنَّا ندْعُوكُمْ إلى نصرِهِم وخِذْلانِ الطاغيةِ عُبَيدِ اللهِ بْنِ زياد، فإنَّكُمْ لا تُدْرِكُونَ مِنْهما إلاَّ سُوءَ عُمْرِ سُلطانِهما كلِّه، لَيَسمِّلانِ أعينَكُم، ويُقطِّعانِ أيديَكُم وأرجُلَكُم، ويُمثِّلانِ بكُم، ويَرْفَعانِكُم على جُذوعِ النَّخْلِ، ويقْتُلانِ أماثِلَكُم وقُرَّاءَكُم أمثالَ حُجْرٍ بنِ عَدِيٍّ وأصحابِهِ وهانِئ بنِ عُرْوةَ وأشباهِه".

 

فَسبُّوهُ، وأثْنَوْا على عُبيدِ اللهِ بنِ زيادٍ ودعَوْا لهُ، وقالُوا: واللهِ، لا نَبْرَحُ حتَّى نقتلَ صاحبَكَ ومَنْ معَهُ أوْ نَبْعَثَ بهِ وبأصحابِهِ إلى الأميرِ عُبيدِ اللهِ سَلَمَاً.

فقالَ لهُمْ زهير:
"عِبادَ اللهِ إنَّ وُلْدَ فاطمةَ رضوانُ اللهِ علَيْها أحقُّ بالوُدِّ والنَّصْرِ منِ ابْنِ سُميَّة، فإنْ لم تنْصُروهُم فأُعيذُكُم باللهِ أنْ تقتُلُوهُم، فخَلُّوا بينَ هذا الرجُلِ


19

وبينَ ابْنِ عمِّهِ يزيدَ بنِ مُعاوِية، فَلَعَمْري إنَّ يزيدَ لَيَرْضى مِنْ طاعتِكُمْ بدونِ قَتْلِ الحسينِ علي السلام ".

فَرَماهُ شِمرُ بنُ ذي الجوشَنِ بسهمٍ، وقال: اُسْكُتْ، أسْكَتَ اللهُ نَأمَتَكَ، أَبْرَمْتَنا بكَثرةِ كلامِك.

فقالَ لَهُ زهير:
"ما إيَّاكَ أخاطِبُ...، ما أظنُّكَ تُحْكِمُ منْ كتابِ اللهِ آيتَيْنِ، فأبشِرْ بالخِزْيِ يومَ القيامةِ والعذابِ الأليم".
فقالَ لهُ شِمر: إنَّ اللهَ قاتلُكَ وصاحِبَكَ عنْ ساعة.
قال:
"أفَبِالموتِ تخوِّفني؟ فواللهِ، لَلْموتُ معَهُ أحَبُّ إليَّ مِنَ الخُلْدِ معكُم".
ثُمَّ أقبلَ زهيرٌ على الناسِ رافِعاً صوتَهُ فقال:
"عبادَ اللهِ، لا يَغُرَّنَّكُمْ عنْ دِينِكُم هذا الجَلِفُ الجَافي وأشباهُهُ, فواللهِ، لا تَنالُ شفاعةُ محمَّدٍP قوماً أراقُوا دِماءَ ذرِّيَتِهِ وأهلِ بيتِهِ وقتَلُوا مَنْ نصَرَهُمْ وذبَّ عنْ
حريمِهِم".

 فناداهُ رجلٌ فقالَ لَه: إنَّ أبا عبدِ اللهِ علي السلام يقولُ لك:
"أقبِلْ، فلَعَمْري لئنْ كانَ مؤمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ نصَحَ لقومِهِ وأبلَغَ في الدُعاءِ، لقَدْ نصحْتَ لهؤلاءِ وأبلغْتَ لو نَفَعَ النُّصْحُ والإبلاغ".
 


20


خطبة بُرَير بن خُضَير

ورُوِيَ أنَّ الحسينَ علي السلام قالَ لبُريْرِ بنِ خُضَيرٍ الهمدانيّ:
"كلِّمِ القومَ يا بُريرُ وعِظْهُم".
فتقدَّمَ بُرَيرٌ حتَّى وقَفَ قريباً منَ القومِ، والقومُ قَدْ زحَفُوا إليهِ عنْ بِكرةِ أبيهِم، فقالَ لهُمْ برير:
"يا هؤلاء! اتَّقُوا اللهَ، فإنّ ثِقْلَ محمّدٍ قدْ أصبحَ بينَ أظْهُرِكُم، هؤلاءِ ذرْيتُهُ وعِتْرَتُهُ وبناتُهُ وحُرَمُه! فهاتُوا ما عندَكُم! وما الذي تريدُونَ أنْ تَصْنَعُوا بهِم؟!".
فقالوا: نُرِيدُ أنْ نمكِّنَ منهُمُ الأميرَ عُبيدَ اللهِ بنَ زيادٍ فيرَى رأيَهُ فيهِم:
فقالَ برير:
"أفلا ترْضَوْنَ منْهُمْ أنْ يَرْجِعُوا إلى المكانِ الذي أقبَلُوا منه؟ ويلَكُمْ يا أهلَ الكوفة! أنسيتُمْ كُتُبَكُمْ إليهِ وعُهُودَكُمُ التي أعطيتُمُوها منْ أنفسِكُم وأشهَدْتُمُ اللهَ علَيْها وكفَى
باللهِ شهيداً؟! وَيْلَكُم، دعَوْتُمْ أهلَ بيتِ نبيِّكُمْ وزعَمْتُم أنَّكُمْ تقتُلُونَ أنفسَكُمْ منْ دونِهِم، حتَّى إذا أتَوْكُمْ أسْلَمْتُمُوهُمْ لعُبَيْدِ الله! وحلَأتمُوهُمْ عن ماءِ الفُراتِ الجاري! بْئِسَما
خلَفْتُمْ محمّداً في ذرِّيَّتِه! ما لكُمْ, لا سَقاكُمُ اللهُ يومَ القيامة؟! فبئِسَ القومُ أنتُم!".
فقالَ لهُ نفَرٌ منهم: يا هذا, ما نَدْرِي ما تقول؟


21

فقالَ برير:
"الحمدُ لله الذي زادَني فيكُمْ بصيرة، أللَّهُمَّ إنّي أبرأُ إليكَ منْ فِعالِ هؤلاءِ القوم! أللّهُمَّ أَلْقِ بأسَهُمْ بينَهُمْ حتى يَلْقُوْكَ وأنتَ عليهِمْ غَضْبان!".
فجعَلَ القومُ يَرْمُونَهُ بالسِّهامِ، فَرجَعَ بريرٌ إلى وَرائِه.


22

خطبة الحسين علي السلام الثانية

وتقدَّمَ الحسينُ علي السلام ورأَى صفوفَهُم كالسَّيْلِ فخطَبَ فقال:
"الحمدُ للهِ الذي خلَقَ الدنيا فجعَلَها دارَ فَناءٍ وزَوال، مُتصرِّفةً بأهلِها حالاً بعدَ حال، فالمغرورُ مَنْ غرَّتْهُ، والشقيُّ من فتَنَتْهُ، فلا تغرَّنَّكُمُ الحياةُ الدنيا ولا يَغُرَّنَّكُم باللهِ الغَرور".

وممَّا قال:
فنِعْمَ الربُّ ربُّنَا وبئِسَ العِبادُ أنتُمْ، أقرَرْتُمْ بالطاعةِ وآمنتُمْ بالرَّسولِ محمَّدٍ، ثُمَّ أنتُمْ رجَعْتُمْ إلى ذُرّيَّتِهِ وعِتْرتِهِ تريدُونَ قتلَهُم، لقدِ استحْوَذَ عليكُمُ الشيطانُ فأنساكُمْ ذِكْرَ اللهِ العظيم، فتَبّاً لكُمْ ولمِا تُرِيدُون، إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعون، هؤلاءِ قومٌ كفَرُوا بعدَ إيمانِهِمْ فبُعْداً للقَوْمِ الظالمين.

تبَّاً لكم أيَّتُها الجَماعةُ وتَرْحاً، أَحِينَ اسْتَصْرَخْتُمونا والِهين، فأصرَخْناكُمْ مُوجِفين، سَلَلْتُمْ علَيْنا سيفاً لنا في أيْمانِكُم، وحَشَشْتُمْ علينا ناراً اقْتدَحْناها على عَدُوِّنا وعدوِّكُم، فأصبحتُمْ إلْباً لأعدائِكُمْ على أوليائِكُمْ، بغيرِ عَدْلٍ أفشَوْهُ فيكُمْ، ولا أملٍ أصبحَ لكُمْ فيهِمْ. فهلّا، لكُمُ الويلات، تركْتُمُونا والسيفُ مَشِيمٌ، والجأْشُ طامِنٌ، والرأيُ لمَّا يُستحْصَف، ولكنْ أسرعْتُمْ إلَيْها كطَيْرةِ الدُبى، وتداعيتُمْ إلَيْها كتهافُتِ الفَراش، فَسُحْقاً يا عبيدَ الأمّةِ


23


وشُذَّاذَ الأحزاب، ونَبَذَةَ الكِتاب، ومُحرِّفي الكَلِم، وعصبةَ الآثامِ ونفثَة َالشَيطان، ومُطْفئِي السُّنَن، أهؤلاءِ تَعْضُدُونَ وعنَّا تتخاذَلُونْ؟ أجلْ والله، ألغَدْرُ فيكُمْ قديم، وشَجَتْ إليهِ أصولُكُم وتأزَّرَتْ عليهِ فُروعُكُم، فكُنتُم أخبثَ ثَمَرٍ، شجّاً للناظرِ وأُكْلةً للغاصِب، ألاَ وإنَّ الدَعِيَّ ابنَ الدعيِّ قدْ رَكَزَ بينَ اثنتين، بينَ السَّلَّةِ والذِلَّة، وهيهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ، يأبى اللهُ ذلكَ لنا ورسولُهُ والمؤمنون، وحُجورٌ طابَتْ وطهُرَتْ، وأنوفٌ حَميّةٌ ونفوسٌ أبيَّةٌ، مِنْ أنْ نُؤْثِرَ طاعةَ اللئامِ على مَصارِعِ الكرام، ألا وإنّي زاحفٌ بهذهِ الأُسرةِ معَ قِلَّةِ العددِ وخُذلةِ الناصر.

ثمَّ أيْمُ اللهِ، لا تَلْبَثُونَ بعدَها إلاَّ كرَيْثِما يُركَبُ الفرَسُ، حتَّى تدورَ بكُمْ دَوْرَ الرَّحى وتقلقَ بكُمْ قلَقَ المِحْوَرِ، عَهْدٌ عَهِدَهُ إليَّ أبي عنْ جدِّي. فأَجْمِعُوا أمرَكُمْ وشُركاءَكُم، ثمَّ لا يكُنْ أمرُكُمْ عليكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقضُوا إليَّ ولا تُنْظِرون، إنّي توكَّلْتُ على اللهِ ربِّي وربِّكُمْ، ما منْ دابَّةٍ إلاّ هوَ آخذٌ بناصِيتِها، إنَّ ربّي على صراطٍ مستقيْم.

ثمّ رَفَعَ يَدَيْهِ نَحْوَ السمَاءِ وَقال:

أللهمَّ احبِسْ عنْهُمْ قَطْرَ السماءِ وابعَثْ عليهِمْ سِنينَ كسِنيّ يُوسُف، وسلِّطْ عليهِمْ غُلامَ ثَقيفٍ فيَسُومَهُمْ كأساً مُصَبَّرةً، فإنَّهُمْ كذَبُونا وخذَلُونا،


24


وأنتَ ربُّنا عليكَ توكَّلْنا وإليكَ أنَبْنا وإليكَ المصير".

ثُمَّ نزَلَ علي السلام ودعا بفَرَسِهِ، فركِبَهُ وعَبَّأ أصحابَهُ للقِتالِ...واستدعَى عُمَرَ بنَ سعدٍ ـ وكانَ كارِهاً لا يُحِبُّ أنْ يأتيَهُ, فلمَّا حَضَرَ قالَ لهُ عليه السلام :
"أيْ عُمَر، أتزْعُمُ أنَّكَ تقتُلُني ويُولِّيكَ الدَعِيُّ ابنُ الدَعِيِّ بلادَ الريِّ وجَرْجان؟ واللهِ, لا تَهْنَأُ بذلكَ أبداً، عهدٌ معهود، فاصنَعْ ما أنتَ صانع، فإنَّكَ لا تفرَحُ بعدي بدُنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسِكَ على قَصَبةٍ قدْ نُصِبَ بالكوفْة، يترامَاهُ الصِبيانُ ويتَّخِذُونَهُ غرَضَاً بينَهُم".
فغصِبَ ابنُ سعدٍ منْ كلامِهِ، وصَرَفَ وَجْهَهُ عنهُ، ثُمَّ نادى بأصحابِه: ما تنتظِرُون، إحمِلُوا بأجمَعِكُم، إنَّما هيَ أكْلةٌ واحدة.


25

موقف الحرّ الرياحيّ

وجاءَ الحرُّ بنُ يزيدَ الرياحيُّ، إلى عُمرَ بنِ سعدٍ، فقالَ له: "أمقاتلٌ أنتَ هذا الرجل؟".
قالَ: إيْ واللهِ قتالاً أيْسَرُهُ أنْ تسقُطَ الرؤوسُ وتَطِيحَ الأيدي.
قالَ الحرّ:
"أفما لكُمْ في واحدةٍ منَ الخصالِ التي عرَضَ عليكُمْ رضىً؟".
قالَ عمرُ بنُ سعد: أمَا واللهِ، لو كانَ الأمرُ إلَيَّ لفعَلْتُ، ولكنَّ أميرَكَ قد أبى ذلك.
فأقْبلَ الحُرُّ حتَّى وقَفَ منَ الناسِ موقِفاً، ومعَهُ رجلٌ منْ قومِهِ يُقالُ له قُرَّةُ بنُ قيسْ، فقال:
يا قرّةُ، هل سقَيْتَ فرسَكَ اليوم؟
قالَ: لا.
قالَ: أما تُرِيدُ أنْ تَسْقِيَه؟
قالْ: فظنَنْتُ - واللهِ - أنَّهُ يريدُ أنْ يتنحَّى فلا يشهدَ القتالَ، وكرِهَ أنْ أراهُ حينَ يصنَعُ ذلك.
فقلتُ له: لمْ أسقِهِ وأنا منطلِقٌ فأَسقِيه.

قالَ: فاعتزلْتُ ذلكَ المكانَ الذي كانَ فيهِ، فأخَذَ يدنُو منْ حسينٍ قليلاً قليلاً.


26


فقالَ لهُ رجُلٌ من قومِهِ يُقالُ لهُ المهاجرُ بنُ أوْس: ما تريدُ يا ابنَ يزيد؟ أتريدُ أنْ تَحْمِل؟
فسكَتَ وأخذَتْهُ رَعْدة.
فقالَ لهُ صاحبُه: يا ابنَ يزيد، واللهِ، إنَّ أمْرَكَ لمَريبٌ، واللهِ، ما رأيتُ منكَ في موقِفٍ قطُّ مثلَ شيءٍ أراهُ الآن، ولو قِيلَ لي من أشجَعُ أهلِ الكوفةِ رجلاً ما عدَوْتُك، فما هذا الذي أرَى منك؟
قالَ الحرّ:
"إنّي - واللهِ - أخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنار، وَوَاللهِ لا أَختارُ على الجنَّةِ شيئاً ولو قطِّعْتُ وحرِّقْت".

ثُمَّ ضرَبَ فرسَهُ فلحقَ بالحسينِ علي السلام وقالَ له:
"جَعَلنِيَ اللهُ فِداكَ يا ابنَ رسولِ الله، أنا صاحِبُكَ الذي حبَسْتُكَ عنِ الرجوعِ وسايَرْتُكَ في الطريق، وجعْجَعْتُ بكَ في هذا المكان. واللهِ الذي لا إلهَ إلاَّ هوَ، ما ظننْتُ أنَّ القومَ يَرُدُّونَ عليكَ ما عرَضْتَ عليهِمْ أبداً ولا يبلُغُونَ منكَ هذهِ المَنْزِلة. فقلْتُ في نفسي: لا أبالي أنْ أُطِيعَ القومَ في بعضِ أمرِهِمْ ولا يرَوْنَ أنّي خرَجْتُ من طاعتِهِم. وأمَّا هُمْ فسيَقْبَلُونَ
منْ حسينٍ هذهِ الخِصالَ التي يَعْرِضُ عليهِم، وَوَاللهِ، لو ظنَنْتُ أنَّهُمْ لا يقبَلُونَها منكَ ما رَكِبْتُها منك، وإني قدْ جئتُكَ تائباً ممَّا كانَ منّي إلى ربّي،


27


 ومُواسِياً لكَ بنفسي حتَّى أموتَ بينَ يديْك، أفترَى ذلكَ لي توبة؟".

قال علي السلام:
"نعَمْ يَتُوبُ اللهُ عليكَ ويغَفِرُ لك. ما اسمُك؟".

قال:
"أنا الحرُّ بنُ يزيد".

قالَ علي السلام:
"أنتَ الحرُّ كما سمَّتْكَ أمُّك، أنتَ الحرُّ إنْ شاءَ اللهُ في الدنيا والآخرة، انزِلْ".

قال:
"أنا لكَ فارِساً خيرٌ مِنّي راجلاً، أقاتِلُهُمْ على فرَسي ساعةً وإلى النُزولِ ما يَصِيرُ آخرُ أمري".

قالَ الحسينُ علي السلام:
"فاصنَعْ - يرْحَمُكَ اللهُ - ما بدا لك".

فاستقدَمَ أمامَ أصحابِهِ ثُمَّ قال:
أيُّها القوم، ألا تقبَلُونَ منَ الحسينِ خَصْلةً منْ هذهِ الخِصالِ التي عرَضَ عليكُم فيُعافِيَكُمُ اللهُ منْ حرْبِهِ وقِتاله؟
قالوا: هذا الأميرُ عمرُ بنُ سعدٍ فكلِّمْه، فكلَّمَهُ بمثلِ ما كلَّمَهُ بهِ من قَبْلُ


28


وبمثلِ ما كلَّمَ بهِ أصحابَه.
قالَ عُمَر: قد حرَصْتُ؛ لو وجَدْتُ إلى ذلكَ سبيلاً, فعَلْت.
فقال:
"يا أهلَ الكوفة، لأُمِّكُمُ الهَبَلُ والعِبرُ إذْ دعَوْتُموهُ حتَّى إذا أتاكُمْ أسْلَمتُمُوه، وزعَمْتُمْ أنَّكُمْ قاتلُوا أنفسِكُم دونَهُ ثُمَّ عَدَوْتُم عليهِ لِتَقْتلُوه. أمسكتُمْ بنفسِهِ، وأخذْتُمْ بكَظْمِهِ،
وأحطْتُمْ بهِ منْ كلِّ جانبٍ فمنَعْتُمُوهُ التوجُّهَ في بلادِ اللهِ العريضةِ حتَّى يأْمَنَ ويأمنَ أهَلُ بيتِهِ، وأصبحَ في أيديكُمْ كالأسيرِ لا يَمْلِكُ لنفسِهِ نَفْعاً ولا يَدْفَعُ عنْها ضَرَّاً،
وحَلأْتُموهُ ونساءَهُ وصِبْيَتَهُ وأصحابَهُ عنْ ماءِ الفراتِ الجاري(...)، وها هُم قد صَرَعَهُمُ العطَش، بِئْسَما خَلَّفْتُمْ مُحمَّداً في ذريَّتِه، لا أسْقاكُمُ اللهُ يومَ الظَمَأِ إنْ لم
تتُوبوا وتَنْزِعُوا عمَّا أنتُمْ عليهِ مِنْ يومِكُم هذا في ساعتِكُمْ هذِه".
فحمَلَتْ عليهِ رَجَّالةٌ لهُم ترميهِ بالنَّبْلِ، فأقبلَ حتَّى وقَفَ أمامَ الحسينِ عليه السلام .


29

بداية الحرب

وتقدَّمَ عمرُ بنُ سعدٍ فرمَى نحوَ عسكَرِ الحسينِ علي السلام بسهمٍ وقال: اشهَدُوا لي عندَ الأميرِ أنّي أوَّلُ مَنْ رمى. وأقْبلَتِ السِّهامُ مَن القومِ كأنَّها المطَر.

فقالَ علي السلام لأصحابِه:
"قومُوا رحِمَكُمُ اللهُ إلى الموتِ الذي لا بدَّ منه، فإنَّ هذهِ السهامَ رُسُلُ القومِ إليكم".

فلَمَّا ارْتَمَوْا بالسهامِ خرَجَ يَسارٌ مولَى زيادِ بنِ أبي سفيان، وسالِمٌ مولى عُبَيْدِ اللهِ بنِ زياد، فقالا: مَنْ يُبارِز؟ لِيخْرُجْ إلينا بعضُكُمْ!

فوثَبَ حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ وبُريرُ بنُ خُضَيرٍ، فقالَ لهما الحسينُ علي السلام:
"اجلسا...".

فقامَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَيرٍ الكلبيُّ، فقال:
"أبا عبدِ اللهْ! رَحِمَكَ الله، ائذَنْ لي فأَخْرُجَ إلَيْهِما".

فأذِنَ لهُ فشدَّ عليهِما وقتلَهما.

فأخذَتْ أمُّ وهبٍ امرأتُهُ عمُوداً ثُمَّ أقبلَتْ نحوَ زوجِها تقولُ له:
"فِدَاكَ أبي وأمي! قاتِلْ دونَ الطيِّبينَ ذريَّةِ مُحمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ".

فأقبلَ إليها يردُّها نحوَ النساء، فأخذَتْ تُجَاذِبُ ثوبَهُ، وهي تقول:
"لن أدعَكَ دونَ أن أموتَ معَك".


30


فناداها الحسينُ علي السلام:
"جُزِيتُم منْ أهلِ بيتٍ خيراً، ارجِعِي رحِمَكِ اللهُ إلى النساء، فإنَّهُ ليسَ على النساءِ قتال".


31


الحملة الأولى

وكانتِ الحملةُ الأُولى على مُعَسكرِ الإمامِ الحسينِ علي السلام، فحمَلَ عمرُو بنُ الحَجَّاجِ في مَيْمَنةِ جيشِ عُمَرَ بنِ سعدٍ من نَحْوِ الفُراتِ فاضطربُوا ساعة، وما ارتفعَتِ الغَبَرَةُ إلا ومُسلِمُ بنُ عوسجةَ الأسدِيُّ صريعٌ، فمشَى إليهِ الحسينُ علي السلام فإذا بهِ رَمَقٌ، فقالَ له:
"رحِمَكَ اللهُ يا مُسلِم،
﴿فمنهُمْ مَنْ قضَى نَحْبَهُ ومنْهُمْ مَنْ ينتظِرُ وما بدَّلُوا تبديلاً".

ودَنا منهُ حبيبُ بنُ مظاهرٍ، فقال:
"عزَّ عليَّ مصرَعُكَ يا مُسلِم! أبشِرْ بالجنَّة!".
فقالَ لهُ مسلمٌ قولاً ضعيفاً:
"بشَّرَكَ اللهُ بخير".
فقالَ لهُ حبيب:
"لولا أنّي أعلَمُ أنّي في أثَرِكَ لاحِقٌ بكَ مَنْ ساعتي لأحببْتُ أنْ تُوصِيَني بكلِّ ما أهمَّك".

فقالَ لهُ مسلم:
"فإنّي أُوصِيكَ بهذا ـ وأشارَ إلى الحسينِ علي السلام ـ فقاتِلْ دونَهُ حتَّى تموت".


32


گربت يبن ظاهر منيتي    ما وصّيك بعيالي او بيتي
إنكان نيتك مثل نيتي       بالحسين واعياله وصيتي



فقالَ لهُ حبيب:
"لأُنعِمَنَّكَ عيناً".

ثُمَّ فاضَتْ روحُهُ الطاهرةُ، رِضوانُ اللهِ عليه.

وهجَمَ شمرُ بنُ ذي الجوشَنِ في أصحابِهِ، على خِيَمِ الحسينِ علي السلام، فحمَلَ عليهِم زهيرُ بنُ القينِ رحمه الله في عشَرَةٍ منْ أصحابِ الحسينِ علي السلام فكشَفَهُمْ عنِ الخِيَم، وقُتِلَ بعضُهُمْ وتفرَّقَ الباقون.

وخَرَجَ يزيدُ بنُ معْقِلٍ منْ جيشِ ابْنِ سعدٍ، فقال: يا بُريرَ بنَ خُضَير, كيفَ ترَى اللهَ صنَعَ بكْ؟
قال:
"صنَعَ اللهُ - واللهِ - بي خيراً وصنَعَ اللهُ بكَ شرّاً".
قالَ: كذَبْتَ وقبلَ اليومِ ما كنتَ كذّاباً.
فقالَ لهُ بُرَير:
".. لِنَدْعُ اللهَ أنْ يلعنَ الكاذبَ وأنْ يقْتُلَ المُبْطِلَ, ثُمَّ اخرُجْ, فَلأُبارِزْك".


33


قال: فخَرَجا, فرفَعا أيديَهُما إلى اللهِ يَدْعُوانِهِ أنْ يلعنَ الكاذبَ وأنْ يَقْتُلَ المُحِقُّ المُبطِلَ. ثُمَّ برَزَ كلُّ واحدٍ منْهُما لصاحبِهِ فاختلَفا ضرْبتَيْنِ: فضرَبَ يزيدُ بنُ مَعْقِلٍ بُريرَ بنَ خُضَيرٍ ضربةً خفيفةً لمْ تَضُرَّهُ شيئاً، وضرَبَهُ بُريرُ بنُ خُضَيرٍ ضربةٍ قدَّتِ المِغْفَرَ وبلَغَتِ الدِماغ، فخَرَّ كأنَّما هوَى من حالِقٍ، وسيفُ ابْنِ خُضَيرٍ لَثابتٌ في رأسه.

ثُمَّ تراجَعَ القومُ إلى الحسينِ علي السلام، فحمَلَ شمرُ بنُ ذي الجوشَنِ - لعَنَهُ اللهُ - على أهلِ المَيْسَرةِ فَثَبتُوا لَهُ فطاعَنُوهُ، وأُحِيطُ بالحسينِ علي السلام وأصحابِهِ من كلِّ جانِب، وكانَ أصحابُ الحسين علي السلام أطوادَ بصيرةٍ وهدىً وثَباتٍ، يقتُلونَ كلَّ مَنْ يَبْرُزُ إليهِمْ.

فقالَ عمرُو بنُ الحجَّاجِ ـ وكانَ على الميمنة ـ ويلَكُمْ، يا حُمَقاء.

مهلاً! أتدْرُونَ مَنْ تُقاتِلون؟ إنَّما تقاتلُونَ فرسانَ المِصرِ، وأهلَ البصائرِ وقوماً مستمِيتينَ، لا يبرُزُ لهُم منكُم أحدٌ إلاَّ قتلُوهُ على قِلَّتِهِم، واللهِ، لو لم ترْمُوهُم إلاَّ بالحجارةِ لقتَلْتُمُوهُم.

فقالَ ابنُ سعدٍ: صدَقْت. الرَّأيُ ما رأيْت، فأرْسَلَ في العسكَرِ يعزُمُ عليهم أنْ لا يبارِزَ رجلٌ منْكُم، فلو خرجْتُم وُحْداناً لأَتَوْا عليكُمْ مُبارزَة.
فأخذَتِ الخيلُ تحمِلُ، وأصحابُ الحسينِ يَثْبُتُون، وإنَّما هُمُ اثنانِ وثلاثونَ


34

 فارساً، ولم يكونُوا يحمِلونَ على جانبٍ من هذا الجيشِ إلا كَشفُوه.

فبَعَثَ عمر بن سعد المجَفِّفةَ ـ وهيَ قوةٌ كانَتْ تحتمِي معَ خُيولِها بالدُروعِ ـ وخمسَمِئةٍ منَ الرُّماةِ، فأقبَلُوا حتى إذا دنَوْا من الحسين علي السلام وأصحابِهِ رشقُوهُم بالنَّبْلِ، فلم يَلْبَثُوا أنْ عَقَرُوا خيولَهُم وصاروا رَجَّالةً كلُّهُم.


35


صلاة الظهيرة

وبقيَ القِتالُ على أَشُدِّهِ حتَّى انتصفَ النهار، فكانَ إذا قُتِلَ الرجُلُ والرجلانِ من أصحابِ الحسينِ علي السلام يَبِينُ ذلكَ فيهِمْ لِقلَّتِهِم، ولا يَبينُ القتْلُ في جيشِ عُمَرَ بْنِ سعدٍ معَ كَثْرةِ مَنْ يُقتَلُ منْهُم لِكَثْرَتِهِم.

وكان قد قُتلَ منْ أنصارِ الإمامِ علي السلام أكثرُ منْ أربعين.

واقتربَ وقتُ زَوالِ الشمسِ، فقالَ أبو ثُمامةَ الصائدِيّ:
"يا أبا عبدِ الله! نفسِي لكَ الفِداء، إنّي أرَى هؤلاءِ قدِ اقتربوا منك، لا واللهِ، لا تُقْتَلُ حتَّى أُقتلَ دونَكَ إنْ شاءَ الله، وأُحِبُّ أنْ ألقَى ربِّيَ وقد صلَّيْتُ هذهِ الصلاةَ التي قد دَنا وقتُها".

فرفَعَ الحسينُ علي السلام رأسَهَ ثم قال:
"ذَكرْتَ الصلاةَ، جعلَكَ اللهُ من المُصلِّينَ الذاكرين، نعَمْ هذا أوَّلُ وقتِها".

ثُمَّ قالَ علي السلام:
"سَلُوهُم أنْ يَكُفُّوا عنَّا حتّى نصلّي".

ففعلوا.
فقالَ لهُمُ الحُصَينُ بنُ تميم: إنَّها لا تُقْبَل.
 


36


فردَّ عليهِ حبيبُ بنُ مُظاهِر:
"زعمْتَ الصلاةَ منْ آلِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِمْ لا تُقْبَلُ، وتُقْبَلُ منكَ يا خَمَّار!".

فحمَلَ عليهِ الحصينُ بنُ تميمٍ فخرَجَ إليهِ حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ فضرَبَ وجْهَ فرسِهِ بالسيفِ، فشَبَّ ووقَعَ عنه، وحمَلَهُ أصحابُهُ فاستنقذُوه.
وأخذَ حبيبٌ يقول:
أُقسِمُ لو كنّا لكم أعدادا   أو شَطْرَكُمْ ولَّيْتُمُ أكتادا
يا شرَّ قومٍ حسَبَاً وآداً
      

وجعَلَ يقولُ يومَئذٍ:

أنتُمْ أعدُّ عُدَّةً وأكثرُ         ونحنُ أوفَى منكُمُ وأصْبَرُ
ونحنُ أعلى حُجَّةً وأظهَرُ   حقاً وأتقَى منكُمُ وأعْذَرُ


وقاتلَ حبيب قتالاً شديداً حتّى استُشْهِدَ، فهدَّ ذلكَ الحسينَ علي السلام، وقال:
"عندَ اللهِ أَحتسِبُ نفسي وحُماةَ أصحابي".

وكانَ حبيبٌ منْ خواصِّ أميرِ المؤمنِينَ عليه السلام ، ومنَ السبعينَ الذين نصَرُوا الحسينَ عليه السلام ولَقُوا جبالَ الحديدِ واستقبَلُوا الرِماحَ بصُدورِهِمْ والسيوفَ بوُجوهِهِم، وهمْ يُعْرَضُ عليهِمُ الأمانُ والأموالُ فيأبَوْنَ ويقولُونَ:


37


لا عُذْرَ لنا عندَ رسولِ اللهِِ صلى الله عليه وآله وسلم إنْ قُتِلَ الحسينُ وفينا عَيْنٌ تَطْرِفُ حتَّى قُتلوا حولَه..

ولما قُتِلَ حبيبٌ أخَذَ الحرُّ يقاتِلُ راجلاً، فحمَلَ على القومِ معَ زهيرِ بنِ القَيْن، فكانَ إذا شَدَّ أحدُهُما فاستلْحَمَ شدَّ الآخرُ واستنقذَه، ففعَلا ذلكَ ساعة.

فبَيْنا الناسُ يتجاوَلُونَ ويقْتتِلُونَ والحُرُّ يَحْمِلُ على القومِ مُقْدِماً، فبرَزَ لهُ يزيدُ بنُ سُفيان، فما لَبِثَ الحرُّ أنْ قتلَهُ(..).

واستبسَلَ يضربُهُم بسيفِهِ وتكاثَرُوا عليهِ حتَّى استُشهِدَ رِضوانُ اللهِ عليه، فحمَلَهُ أصحابُهُ ووضعُوهُ بينْ يدَيْ الإمامِ الحسينِ علي السلام وبهِ رَمَقٌ، فجعَلَ الحسينُ علي السلام يمسَحُ وجهَهُ ويقول:
"أنتَ الحرُّ كما سمَّتْكَ أمُّك، وأنتَ الحرُّ في الدنيا وأنتَ الحرُّ في الآخرة".

وصلَّى الحسينُ علي السلام بأصحابِهِ صلاةَ الظُّهر.

فوصَلَ إلى الحسينِ عليه السلام سهمٌ فتقدَّمَ سعيدُ بنُ عبدِ اللهِ الحنَفِيُّ ووقَاه بنفسِهِ ما زالَ ولا تخَطَّى حتَّى سقَطَ إلى الأرضِ وهُوَ يقول:
"أللَّهُمَّ العنْهُمْ لعنَ عادٍ وثمود، اللهمَ أَبْلِغْ نبيَّكَ عنّي السلامَ وأبْلِغْهُ ما


38

 لَقِيتُ من ألَمِ الجِراحِ فإنّي أردْتُ ثوابَكَ في نَصْرِ ذريَّةِ نبيِّك".

ثُمَّ التفتَ إلى الحسينِ علي السلام، فقالَ لهْ:
"أَوفَّيْتُ يا ابنَ رسولِ الله؟".

فقالَ الإمامُ علي السلام:
"نعمْ، أنتَ أمامي في الجنَّة".

ثُمَّ قَضى نحبَهُ رِضوانُ اللهِ عليهِ، فوُجِدَ بهِ ثلاثَةَ عشَرَ سَهْماً سوَى ما بهِ منْ ضَرْبِ السيوفِ وطَعْنِ الرِماح.


39


الحملة الثانية

ثمَّ قالَ علي السلام لبقيَّةِ أصحابِه:
"يا كِرام، هذهِ الجنَّةُ فُتحَتْ أبوابُها واتَّصلَتْ أنهارُها وأينعَتْ ثِمارُها، وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم والشهداءُ الذينَ قُتلِوا في سبيلِ اللهِ يتوقَّعُونَ قدومَكُم، ويتباشَرُونَ بكُمْ، فحامُوا عن دينِ اللهِ ودينِ نبيِّهِ، وذُبُّوا عن حُرَمِ رسولِ الله".

وجعلَ أصحابُ الحسينِ علي السلام يسارِعونَ إلى القِتالِ بينَ يديهِ، وكانَ كلُّ مَنْ أرادَ القِتالَ يأتي إلى الحسينِ علي السلام يودِّعُهُ، ويقول:
"السلامُ عليكَ يا ابنَ رسولِ الله".

فيجيبُهُ الحسينُ علي السلام:
"وعليكَ السلامُ، ونحنُ خلفَك، ويقرأ:
﴿فمنهُمْ منْ قضى نحبَهُ ومنهُمْ من ينتظِرُ وما بدَّلوا تبديلاً".

واستأذنَ الصحابيُّ الجليلُ أَنَسُ بنُ الحارِثِ الكاهليُّ الإمامَ


40


الحسينَ علي السلام بالمبارَزةِ فأذِنَ لهُ، فنزَلَ إلى الميدانِ شادّاً وسَطَهُ بالعِمامةِ، رافعاً حاجبَيْهِ بالعِصَابةِ لِكِبَرِ سِنِّه، فلمّا رآهُ الحسينُ علي السلام بهذهِ الهيئةِ، بكى، وقالَ له:
"شكَرَ اللهُ لكَ يا شيخ".

وكانَ هذا الصحابيُّ ممَّنْ سمعَ حديثَ رسولِ اللهِِ صلى الله عليه وآله وسلم، عن شهادةِ الحسينِ علي السلام، والحثِّ على نصرتِه، وقد قاتَلَ رضوانُ اللهِ عليهِ قتالَ الأبطالِ حتَّى نالَ الفوزَ بالشهادة.

ثُمَّ تقدَّمَ زهيرُ بنُ القَيْنِ واستأذنَ بالقِتالِ، ووضَعَ يدَهُ على مَنْكِبِ الحسينِ علي السلام وهوَ يقول:
أقدِمْ فُدِيتَ هادياً مَهْديَّاً       فاليومَ تَلْقَى جدَّكَ النبيّا
وحَسَناً والمرُتضَى عليَّا    وذا الجناحيْنِ الفتى الكَمِيّا
وأسَدَ اللهِ الشهيدَ الحيّا

 

ثُمَّ برَزَ وهوَ يرتجِزُ ويقول:
أنا زهيرٌ وأنا ابْنُ القَيْنِِ    أَذُودُهُمْ بالسيفِ عنْ حسينِ


وانبرَى يقاتِلُ لم يُرَ مثلُهُ ولم يُسمَعْ بشِبْهِه، وكانَ يحمِلُ على القومُ وهوَ يقول:


41


إنَّ حسيناً أحدُ السبطَيْنِ    من عِترةِ البرِّ التقيِّ الزَّيْنِ
أضرِبُكُمْ ولا أرى من شَيْنِ  يا ليتَ نفسي قُسِمَتْ نصفَيْنِ

ثُمَّ برَزَ وقاتلَ قتالاً شديداً حتى استُشْهِد.

فقالَ الحسينُ علي السلام: "لا يُبْعِدَنَّكَ اللهُ يا زهير، ولعَنَ اللهُ قاتلِيك!".

ثم برَزَ بُريرُ بنُ خضيرٍ الهَمَدانيُّ إلى الميدانِ وهوَ يقول:
"اقترِبوا منِّي يا قتَلَةَ المؤمنين، إِقترِبُوا منِّي يا قتلَةَ أولادِ البدْريّين، اقتربُوا منّي يا قتلَةَ أولادِ رسولِ ربِّ العالمينَ وذُرّيَّتِهِ الباقين".

فقاتلَ حتّى استُشْهِدَ رضوانُ اللهِ عليه.

واشتدَّ القتالُ والتحمَ وكثُرَ القتلُ والجراحُ في أصحابِ أبي عبدِ اللهِ الحسينِ علي السلام.

وتقدَّمَ حنظلةُ بنُ أسعدَ الشَّبامِيُّ بينَ يدَي الحسينِ علي السلام  فنادى أهلَ الكوفة:
"يا قومُ، إنّي أخافُ عليكُمْ مثلَ يومِ الأحزاب. يا قومُ، إنّي أخافُ عليكُمْ يومَ التناد. يا قومُ، لا تقتلُوا حُسَيْناً فيُسْحِتَكُمُ اللهُ بعذابٍ وقد


42

خابَ منِ افترَى".
ثمَّ تقدَّمَ فقاتلَ حتَّى قُتِلَ- رحمه الله-.

وتقدَّمَ بعدَهُ شَوْذَبٌ مولى شاكرٍ فقال:
"السلامُ عليكَ يا أبا عبدِ اللهِ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، أستودِعُكَ اللهَ وأسترْعِيك".
ثمَّ قاتلَ حتى قُتِلَ- رحمه الله-.

ثُمَّ برَزَ إلى الميدانِ عابِسُ بنُ أبي شَبيبٍ الشاكريُّ, فسلَّمَ على الحسينِ عليه السلام وقال:
"يا أبا عبدِ الله, واللهِ، ما أمسَى على وَجْهِ الأرضِ قريبٌ ولا بعيدٌ أعزُّ عليَّ ولا أحبُّ إليَّ منك، ولو قدِرْتُ على أنْ أدفعَ عنكَ الضَّيْمَ أو القتلَ بشيءٍ أعزَّ علَيَّ منْ نفسي ودمِي لَفعَلْت. السلامُ عليكَ يا أبا عبدِ الله، أشهدُ أنّي على هَداكَ وهدى أبيك".
ثمَّ مضى بالسيفِ نحوَهُم، فقاتلَ حتّى استُشهِد.


بأبي من شَرُوا لقاءَ حسينٍ   بفراقِ النفوسِ والأرواحِ
وقفُوا يَدْرأونَ سُمْرَ العوالي   عنهُ والنَّبْلَ وَقْفَةَ الأشباحِ
فَوَقوْهُ بيضَ الظُّبا بالنحورِ الـ   ـبيضِ والنَّبْلَ بالوجوهِ الصبِّاحِ
أدركوا بالحسينِ أكبرَ عيدٍ       فغدَوْا في مِنى الطفوفِ أضاحي


43

شهادة أهل البيت عليهم السلام

ولمَّا لم يبقَ مع الحسين علي السلام إلا أهلَ بيتِه عَزَمُوا على الحربِ ومُلاقاةِ الحتوفِ وأقبلَ بعضُهم يُودِّعُ بَعضَاً:
هذا يشبك ابهذا أويحبه     او هذا ابقلب هذا ايحط قلبه
او هذا دمعه الهذا يصبه    او هذا يشم خد هذا او يصفر



مصرع عليّ الأكبر علي السلام

وأوّلُ من تقدَّمَ عليٌّ الأكبرُ بنُ الحسينِ علي السلام وكانَ مِنْ أصْبَحِ الناسِ وَجْهاً وأحسنِهِم خُلُقاً فاستأذنَ أباهُ في القِتالِ فأذِنَ لَه، ثُمَّ نظَرَ إليهِ نظْرةَ آيِسٍ منهُ وأرخى علي السلام عينَيْهِ وبكَى، محترِقاً قلبُهُ، مُظْهِراً حزنَهُ إلى اللهِ تعالَى، (ورفَعَ سبَّابتَيْهِ نحوَ السماءِ وقال):
"اللهمَّ اشهَدْ على هؤلاءِ، فقَدْ برَزَ إليهِم أشْبَهُ الناسِ خَلْقاً وخُلُقاً ومَنْطِقاً برسولِكَ محمَّدِ صلى الله عليه وآله وسلم، وكنّا إذا اشتقْنا إلى رؤيةِ نبيِّكَ نظَرْنا إليه، اللهمَّ امنعْ عنهم بركاتِ الأرضِ، وفرِّقْهُمْ تفريقاً، ومزِّقْهُم تمزيقاً، واجعَلْهُم طرائقَ قِدَداً ولا تُرْضِ الولاةَ عنْهُم أبداً، فإنَّهُم دَعَوْنا لِيَنْصُرُونا فعَدَوْا علينا يُقاتِلُوننا".

وصاحَ علي السلام بعُمرَ بنِ سعد:
"ما لكَ يا ابنَ سعد، قطَعَ اللهُ رحِمَكَ كما قطَعْتَ رَحِمي، ولم تحفَظْ قرابتي من رسولِ الله".


44

ثمَّ رفَعَ الحسينُ علي السلام صوتَهُ وتلا قولَهُ تعالى:
﴿إنَّ اللهَ اصطفى آدمَ ونوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ على العالمينَ ذُرَّيةً بعضُها منْ بعضٍ واللهُ سميعٌ عليم.

ثُمَّ حمَلَ عليُّ بنُ الحسينِ علي السلام على القومِ، وهو يقول:
أنا عليُّ بْنُ الحسينِ بْنِ علي      نحنُ وبيتُ اللهِ أوْلى بالنبي
تاللهِ لا يحكُمُ فينا ابنُ الدَّعي      أطعنُكُمْ بالرُّمحِ حتى ينثني
أضرِبُكُمْ بالسيفِ أحمي عن أبي  ضرْبَ غُلامٍ هاشميٍّ علوي



فلَمْ يزَلْ يقاتلُ حتَّى ضجَّ الناسُ منْ كَثْرةِ مَنْ قتَلَ منهُم (...).

ثُمَّ رَجَعَ إلى أبيهِ وقدْ أصابتْهُ جراحاتٌ كثيرةٌ فقال:
"يا أبه! ألْعطشُ قد قتَلني وثِقْلُ الحديدِ أجْهَدَني، فهلْ إلى شُربةٍ ماء منْ سبيلٌ أتقوَّى بها على الأعداء؟".

فبكَى الحسينُ علي السلام ودفَعَ إليهِ خاتَمَهُ وقال:
"خُذْ هذا الخاتَمَ في فيكَ وارجِعْ إلى قِتالِ عدوِّكَ، فإنّي أرجُو أنَّكَ لا تُمْسي حتَّى يَسْقِيَكَ جدُّكَ بكأسِهِ الأوفى شَرْبةً لا تظمأُ بعدَها أبداً".

يبويه شربة اميه الكبدي         اتقوى ورد للميدان وحدي
يبويه انفطر قلبي وحق جدي   العطش والشمس والميدان والحر


45

فرجَعَ إلى موقِفِ النِّزالِ وقاتلَ أعظمَ القِتالِ، فاعترضَهُ مُرَّةُ بْنُ منقِذٍ فطَعَنهُ فصُرِعَ، واحتواهُ القومُ فأثخَنُوهُ طَعْنَا، فنادى بأعلى صوتِه:
"يا أبتاه! هذا جدِّي رسولُ اللهِ قد سقاني بكأسِهِ الأوفَى شَرْبةً لا أظمأُ بعدَها أبداً، وهوَ يقولُ لك: العَجَلَ! فإنَّ لكَ كأساً مَذْخورَة".

فصاحَ الحسينُ علي السلام:
"وا ولداه...".

وأقبل علي السلام إلى ولدِهِ، وكانَ في طريقِهِ يلهَجُ بذِكْرِهِ ويُكْثِرُ من قولِه:
"ولدي علِيّ.. ولدي عليّ".

حتَّى وصَلَ إليهِ، فأرخَى رِجلَيْهِ معاً منَ الرِّكابِ، ورمَى بنفسِهِ على جسَدِ ولدِهِ، وأخَذَ رأسَهُ فوضَعَهُ في حِجْرِهِ، وجعَلَ يمسَحُ الدَّمَ والترابَ عن وجهِه، وانكَبَّ عليهِ واضِعاً خدَّهُ على خدِّهِ، وجعَلَ يقول:
"قتَلَ اللهُ قوماً قتلُوكَ يا بُنَيّ! ما أجرأَهُم على اللهِ وعلى انتهاكِ حُرمةِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم ".

وانهملَتْ عيناهُ بالدموعِ ثُمَّ قال:
"على الدنيا بعدَكَ العفا".


46

قعد عنده اوشافه امغمض العين     ابدمه سابح امترّب الخدين
متواصل ضرب والراس نصّين     حنه ظهره على ابنيّه او تحسر
يبويه گول منهو الضرب راسك     ينور العين من خمّد انفاسك
يعقلي من نهب درعك اوطاسك     يروحي اشلون أشوفنّك امطبّر
يبويه من عدل راسك ورجليك      او من غمّض عيونك واسبل ايديك
ينور العين كل سيف الوصل ليك   قطع قلبي او لعند احشاي سدّر


ثم طلَبَ الحسين علي السلام من فتيانِهِ منْ بني هاشمٍ وقالَ لهُم:
"احْمِلُوا أخاكُم".

فحملُوهُ منْ مَصْرَعِهِ، وجاؤوا بهِ إلى الفُسطاطِ الذي يُقاتِلُونَ أمامَه.


47

مقاتل آل عقيل عليهم السلام

ثُمَّ برَزَ أبناءُ عقيلِ بنِ أبي طالِبٍ، وأبناءُ مُسْلمٍ وأبناءُ جعفرِ بنِ عقيلٍ وجعَلُوا يقاتلونَ قتالاً شديداً والحسينُ علي السلام يقولُ لهُم:
"صَبْراً على الموتِ يا بَنِي عمومتي، لا رأيتُم هواناً بعدَ هذا اليوم".

فجعلُوا يَسْتَبْسلِونَ في الدِّفاعِ عنِ ابنِ رسولِ اللهِ حتى استُشْهِدُوا رحِمَهُمُ الله.

وتقدَّمَ القاسمُ بنُ الإمامِ الحسنِ علي السلام، يستأذُنِ عمَّهُ للقتال ـ وكأنَّ الإمامَ الحسَنَ علي السلام أبى إلاَّ أنْ يكونَ حاضراً في كربلاءَ بخمسةٍ من أولادِهِ، وهوَ القائل: لا يومَ كيومِكَ يا أبا عبدِ الله ـ فخرَجَ القاسمُ وهُوَ يرتجُزِ ويقول:
إنْ تُنْكِروني فأنا فَرْعُ الحسَن    سِبْطِ النبيِّ المصطفى والمؤتمَن
هذا حسينٌ كالأسيرِ المُرْتهَن     بينَ أناسٍ لا سُقُوا صَوْبَ المُزُن



وفيما كانَ يجُولُ في المَيْدانِ ويصُولُ، انقطعَ شِسْعُ نعلِهِ، فانحنى ليُصْلِحَه.
قالَ من شهِدَ الواقعة: فقالَ لي عمرُو بنُ سعدٍ بنِ نفيلٍ الأزْدِيّ: واللهِ، لأَشُدَّنَّ عليهْ. فقْلُت لهُ: سبحانَ اللهِ، وما تُرِيدُ إلى ذلك؟ يكفيكَ قتلَهُ


48

هؤلاءِ الذينَ تَراهُم قدِ احتَوَشُوهْ، فقالَ: واللهِ، لأشُدَّنَّ علَيْه. فما ولَّى حتَّى ضرَبَ رأسَهُ بالسيفِ، فوقَعَ الغلامُ لوجهِهِ، فصاح:
"يا عمَّاه!".
فجَلّى الحسينُ علي السلام كما يجلِّي الصقرُ، وانجلَتِ الغَبَرَةُ، فإذا بالحسينِ علي السلام قائمٌ على رأسِ الغُلامِ والغلامُ يفْحَصُ برجلَيْهِ، والحسينُ علي السلام يقول:
"بُعْداً لقومٍ قتلوكَ ومَنْ خصْمُهُم يومَ القيامةِ فيكَ جدُّك".

ثُمَّ قالَ:
"عزَّ - واللهِ - على عمِّكَ أنْ تَدْعُوَهُ فلا يُجيبُك، أو يُجيبَكَ ثُمَّ لا يَنْفعُكَ، صوتٌ واللهِ كثُرَ واترُهُ وقلَّ ناصرُهُ".

بكى او نادى يجاسم اشبيدي    يريت السيف قبلك حزّ وريدي
هان الكم تخلوني اوحيدي     على اخيمّي يعمّي الخيل تفتر



قالَ الراوي: ثُمَّ احتملَهُ، فكأنّي أنظُرُ إلى رِجلَي الغُلامِ يخُطّانِ في الأرضِ وقدْ وضَعَ الحسينُ علي السلام صدرَهُ على صدرِهِ، قالَ: فقلتُ في نفسي: ما يصنَعُ بهِ؟ فجاءَ بهِ حتَّى ألقاهُ معَ ابنِهِ عليِّ بنِ الحسينِ وقَتْلى قدْ قُتِلَتْ حولَهُ منْ أهلِ بيتِهِ، فسألْتُ عنِ الغُلامِ، فقِيلَ: هوَ القاسِمُ بنُ


49

الحسَنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ عليهم السلام.

جابه اومدّده ما بين اخوته      بكى عدهم يويلي وهم موته
بس ما سمعن النسوان صوته   إجت امّه تصيح الله أكبر
ردتك ما ردت دنيه ولا مال    تحضرني لو وقع حملي ولا مال
يبني خابت اظنوني والامال    محل الضيق يبني اقطعت بيّه


وقدْ رُوِيَ أنَّ الشهداءَ في كربلاءَ منْ أولادِ الإمامِ الحسنِ بنِ عليٍّ عليه السلام ثلاثةٌ, غيرُ القاسِمِ، وقد جُرِحَ منْهُمْ خامِسٌ، وقُطِعَتْ يدُهُ، وهُوَ الحسَنُ المثنَّى- رِضوانُ اللهِ عليهِمْ أجمعِين-.

ما ذنبُ أهلِ البيتِ حتَّى   منْهُمُ أفنَوْا ربوعَه
تَركُوهُمُ شتَّى مَصا       رِعُهُمْ وأجْمعُها فظيعه.


50

مقاتل إخوة العباس علي السلام

ثُمَّ إنَّ أبا الفضلِ العبَّاسَ علي السلام، قالَ لإخوتِهِ منْ أبيهِ وأمِّهِ أمِّ البنينَ ـ وهُمْ عبدُ اللهِ وجعفرٌ وعُثمانُ -.

"تقدَّمُوا حتَّى أراكُم قد نصحْتُم للهِ ولرسولِه، تقدَّموا، بنفسي أنتُم، فحامُوا عن سيِّدِكُم حتى (تُقْتَلُوا) دونَه".

فتقدَّمُوا جميعاً. فصارُوا أمامَ الحسينِ علي السلام، يَقُونَهُ بوُجوهِهِم ونُحُورِهِم.

فكانَ أوَّلَ مَنْ برَزَ منهُمْ عبدُ اللهِ بنُ أميرِ المؤمنين عليه السلام ، وقاتَلَ قِتالاً شديداً، حتّى استُشْهِدَ. ثُمَّ برَزَ بعدَهُ جعفرٌ، ثُمَّ عثمانُ (وجدُّوا في القتالِ حتَّى قُتِلوا)- رضِيَ اللهُ عنْهُمْ أجمعِين-.

شهادة العباس علي السلام

ولمّا استُشْهِدَ إِخوةُ العبَّاسِ عليهم السلام، ورآهُم صرعَى على وجهِ الصعيدِ، لم يستطِعْ صبراً، فجاءَ إلى أخيهِ الحسينِ علي السلام يستأذِنُهُ القِتالَ، فبكَى الحسينُ علي السلام بكاءً شديداً، وقال:
"يا أخي، أنتَ صاحبُ لوائي، وإذا مضيتَ تفرَّقَ عسكري".

فلم يأذَنْ له.

فقالَ العباسُ علي السلام:


51

"قد ضاقَ صَدْري وسئِمْتُ منَ الحياةِ، وأريدُ أنْ أطلُبَ ثأري من هؤلاءِ المُنافقِين".

فقالَ الحسينُ علي السلام:
"فاطلُبْ لهؤلاءِ الأطفالِ قليلاً منَ الماء".

فذهَبَ العباسُ علي السلام إلى عسكَرِ عُمَرَ بنِ سعدٍ ووعَظَهُم وحذَّرَهُم فلم ينفعْهُم، فرجَعَ إلى أخيهِ فأخبرَه، (وسمعَ أبو الفضلِ علي السلام الأطفالَ ينادُون:
"العطَشَ العطشَ". فخرَجَ يطلُبُ الماءَ ليوصِلَهُ إليهِم).

وركِبَ فرَسَهُ وأخذَ رمحَهُ وسيفَهُ والقِربةَ، فأحاطَ بهِ الذينَ كانوا مُوكَلِينَ بالفُراتِ، وأخَذُوا يرْمُونَهُ بالنَّبالِ، فلَمْ يعبَأ بجَمْعِهِم، ولا راعتْهُ كثْرَتُهُم. فكشَفَهُم عن وجهِهِ، ودخَلَ الفراتَ مطمئنّاً غيرَ هيَّاب لذلكَ الجَمْعِ الغفير.

ثُمَّ اغتَرفَ منَ الماءِ غُرْفةً وأدناها من فمِهِ ليشرَبَ، فتذكَّرَ عطَشَ أخيهِ الحسينِ علي السلام وعَطاشى أهلِ بيتِهِ وأطفالِهِ عليهم السلام، فرمى الماءَ مِنْ يدِهِ وقال:
يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني       وبعدَهُ لا كنتِ أن تكوني
هذا حسينٌ وارِدُ المَنُونِ             وتشربينَ بارِدَ المعِينِ

 


52

تاللهِ ما هذا فِعَالُ ديني              ولا فِعَالُ صادقِ اليقين

اشلون اشرب واخوي احسين عطشان     وسكنه والحرم واطفال رضعان
اظن قلب العليل التهب نيران             يريت الماي بعده لا حلى او مرّ

ثُمَّ ملأَ القِرْبةَ وحمَلَها على كتِفِهِ اليُمنى، وركِبَ جوادَهُ، وتوجَّهَ نحوَ الخِيامِ مُسْرِعاً ليوصِلَ الماءَ إلى عَطاشى أهلِ البَيْتِ عليهم السلام، فأخذُوا عليهِ الطريقَ، وتكاثَرُوا عليهِ وأحاطُوا بهِ من كلِّ جانب.

فجَعَلَ يَصُولُ في أوساطِهِم ويضرِبُ فيهِمْ بسيفِهِ، فحمَلُوا عليهِ وحمَلَ هوَ عليهِم [ففرَّقَهُم] وأخذُوا يَهْرُبونَ من بينِ يدَيْهِ، فكَمَنَ لهُ زيدُ بنُ الرقَّادِ الجهينيُّ مِنْ وَراءِ نخلةٍ فضرَبَهُ على يمينِهِ بالسيفِ فبَراها.

فأخذَ العبّاسُ السيفَ بشِمالِهِ، وضَمَّ اللّواءَ إلى صدرِهِ، وحمَلَ القِربةَ على كتِفِهِ اليُسرى، وحمَلَ عليهِم وهُوَ يرتجِز:
واللهِ إنْ قطعْتُمُ يميني     إنّي أحامي أبداً عن ديني
وعن إمامٍ صادقِ اليقين   نجلِ النبيِّ الطاهرِ الأمين


وقاتَلَ حتّى ضعُفَ عنِ القِتالِ، فضرَبَهُ حكيمُ بنُ الطُفَيْلِ على شِمالِهِ فقطَعَها منَ الزَّند، فوقَعَ السيفُ منْ يدِ العبّاسِ، وأخذَ القِربَة بأسنانِهِ، وقالَ علي السلام:
 


53

يا نفسُ لا تخشَيْ منَ الكفّارِ      وأبْشِرِي برحمةِ الجبار
مــعَ النبيِّ السيِّدِ المختار        قد قطعوا ببَغْيِهِم يساري
فأصــْلِهـِم يــا ربِّ حــرَّ النـــار


وجعَلَ يسرِعُ لعلَّهُ يوصِلُ الماءَ إلى المخيَّم. فلمّا نظرَ ابْنُ سعدٍ إلى شدّةِ اهتمامِ العباسِ علي السلام بالقِربةِ صاحَ بالقومِ: ويلَكُم، أُرْشُقُوا القِربةَ بالنَّبْلِ، فَوَاللهِ، إنْ شرِبَ الحسينُ من هذا الماءِ أفناكُم عنْ آخرِكُم.

فقطَعُوا عليهِ طريقَهُ، وازدحَمُوا عليهِ، وأتتْهُ السِّهامُ كالمطرِ من كلِّ جانِبٍ، فأصابَ القِرْبةَ سهمٌ فأُريقَ ماؤُها، وجاءَ سهْمٌ فأصابَ صدرَهُ، وسهمٌ آخرُ أصابَ إحدى عينيْهِ، فأطْفَأها، وجمَدَتِ الدِّماءُ على عينِهِ الأخرى، فلم يُبْصِرْ بها [فضرَبَهُ ملعونٌ بعَمُودٍ من حديد].

أيها الموالي: الفارس عندما يقع إلى الأرض يتلقى الأرض بيديه، لكن إذا كانت يداه مقطوعتان والسهام في صدره فبأي حال يقع إلى الأرض.!!

فانقلَبَ عن ظَهْرِ فرسِهِ وخرَّ إلى الأرضِ صريعاً،فهجم عليه القومُ بأسيافِهِم، فنادَى برفيعِ الصوت:
 


54

"أخي أبا عبدِ اللهِ، عليكَ منِّي السلام".

فأدركَهُ الحسينُ علي السلام وبهِ رمَقٌ منَ الحياةِ، فلمّا رآهُ الحسينُ علي السلام [صريعاً] على شطِّ الفراتِ بكى [بكاءً شديداً]، فأخذَ رأسَهُ الشريفَ ووضَعَهُ في حِجْرِهِ، وجعَلَ يمسَحُ الدَّمَ والتّرابَ عنهُ، ثُمَّ بكى بكاءً عالياً، قائلاً: "ألآنَ انكسَرَ ظَهْري، وقلَّتْ حيلتي، وشَمِتَ بي عدوِّي".

يخويه انگسر ظهري اول اگدر اگوم      صرت مركز يخويه الكل الهموم
يخويه استوحدوني عگبك القوم             ولا واحد عليّه بعد ينغر

ثُمَّ انحنى عليهِ واعتنَقَهُ، وجَعَل يُقبِّلُ مَوْضِعَ السُيوفِ من وجهِهِ ونَحْرِهِ وصَدْرِه. ثُمَّ فَاضَتْ نَفْسُ العبَّاسِ المُقَدَّسَةُ ورأسُه في حِجْرِ أَخيه..
واعبَّاساه... واسيِّداه...

وقد ترَكَ الحسينُ علي السلام أخاهُ العبَّاسَ في مَكانِهِ، وقامَ عنْهُ بعدَ أنْ فاضَتْ نفسُهُ الزكيَّةُ، ولمْ يحمِلْهُ إلى الفُسطاطِ الذي كانَ يَحْمِلُ القَتْلى من أهلِ بيتِهِ وأصحابِهِ إليه.

يخويه احسين خليني ابمكاني    يگله ليش يا زهرة زماني
يگله واعدت سكنه تراني       ابماي اومستحي منها امن اسدر



وعادَ إلى المخيَّمِ فاجتمعَتِ النِّساءُ حولَهُ وجعلْنَ يَبْكِينَ العباسَ علي السلام ويندُبْنَهُ، والحسينُ علي السلام يبكي مَعهُنّ..
 


55

شَهادةُ الإِمام الحُسين علي السلام:

ولما بَقِيَ الحُسَينُ علي السلام وَحيدَاً فَرِيدَاً قَدْ قُتِلَ جَميعُ أَصحابِه وأَهلُ بَيتِه، وَرآهُم عَلى وجهِ الأَرضِ مُجزّرينَ كَالأضَاحِي، وَلم يَجِدْ أَحَدَاً يَنْصُره وَيذبّ عَن حَريمِه، وَهو إِذْ ذَاك يَسمعُ عَويلَ العيالِ وصُراخَ الأطفَال.

عندَ ذلك نَادَى بِأعلَى صَوتِه: "هَل مِنْ ذَابٍ عَن حُرمِ رَسُولِ الله، هَل مِن مُوحّدٍ يَخافُ اللهَ فِينا؟ هَل مِن مُغيثٍ يَرجُو اللهَ في إِغَاثَتِنا".

فارتَفعتْ أَصواتُ النّساء بِالبُكاءِ وَالعَويْل.

الوَداعُ الأَول:

ولمَّا عَزمَ الحُسين علي السلام عَلَى مُلاقاةِ الحُتُوف، جَاءَ وَوَقَفَ بِبَابِ خَيمةِ النّساء مُودّعاً لحُرمه مُخَدَّراتِ الرِّسَالة وَعَقائِل النُبوَّة، وَنَادَى:
"يَا زَينب، ويَا أُمّ كُلثوم، ويَا فَاطِمة، ويَا سُكينة، عَليكنّ مِنّي السَّلام".

فَنَادته سُكينة: يَا أَبَه، أستسلمتَ للِموت؟

فَقَال: كيفَ لا يستسلمُ لِلموت مَن لا نَاصرَ لَه ولا مُعين؟

فَقَالت: رُدَّنا إِلى حَرمِ جَدّنَا رَسُولِ الله.

فَبَكَى الحُسَينُ علي السلام بُكاءً شَدِيدَاً، وَقال: هَيهَات!! لَو تُرك القَطا لَغَفَا وَنَام..


56

فَرفَعت سُكينةُ صَوتَها باِلبُكاءِ وَالنّحِيب، فَضَمَّها الحُسَين علي السلام إِلى صَدرِه، وَمَسَحَ دُمُوعَها بِكَمّه، وَكَانَ يُحبُّها حُبّاً شَدِيدَاً، وَجَعَلَ يقولُ:
سَيطولُ بُعدي يَا سُكينةُ فَاعلَمِي    مِنكِ البُكاءُ إِذَا الحِمَامُ دَهَانِي
لا تُحرقِي قَلبِي بِدَمعِكِ حَسرَةً      مَا دَامَ مِنّي الروحُ فِي جُثمَانِي
فَإِذَا قُتِلتُ فَأَنتِ أَولَى بِالَّذِي        تَأتِينَه يَا خِيرةَ النسوانِ



وّنَهَضَ عَليُّ بنُ الحُسَين زينُ العَابدين علي السلام وَخَرَجَ يتوكَّأُ عَلَى عَصَاً وَيَجُرُّ سَيفَه، إِذْ لا يَقدِرُ عَلَى حَملِهِ لأنَّه كَانَ مَريضَاً لا يستطيعُ الحَرَكة.

فَصَاحَ الحُسَينُ علي السلام بأمِّ كُلثوم: اِحبسيه يَا أُختَاه، لِئَلا تَبقَى الأرضُ خَاليةً مِن نَسلِ آلِ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم.

فَقَالَ زينُ العَابدين: يَا عَمَّتَاهُ، ذرينِي أُقَاتِل بَينَ يَدَي بنَ رَسُولِ الله.

فَأَخَذت أُمُّ كُلثوم تُمانِعُه، وتُنادِي خَلفه: يا بُنيَّ ارجِع، حتَّى أَرجَعتهُ إِلى فِراشِه.


57

مصرعُ عبدِ اللهِ الرَّضيع:

ثمَّ تَقَدَّم علي السلام إِلى بَابِ الخَيمة، وَدَعَا بِابنِه عَبدِ اللهِ الرَّضيع لِيودّعه، فأَجلَسَه فِي حِجرِه، وَأَخذَ يقبِّلُهُ وَيقُولُ:
"وَيلٌ لِهَؤُلاءِ القَومِ إِذَا كَانَ جَدُّكَ المُصطَفَى خَصمَهُم".

وفي بَعضِ المَقَاتِل: "ثمَّ أَتَى بِهِ نحوَ القومِ يطلبُ لهُ المَاءَ، وقالَ: إنْ لَمْ تَرحمونِي فارحَمُوا هَذَا الطفل".

فَرَمَاه حَرملَةُ بنُ كاهلِ الأَسَدي بسهمٍ فَذَبَحَهُ- وَهُوَ فِي حِجرِ أَبيه- فَتَلقَّّى الحُسَينُ علي السلام الدَّمَ بِكَفّه، وَرَمَى بِهِ نَحوَ السَّماء.

فَعَنِ الإِمَامِ البَاقِرِ علي السلام أَنَّه لَمْ يَسقُط مِن ذَلِكَ الدَّم قَطرةٌ إِلى الأَرض.

وَعن الإِمامِ الحُجّة- كَمَا فِي الزّيارةِ المَنسوبةِ إِلى النّاحيةِ المقدّسة-: "السَّلامُ عَلَى عبدِ اللهِ بنِ الحُسَينِ الطّفلِ الرَّضيعِ، المَرمِيِّ الصَّريعِ، المتُشحِّطِ دَمَاًًََ، المُصعّدِ دَمُهُ فِي السَّماءِ، المَذبوحِ بِالسّهمِ فِي حِجرِ أَبيه..".

ثمَّ قَالَ الحُسَينُ علي السلام: "هَوَّنَ مَا نَزَلَ بِي أَنَّه بِعينِ الله، اللهمَّ لا يَكُن أَهونَ عَلَيكَ مِن فصيل[ناقة صالح]، اللهمَّ إِنْ كُنتَ حَبَستَ عَنَّا النَّصرَ فاجعلهُ لِمَا هُوَ خيرٌ مِنه، وَانتقِم لَنَا مِن الظَّالِمين..".


58

ثمَّ نَزَلَ علي السلام عَن فَرَسِه، وَحَفَرَ لَه بِجِفنِ سَيفِه، وَصَلَّى عَلَيه وَدَفَنَه مُرَمّلاً بِدَمِه. وَيُقال: وَضَعَه مَعَ القَتلى مِن أَهلِ بَيتِه.

يا ناس حتى الطفل مذبوح    دمه على زند حسين مسفوح
وين اليساعدني ويجي ينوح   قلبي على فرگاه مجروح


59

الوداع الثاني:

ثمَّ إِنَّه علي السلام أَمَرَ عِيَالَه بِالسُّكوتِ، وَوَدَّعَهم ثَانِياً..

ثمَّ تَقَدَّمَ علي السلام نَحوَ القَومِ مُصلتاً سَيفَه، عَازِمَاً عَلَى الشَّهادَة، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى البِرَازِ، فَلَم يَزَلْ يَقتلُ كلَّ مَن بَرَزَ إِليه حَتَّى قَتَلَ جَمعاً كَثيرَاً.

ثمّ حَمَل عَلَى المَيمَنَةِ، وَهَوَ يقول:
المَوتُ أَولَى مِنْ رُكُوبِ العَارِ     وَالعَارُ أَولَى مِنْ دُخُولِ النَّارِ


ثمَّ حَمَلَ عَلَى المَيسَرةِ، وَهَوَ يَقول:
أَنَا الحُسَينَ بنُ عَلي    آليتُ أَنْ لا أَنثنِي
أَحمِي عِيالاتِ أَبِي     أَمضِي عَلَى دِينِ النَّبِيّ



قَالَ بعضُ مَن حَضَرَ المعرَكَة: "فَوَاللهِ مَا رأيتُ مَكثورَاً قَطّ، قَد قُتلَ وُلدُه وَأهلُ بيتِه وَصحبُه أَربطَ جَأْشَاًً مِنه، وَلا أَمضَى جِنَانَاً وَلا أَجْرأَ مَقدَمَاً، وَلَم أَرَ قبلَه وَلا بَعدَه مثلَه، وَلقد كَانت الرِّجالُ لَتَشدُّ عَلَيه، فَيشدُّ عَلَيها، فَتَنكشفُ بينَ يَديه...".

ولَقَد كَانَ يَحملُ فِيهِم، وَقَد تَكامَلَوا ثَلاثِينَ أَلفَاً، فَينهزِمونَ بينَ يَديه كَأنَّهم الجَرَادُ المنتشرُ، وَلَم يثبتْ لَه أَحَدٌ، ثمَّ يَرجعُ إِلى مَركَزِه وَهَوَ يقولُ: "لاحولَ وَلا قوّةَ إِلا بِاللهِ العَلِيِّ العَظيم"، حتَّى قَتَل مِنهم مَقَتلةً عَظِيمَة.

فَقَصَدَهُ القومُ واشتدَّ القِتَالُ، وجَعَلَ يحمِلُ عليهم ويحملونَ عليهِ،


60

وقَدْ اشتدَّ بهِ العطَشُ، وكلَّمَا حمَلَ بفرسِهِ على الفراتِ حملوا عليهِ حتى أجلّوه عنه.

ودنَا من الفراتِ- ثانياً- فرمَاه الحُصينُ بنُ نُمَير بسهمٍ وقعَ في فمِهِ الشريفِ، فجعَلَ يتلقّى الدمَ مِن فمِهِ، ويرمي بهِ نحوَ السماءِ.


61


الوداعُ الثالثُ:

ثمَّ إنَّه علي السلام عادَ إلى الخيمَةِ، وودَّعَ عِيالَهُ وأهلَ بيتِهِ- ثالِثاً- وأمرَهمْ بالصبرِ، وقالَ لهُم:
"استعدّوا للبلاءِ، واعلمُوا أنَّ اللهَ تعالى حاميكُم وحافظُكُم، وسينجيْكُم من شرِّ الأعداءِ، ويجعلُ عاقبةَ أمرِكُم إلى خَيرٍ، ويعذِّبُ عدوَّكم بأنواعِ العذابِ، ويعوّضُكم عن البليَّةِ بأنواعِ النِّعمِ والكرامةِ، فلا تَشكوا، ولا تقولُوا بأَلسنَتِكُم ما يُنقصُ مِنْ قدرِكُم".

فصاحَ عمرُ بنُ سعدٍ بقومِهِ: "ويحكُم، اهجمُوا عليهِ ما دامَ مشغولاً بنفسهِِ وحُرَمِهِ، واللهِ إنْ فَرَغَ لكُمْ لا تمتازُ مَيمَنَتِكُم عنْ مَيْسَرَتِكُم".

فَحَمَلوا عليهِ يرمونَه بالسِّهامِ، حتى تخالَفَتِ السِهَامُ بينَ أطنابِ المخيَّمِ، وشكَّ سهمٌ بعضَ أُزُرِ النساءِ، فدُهِشنَ وأُرعِبنَ وصِحنَ ودَخلْنَ الخيمةَ، وهنَّ ينظرنَ الحسينَ كيفَ يصنعُ فحَمَلَ على القومِ كالليثِ الغضبانِ، فلا يلحقُ أَحداً إلا بعَجَهُ بسيفِهِ فقتلَهُ، أو طعنَهُ برمحِهِ فصرعَهُ، والسهامُ تأخذُهُ منْ كلِّ جانبٍ وهو يتَّقيْهَا بصدرِهِ ونحرِهِ، ويقولُ:
"يا أُمَّةَ السُوءِ، بئسَمَا خلّفتُم محمّداً في عترتِهِ، أمَا إنَّكُم لن تقتلُوا
بَعدي عَبداً مِنْ عبادَ اللهِ، فتهابُوا قتلَهُ، بلْ يهونُ عليكُم ذلكَ عندَ قتلِكُم


62


إيَّايَ، ثمَّ ينتقِمُ لي منكُم مِنْ حيثُ لا تَشعُرونَ".

ورَجَعَ علي السلام إلى مركزِهِ، وهو يُكثِرُ مِنْ قَولِ: "لا حَولَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ".

ورّماهُ أبو الحتوفِ الجُعفيُّ بسَهمٍ وقَعَ في جبهتِهِ المقدّسةِ فنزَعَهُ، وسالَتْ الدماءُ على وجهِهِ وكريمتِهِ، فقالَ:
"اللهُمَّ إنَّكَ تَرى مَا أَنَا فيهِ مِن عبادِكَ هؤلاءِ العُصَاةِ، اللهمَّ أحصِهم عَدَداً، واقتلْهم بَدَدَاً، ولا تذَرْ على وجهِ الأرضِِ منهم أحَداً ولا تغفرْ لهُم أبَداً".

ثمَّ لمْ يزلْ يقاتلُ حتَّى أصابتْهُ جراحاتٍ كثيرةٍ... ولمَّا ضعُفَ عن القتالِ وقفَ ليستريحَ ساعةً، فبينمَا هو واقفٌ إذ رمَاهُ رجلٌ بحَجَرٍ وقعَ في جبهتِهِ الشريفةِ، فسَالتْ الدماءُ على وجهِهِ، فأخذَ الثوبَ ليمسحَ الدمَ عنْ وجهِهِ وعينَيهِ، إذ رمَاهُ لَعينٌ آخرَ مِنَ القومِ بسهمٍ محدَّدٍ مسمومٍ لهُ ثلاثُ شعبٍ وقعَ على صدرِهِ...

فقالَ الحسينُ علي السلام: "بسمِ اللهِ وباللهِ وعلى ملَّةِ رسولِ اللهِ".

ورفَعَ رأسَهُ إلى السماءِ وقالَ: "إلهيْ إنَّكَ تعلمُ أنّهم يقتلونَ رجلاً ليسَ على وجهِ الأرضِ ابنُ [بنت] نبيٍّ غيرُه".

ثمَّ أخذَ السهمَ فأخرجَهُ..فانبعثَ الدمُ كالميزابِ..


63


فوضَعَ يدَهُ تحتَ الجرحِ، فلمَّا امتلأَتْ دَماً رمَى بهِ نحوَ السماءِ وقالَ: "هوَّنَ مَا نَزَلَ بي أنَّهُ بعينِِ اللهِ". فلَمْ تسقطْ من ذلكَ الدمِ قطرةٌ إلى الأرضِِ.

ثمَّ وضعَ يدَهُ- ثانياً - فلمَّا امتلأَتْ لطَّخَ بهِ رأسَهُ ووجهَهُ، وقالَ: "هكَذَا أكونُ حتَّى ألقَى اللهَ وجَدِّي رسولَ اللهِ وأنَا مخضوبٌ بدَمِي، وأقولُ: يَا جدِّي قتَلَنِي فلانٌ وفلانٌ".

وأَعياهُ نزفُ الدمِ، فجلسَ على الأرضِِ....، فانتهَى إليهِ مالكُ بنُ النِسْرِ الكِنْدِيّ في تلكَ الحالِ، فشتَمَ الإمامَ علي السلام ثمَّ ضربَهُ على رأسِهِ بالسيفِ، فامتَلأَ البُرنُسُ دَماً..

قالوا: ولمَّا سقَطَ الحسينُ عَنْ ظهرِ فرسِهِ- وقد أُثخِنَ بالجراحِ- قاتَلَ راجلاً قِتالَ الفارسِِ الشجاعِ....، وشدَّ على الخيلِ وهو يقولُ: "وَيحَكُم أَعَلَى قَتلِي تجتَمِعُونَ؟!".


64


مصرعُ عبدِ اللهِ بنِ الحسنِ عليه السلام :


ثمَّ إنَّهم لبثوا هُنيئةً وعادوا إلى الحسينِِ عليه السلام وأحاطوا بهِ وهوَ جالسٌ على الأرضِِ لا يستطيعُ النهوضَ, فنظرَ عبدُ اللهِ بنُ الحسنِِ السِّبْطِ عليه السلام وله إحدى عَشَرةَ سنةً إلى عمِّهِ وقد أحدقَ بهِ القومُ, فأقبلَ يشتدُّ نحوَ عمِّهِ, فصاحَ الحسينُ بأختِهِ العقيلةِ زينبَ: "إحبسيهِ يا أختاهُ", فلحقتْهُ زينبُ عليها السلام وأرادتْ حبسَهُ فأفلَتَ من بينِِ يدَيها, وأَبَى عليها, وقالَ: "لا- واللهِ- لا أُفارقُ عَمِّي", وجاءَ حتَّى وقفَ إلى جنبِ عمِّهِ الحسينِِ عليه السلام .

وبينمَا هوَ كذلِكَ إذْ جاءَ أبحرُ بنُ كَعبٍ وأَهوَى إلى الحسينِِ عليه السلام بالسيفِ ليضربَهُ, فصاحَ الغلامُ: "ويلَكَ يا ابنَ الخبيثةِ, أتقتلُ عمِّي؟". فضربَهُ أبحرُ بالسيفِ, فاتّقاها الغلامُ بيدِهِ, فأطنَّها إلى الجلدِ, فإذا هيَ معلّقةٌ, فصاحَ الغلامُ: يا عمَّاهُ!! فأخذَهُ الحسينُ عليه السلام وضمَّهُ إلى صدرِهِ, وقالَ: "يا بنَ أخي, إصبرْ على ما نزَلَ بِكَ, واحتسِبْ في ذلكَ الخيرَ, فإنَّ اللهَ تعالى يُلحقُكَ بآبائكَ الصالحينَ".

فرماهُ حَرْمَلةُ بنُ كاهلٍ الأسديُّ بسهمٍ فذبحَهُ, وهوَ في حِجْرِ عمِّهِ الحسينِِ عليه السلام .

فرفعَ الحسينُ عليه السلام يدَيهِ إلى السماءِ قائلاً: "اللّهمَّ, إنْ متَّعتَهُم إلى حينٍ, ففرِّقهُم فِرَقاً, واجعلْهُم طرائقَ قِدَداً, ولا تُرضِِ الوُلاةَ عنهُم أبَداً, فإنَّهُم دَعَوْنَا ليَنصُرُونَا فعَدَوا علَينا يُقاتِلونَنا".


65


الحسينُ على وجهِ الثرَى:


قالوا: ومكَثَ الحسينُ طَويلاً من النَّهارِ مَطروحَاً عَلَى وَجهِ الأرضِِ وهوَ مغشيٌّ عليهِ، ولو شَاؤا أنْ يقتلوهُ لفعلُوا، إلا أنَّ كلَّ قبيلةٍ تتَّكِلُ على الأُخرى وتكرَهُ الإقدامَ.

فعندَها صاحَ شِمرٌ بالناسِِ: ويحكُمْ، مَا وقوفُكُمْ؟! ومَا تنتظرونَ بالرجلِ؟! وقدْ أثخنَتْهُ السهامُ والرماحُ، احملُوا عليهِ، اقتلوهُ، ثكلتْكُم أمُّهاتُكُم.
فحَمَلُوا عليهِ مِنْ كلِّ جانبٍ:

فضّربَهُ لعينٌ على كفِّهِ اليُسرَى فقطعَها...
وضربَهُ آخرٌ على عاتقِهِ المقدَّسِ...
وطعنَهُ سنانُ بالرمحِ على تِرقُوَتِهِ فوقَعَ، ثمَّ انتزعَ الرمحَ وطعنَهُ في بواني صدرِهِ، ثمَّ رماهُ بسهمٍ وَقَعَ في نحرِهِ..
وطعنَهُ لعينٌ بالرمحِ في خاصِرَتِهِ..
وقصدَهُ آخرٌ يضربهُ بسيفِهِ..
ورماهُ الحصينُ بنُ تميمٍ في حلقِهِ..
فعندَ ذلكَ وقعَ مغشيّاً عليهِ..

يقولُ هلالُ بنُ نافعٍ: كنتُ واقفاً نحوَ الحسينِ وهوَ يجودُ بنفسِهِ، فواللهِ


66


 ما رأيتُ قتيلاً قطُّ مضمَّخاً بدمِهِ أحسنَ وجهاً ولا أنورَ! ولقدْ شَغلَنِي نورُ وجهِهِ عن الفِكرةِ في قتلِهِ..

ولمّا اشتدَّ بهِ الحالُ رفعَ طرفَهُ إلى السماءِ وقالَ: "اللهُمَّ أنت متعالي المكانِ، عظيمُ الجبروتِ، شديدُ المِحالِ، غنيٌّ عَنِ الخلائقِ، عريضُ الكِبْرياءِ، قادرٌ علَى مَا تشاءُ، قريبُ الرحمةِ، صادقُ الوعدِ، سابغُ النّعمةِ، حَسَنُ البلاءِ، قريبٌ إذا دُعِيتَ، مُحيطٌ بما خَلَقْتَ، قابِلُ التوبةِ لمن تابَ إليك، قادرٌ على ما أردتَ، تُدرِكُ ما طَلَبتَ، شكورٌ إذا شُكِرتَ، ذكورٌ إذا ذُكِرتَ، أدعوكَ مُحتَاجاً وأرغبُ إليك فَقيراً، وأفزَعُ إليك خائِفاً، وأبكي مَكروباً، وأستعينُ بك ضعيفاً، وأتوكّل عليك كافياً. اللهُمَّ احكُمْ بَينَنَا وبينَ قومِنَا، فإنَّهم غرُّونَا وخَذَلُونَا، وغدَرُوا بِنَا وقتلونا، ونحنُ عِترةُ نبيِّكَ، ووُلدِ حبيبِكَ محمّدٍ الذي اصطفيتَه بالرسالةِ، وائتمنتَهُ على الوحيِ، فاجعَل لنَا من أمرِنا فرَجاً ومخرجاً يا أَرحم الراحمينَ".

"صَبراً على قضائِك يا ربِّ، لا إلهَ سِواكَ يا غياثَ المُستَغيثينَ، ما لي ربُّ سِواكَ ولا معبودٌ غيرُك، صبراً على حُكمِك، يا غِياثَ من لا غِيَاثَ له، يا دائماً لا نَفَادَ له، يا مُحييَ المَوتى، يا قائِماً على كلِ نَفسٍ بما كَسبَت، أُحكُم بَيني وبيَنهم وأنتَ خيرُ الحاكِمين".


67


فرسُ الحسينِ علي السلام:

وأقبَلَ فرسُ الحسينِ علي السلام يدورُ حولَهُ، ويلطِّخُ عرفَهُ وناصيَتَهُ بدمِهِ، ويشَمُّهُ ويصهَلُ صهيلاً عالياً، وأقبلَ نحوَ المخيّمِ بذلكَ الصهيلِ..

"فلمَّا نظرْنَ النساءُ إلى الجوادِ مخزيّاً، وسرجُهُ عليهِ ملويّاً، برزْنَ منَ الخدورِ...، على الخدودِ لاطمَاتٍ...، وبالعويلِ داعياتٍ، وبعدَ العزِّ مذلّلاتٍ، وإلى مصرعِ الحسينِ مبادراتٍ".

فواحدةٌ تحنُوْ عليهِ تضمُّهُ        وأُخرى عليهِ بالرداءِ تظلّلُ
وأُخرى بفيضِِ النحرِ تصبغُ     وجهَهَا وأُخرى تُفدّيهِ وأُخرى تقبّلُ
وأُخرى على خوفٍ تلوذُ بجنبِهِ  وأُخرى لِمَا قَدْ نالَهَا ليسَ تعقِلُ



وخرجَتْ زينبُ عليها السلام ومِنْ خلفِها النساءُ والأرامِلُ واليتامَى مِنَ الفِسطاطِ إلى أرضِ المعركةِ، وهيَ تنادِي: "وامحمَّداهُ، واعليّاهُ، واجعفراهُ، واحمزتاهُ، واسيِّداهُ، هذا حسينٌ بالعراءِ، صريعُ كربلاءِ، ليْتَ السماءُ أَطبقَتْ على الأرضِ، وليتَ الجبالُ تدكدَكَتْ على السهلِ".

وانتهَتْ زينبُ ابنةُ عليٍّ نحوَ الحسينِ، وقدْ دنَا منهُ عُمَرُ بنُ سعدٍ- والحسينُ يجودُ بنفسِهِ- فصاحَتْ بهِ:
"أيْ عُمَرُ، وَيحَكَ أيُقتَلُ أبو عبدِ اللهِ وأنتَ تنظرُ إليهِ؟ فصرَفَ بوجهِهِ عنْها ودموعُهُ تسيلُ على وجهِهِ ولحيتِهِ.

فعندَ ذلكَ صاحَتْ زينبُ بالقومِ: "وَيحكُمْ، أَمَا فيكُمْ مسلمٌ؟!"، فلمْ يُجبْهَا أحدٌ.
 


68


الفاجعةُ الكبرى:

ثمَّ صاحَ ابنُ سعدٍ بالناسِ: ويحَكُمْ، انزلُوا إليهِ فأريحُوهُ..
فنزَلَ إليهِ شمرُ بنُ ذي الجوشنِ...

فضربَهُ برجلِهِ..

وأَلقاهُ على وجهِهِ..

ثمَّ أخذَ بكريمتِهِ المقدَّسةِ..

فرمقَهُ الحسينُ ببصرِهِ وقالَ لهُ: أتقتُلَنِي، أَوَلا تعلمُ مَنْ أنَا؟!
فقالَ الشمرُ: أعرِفُك حقَّ المعرفةِ:
أمُّكَ فاطمةُ الزهراءُ..

وأبوكَ عليُّ المرتضَى..

وجدُّكَ محمَّدُ المصطفَى..

وخصمُكَ العليُّ الأَعلَى..

وأقتلُكَ ولا أبالي..

فضربَهُ بالسيفِ اثنتَي عشرةِ ضربةٍ...

ثمَّ..حزَّ رأسَهُ الشريفَ...

واإماماهُ، واسيّداهُ، واغريباه.

وامذبوحاه، واعطشاناه، وامظلوماه.

واحسيناه


69


هوامش
1- الأحزاب:33
2- الشورى:23
3- آل عمران:114
4- عن الامام الباقر