الليلة العاشرة

طفل الحسين عليه السلام عبد الله الرضيع‏

وهي ليلة مفعمة بالمواقف الرسالية لأنصار الحسين عليه السلام والأحزان المؤلفة لمخدّرات النبوة والإمامة ووداع الحسين لهن.

كما هي ليلة مؤهلة جداً لطرح أبحاث حول أبعاد النهضة الحسينية وجوانبها المتعددة البطولية والجهادية والتربوية وغيرها.

مثل عبادة الحسين عليه السلام وأصحابه في ليلة عاشوراء والعلاقة مع القرآن وإصرار الحسين عليه السلام ومبدأيته، كما يمكن الإستفادة من آيات قرآنية كريمة عدة في معاني الثبات والتضحية في هذه الليلة. وتنتهي مصائب هذه الليلة إما بوداع الحسين عليه السلام لأخواته وبناته، أو حال زينب عليها السلام في هذه الليلة. كما أنه من المفضّل هنا إنهاء المجلس بمصيبة طفل الحسين عليه السلام عبد الله الرضيع.


أولاً: قصائد الليلة العاشرة

هناك مجموعة رائعة من القصائد الرثائية والبطولية هذه الليلة ومنها:

1- قصيدة السيد حيدر الحلي رضوان الله عليه ومطلعها1:

تركت حشاك وسلوانها           فخلّي حشاي وأحزانه‏

2- قصيدة الشريف الرضى رضوان الله عليه وأولها2:

راحل أنت والليالي تزولُ‏        ومضر بك البقاءُ الطويلُ‏


271


3- كما يمكن الإستفادة من القصائد الحديثة خاصة في المجالس التي يؤمها المثقفون والمتعلمون، مثل قصيدة الشيخ الوائلي رضوان الله عليه ومطلعها3:

الجراحات والدمُ المطلولُ ‏      انبعث فالزمان منها خميلُ‏

أو قصيدة الشاعر محمد مهدي الجواهري ومطلعها4:

فداءً لمثواك من مضجع ‏       تنّور بالأبلج الأروع‏


ثانياً: العنوان المناسب لهذه الليلة

مقاطع من خطبة الحسين عليه السلام ليلة عاشوراء مع أصحابه، أو ما يناسب ذلك من أقواله وخطبه عليه السلام. أو آية قرآنية تشير إلى معنى من المعاني التي ذكرناها أول هذه الليلة.


ثالثاً: البحث

الموضوع الأول الذي يمكن طرحه في الليلة العاشرة من محرم:


النهضة الحسينية وجوانبها المتعددة البطولية والجهادية والتربوية:


من كتاب للإمام الحسين عليه السلام:

"من لحق بنا استُشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح".

لا شك أن كتب الإمام الحسين عليه السلام وخطبه، منذ بداية إعلان نهضته برفضه بيعة يزيد، وإلى استشهاده يوم عاشوراء، تعتبر أفضل الوثائق وأولاها بالدراسة والبحث، من أجل الوقوف على المزيد من أسرار ثورته عليه السلام وأبعادها.


272


إن هذه الخطب والوصايا والكتب التي صدرت عن الإمام الحسين عليه السلام، في رحلته التاريخية نحو الشهادة التاريخية، تمثل منحنّى دقيقاً وعميقاً لمنطلقات حركته، والنقاط البارزة في سيرها.

وحينما تحرك الإمام الحسين عليه السلام من مكة بعث برسالة، صدّرنا بها مجلسنا هذا يمكن اعتبارها (برقية) سريعة أرسلها إلى من بقي من بني هاشم في المدينة، وهناك (برقية) أخرى، شابهت كثيراً هذه (البرقية) في قلة كلماتها، وبُعد مراميها، ودقة مضامينها، وذلك حينما وصل عليه السلام إلى كربلاء، وقد أرسلها الإمام الحسين عليه السلام هذه المرة إلى أخيه محمد بن الحنفية وجماعة بني هاشم، ولم يكن ابن الحنفية مخاطباً بالأولى لأنه كان موجوداً في مكة لما أراد الخروج منها. و (البرقية) الثانية، كانت حين الوصول إلى كربلاء وكان نصّها:

"أما بعد، فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل، والسلام".

فجاء الكتاب الثاني، مؤيداً لمضمون الكتاب الأول، في التأكيد على المسير إلى الشهادة ولا بُدّية زوال الدنيا، وضرورة العمل باتجاه الموقف الذي يخلد في الآخرة.

ولنحاول ونحن في هذه الليلة التي عقمت الدنيا أن تلد لها مثيلاً، أو توجد لها نظيراً، ليلة عاشوراء، وما أدراك ما ليلة عاشوراء!! نحاول في هذه الليلة التي أنتجت ليالي وأياماً، عبّدت الناس لله تعالى، وأحيت مفاهيم الإسلام وقيمه في نفوس أجيال الأمة جيلاً بعد آخر...

نعم نحاول الوقوف عند الكتاب الأول، والتأمل في بعض أبعاد كلماته، ومغازي ألفاظه، علّنا نعيش الإمام الحسين عليه السلام في ليلته هذه، ونرفع من مستوى تلقي نفوسنا لعطاء نهضته، واستدلال المفاهيم التي تعيننا على حياة كريمة، وموقف مسؤول في دنيانا هذه.

وقبل الدخول في محاولة دراسة هذا الكتاب، الذي بعثه الإمام الحسين‏ عليه السلام


273


إلى من بقي من بني هاشم في المدينة حين خروجه من مكة إلى العراق، فإن هناك رواية ينقلها السيد ابن طاووس في كتاب (اللهوف إلى قتلى الطفوف) عن الشيخ الكليني بروايته عن حمزة بن حمران، قال: "كنا جلوساً عند الإمام الصادق عليه السلام، وجرى كلام فيمن تخلّف من بني هاشم عن الحسين عليه السلام، وذكرنا ابن الحنفية".

فقال أبو عبد الله عليه السلام:

"أني سأحدثّك بحديثٍ لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا، إن الحسين لما انفصل من مكة متوجهاً إلى العراق، دعى بقرطاس وكتب: من الحسين بن علي إلى بني هاشم: (أما بعد، فإن من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح والسلام)".

لقد جاءت هذه الرواية في الجواب عمن سأل عن موقف محمد بن الحنفية، والذي لم يكون موجوداً حينها في المدينة، إلا أن الفكرة أو المفهوم الذي ذكره الحسين عليه السلام في كتابه هذا، شمل كل الذين لم يلحقوا به، سواءً كانوا في المدينة أو خارجها، وإن كانت للبعض أسباب أو أعذار، حالت دون لحوقهم بالحسين والشهادة. وعلى كل حال، فلا بد إذن أن نقف عند مفردات الكتاب (البرقية) وأبعاده، حيث أن هذا الكتاب، قد أكد على مجموعة من الثوابت في ثورة الإمام الحسين‏ عليه السلام. فإن للأحداث الاجتماعية معادلات تشابه إلى حدٍ كبير المعادلات العلمية الطبيعية، من وجود ثوابت أساسية في كل معادلة، مع وجود متغيرات أخرى فيها.

ولهذا فإن أبرز الثوابت التي يمكن لهذا الكتاب أن يبرزها هي:

الثابت الأول: "من لحق بنا استشهد" حتمية الشهادة وهي ثابت أساس ومتميز لثورة الإمام الحسين عليه السلام.

نعم فالشهادة هي المحطة التي لابد أن يبلغها كل "من لحق"، من الأنصار


274


والمجاهدين، ولا احتمال لأي أمر آخر... ولعل هذه النقطة بالذات، جعلت لنهضة الإمام الحسين عليه السلام خاصية لم تتواجد في نهضة أخرى. إن كل تحرك أو نهضة أو مواجهة، تحتمل كلا احتمالين، إما الغلبة والنصر المادي الظاهر، وإما الشهادة والقتل والموت، نعم قد يكون أحد الاحتمالين أكبر من الآخر، قلّ هذا الاحتمال أو كثر، ولكن النتيجة أن هناك احتمالين. إلاّ واقعة كربلاء... فإن فيها احتمال، واحتمال واحد فقط، إنه احتمال الشهادة والموت!!

وهذه حقيقة كان يعيشها قائد النهضة، الحسين عليه السلام ويعيشها أهل بيته وأنصاره، وهم مع ذلك مصرّون على إكمال المسيرة إلى آخر محطّاتها. حقيقةً كان الإمام الحسين عليه السلام يذكرها ويشير إليها ويذكّر بها من كان معه ومن التحق به أو من يريد الالتحاق بركبه.

ففي الخطبة التي خطبها في مكة، ثم انطلق بعدها إلى العراق، ذكر عليه السلام:

"خُطَّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء...".

وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أن أباه الحسين عليه السلام وهو في طريقه إلى كربلاء، لم ينزل في موضع ولم ينتقل إلى آخر، إلاّ وذكر (يحيى بن زكريا عليهما السلام) وكيف أن رأسه أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل. حتى وصوله عليه السلام إلى كربلاء، حينما جمع أصحابه، وأهل بيته وخطبهم، وقال عليه السلام:

"الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون... إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما...".

ولهذا لم نجد الحسين عليه السلام، يمنّي أحداً بنصر أو غلبة على عدوّ، فضلاً عن كسب الغنائم، وأخذ المواقع، واكتناز الأموال.


275


وهذا ما لم نجده في أي تحرّك فإن كل تحرّك عدا ركب الحسين عليه السلام يمنّي قائدُه أصحابَه وجيشَه بالنصر والغلبة وهزيمة العدّو ويشجعهم على ذلك، ويقرّب لهم تلك الأمنية، ويسهّل لهم ذلك الهدف.

وكان الحسين عليه السلام حريصاً على إفهام هذه الحقيقة لكل من يلتحق به من الأعراب وغيرهم، ولهذا كان يوافيهم بكل تطوّرات الموقف، فحينما بلغته أنباء استشهاد رسوليه إلى أهل الكوفة، قيس بن مسهر الصيداوي، وعبد الله بن يقطر، ثم سفيره مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، أبلغ كل هذه الأخبار والتطورات إلى من كان معه... فتفرق عنه من لم يعرف هذا الثابت في حركته، وبقي معه الذين أدركوه وعاشوا عمقَ وبُعدَ حتمية الشهادة في نهضة الإمام الحسين عليه السلام التاريخية.

الثابت الثاني: "ومن تخلف لم يبلغ الفتح" حتمية الفتح.

بعدما كان الثابت الأول، يؤكد حتمية الشهادة في نهضة الإمام الحسين‏ عليه السلام فإن الثابت الثاني هنا يؤكّد على ضرورة الفتح وحتميته.

نعم، فالحسين عليه السلام يؤكد هذا البعد في ثورته، إن الذين لم يلتحقوا بها، ولم ينضمّوا إلى مجاهديها، وبالتالي لن يكونوا مع شهدائها... أولئك لا يمكن لهم أن يبلغوا الفتح ولا أن يصلوا إلى النصر.

لقد أحدثت نهضة الإمام الحسين عليه السلام فتحاً غريباً وتاريخياً، عزّ أن تجد له نظيراً أو تسمع له شبيهاً، فتح في القلوب والنفوس والأرواح...

فتح في القلوب: حيث انفتحت على الله ورسالته، وعاشت الحب والهيام والتعلق بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى صار الحسين عليه السلام وأيامه تناغم القلوب فتهفوا لها وتتفاعل، وتذوب لها وتبكي من أجلها...

نعم لقد فتح الحسين القلوب، حتى صار عنواناً لنبضها، ومؤثراً لحبّها:

"أنا عبرة كل مؤمن ومؤمنة".


276


وفتح في النفوس: حيث تحررت من ذل تركها لمسؤولياتها، وتحررت من طاعة اللئام، فبرزت إلى مصارع الكرام، لقد تحررت النفوس من الخوف الذي أشاعه الأمويون، وأرعبوا به نفوس المسلمين، فجاء الحسين عليه السلام وجاءت شهادته لتحرر هذه النفوس المعذّبة، ولتنطلق بها إلى الموقف الذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وضحى من أجله الحسين عليه السلام بكل من معه.

وفتح في الأرواح: حيث اتجهت نحو أهل البيت عليهم السلام ونهجهم وأطروحتهم، وأخذت تستجيب لنداءات العزّة والكرامة.

وفتح في المواقف: قارن مواقف الأمة قبل واقعة كربلاء ومواقفها بعدها.. عشرون سنة في سبات واستسلام للنهج الأموي، وطوال حكم معاوية منذ صلح الإمام الحسن إلى نهضة أخيه الحسين عليه السلام ...

إنه فتح لإرادات المسلمين وفتح في فهم مواقفهم الشرعية.

إنه فتح للإسلام حيث ثار على من تدرعوا باسم الإسلام فأرهبوا وظلموا واكتنزوا، ثار عليهم ابن الإسلام، ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبذا ضمن الحسين عليه السلام الارتباط المستمر بشريعة جده عليه وآله الصلاة والسلام، وإلاَّ لخرج الثوار على الطغاة الظالمين، ممن حكم المسلمين، وكأنهم خرجوا على الدين ونقضوا عهد القرآن وجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمجاهدين الأوائل معه.

إنه فتح تجاوز عصر الحسين عليه السلام، ليمتد إلى كل العصور وليتخرج من مدرسة أبناء الأجيال وطبقات الأمة، جيلاً بعد جيل وطبقة بعد أخرى..

لمّا حوصر مصعب بن الزبير حينما أحاط به الأمويون في البصرة، سأل حمزة بن المغيرة بن شعبة عن موقف الحسين عليه السلام في كربلاء، فلما حدّثه، قال ابن الزبير: "إن ابن فاطمة لم يترك لابن حرّةٍ عذراً ثم أقحم نفسه في القتال حتى قتل".

نعم الحسين فاتح ويا لهُ من فاتح...


277


لقد كان الحسين عليه السلام مدركاً لأبعاد هذا الفتح، يذكّر به من لحق به، ولا يدع مناسبة إلاّ ويشير إليه. فقبيل الوصول إلى كربلاء، ولما كان الركب الحسيني في (قصر بني مقاتل) التقى عليه السلام بالطرّماح بن عديّ الطائي، الذي عرض عليه اللجوء إلى جبل حصين يقع في أراضي قبيلة طي، هو جبل (أجا)، بعدما أخبر الحسين عليه السلام بكثافة الجيش الذي شاهده يُهيأ لحربه، في ظهر الكوفة حيث قدم منها.

فقال له الحسين عليه السلام:

"إن بيننا وبين القوم قولاً أي الحرّ وجيشه لا نقدر معه على الانصراف، فإن يدفع الله عنا فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن مما لا بدّ منه أي الموت ففوز وشهادة".

وانظر إلى عمق ما كان ينظر إليه أهل البيت عليهم السلام في بُعد الفتح هذا، فلما رجع ركب السبايا إلى المدينة محمّلاً بالآلام ومكابداً للمحن، ومختزناً للكُرَب... وإذا بأحد الشامتين من قاصري النظر ومشوشي الفكر، وهو إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله، حيث واجه الإمام زين العابدين عليه السلام وسأله، سؤالاً لا يخلو من شماتة وقصر نظر وضحالة تفكير: من الغالب؟

وإذا بالإمام عليه السلام يُجيبُه بإجابة لم يكن ذلك الرجل بواعٍ لها ولا مدرك لأبعادها... فقال له:

"إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الّغالب".

إنه فوز وغلب وفتح... وهذا الثابت الثاني في حركته عليه السلام.

الثابت الثالث: "من لحق بنا استشهد، ومن تخلف لم يبلغ الفتح"، التلازم بين الشهادة والفتح.

من يعيد قراءة نصّ الكتاب موضوع البحث ويقف عنده، يجد أن هناك علاقة ذاتية الارتباط والتلازم في نهضة الحسين عليه السلام، إنها العلاقة بين


278


حتمية الشهادة (الثابت الأول) وبين حتمية الفتح (الثابت الثاني)، فينتج من هذه العلاقة بين الثابت الأول والثابت الثاني، ثابت ثالث، وضرورة ثالثة تلك هي العلاقة الغريبة والارتباط المذهل بين الموت والفتح، بين الشهادة والفوز، بين القتل والنصر...

إن هذه العلاقة كانت غائبة عن كل الذين لم يلحقوا بالحسين ومسيرته.. سواء الذي أشفقوا عليه وحاولوا منعه من الخروج إلى كربلاء، كابن عباس وابن الحنفية وعبد الله بن جعفر وأم سلمة وعموم بني هاشم...

كما كان هذا الارتباط بين الشهادة والفتح غائباً، عن الذين حاولوا ثني الحسين عن خطتّه لسبب أو آخر، كعبد الله بن عمر وابن الزبير والأمويين في مكة والمدينة... كما كان هذا الارتباط غائباً حتى عن الجيش الذي خرج لحربه، بل وكل قياداته من عمر بن سعد وعبيد الله بن زياد إلى يزيد...

لقد كان المشفقون على الحسين عليه السلام، يخافون عليه أن يقتل كإنسان له هذا الموقع من الإسلام، ومن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام. يخافون عليه جسداً، والحسين عليه السلام كان يهدف إلى إرجاع الحياة إلى الدين وإعادة الأمة إلى عقيدتها وبالتالي كرامتها...

وأما أعداء الحسين عليه السلام، فلم يكن في خلدهم أن ينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه... ولم يكن يتصورون أن قتل الحسين عليه السلام الذي كانوا يظنونه نصراً لهم وفوزاً، سينقلب انقلاباً مذهلاً لصالح الحسين عليه السلام وموقفه ومنهجه...

ارجفوا أنك القتيل المدمّى‏        ‏أو من يُنشئ الحياة قتيلُ‏
ويموت الرسول جسماً ولكن     في الرسالات لن يموت الرسولُ‏


نعم لقد كان طغاة بني أمية يخادعون أنفسهم ويحاولون خداع الآخرين، أنهم قد انتصروا وأنهم في فتح وفوز. لقد انزعج ابن زياد لبكاء الصحابي زيد بن أرقم وهو يرى رأس الحسين عليه السلام في قصر الإمارة بالكوفة، فبادره بغطرسته


279


قائلاً: أتبكي لفتح الله!! هكذا كانوا يعتقدون أو يحاولون تصوير قتلهم الحسين‏ عليه السلام بأنه نصر وفتح.

لو كان محبو الحسين عليه السلام والمشفقون عليه، يعلمون ويدركون هذه العلاقة الجدلية بين القتل والفتح، لهبوا إلى نصره ولسارعوا إلى الاستشهاد بين يديه، كما أن أعداء الحسين عليه السلام، لو كانوا يعلمون بهذه العلاقة لأبقوا على الحسين‏ عليه السلام ولحافظوا على حياته. ولأحجموا عن سفك دمه!!

نعم لقد كان الحسين عليه السلام مدركاً تمام الإدراك للفتح، الذي ينتظره التاريخ وتنتظره الأمة بشهادته... وفي آخر لقاء له عليه السلام مع أهل بيته وأنصاره قبل احتدام المعركة، ليلة عاشوراء، جمعهم وخطب فيهم وقال:

"ألا وأني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وأني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم مني ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم، فإن القوم إنما يطلبونني ولو أصابوني لشغلوا عن طلب غيري...".

فاندفع أخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر وأبناء عقيل، يُعربون عن موقفهم الثابت، في الدفاع عنه والاستماتة على نهجه.

ثم جاء دور الأنصار، حيث تكلّم مسلم بن عوسجة، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وزهير بن القين، ومحمد بن بشير الحضرمي، بما انطوت عليه قلوبهم واعتقدته ضمائرهم في الدفاع عن آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاستعداد للموت والترحيب بلقائه.

وتنادت للذبّ عنه عصبة             ورثوا المعالي أشيُباً وشبابا
من ينتدبهم للكريهة ينتدب‏           منهم ضراغمة الأسودِ غضابا
خفوا لداعي الحرب حين دعاهم‏      ورسوا بعرصة كربلاء هضابا


280


ثم أخذ أهل البيت من جهة، والأنصار من جهة أخرى، يتنافسون فيما بينهم فيمن يبدأ القتال يوم غد، ومن يكون له قصب السبق في سفك الدماء وذهاب الأنفس على مذبح الدين والشريعة.. حتى جاءوا يحتكمون إلى الحسين‏ عليه السلام في هذه المسألة.. فأشار عليه السلام إلى أن أصحابه هم من يبدأ الحرب، وفتح سجلّ الشهادة غداً..

هذا موقف أسعد الحسين‏ عليه السلام وأسعد قلوب الفاطميات، اللواتي بتن في قلقٍ هذه الليلة، من مواقف الناس مع أهل البيت عليهم السلام في حال اشتباك الحرب.


التخلص:

أقول هذا الموقف، والحسين عليه السلام تعلو وجهه ابتسامة الرضا والثقة بأنصاره وأهل بيته، وهو يخبر أخته بذلك التقييم الذي كان عن تجربة وإعداد مسبقين:

"والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب أمّه".

فبكى نافع بن هلال، وهو يستمع إلى قول الحسين عليه السلام هذا لأخته، كما وبكى بقية الأنصار هذه الليلة لقول الحسين هذا.

هذا وزينب عليها السلام تطيل النظر إلى أخيها الحسين عليه السلام، وكافلها أبي الفضل‏ عليه السلام، وبقية الهاشميين ونجوم الأرض من آل عبد المطلب. نعم يا أخوتي، تتركوني وأنا غريبة في دار غربة، ومعي لفيف من النساء الضائعات والأطفال المرعوبين. نعم لقد صرخت زينب عليها السلام هذه الليلة وهي تسمع أخاها ينعي نفسه:

"واثكلاه... ليت الموت أعدمني الحياة... اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي".

وصرخت أم كلثوم:

"وا محمداه وا علياه وا أماه وا حسيناه، وا ضيعتنا بعدك".


281


الموضوع الثاني الذي يمكن طرحه في الليلة العاشرة من محرم:


مظاهر الثبات والتضحية في ليلة العاشر:


﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 5.

جاءت هذه الآية الكريمة، عقيب واقعة أحد، بما تركت في المجتمع الإسلامي الأول بالمدينة المنورة، من شعور بالهزيمة والانكسار، وفقد للشهداء الضحايا، وآخرين جرحى. والأخطر من ذلك تسرّب حالة الاحباط واليأس، وبروزها بشكل يدعو إلى الإسراع في المعالجة، وضرورة الاستفادة إيجابياً من هذه التجربة السلبية، معركة أُحد.

وفي الوقت الذي عاد فيه المسلمون إلى المدينة مجهدين، منهوكي القوى، خائري العزائم، يتجرعون مرارة الهزيمة وخيبة مخالفة أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. هنا ينطلق أنين لجريح، وهناك لوعة لفقيد، وهنالك بكاء وندب لشهيد. واكتست المدينة أبراد الحزن ومسوح الألم.

في هذه الأجواء التي يخيّم عليها القنوط والإحباط، وإذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصدر أوامر غريبة، ويطالب بموقف بعيد عن التصوّر في تلك الظروف...

نعم لقد دعا النبي القائد صلى الله عليه وآله وسلم، كل من يقدر على حمل السلاح من المسلمين، إلى المبادرة للتجمّع في معسكر على أطراف المدينة، على أن يأتي كل واحد منهم بما يقدر على حمله، من عدّة القتال وأنواع السلاح. أليس غريباً هذا الأمر في أجواء مثل هذه؟ وهكذا جاء المسلمون، هذا يتكئ على أخيه، وهذا يعضّ على جراحه، وثالث مجاهداً.. والجميع يعيشون صور إخوانهم الشهداء، الذين مضوا قبل ساعات إلى لقاء ربهم.


282


وإذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سبقهم إلى المعسكر وكله عزيمة وقوة ومضاء... لم يثنه فقد عمه الحمزة عليه السلام والتمثيل به، ولا ما أصابه من كسر رباعيته وشجّ رأسه ونزف جراحه...

نعم جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرسل عدة رسائل في آن واحد، رسالة إلى أصحابه، بأن لا يقعوا فريسة لوساوس الشيطان في تحطيم معنوياتهم، وإشاعة أجواء القنوط واليأس في أوساطهم.

ورسالة إلى المنافقين داخل المدينة، بقوة المسلمين وعضّهم على جراحهم وعدم انهزامهم، رغم قساوة التجربة وعظيم التضحية. ورسالة إلى اليهود مشابهة للرسالة الموجهة إلى المنافقين.

ورسالة رابعة إلى مشركي قريش، بأن دين الله وأنصاره لا يمكن لهم أن يعيشوا الهزيمة، بل أنهم جاءوا رغم ما بهم، مستعدين لجولة جديدة ومواجهة أخرى مع أئمة الكفر.

لقد كانت خطة من المشركين في الإجهاز على المسلمين، والإطباق عليهم وهم مشغولين بآلامهم وشهدائهم... فما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلاّ أن يدعو إلى هذا التجمّع، فأحبط خطة المشركين ولم يجرأوا على تنفيذ ما أرادوا تنفيذه.

إنه درس من دروس الثبات والإصرار، على مواجهة حالات الإحباط واليأس وعدم التوقف عند مستوى معين من التضحيات، درس من دروس سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا، ولمن كان قبلنا، ولمن يأتي بعدنا من المسلمين.

ومن أولى بالاقتداء برسول الله، والأخذ بموقفه وعزيمته وإصراره واستماتته في سبيل الحق، من سبطه وولده الحسين عليه السلام، الذي ورث جده المصطفى مبدءاً ومضاءً وإصراراً. لاحظوا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

"لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه".


283


ثم انظروا إلى مقالة الحسين عليه السلام:

"ألا وأن الدعي ابن الدعي قد ركّز بين اثنتين بين السلّة والذلة وهيهات منّا الذلة".

نفس الخط وعين النهج، ذات الأسلوب... نعم:

"حسين مني وأنا من حسين".

كان الإمام الحسين عليه السلام والصفوة الطيبة التي نصرته، يزدادون عزماً وقوة مع تخاذل الناس وانهزامهم، لقد جمع الأمويون في أيام قلائل، وفي أقل الروايات ثلاثين ألفاً، وكانوا يظنون أن الجموع كلما تكاثفت والجيوش كلما تراكمت، فإن ذلك سوف يؤثر سلباً في موقف الحسين عليه السلام، أو يضعف من عزيمته، أو يفت في عضده.

وإذا بالحسين عليه السلام يطفح وجهه إشراقاً ويزداد إصراراً، مع كل تلك التجمعات الكبيرة، أو ليس الحسين عليه السلام ابن القرآن، كان يعيش الآية ويعي أبعادها:

﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

إن الحسين عليه السلام لم يفاجأ بالحشود التي رآها تزحف لحربه في كربلاء، فقد أخبره الطرماح بن عدي الطائي، حينما التقاه في طريقه إليها، وقال له:

"لم تر عيني جمعاً في صعيد واحد، كما رأيت في ظهر الكوفة، ولما سألت عنهم، فقيل: إنهم يسيرون لحرب الحسين".

بجمع من الأرض سدّ الفروج‏      وغطّى النجود وغيطانها
وطا الوحش إذ لم يجد مهرباً      ولازمت الطير أوكارها


والطرماح اقترح على الحسين عليه السلام الإعراض عن إكمال مسيرته، وإلاّ فهو القتل لا محالة. فأجابه الحسين عليه السلام بلغة المطمئن الواثق:


284


"إن يدفع الله عنّا، فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لا بدّ منه ففوز وشهادة".

نعم تكاثرت الجيوش على الحسين عليه السلام:

﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُم

إن سوق الحدادين في الكوفة، كان يعمل ليل نهار لعشرة أيام، لصنع السلاح لحرب الحسين عليه السلام. ونادى منادي ابن زياد: "برأت الذمة ممن لم يخرج لحرب الحسين".

ملأُوا القفار على ابن فاطمةٍ       جنداً وملأُوا قلوبهم ذُحَلُ‏
جاءت وقائدها العمى وإلى         حرب الحسين يقودها الجهلُ‏
‏بجحافلٍ بالطفِ أولها               وأخيرها بالشام متصّل‏


لقد جسّد الحسين عليه السلام وأنصاره يوم عاشوراء، الدرس القرآني بأعلى صوره وأنقى مصاديقه:

﴿فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ

نعم، فكما ازداد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنصاره المجاهدون إصراراً، رغم حراجة الموقف وضخامة التضحيات في أُحد، فإن الحسين وأنصاره كانوا يزدادون مضاءً وعزيمة مع قلة عددهم وكثرة عدوّهم حتى يوم عاشوراء.

لاحظ أن الآية لم تقل أن المؤمنين لم تؤثر بهم تلك المقولات والإشاعات حول كثرة المشركين وقوتهم، أو أنهم بقوا على نفس مستوى الاستعداد والتهيؤ للعدو، بل (ازدادوا إيماناً)... في حراجة الموقف يزداد مستوى الاستعداد للمواجهة وبذل التضحية.

إن الذي يتابع خطب الإمام الحسين عليه السلام وتصريحاته، في خط مسيرته التاريخية المباركة، يجد أن الإصرار فيها يتعمّق، والعزيمة فيها تتأكّد... بحيث أننا لو استطعنا أن نرسم منحنىً بيانياً، نضع في مستواه الأفقي الفترات


285


الزمنية، منذ رفض البيعة في المدينة، حتى آخر لحظة من حياة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، وفي المستوى العمودي مستوى الإصرار وقوته ودرجته، لرأينا ارتفاعاً مذهلاً في نقاط هذا الاستعداد والإصرار.

إن موقف الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه يوم كربلاء، موقف يختزن الفخر والاعتزاز وعزة الانتماء، فالحسين عليه السلام لم يكن مجرد مظلوم أو غريب أو وحيد، بل كان أيضاً مجاهداً ومبدئياً ومضحياً...

أول تصريح للحسين عليه السلام كان في وصيته لأخيه ابن الحنفية:

"إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".

وآخر ما قاله حينما برز يوم الطف:

أنا الحسين بن علي         آليت أن لا أنثني
‏أمضي على دين النبي      ‏أحمي عيالات أبي‏


نعم (أليت أن لا أنثني).

ولهذا فليس من المستغرب، ما قاله السيد ابن طاووس في كتابه (اللهوف في قتلى الطفوف): "ولولا امتثال أمر السنّة والكتاب، في لبس شعار الجزع والمصاب، لأجل ما طُمس من أعلام الهداية، وأسّس من أركان الغواية، وتأسفاً على ما فاتنا من تلك السعادة، وتلهفاً على أمثال تلك الشهادة، وإلا كنّا قد لبسنا لتلك النعمة الكبرى أثواب المسّرة والبشرى".

وفي هذا المعنى تأتي أبيات شاعر أهل البيت:

لو لم تكن جُمعت كل العلى فينا        لكان ما كان يوم الطف يكفينا
يوم نهضنا كأمثال الأسود به‏          وأقبلت كالدبا زحفاً أعادينا
جاءوا بسبعين ألفاً سل بقيّتهم‏        هل قابلونا وقد جئنا بسبعينا!!


286


وفي كتب (المقاتل) شهادات أدلى بها بعض من جاء لحرب الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، وقد شدّهم إصرار الحسين عليه السلام وعزيمته.

قال عبد الله بن عمار بن يغوث: "ما رأيت مكثوراً - وهو الوحيد في أعداء كثيرين- قط قد قُتل ولدُه وأهل بيته وصحبه أربط جاشاً منه، ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدما. ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيها ولم يثبت له أحد".

كان هذا بُعيد طفله الرضيع عبد الله.

وشهادة أخرى، لرجل آخر ممن خرج لحرب الحسين عليه السلام، وذلك حينما صُرع الحسين وهوى إلى الأرض، بعدما أصابه السهم المثلث، يقول هلال بن نافع: "كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه، فوالله ما رأيت قتيلاً قط، مضمخاً بدمه، أحسن منه وجهاً ولا أنور، ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله".

إن الحسين عليه السلام كان يجسد أروع ارتباط بالله تعالى وأندى محبة له وذوباناً في قدسه، واستمطاراً لفيضهِ وعطائه.

ولهذا يقول المحققون أن أعظم كلمة قالها الحسين عليه السلام يوم عاشوراء بعد أن قُتل أبناؤه وإخوته وأبناء أخوته وأبناء عمومته وصحبه، هي قوله عليه السلام:

"هوّن ما نزل بي أنه بعين الله".

وهي عبارة أخرى عن درس هذا الآية الكريمة:

﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ

لقد اندفع الحسين عليه السلام وركبهُ الأسطوري نحو لقاء الله، نحو الموت، باندفاع رسالي غريب، ولهفة للآخرة بشكل استثنائي... ومتى كان ذلك؟ لقد كان في مرحلة شاع فيها حبّ الدنيا والركون إليها والاستئناس بنعيمها الزائل.

فالحر بن يزيد الرياحي، كان يظنّ أن الحسين عليه السلام لم يكن مدركاً لكثافة
 


287


القوة التي حشدت لحربه، ولم يكن عارفاً بضخامة الجيش الذي أعدّ لمواجهته، فلما أخبر الحسين عليه السلام بالمعلومة التي كان الحر يتصور أن سيد الشهداء لم يكن محيطاً بها: "يا حسين، إني أذكرّك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتُقاتلنّ، ولئن قُوتلت لتهلكنّ فيما أرى".

فقال له الحسين عليه السلام:

"أفبالموت تخوفني، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وسأقول لك كما قال أخو الأوس لابن عمه، حين لقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخوّفه ابن عمه، وقال له: أين تذهب فإنك مقتول، فقال:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى      إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
‏وواسى الرجال الصالحين بنفسه           وخالف مثبوراً وفارق مجرما
‏فإن عشت لمْ أندم وإن متُ لم أُلُمْ‏          كفى بك ذلاّ أن تعيش وتُرغما"


فصعق الحر لهذا الردّ غير المتوقع من طرفه، (فلما سمع الحرّ ذلك منه، تنحى عنه، وأخذ يسير بأصحابه في ناحية، والحسين عليه السلام في ناحية)!!

التخلص:

وجاءت هذه الليلة، ليلة عاشوراء، حيث زحف الجيش الأموي عصر عاشوراء لحرب الحسين عليه السلام، الذي بعث لهم أخاه العباس عليه السلام وابنه علياً الأكبرعليه السلام، في عشرين من أصحابه وأخيراً تم الاتفاق على تأخير موعد مناجزة الحرب إلى صباح غد، إلى يوم عاشوراء الدامي.

فجمع الحسين عليه السلام أهل بيته وأنصاره مساء يوم التاسع من المحرّم وخطبهم وبين لهم المصير الذي ينتظره وقد أذن لهم بالانصراف عنه لأنه هو المطلوب وليس هم:


288


"أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً... ألا وأني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً! وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم فإن القوم إنما يطلبونني ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري".

فقال له أهل بيته:

"ولم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك!! لا أرانا الله ذلك أبداً".

ثم هبّ الأنصار يعربون عن صدق مواقفهم.

فقال مسلم بن عوسجة: "انحن نخلّي عنك وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك".

وقال سعيد بن عبد الله الحنفي: "والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك".

وقال زهير بن القين: "والله وددت أني قتلت ثم نشرت ثم قُتلت، حتى أقتل كذا ألف مرة. وإن الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك".

بأبي من شروا لقاء حسين      بفراق النفوس والأرواح‏
‏أدركوا بالحسين أكبر عيدٍ       فغدوا في منى الطفوف أضاحي‏


فأخبرهم الحسين عليه السلام، وبشرهم بقرب اللقاء مع الله، والالتحاق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمجاهدين الشهداء... فكأنهم نشطوا من عقال، بين مباشرة للعبادة، وتأهب للحرب، وكان لهم دويّ كدويّ النحل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد.

نعم، جاءت ليلة عاشوراء، قصيرة الظّل طويلة الركوع والسجود، وسيطلع


289


الفجر من يومها، قاتم اللون، أحمر الجلباب، خالد العطاء... وتأهب التاريخ لهذه الليلة ويوم غد، لكتابة صفحات لم يشهد لها مثيلاً، ملوّنة بدم الشهادة ونور الحق، حيث سيندفع فتية علي عليه السلام وخريجو مدرسته يوم غد، وقلوبهم مفعمة بحبّ الله، وألسنتهم رطبة على رغم عطشهم بذكر الله، وقد هبّوا دفاعاً عن دين الله، وثأراً للحق ومعالم الدين.

وتلفَّع الليل عباءته الداكنة هذه الليلة، وتلألأت فيها نجوم الأرض من آل عبد المطلب وأنصار الهدى، وأطبق الهدوء على كربلاء... إلاّ تمتمات لذكر الله وتلاوة كتابه.. وأنين خفي، وبكاء شجيّ لنسوة ألبسهن الوحي جلباباً، وكساهن الدينُ أثواباً، وهن يرين أمامهن المأساة وقد اجتمعت فصولها، والمحنة وقد لملمت أطرافها، وفراق الأهل والأحبة وقد ارتسمت معالمه، على الوجوه ولغة العيون. نعم، كان الحسين يردد هذه الأبيات في هذه الليلة:

يا دهر أفٍ لك من خليل‏      كم لك بالإشراقِ والأصيل
من صاحب وطالب قتيل ‏     والدهر لا يقنع بالبديل‏
‏وإنما الأمر إلى الجليل‏       وكل حي سالك سبيلِ‏


يقول الإمام زين العابدين عليه السلام وكان ملقى على فراش المرض تعلّله عمته زينب عليها السلام:

"فأعادها مرتين أو ثلاثاً ففهمتها وعرفت ما أراد، وخنقتني العبرة، ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل".

فلما انتبهت زينب عليها السلام إلى أبيات أخيها هذه، قامت تجرّ ذيلها حتى انتهت إليه وقالت:

"واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي


290


علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضين وثمال الباقين".

فعزّاها الحسين وصبّرها، وقال لها:

"يا أختاه تعزيّ بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وكل شي‏ء هالك إلاّ وجهه، ولي ولكل مسلم برسولِ الله أسوة حسنة".

فقالت عليها السلام:

"أفتغتصب نفسك اغتصاباً، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي".

وبكت النسوة معها. وصاحت أم كلثوم:

"وا محمداه وا علياه وا إماماه وا حسيناه، وا ضيعتنا بعدك".

وأخذ الحسين عليه السلام يوصي أخته زينب عليها السلام بوصاياه، برعاية العيال والأطفال كي لا يضيعوا بعده.

وزينب عليها السلام غارقة في بحر دموعها وهي تشهد قراءة وداع أخوتها وأهلتها فكيف بها غداً لما رجع الحسين لوداعها آخر مرة:

كما أن من المناسب في هذه الليلة ذكر مصيبة عبد الله الرضيع.


291


هوامش

1- راجع: الرياض، ص‏86، الدّر، ص‏312.
2- راجع: الرياض، ص‏230، الدّر، ص‏207.
3- راجع من لا يحضره الخطيب، ج‏1، ص‏214 - وديوان الشيخ الوائلي.
4- راجع من لا يحضره الخطيب، 221/1 - وديوان الشاعر.
5- آل عمران: 173.