الليلة الرابعة

وصول الحسين عليه السلام وركبه إلى كربلاء


أولاً: قصائد الليلة الرابعة

بعد معرفة مناسبة هذه الليلة، فمن الأفضل والمناسب جداً اختيار القصيدة التي تنتهي أبياتها بمسألة الوصول إلى كربلاء والحال التي كان عليه ركب الشهادة.

كما يمكن اختيار أي قصيدة تحكي عن المحرّم وعموم مصائبه وأحزانه.

ومن هذه القصائد على سبيل المثال ما يلي:

1- قصيدة الحاج هاشم الكعبي رضوان الله عليه ومطلعها1:

إن تكن كربلا فحيّوا رُباها          واطمأنّوا بها نشَّم ثراها

2- قصيدة الشيخ عبد الحسين الأعسم رضوان الله عليه والتي مطلعها2:

ذِكرُ الطفوف ويوم عاشوراء      منعا جفوني لذة الإغفاء

3- قصيدة للسيد حيدر الحلي رضوان الله عليه وفيها3:

يا تربة الطفّ المقدَّسة التي‏      هالوا على ابن محمد بوغاءَها

ثم بعد اختيار الخطيب للقصيدة المناسبة وهذه الليلة، فله أن يأتي بعدها بما يناسبها من الشعر الشعبي (النعي)، والذي يتضمن منزلة كربلاء ومخاطبتها وعتابها ومساءلتها وما إلى ذلك.


99


ثانياً: العنوان المناسب لهذه الليلة

يمكن اعتماد مقاطع من خطب أو كتب الإمام الحسين عليه السلام المناسبة لهذه الليلة ومضمونها، ممّا يضفي على المجلس قوة وتنسيقاً، ومن هذه العناوين:

"ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً".

"ألا وأني زاحف بهذه الأسرة، على قلّة العدد وكثرة العدوّ وخذلان الناصر".

"اللهم إنا عترةُ نبيّك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أُخرجنا وطردنا وأُزعجنا، عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أمية علينا اللهم فخذ بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين".

هذه نماذج من كلمات الحسين عليه السلام ويمكن الاستفادة من عناوين الليلة السابقة إذا لم تستخدم هناك، ويمكن إضافة عناوين أخرى مناسبة.


ثالثاً: البحث

لا بد من متابعة المراحل والمنازل التي قطعها ركب الحسين عليه السلام من مكة حتى وصوله إلى كربلاء، والتوقّف عند أبرز المواقف والأحداث التي برزت فيها، وينبغي إلفات نظر الأخوة الخطباء أيدهم الله تعالى إلى أن هذه السيرة فيها مجالات غنيّة للحديث، وأن أغلب روّاد المجالس الحسينية، لا يمتلكون حولها الكثير من المعلومات، بسبب عزوف خطباء المنبر عن بيانها لهم.


100


الموضوع الأول الذي يمكن طرحه في الليلة الرابعة من محرم:


خروج الحسين عليه السلام من مكة إلى كربلاء:


لقد مكث الإمام الحسين عليه السلام بمكة المكرمة ما يقارب من أربعة أشهر وخمسة أيام، وهي فترة طويلة نسبياً في عمر حركة الإمام الحسين عليه السلام، التقى من خلالها بأهل مكة وحجّاجها ومعتمريها، وراسل أهل البصرة، وجاءته كتب أهل الكوفة، ومنها أرسل سفيره وابن عمه مسلم بن عقيل إليهم. ثم أجرى الأمويون تغييرات إدارية حيث عزل والي المدينة الوليد بن عتبة الذي كان يحترم الإمام الحسين عليه السلام ويجلّه، ووضعت المدينة ومكة تحت ولاية عمرو بن سعيد الأشدق الأموي، وجاءت أوامر الشام بقتل الإمام الحسين عليه السلام وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة.

لقد قرر الإمام الحسين عليه السلام مغادرة مكة والتوجّه نحو العراق، وأبلغ أهله وإخوته وبني عمومته هذا القرار، فبذل عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر ومحمد بن الحنفية جهوداً كبيرة وحاوروا الإمام الحسين عليه السلام كثيراً، في محاولة ثنيه عن قراره هذا.

ولو تابعنا تلك الحوارات، لوجدنا أن الإمام الحسين عليه السلام كان يعرب لهم عن عدم شعوره بالأمن على نفسه وعلى عياله، إذا بقي بمكة، فكان ردّهم على ذلك اقتراحات إما بالبقاء بمكة مع أخذ الأمان، أو التوجه إلى اليمن لأنه فيها شيعة أبيه عليه السلام أو أن يخوض في أعماق الصحراء، وأطراف المفاوزر حتى تنجلي الصورة.

وكان الإمام الحسين عليه السلام يردّ عليهم، بردّ لا يقوون على مناقشته، حيث كان قد قال لأخيه محمد بن الحنفية:

"أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدما فارقتك، فقال: يا حسين اخرج، فإن الله قد شاء أن يراك قتيلاً...".


101


وقال لعبد الله بن جعفر وقد غادر مكة فلحق به وجهد أن يرجع عن توجهه إلى العراق.

فقال له عليه السلام:

"إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمرني بأمر أنا ماضٍ له".

وقال الإمام الحسين عليه السلام لعبدالله بن العباس:

"يا ابن العم، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامي وقد أمرني بأمر لا أقدر على خلافه، وأنه أمرني بأخذهن معي".

إن الإمام الحسين عليه السلام، حينما واجه أحباءه والمشفقين عليه من الخروج إلى العراق، بهذا الأمر الصادر له عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنما أراد به أن ينهي ضغوطات صدرت عن أهل بيته وغيرهم، بأمر لا يمكنهم النقاش فيه، وتجد كذلك أن الإمام الحسين عليه السلام لم يوضح لهم أبعاد القضية التي خرج من أجلها، وضرورة اتخاذ الموقف الشرعي إزاء ذلك، وهو ما سنجده في خطاباته‏ عليه السلام في الطريق إلى كربلاء وحواراته مع الحر بن يزيد الرياحي وغيره، لأنه إن أثار ذلك وخاصة مع أمثال ابن عباس فإن النقاش والجدال وإيراد الاحتمالات والتفسيرات، سيبدو بلا نهاية، ولهذا أراد الإمام الحسين‏ عليه السلام حسم كل ذلك، حينما ذكر لهم انه إنما خرج بطلب من جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

نعم لقد ذكر الإمام الحسين عليه السلام، سبباً منطقياً، ينطلق من الموقف الشرعي في إجابة من استغاثوا به، وألحّوا عليه في إنقاذهم من الطغاة والظالمين، حينما أورد عليه السلام سبباً وجيهاً آخر، غير مسألة الرؤيا التي رأى فيها جدّه صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بأمره.

فقد قال عليه السلام لابن عباس:

"يا ابن عمّ، إني لأعلم انك ناصح مشفق، ولكن قد أزمعت وأجمعت


102


على المسير، وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم، وقد وجبت عليّ إجابتهم، وقام لهم العذر عند الله سبحانه"4.

(أوردنا مصادر ما سبق في المجالس السابقة).

إن المشفقين على الإمام الحسين عليه السلام كانوا يسعون لئلا يُقتل عليه السلام ولهذا فقد وضعوا بين يديه اقتراحات، والمهم فيها أن لا تكون وجهته عليه السلام إلى العراق، لأن تجربتي علي والحسن عليهما السلام ما تزال ماثلتين أمام أعينهم، فيزداد احتمال قتل الحسين عليه السلام فيما لو توجه إلى هناك.

وكان الإمام الحسين عليه السلام، يقيّم الأمور غير التقييم الذي يراه الآخرون، ومنهم المشفقون عليه، فقد كان عليه السلام يبين لهم أن مسألة قتله مسألة مفروغ منها، فهو مقتول لا محالة، سواء بقي في مكة، أم توجه إلى اليمن، أو غار في الصحاري والفضاء، أو رحل بركبه إلى العراق.

إن قرار قتله عليه السلام قد صدر، ولا بدّ من أن ينفذه الأمويون، سواء في هذه الساعة أو غيرها، أو بهذا السبب أو ذاك. وهي مسألة حاول الحسين عليه السلام أن يبينها لمن كان يبدي نصحه له وحرصه عليه.

فقد قال عليه السلام لابن عباس:

"يا ابن عباس، إن القوم لن يتركوني، وانهم يطلبونني أينما كنت، حتى أبايعهم كرهاً أو يقتلوني، والله إنهم ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت"5.

إن بني أمية لن يتركوا الإمام الحسين عليه السلام وهو بموقعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبمنزلته في المسلمين جميعاً، وبمقامه الذي لا ينافسه أحد به، دون أن يبايع


103


ليزيد، وهي المسألة المستحيلة في نظره عليه السلام، فلم يبق إلاّ احتمال واحد وهو قتله لا محالة.

وكان الحسين يعمل على أن يكون هو الذي يختار الساحة التي يقتل فيها، إن الإمام الحسين عليه السلام اختار موقفه الرافض، وسيختار ساحة الشهادة، لا أن تفرض عليه لقد سعى عليه السلام لأن تكون لشهادته أكبر الآثار وأعظم الأصداء، وأوقع الأصوات، إن من أراد ثني الحسين عليه السلام عن الخروج إلى العراق، كان يتصوّر أنه كان يهدف إلى مجرد السيطرة على مقاليد الحكم في الكوفة، ولم يَدُر في خلدهم أنه عليه السلام كان يرى في شهادته فتحاً سيتجاوز عصرهم وزمانهم.

"من لحق بي استشهد، ومن تخلّف عني لم يبلغ الفتح".

وكانت اقتراحات بعض الناصحين لعدم الخروج من مكة إلى العراق تنصّب على تصوّر أن الحسين عليه السلام يريد السيطرة على بلدِ وإقامة حكم فيه، وعلى هذا التصور، فقد كانوا لا يرون وجهاً لخروجه عليه السلام إلى بلدِ قلق، وعدّو، متمتع فيه، وأعوانه ولهم فيه صولة وجولة، ويزداد تعجب هؤلاء المثقفين ولا يقفون على مغزى خروج الحسين عليه السلام بعياله وأطفاله، إلى هذه المجازفة التي لا يشك أحد بوقوعها، والتي لا يختلف عليها اثنان، وهو ما يجسّد في إجماع كل الناصحين والمشفقين على ما قالوه للحسين عليه السلام وهو في طريقه إلى كربلاء، بأن (قلوب الناس معكم، وسيوفهم غداً عليكم).

نعم فقد كانوا يتصورون أن هدف الحسين عليه السلام ينحصر في السيطرة على مقاليد الأمور في الكوفة، ولهذا فقد جاءت اقتراحاتهم ونصائحهم منسجمة مع هذا التصوّر، بعدما عجزوا عن منعه من البقاء في مكة أو التوجه إلى اليمن أو أطراف الصحاري والقفار.


104


فقد جاء عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، إلى الحسين عليه السلام لمّا علم بعزمه على الخروج إلى العراق، فقال له: "إني أتيتك يا ابن عمّ لحاجةِ، أريد ذكرها نصيحة لك، فإن كنت ترى أنك تستنصحني قلتُها، وأديتُ ما عليّ من الحق، وإلا كففت عما أريد أن أقول؟".

فقال الإمام الحسين عليه السلام:

"قل، فوالله ما أستغشّك، وما أظنّك بشي‏ءِ من الهوى".

قال: "قد بلغني أنك تريد العراق، وإني لمشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلداً فيه عمّالهُ وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد الدنيا، والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومَن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه".

فقال له الحسين عليه السلام:

"جزاك الله خيراً يا ابن عمّ فقد علمتُ انك مشيت بنصح، وتكلمت بعقل، ومهما يُقضى من أمر يكنْ، أخذتُ برأيك أو تركتُه، فأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح"6.

وحينما سمع ابن عباس الناس في مكة وهم يؤكدون أن الحسين عليه السلام يريد الخروج منها، دخل على الحسين عليه السلام وهو يقول له: "جُعلت فداك يا ابن عمّ إن الناس قد أرجفوا بأنك سائر إلى العراق، فبيّن لي، ما أنت صانع؟".

فقال له الحسين عليه السلام:

"قد أزمعت السير في أحد أيامي هذه إن شاء الله تعالى".

فقال له ابن عباس: "إني أعيذك بالله من ذلك، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسرّ إليهم، ففي


105


مسيرك لهم لعمري الرشاد والسداد، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم، وأميرهُم عليهم قاهر لهم، وعمّالهُ تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك ان يغرّوك ويكذبّوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك"7.

شتان ما كان يسعى إليه الإمام الحسين عليه السلام من إعادة الحياة إلى أمّة جدّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم بشهادته ومن معه وبين من كان ينصحه لكي لا يخرج إلى الكوفة إلاّ إذا هُيأت له وأعدت دوائرها للاستقبال والترحيب، إنهم يريدون من الآخرين أن يضحّوا وأن الحسين عليه السلام القائد يدخل حاكماً ليس إلاَ، لم يكونوا يتصورون أن الإمام الحسين عليه السلام يسعى بأهله وعياله وأطفاله إلى ساحة الشهادة وهو مدرك لهذا المصير.

وحسم الإمام الحسين عليه السلام ذلك السجال والجدال، وخرج من مكّة فجر يوم التروية أي قبل يوم عرفة بيوم، في الثامن من ذي الحجة عام 60 ه.

وأما عدد الخارجين معه، فقد اختلف في ذلك المؤرخون وأرباب السّير، فقد ذكر البستاني في دائرة المعارف وأيّده الخوارزمي في مقتله ومصادر أخرى، "أنه‏ عليه السلام خرج من مكة ومعه اثنان وثمانون رجلاً من أهل بيته وخاصته ومواليه"8.

في حين ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق، "إن الحسين خرج متوجّها إلى العراق في أهل بيته، وستين شيخاً من أهل الكوفة".

وينقل الذهبي في تاريخه "فسار من مكة، وخفّ معه من بني عبد المطلب تسعة عشر رجلاً ونساء وصبيان"9، فيبدو أن الرجال الذين كانوا معه من أهل بيته وأصحابه كانوا بمقدار المائة.


106


ثم أن الحسين عليه السلام أعطى لكل رجل خرج معه عشرة دنانير، وجمالاً يحمل عليه رحله وزاده، ثم طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وتهيأ للخروج، وكان خروجه يوم الثلاثاء10، وكان وصوله عليه السلام إلى كربلاء بعد أربعة وعشرين يوماً في اليوم الثاني من المحرّم لعام 61 ه، يوم الأربعاء أو الخميس.

ولما خرج الحسين من مكة، بعث كتاباً، هو كتاب مضغوط الكلمات قليلها، عميق الأبعاد واسعها.

"من لحق بنا منكم استشهد، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح والسلام"11.

ولم يشابه هذا الكتاب، في قلة كلماته، وعمق أبعاده إلاّ كتاب آخر، بعثه حين وصوله إلى من بقي من بني هاشم بالمدينة، ليقول عليه السلام فيه:

"أما بعد فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل، والسلام"12.

ومن بين هذين الكتابين قطع الحسين عليه السلام المنازل والمراحل من مكة إلى كربلاء حيث مرّ عليه السلام وركبه معه بالمنازل وهي: "التنعيم، الصفاح، ذات عرق، الحاجر، بعض العيون، الخزيمة، زرود، الثعلبية، الشقوق، زُبالة، بطن العقبة، شراف البيضة، الرُهيمة، العُذير، قصر بني مقاتل، قرى الطف، ثم كربلاء".

التخلص:

وينقل بعض أرباب المقاتل، أن الحسين وركبه، بينما هم يسيرون، إذ وقف جواد الحسين عليه السلام ولم يتحرك، فكأنه شبيه بناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين وقفت عند الحديبية أو حينما وصل المدينة، نعم عندها سأل الحسين عليه السلام عن الأرض التي وقف فيها جواده، فقال له زهير بن القين: سر راشداً، ولا تسأل


107


عن شي‏ء حتى يأذن الله بالفرج (وكان زهير لا يريد إخباره عليه السلام عن اسمها) ثم قال زهير: إن هذه الأرض تسمّى الطفّ، فقال عليه السلام: فهل لها اسم غيرُه؟، قال: تُعرف بكربلاء. فدمعت عيناه عليه السلام وقال:

"اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء، ههنا محطّ ركابنا، ومسفك دمائنا، ومحلّ‏ُ قبورنا، بهذا حدثني جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"13.

(ويناسب هنا إيراد الشعر المناسب لهذه المصيبة، مثل أبيات من قصيدة الشيخ محمد بن فلاح الكاظمي ومنها:

تالله لا أنسى وإن نسي الورى       بالطفّ وقفة مهره المتسرّعٍ‏
‏أجواد هل قيّدتك يد الردى‏           حتى وقفت به وقوف تمنّع‏


أو مقاطع من قصيدة الشيخ عبد الحسين الأعسم المتقدمة إن لم يقرأها الخطيب أول مجلسه مثل الأبيات:

حتى أتى أرض الطفوف بكربلا ‏          أرض الكروب وأرض كلّ‏ِ بلاءِ
ويلاهُ إذ وقف الجواد ولم يسرْ            فغدا يقول لصحبه الخلصاء
يا قوم ما اسم الأرض قالوا نينوى        قال أوضحوا عنها بغير خفاء


وغيرها.

كما يمكن إنهاء المجلس، بأن يقول الخطيب، هذا يوم نزل فيه الحسين عليه السلام وركبه في كربلاء، ولكن متى رحل ركب الحسين عليه السلام عنها، وبأي حالة...

ثم يذكر بعض مصائب يوم الحادي عشر من المحرّم..

أو يقول: هذا يوم نزلت فيه زينب عليها السلام وحولها أخوتها وأبناؤها وأبناء أخوتها وأبناء عمومتها، وأنصار أخيها... لكن لما خرجت من كربلاء من أركبها


108


ناقتها، وأين مضى عنها اخوتها لا سيما كافلها وحاميها أبو الفضل العباس‏ عليه السلام ...

أو يربط الخطيب بين نزول ركب الحسين عليه السلام اليوم في كربلاء، ثم رجوع ركب السبايا إليه يوم الأربعين حيث هوت بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قبور قتلاهن وزينب أمامهن.

مع ذكر الشعر المناسب لكل مصيبة، وهناك موارد أخرى للخطباء أعزهم الله وأيدهم).


الموضوع الثاني الذي يمكن طرحه في الليلة الرابعة من محرم:


المنازل من مكة حتى زرود:

بعد أن غادر الحسين عليه السلام المدينة في 28 رجب سنة 60 ه ثم بقي في مكة من 3 شعبان إلى 8 ذي الحجة من السنة نفسها، قرر مغادرتها متوجهاً إلى العراق، في يوم التروية، وهو نفس يوم استشهاد ابن عمّه وسفيره إلى أهل الكوفة مسلم بن عقيل14.

ارتبك الأمويون لخروجه عليه السلام من مكة، فلما بلغ عمرو بن سعيد الأشدق والي الحجاز أن حسيناً خرج، قال: "اطلبوه، اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلبوه. فعجب الناس من قوله هذا، فطلبوه فلم يدركوه"15.

وقد اجتاز الحسين عليه السلام وركبه ستة عشر منزلاً في طريقه من مكة إلى كربلاء، فإذا أضفناهما إلى المنازل كانت تسعة عشر منزلاً.

ووصلت أخبار خروج الحسين عليه السلام إلى عاصمة الأمويين وارتبك الأمر، وبقيت مكة والمدينة وسكانهما، والحجاج والمعتمرون وأهل العيون والأعراب


109


الذين مرّ بهم ركب الحسين عليه السلام، بقي كل هؤلاء بانتظار ما ستؤول إليه حركته عليه السلام.

فكتب عمرو بن سعيد وأمويون آخرون إلى يزيد يخبرونه بهذا التطوّر البالغ الأهمية، فبادر يزيد بالكتابة إلى عبيدالله بن زياد، بعدما ولاّه الكوفة مع البصرة.

"أما بعد، فقد بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت به أنت من بين العمّال، وعندها تعتق أو تعود عبداً تسترق كما تسترق العبيد16، وعليك بالحسين بن علي، لا يفوت، بادره قبل أن يصل إلى العراق"17، كما ورد في مصادر أخرى.

أما الحسين عليه السلام فقد خرج من مكة مع أهل بيته ومن لحق به من أنصاره، باتجاه العراق وأول مكان مر به الحسين عليه السلام هو:

التنعيم:

وهو على بُعد فرسخين من مكة، وهو المكان الذي يحرم منه للعمرة، وفي هذا المنزل، لقي الحسين عليه السلام عيراً18 قد أقبلت من اليمن، تحمل وِرساً19 وحلالاً كثيرة، أرسلها والي اليمن، بُجير بن ريسان الحِمْيَري إلى يزيد، فأخذها الحسين‏عليه السلام، واستأجر من أهلها جمالاً لرحله ولأصحابه، وقال لصاحب الإبل: من أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، ومن أحب أن ينطلق معنا إلى العراق، وفّيناه كِراه، وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا في بعض الطريق، أعطيناه من كراه على قدر ما قطع من الطريق، فمضى معه قوم، وامتنع آخرون.


110


ويذكر البلاذري: "يقال: انه لم يبلغ كربلاء منهم، إلا ثلاثة نفر، فزادهم عشرة عشرة دنانير، وأعطاهم جملاً وصرفهم"20.

ويبدو من هذا الخبر، أن أصحاب هذه القافلة لم يبق أحد منهم مع الحسين‏ عليه السلام حتى استشهاده، فكان غاية ما بلغوه وصولهم إلى كربلاء، وأجزل الحسين عليه السلام لهم العطاء.

إن استيلاء الإمام الحسين عليه السلام على هذه القافلة، إعلان عن عدم شرعية الحكم الأموي، وعدم أهليته لإدارة أمور المسلمين وأموالهم، فهي خطوة لكسر هيبة الدولة الظالمة، وتنبيه الآخرين على هذه النقطة، وقد مرّ بنا في مجالس الليلة الأولى أن الحسين عليه السلام كان قد استولى على قافلة أخرى أيام معاوية، وأرسل عندها كتاباً إلى معاوية يخبره أنه سيطر على تلك القافلة التي كانت ستذهب إلى خزائن الأمويين حيث تستخدم لشراء الضمائر وقمع أهل الحق والجهاد.

وكان السيد بحر العلوم في (رجاله، 48/4) قد ميّز بين الخبرين، فأكّد استيلاء الحسين عليه السلام على القافلة المتجهة إلى يزيد ولم يصحح الاستيلاء على القافلة المتجهة إلى معاوية، لأنه موقف الحسين عليه السلام أيام معاوية كان الصلح والمهادنة، بينما أيام يزيد كانت الحرب والمواجهة21.

الصفاح:

وهي المنزل الثاني الذي مرّ به الإمام الحسين عليه السلام وركبه، بعد التنعيم، وهو موضع بين حُنين وأنصاب الحرم، وقد وصف المؤرخون حركة الإمام الحسين‏ عليه السلام في هذا المنزل بقولهم:


111


"وسار من التنعيم مجدّاً لا يلوي على شي‏ء، حتى إذا وصل الصفاح، لقيه الفرزدق الشاعر، وهو وارد إلى مكة بقصد الحج، ومع الحسين عليه السلام، أسيافه وأتراسُه، قال الفرزدق: فقلت: لمن هذا القطار22؟. فقيل: للحسين بن علي.

قال: فأتيته وسلّمت عليه، وقلت له: أعطاك الله سؤلك، وأمّلك فيما تحب، بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أعجلك عن الحج؟.

فقال عليه السلام:

"لو لم أعجَل لأخذت".

ثم قال لي: من أنت، من أين أقبلت؟.

قلت: امرؤ من العرب أقبلت من الكوفة، فلا والله ما فتّشني عن أكثر من ذلك، ثم قال أخبرني عن الناس خلفك؟.

فقلت: "الخبيرَ سألتَ، قلوبُ الناس معك، وسيوفهم عليك، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء".

قال عليه السلام:

"صدقت، لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربُّنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمدُ الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاءُ دون رجاء فلم يتعدّ من كان الحقُ نيّته، والتقوى سريرته".

فقلت له: أجل، بلّغك الله ما تحب، وكفاك ما تحذر، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك، فأخبرني بها، وحرّك راحلته، وقال: السلام عليك، ثم افترقنا"23.


112


وفي رواية عن الفرزدق، انه قال: "خرجت من البصرة (وليست الكوفة)، أريد العمرة، فرأيت عسكراً في البرية، فقلت عسكرُ مَن؟. قالوا: عسكر حسين بن علي، فقلت: "لأقضين حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته وسلمت عليه..".

إن الفرزدق لم يفهم من قضاء حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا السلام على الحسين‏ عليه السلام فقط، فهو لم يفهم من هذا الحق نصرته والانضمام إلى رحله والدفاع عنه، والشهادة بين يديه، وهو مستوى فهم شاعر معروف كالفرزدق، فكيف بباقي شرائح الأمة آنذاك؟.

نعم الفرزدق اكتفى بسؤال الحسين عليه السلام عن نذور ومناسك ليس إلاّ، ألمْ تحرّكك يا فرزدق هذه القافلة الماضية إلى ساحة الشهادة الخالدة، كربلاء، أين أنت يا فرزدق من الحسين عليه السلام وحركته.

وقد نظم الفرزدق لقاءه مع الحسين عليه السلام في أبيات منها:

لقيتُ الحسين بأرض الصفاح‏      عليه اليلامق24 والدرّقُ25

ذات عرق:

(وهو موضع يبعد عن مكّة بمرحلتين أو ليلتين، ويقع في آخر وادي العقيق ويعتبر ميقات أهل الشرق ومنه العراق).

وسار عليه السلام نحو العراق، حتى إذا وصل إلى (ذات عرق) لقيَهُ بِشرُ بن غالب الأسدي وارداً من العراق.

فسأله الحسين عليه السلام عن أهلها وقال:

"كيف خلّفت أهل العراق؟".

قال بشر: يا ابن رسول الله، خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية.


113


فقال عليه السلام:

"صدق أخو بني أسد، إن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد"26.

لاحظ اتفاق بشر الأسدي مع الفرزدق في دقة تقييم موقف الأمة آنذاك، فهل يعقل أن الحسين عليه السلام كان بعيداً عن هذا التقييم.

ثم ربما يطرح هنا سؤال: لماذا يسأل الحسين عليه السلام من كان يلقاه، عن أخبار الذين تركهم خلفه؟. أهو مجرد متابعة مواقف الناس، أم أن الحسين عليه السلام كان يهدف إلى تهيأة من كان معه للموقف المُنتظر في كربلاء.

وحكي عن الرياشي عن رجل التقى بالحسين عليه السلام في أثناء الطريق إلى الكوفة، يقول الراوي بعد أن حججت، انطلقت أتعسّف الطريق وحدي، فبينما أنا أسير، إذ رفعتُ طرفي إلى أخبية وفساطيط، فانطلقت نحوها، فقلت: لمن هذه الأخبية، قالوا: للحسين، فقلت: ابن علي وفاطمة؟. قالوا نعم. قلت: في أيّها هو؟. قالوا: في ذلك الفسطاط (الخيمة الكبيرة).

فانطلقت نحوه، فإذا بالحسين عليه السلام متكئ على باب الفسطاط، يقرأ كتاباً بين يديه، فسلّمت، فردّ عليّ. فقلت: "يا ابن رسول الله، بأبي أنت وأمّي، ما أنزلك في هذه الأرض القفراء، التي ليس فيها ريفُ ولا مَنعَة؟".

قال عليه السلام:

"إن هؤلاء أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتليّ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا لله محرماً إلا انتهكوه، بعث الله إليهم من يقتلهم، حتى يكونوا أذلّ من فرام الأمة27"28.

وهذه الرواية دليل آخر على علم الإمام الحسين عليه السلام بأنه ماضِ نحو الشهادة.


114


الحاجز:

أورد الحموي في معجم البلدان: الحاجز، ما يمسك الماء من شفة الوادي، وهو المكان الذي يجتمع فيه أهل البصرة والكوفة، ومنه ينطلق أهل البصرة إذا أرادوا المدينة29.

ولما ورد الحسين عليه السلام الحاجز من بطن الرمّة كتب إلى أهل الكوفة، جواب كتاب مسلم بن عقيل رضوان الله عليه وبعثه مع قيس بن مسهر الصيداوي، وورد فيه:

"أما بعد، فقد ورد عليّ كتاب مسلم بن عقيل يخبرني باجتماعكم على نصرنا، والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع، ويثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصتُ إليكم من مكة، يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة، فإذا قدِم عليكم رسولي، فانكمشوا في أمركم، فإني قادم في أيامي هذه"30.

ومحتوى هذا الكتاب، قد يستشهد به من يذهب إلى أن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن عالماً بمصيره، ولكن يمكن أن يفسّر الكتاب، ونظائره بأنه عليه السلام كان يعمل ما ينبغي عمله، من مواقف ويتخذ الطبيعي من القرارات، مع علمه بما ينتظره من شهادة، والله أعلم.

وفي رواية أخرى31 أن الإمام الحسين عليه السلام، إنما أرسل عبدالله بن يقطر بالكتاب وليس قيس بن مسهر، ومن المحتمل أن الإمام الحسين عليه السلام، بعث بكتابين مع رسولين انسجاماً مع طبيعة الظرف وتعدد الاحتمالات الخطرة المحيطة بالكوفة، فإذا لم يصل أحدهما وصل الآخر.

وقيس صحابي من بني صيدا بطن من بني أسد، من شيعة الكوفة، شجاع


115


مجرّب، حمل العديد من الكتب بين أهل الكوفة والحسين عليه السلام، وحينما أخذ هذا الكتاب ألقي القبض عليه في القادسية من قبل الحصين بن نمير التميمي رئيس الشرطة وأدخل إلى الكوفة ومضى إلى ربّه شهيداً بعدما صلى على علي والحسين عليهما السلام، ولعن يزيد ومعاوية فألقي من شاهق حتى تقطعت أعضاؤه واستشهد32.

بعض العيون:

وسار عليه السلام من الحاجز، وكان لا يمر بماء من مياه العرب، إلاّ اتّبعوه33.

إن هذه الأعداد الغفيرة التي اتبعت الحسين عليه السلام كانت تظن أن الحسين‏ عليه السلام لن يُقتل وأنه سيتسلّم بلداً مهيئاً له، ولكنا سنعرف أنهم تفرقوا بعد انجلاء الصورة لهم.

وكان عند عين من تلك العيون، عبد الله بن مطيع العدوي، وهو نازل به، فلما رأى الحسين عليه السلام قام إليه واحتمله وأنزله، وقال له: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أقدمك؟.

قال عليه السلام:

"كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إليّ أهل العراق يدعونني إليهم".

فقال عبد الله: "أذكّرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك، أنشدك الله في حرمة رسول الله، أنشدك الله في حرمة قريش، أنشدك الله في حرمة العرب، فوالله، لئن طلبت ما في أيدي بني أميّة ليقتلنّك، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً، والله إنها لحرمةُ الإسلام تنتهك، وحرمةُ قريش،


116


وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة، ولا تعرّض نفسك لبني أميّة. فلم يلتفت إليه الحسين عليه السلام، وأبى إلاّ أن يمضي قدماً"34.

وعجيب أمر هؤلاء القوم، وكأنهم في منأى عن بني أمية وجرائمهم، فبدلاً من أن يقفوا مع الحسين عليه السلام وينصرونه ويمضوا معه، إذا بهم يتوسلون إليه أن يرجع، ثم أين حرمة الأمة وحرمة الإسلام وقد انتهكها الأمويون، ولهذا "لم يلتفت إليه الحسين عليه السلام ".

ومن جهة أخرى فإن عبيد الله بن زياد، أخذ بتوزيع نقاط الحراسة والمراقبة على طول الطريق، في أطراف الطرقات فلا يسمح لأحد بالدخول من الحجاز إلى العراق، أو الخروج منه.

"فأقبل الحسين عليه السلام حتى لقي الأعراب، فسألهم عن خبر الكوفة، فقالوا: لا ندري، غير أنّا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج، فسار تِلقاء وجهه عليه السلام "35.


الخزيمية:

وهو منزل ينسب إليه خزيمة بن حازم في وسط المسافة بين مكة والكوفة، وأقام عليه السلام في الخزيمية، يوماً وليلة.

التخلص:

فلما أصبح أقبلت إليه أخته زينب عليها السلام وقالت: إني سمعت هاتفاً يقول:

ألا يا عينُ فاحتفلي بجُهدِ       فمن يبكي على الشهداء بعدي
على قومٍ تسوقُهم المنايا        ‏بمقدارٍ إلى إنجاز وعدِ


117


فقال عليه السلام:

"يا أختاه كل الذي قضي فهو كائن"36.

وهنا يمكن للخطيب أن ينهي هذا المجلس، وهو يحسن قراءة هذين البيتين بصوت شجي ويعرج على إحدى المصائب لما وصلت إلى كربلاء.

أو يقول: هذه المرة أخبرت أخاها بما سمعته، وأما آخر ما قالته لأخيها في يوم عاشوراء لما ودّعته الوداع الأخير...

ويورد الشعر المناسب من القريض والشعبي.


الموضوع الثالث الذي يمكن طرحه في الليلة الرابعة من محرم:


المنازل من زرود وحتى كربلاء:

زَرُود:

والاسم مشتق من الزَرْد وهو البلع، ولعلها سميّت بذلك لأنها أرض تبتلع المياه التي تمطرها السحائب، وهي رمال بين الثعلبية والخزيمية، وفيها بركة وحوض ماء. هذا ما نقله الحموي في معجم البلدان.

وفي هذا المنزل حدث أمران أحدهما أفرح الحسين عليه السلام والآخر أحزنه. وانتظر المسير بالحسين عليه السلام إلى (زرود) فأقام فيها ليلته، وقد نزل بالقرب منه زُهير بن القين البجلي، وكان شريفاً في قومه، نازلاً فيهم بالكوفة، شجاعاً مقداماً، له في المغازي والفتوحات، مواقف مشهورة، ومواطن مأثورة، وكان في بداياته منحرفاً عن أهل البيت عليهم السلام عثماني الهوى.

وقد حج زهير في سنة 60 ه، ولما رجع من مكّة جمعه الطريق مع


118


الحسين‏ عليه السلام وكان مع زهير جماعة من فزارة وبجيلة، وكان يكره أن يساير الحسين عليه السلام في الطريق، أو ينازله في منزل واحد، فإذا سار الحسين عليه السلام تخلّف زهير، وإذا نزل الحسين عليه السلام في منزل، تقدّم زهير فنزل في آخر.

فنزل الحسين عليه السلام يوماً في منزل، لم يجد زهير بُدّاً من أن ينزل معه (وهو زرود) فنزل الحسين وأصحابه في جانب، ونزل زهير وأصحابه في جانب آخر.

وهذا عائد إلى طبيعة هذا المنزل الجغرافي، فهو منزل صحراوي يقع بين منزلين متباعدين وفيه بركة ماء وحوض، فلم يجد زهيراً من سبيل إلا أن ينزل في نفس المكان الذي سبق للحسين عليه السلام أن نزل فيه.

فبينما أصحاب زهير جلوس، على طعامٍ لهم، إذ أقبل رسولُ الحسين عليه السلام وسلّم ودخل، والتفت إلى زهير قائلاً: إن أبا عبد الله الحسين عليه السلام بعثني إليك لتأتيه، فطرح كل إنسان ما في يده من طعام كأن على رؤوسهم الطير، كراهية أن يذهب زهير إلى الحسين عليه السلام.

فأطرق زهير برأسه إلى الأرض ملياً، فقالت له زوجته (دلهِم بنت عمرو) وكانت واقفة على رأسه تُروّح له (أي بيدها مروحة لتحريك الهواء لزوجها): "سبحان الله أيبعث إليك ابنُ رسول الله ثم لا تأتيه، فلو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت..".

يمكن هنا التركيز على هذه النقطة لإبراز دور المرأة في واقعة كربلاء ومنها موقف زوجة زهير بن القين هذا.

فأتاه زهير على كرهٍ فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه.. فأمر بفسطاطه ورحله وثِقله، فحُوِّلَ إلى جهة الحسين عليه السلام، ثم قال لامرأته: "إلحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خيراً، وقد عزمت على صحبة الحسين لأفديه بروحي وأقيه بنفسي"، فأعطاها مالها (حقوقها المالية) وسلّمها إلى بعض بني عمومتها ليُوصلها إلى أهلها.


119


فقامت إليه، وبكت في وجهه، وودعته وقالت: خار الله لك، أسألك أن تذكرني عند جدّ الحسين يوم القيامة.

وقال زهير لأصحابه: "من أحبّ منكم أن يتبعني، وإلاّ فهو آخر العهد مني، سأحدثكم بحديث: إنا غزونا (بُلُنجر)
37 ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم ففرحنا.

فقال لنا سلمان
38: أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟.
فقلنا: نعم.
فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكونوا أشدّ فرحاً، بقتالكم معهم، مما قد أصبتم من الغنائم في هذا اليوم، فأما أنا فإني أستودعكم الله"
39.

وفي (زرود) أُخبر الحسين عليه السلام بقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، فاسترجع كثيراً، وترحّم عليهما مراراً، وبكى وبكى معه الهاشميون، وكثر الصراخ والعويل من جانب النساء.

وهنا يمكن للخطيب أن ينهي مجلسه، إذا جعل (زرود) آخر منزل في المجلس السابق، حيث يعرّج هنا على مصيبة حميدة بنت مسلم بن عقيل، وبكائها، واهتمام الحسين عليه السلام بها، وفي هذه المصيبة أبيات شعر جيّدة وشجيّة، ولعل أشهر أبيات هذه المصيبة قول الشاعر:

لم يبكها عدم الوثوق بعمّها     كلا ولا الوجدُ المبرّحُ فيها
لكنها تبكي مخافة أنها          تمسي يتيمة عمّها وأبيها


120


أو قول الشاعر في قصيدته:

قضيت ولم تدرِ كم في (زرود)     عليك العشيّة من نائحة
وكم طفلة لك قد أعولت‏             في الحشا قادحة
يعززها السبطُ في حجره‏            لتغدوَ في قربهِ فارحة


إضافة إلى أبيات نعي بالشعبي وأبيات أبوذيّة كثيرة في هذه المصيبة.

حتى ارتجّ الموضع لقتل مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، وسالت الدموع كل مسيل40.

وكان الحسين عليه السلام قد علم باستشهاد مسلم رضوان الله عليه عن طريق رجلين قدما من الكوفة وهما (عبدالله بن سليم الأسدي والمنذر بن المشمعل الأسدي، اللّذين قالا للحسين عليه السلام بعدما اخبراه بما رأياه بالكوفة: ننشدك الله يا ابن رسول الله، إلاّ انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس بالكوفة ناصر).

فقام آل عقيل، وقالوا:

"لا نبرح حتى ندرك ثارنا، أو نذوق ما ذاق أخونا".

فنظر إليهم الحسين عليه السلام وقال:

"لا خير في العيش بعد هؤلاء"41.

أقول: إن إصرار الحسين عليه السلام على مواصلة طريقه نحو الكوفة، مع علمه باستشهاد سفيره مسلم بن عقيل رضوان الله عليه وإحباط مشروع الكوفة، يرجّح القول القائل أنه عليه السلام كان ماضٍ للشهادة، لأنه يعلم أن لا سبيل لإيقاظ الأمة إلا تلك الدماء الزكيّة، وقد أفاض المحلّلون والمؤلفون كثيراً في هذه المسألة.

ونعود لنقول: أن زرود هو أبرز منزل نزله الحسين عليه السلام لضخامة أحداثه.


121


الثعلبية:

وأكمل الحسين عليه السلام مسيرته نحو الكوفة كما كان مخطّطاً ولم يثنه خبر استشهاد مسلم وهانى‏ء، وسار عليه السلام حتى نزل (الثعلبية) ممسياً أي في المساء فلما أصبح إذا برجل من أهل الكوفة، يكنّى (أبا هرّة الأزدي) قد أتاه، فسلّم عليه، ثم قال له: يا ابن رسول الله، ما الذي أخرجك من حرم الله وحرم جدك محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟

فقال الحسين عليه السلام:

"يا أبا هرة، إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، يا أبا هرة: لتقتلني الفئة الباغية، وليولينّهم الله تعالى ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، وليُسلّطن الله عليهم من يُذلّهم"
42.

ونؤكّد مرّة أخرى، أن الإمام الحسين عليه السلام كان يقوم بعملية تعبئة نفسية ومعنوية للمواجهة الكبرى يوم عاشوراء، عبر ذكره الشهادة وحتمية المواجهة الدامية مع الأمويين.

وفي الثعلبية أتى الحسين عليه السلام رجل وسأله عن قوله تعالى:

﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ 43.

فقال عليه السلام:

"إمام دعا إلى هدى، فأجابوا إليه، وإمام دعا إلى ضلالة، فأجابوا


122


إليه، هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، وهو قوله تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ 44"45.

وفي هذا المكان (الثعلبيّة) اجتمع بالحسين عليه السلام رجل من أهل الكوفة، فقال له الحسين عليه السلام:

"أما والله لو لقيتك في المدينة لأريتُك أثر جبرائيل في دارنا، ونزوله بالوحي على جدي صلى الله عليه وآله وسلم. يا أخا أهل الكوفة، من عندنا مستقى العلم، أفعلموا وجهلنا؟. هذا مما لا يكون"46.

أقول هل أن هذا الكوفي هو نفسه أبو هرة المتقدم أم لا؟.

وحدّث بجير من أهل الثعلبية، قال: مرّ الحسين بنا، وأنا غلام، فقال له أخي: يا ابن بنت رسول الله، أراك في قلّةٍ من الناس، فأشار عليه السلام بالسوط إلى حقيبة رجلٍ، وقال:

"هذه مملوءة كتباً"47.

وهكذا نجد أن إجابات الحسين عليه السلام متعددة، حسب الشخص السائل، وما يطرحه من سؤال، والكل تشير إلى أنه عليه السلام ماضٍ لأمرٍ يدركه ويستعد له.


الشقوق:

وهو منزل من منازل بني أسد.

وفي هذا المنزل التقى الحسين عليه السلام برجل مُقبل من الكوفة، فسأله عليه السلام عن أهل الكوفة، فأخبره الرجل: إنهم مجتمعون عليه، فقال عليه السلام:

"إن الأمر لله، يفعل ما يشاء، وربنا تبارك وتعالى هو كل يوم في


123


شأن ثم أنشدهم:

فإن تكنْ الدنيا تعدُّ نفيسةً             ‏فدارُ ثوابِ للهِ أعلى وأنبلُ‏
وإن تكنْ الأموال للتركِ جمعها       فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخلُ‏
وإن تكنْ الأرزاقُ قسماً مقدّراً        فقلةُ حرصِ المرء في الكسبِ أجملُ‏
وإن تكنْ الأبدانُ للموتِ أنشأت       فقتلُ امرئٍ بالسيفِ في اللهِ أفضلُ"
48

وتضيف بعض المصادر بيتاً خامساً:

عليكم سلامُ الله يا آل محمد          فأني أراني عنكم سوف أرحلُ‏

ولاحظ معي أخي الخطيب الحسيني إن الحسين عليه السلام لم يتغيّر موقفه لما أخبره هذا الرجل الكوفي أن الناس مجتمعون عليه، بل أنه عليه السلام أكّد ما سينتظره وركبه من موعد مع الشهادة.

زُبالة:

وهو موضع باسم امرأة اسمها زُبالة بنت مسعر من العمالقة، وهو منزل فيه حصن وجامع لبني أسد49.

وحينما انطلق به عليه السلام المسير إلى زُبالة، أتاه نعي عبدالله بن يقطر50، رسوله الذي أرسله من الطريق إلى أهل الكوفة، ويحمل كتابه إلى مسلم بن عقيل (راجع المنزل الرابع الحاجز).

فلمّا كان قريباً من القادسية، قبض عليه الحصين بن نمير مع شرطته،


124


وسرّحه إلى عبيد الله بن زياد الذي أمره أن يصعد المنبر وينال من علي والحسين عليهما السلام.

فصعد عبدُالله بن يقطر المنبر وقال:

"أيها الناس، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله، أتيتكم لتنصروه وتؤازروه، على ابن مرجانة وابن سمية الدّعي ابن الدّعي، لعنه الله".

فأمر به عبيد الله بن زياد فألقي من أعلى القصر فتكسّرت عظامه، فمات رضوان الله عليه51.

وفي هذا المنزل حدث تطوّر بالغ الأهمية في تنقية وتصفية الركب الحسيني، وإعداد الفئة المهيأة لخوض غمار الحرب والفوز بالشهادة.

لما بلغ الحسين عليه السلام قتلُهُ، وكان قد أخبر من قبل بمقتل ابن عمّه مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، جمع الناس وخطبهم، وقال فيما قال:

"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبدالله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتُنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه حرج منّا ولا ذمام".

فتفرّق الناس عنه عليه السلام يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة، ونفرٍ يسير من انضمّوا إليه، وكان قد انضمّ إليه، جمع غفير من الأعراب في الطريق، لظنّهم أنه سيأتي إلى بلدٍ قد استقامت له طاعة أهله، فكره عليه السلام أن يتّبعهُ إلاّ الذين أقدموا على ما أقدم عليه من الشهادة والمواساة على الموت52.


125


بطن العَقَبة:

ثم سار عليه السلام من زُبالة حتّى مرّ ببطن العَقَبة، فنزل فيها، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له: عمرو بن لوذان، قال له: أين تريد؟ فقال عليه السلام: الكوفة. فقال الشيخ: "أنشدك الله لمّا انصرفت، فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف، وان هؤلاء، الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطئوا لك الأشياء، فقدمتَ عليهم، كان ذلك رأياً، فأما على هذه الحالة التي تذكر فإني لا أرى لك أن تفعل".

فقال الحسين عليه السلام:

"يا عبدالله، ليس يخفى عليّ الرأي، ولكن الله لا يُغلب على أمره، ثم والله لا يدعونني، حتى يستخرجوا هذه العَلَقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك، سلّط الله عليهم من يذلّهم، حتى يكونوا أذلّ‏ُ فِرَقِ الأمم"53.

إن هؤلاء يتصورون أن الحسين عليه السلام إنّما تحرّك لأنه يريد استلام مقاليد الحكم، ولهذا فهم يعجبون من إصرار الحسين عليه السلام على المسير وكل المؤشرات تدعو إلى التريّث بل الرجوع.

وقال الحسين عليه السلام لأصحابه في هذا المنزل:

"ما أراني إلاّ مقتولاً".

قالوا: وما ذاك يا أبا عبدالله؟.

قال عليه السلام:

"رؤيا رأيتها في المنام".

قالوا: وما هي؟.


126


قال عليه السلام:

"رأيت كلاباً تنهشني، أشدّها عليّ كلب أبقع"54.

وهنا يمكن ان ننهي هذا المجلس بأن نقول:

نعم صدق جدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا سيدي يا أبا عبدالله، فحينما سقطت على رمضاء كربلاء وأحاط بك الظالمون هذا يضربك بسيفه والآخر يطعنك برمحه، والآخر يرميك بسهم... ولكن أشدهم عليك اللعين شمر بن ذي الجوشن.

وزينب عليها السلام واقفة وهي تنظر إليك وتنادي:

يا ابن أمي يا حسين، يا حبيبي يا حسين، نور عيني يا حسين.


ثم إيراد ما يناسب من الشعر.

أو يقال: هذه رؤيا رآها الحسين عليه السلام وهو في طريقه إلى كربلاء، ونهاية أخرى سيراها الحسين عصر تاسوعاء حينما غفى بباب خيمته وأخبر عنها أخته زينب التي بكت وصرخت... إلخ.

وهذا مجلس ثالث لليلة الرابعة، التي نسير فيها مع الركب الحسيني، باتجاه كربلاء.

ملاحظة: يمكن للمجلس الأول المتقدم (الليلة الرابعة) أن يستفاد منه في هذه الليلة، كما يمكن الاستفادة منه في مجالس الليلة الثالثة المتقدمة.


شراف:

منزل يُنسب إلى رجل بهذا الإسم، كان قد استنبط عين ماء عذب 55 ثم كثرت فيها الآبار.


127


ثم سار عليه السلام من بطن العقبة، حتى نزل (شَراف)، فأقام فيها إلى الليل، فلما كان وقت السَحَر، أمر فتيانه أن يستقوا من الماء ويُكثروا.

وهذا الأمر من الحسين عليه السلام، عُرفت أبعاده، في اليوم التالي، ومع التطوّر الذي سيغيّر مسار الركب الحسيني من الكوفة، - كما كان مقرراً - إلى كربلاء كما سيحدث لاحقاً...

ثم سار عليه السلام صدر يومه، أي أنه عليه السلام ترك شراف وواصل المسير إلى منتصف النهار.

حتى انتصف النهار، إذ كبّر رجل من أصحابه.

فقال الحسين عليه السلام: الله أكبر، ممّ كبّرت، قال: رأيت النخل.. أي أنها علامات على الوصول إلى نهر الفرات حيث غابات النخيل، والتي كان من كثرتها أنها تبدو سوداء من بُعد، ولهذا كان العراق يُعرف ب أرض السواد.

فقال له جماعة من أصحابه: والله ما رأينا في هذا المكان نخلةً قط.

فقال الحسين عليه السلام: فما ترونه؟.

قالوا: نراه أسنة الرماح وآذان الخيول.

فقال عليه السلام: أنا والله أرى ذلك. ثم قال لأصحابه:

"أما لنا ملجأ نلجأ إليه، ونجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم بوجه واحد؟".

فقيل له: هذا (ذوحُسَم)56 إلى جنبك، فمل إليه عن يسارك، فإن سبقتَ إليه، فهو كما تريد..

فأخذ الحسين عليه السلام إليه ذات اليسار، وسبق إليه، وضرب أبنيته (خيامه) وأنزل عائلته.

قال الراوي: فما كان بأسرعَ ما أن طلعتْ علينا هوادي الخيل57، فتبينّاها


128


وعدلنا (أي تركوا طريقهم الأول)، فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا، كأن أسنّتهم اليعاسيب58، وكأن راياتهم أجنحةُ الطير.

وجاء القوم زهاء ألف فارس، مع رئيسهم الحرّ من يزيد الرياحي، وكان قد بعثه ابن زياد من الكوفة، ليحبس الحسين عليه السلام عن الرجوع إلى المدينة أينما وجده، ويُقدم به الكوفة..

فجاؤوا حتى وقفوا أمام الحسين عليه السلام في وقت الظهيرة، وكان الوقت شديد الحرّ، والحسين عليه السلام وأصحابه معتّمّون (لابسوا العمائم) فتقلدوا أسيافهم.

فلما رأى الحسين عليه السلام ما بالقوم من العطش، أمر فتيانه أن يُسقوا القوم، ويُرشفوا الخيل ترشيفاً59 ففعلوا وأقبلوا يملئون القِصاع والطساس60 من الماء، ثم يدنونها من الفرس، فإذا عُبّ‏َ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه، وسقي الآخر، حتى سقوهم وخيولهم عن آخرهم...

قال علي بن الطعّان المحاربي: كنت مع الحرّ يومئذ فجئتُ في آخر مَن جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش، قال: أنخ الراوية والراوية عندنا السقاء61 فلم أدرِ ما يقول. ثم قال: يا ابن الأخ، أنخ الجمل، فأنختُه.

فقال عليه السلام: إشرب، فجعلتُ كلما شربتُ سال الماء من السقاء، فقال الحسين‏ عليه السلام: إخنث السقاء، أي اعطفه فلم أدرِ كيف أفعل..

فقام الحسين عليه السلام بنفسه فخنثه، فشربتُ وسقيتُ فرسي.


129


يمكن للخطيب الحسيني هنا أن يعلّق على مدى خُلُق الإمام الحسين عليه السلام حتى مع الذين جاؤوا لحربه، وأهمية تخلقنا بأخلاق الحسين عليه السلام التي هي أخلاق جده صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاق القرآن، وهذه النقطة يمكن أن تكون كذلك باباً للتخلص رائعاً، حيث يقارن بين أخلاق الحسين‏ عليه السلام وأخلاق أعدائه...

ويمكن إيراد الأشعار المناسبة هنا، كما في قصيدة للدكتور الشيخ أحمد الوائلي رضوان الله عليه، ومنها:

ورأيتُك النفسَ الكبيرةَ لم تكن      حتى على مَن حاربوك حقودا
‏فعلمتُ أنك نائل ما تبتغي‏           حتماً وإن يكُ شلوُك المقدودا
62

ولم يزل الحرّ موافقاً للحسين عليه السلام حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين عليه السلام الحجاجَ بن مسروق الجعفي63 أن يؤذّن بالناس، فأذّن الحجّاج، فلما حضرت الإمامة، خرج الحسين عليه السلام في إزارٍ ورداءٍ ونعلين متكئاً على قائم سيفه، فاستقبل القوم وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"يا أيها الناس، إنها معذرة إلى الله (عز وجلّ) وإليكم، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقَدِمَتْ عليّ‏َ رسُلُكمْ: (أن أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق)، فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فأعطوني ما أطمئن به من عهودكم ومواثيقكم، وإن كنتم لمقدمي كارهين، انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي جئت منهُ إليكم".

فسكتوا جميعاً، فقال الحسين عليه السلام للمؤذن: أقمْ، فأقام لصلاة الظهر، فقال


130


الحسين عليه السلام للحرّ: أتصّلّي بأصحابك؟. فقال الحرّ: بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك..

فصلّى بهم الحسين عليه السلام، وبعد فراغه دخل الخيمة، فاجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان فيه، ودخل خيمةً قد ضربت له، واجتمع إليه بعض أصحابه، وعاد الباقون إلى صفوفهم، وأخذ كل رجل منهم بعنان دابته، وجلس في ظلها من شدة الحرّ.

ولما كان وقت العصر أمر الحسين عليه السلام أن يُتهيّأ للرحيل، ثم أمر المؤذن فنادى لصلاة العصر، وأذّن وأقام، فاستقدم الحسين عليه السلام، فصلّى بهم صلاة العصر، فلما فرغ انصرف بوجهه الشريف نحو القوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"أما بعد، أيها الناس، إنكم إن تتقوا الله، وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولى بولاية هذا الأمر، من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعُدوان، وإن أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقنا، وكان رأيكم الان على غير ما أتتني به كتبكم وقّدِمَتْ به عليّ‏َ رسُلُكم، انصرفت عنكم".

فقال الحرّ: ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر..

فأمر الحسين عليه السلام عقبة بن سمعان، فأخرج خُرجين64 مملوءين كتباً، فنُثرت بين يديه..

قال الحر: إني لست من هؤلاء، الذين كتبوا إليك، وإني أُمرت أن لا أفارقك إذا لقيتُك حتى أُقدمك الكوفة على ابن زياد ..

فقال الحسين عليه السلام:

"الموت أدنى إليك من ذلك".


131


ثم أمر أصحابه بالركوب، وانتظر هو حتى ركبت نساؤه، ثم قال لأصحابه: انصرفوا، فحال القوم بينهم وبين الانصراف.

فقال الحسين عليه السلام للحرّ:

"ثكلتك أمّك ماذا تريد؟".

فقال الحُرّ: أما لو غيرُك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذه الحال التي أنت عليها ما تركتُ ذكرَ أمّه بالثكل، كائناً من كان، ولكن ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل، إلا بأحسن ما نقدر عليه.

فقال له الحسين عليه السلام:

"فما تريد؟".

قال الحرّ: إذاً والله لا أدعك. فترادّا مِراراً فلما كثر الكلام بينهما، قال الحُرّ للحسين عليه السلام: إني لم أؤمر بقتالك، وإنما أُمرتُ أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت، فخذ طريقاً نصفاً بيني وبينك، لا يُدخلك الكوفة، ولا يردّك إلى المدينة، حتى أكتب إلى الأمير عبيد الله بن زياد، فلعلّ الله أن يأتي بأمرٍ يرزقني فيه العافية، من أن أبتلي بشي‏ء من أمرك، فخذها هنا، فتياسرْ عن طريق (العُذيب والقادسية). (ومن هنا تغيّر خط المسيرة الحسينية من طريق الكوفة إلى يسار الطريق الموصل إلى كربلاء أخيراً).

فسار الحسين عليه السلام وأصحابه على غير الجادّة (الطريق العام)، والحرّ يسايره في أصحابه، وهو يقول: يا حسين إني أذكرك الله في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتُقاتلنّ، ولئن قوتلت لتهلكّن، فيما أرى.

(فالحر يبدو أنه كان يظن أن الحسين عليه السلام لم يضع الشهادة أمراً قائماً أمامه).

فقال الحسين عليه السلام:


132


"أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطبُ أن تقتلوني؟. وسأقول لك كما قال أخو الأوس لابن عمه حين لقيه، وهو يريد نصرة رسول الله‏ صلى الله عليه وآله وسلم، فخوّفه ابن عمّه، وقال له: أين تذهب فإنك مقتول،

فقال:

سأمضي وما بالموت عا على الفتى‏     إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه‏        وخالف مثبوراً وفارق مجرما
فإن عشت لم أندم وأن متّ‏ُ لم أُلَمْ       كفى بك ذلاً أن تعيش وتُرغما"


فلما سمع الحرّ ذلك منه، تنحّى عنه، وأخذ يسير بأصحابه في ناحية، والحسين عليه السلام في ناحية65، وهنا صُدم الحرّ بموقف الحسين عليه السلام هذا، وعلم أن الحسين عليه السلام يعلم أنه ماضٍ للمواجهة الدامية، ولهذا ترك مسايرة الحسين ‏عليه السلام.


البيضة:

وهي أرض واسعة لبني يربوع بن حنظلة.

وفيها، خطب الحُسين عليه السلام أصحاب الحرّ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

"أيها الناس: إن رسول الله قال: من رأى سلطان جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان


133


وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفي‏ء، وأحلوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحق مَنْ غيّر، وقد أتتني كتبكم وقَدِمت عليّ رسُلكم ببيعتكم، أنكم لا تسلموني، ولا تخذلوني فإن أتممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم ولكم في أسوّة، وإن لم تفعلوا أو نقضتم عهدكم، خلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، فالمغرور مَن اغترّ بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"66.

عُذَيب الهجّانات:

في هذا المنزل أخذ بعض شيعة الكوفة بالالتحاق بالحسين عليه السلام، مخترقين حصار ابن زياد لها.

وهو واد لبني تميم يبعد عن القادسية ستة أميال، أضيف إلى الهجّانات، لأن هجائن إبل النعمان بن المنذر ملك الحيرة، كانت ترعى في هذه الوادي67.

ولم يزل الحُرّ يساير الحسين عليه السلام في الطريق على غير الجادّة، حتى انتهوا إلى (عُذيب الهجّانات)، فإذا هم بأربعة نفر على رواحلهم، قد أقبلوا من الكوفة لنصر الحسين عليه السلام، وهم: عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه ومجمع بن عبدالله المذحجي، ونافع بن هلال الجملي، ومعهم غلام لنافع وهو يجنّب فرساً


134


لنافع، وكان خروجه من الكوفة قبل هؤلاء النفر، وأوصى غلامه أن يتبعه بفرسه68.

وكان معهم دليلهم الطرمّاح بن عدي الطائي، فكان قد امتار لأهله ميرة (الطعام) من الكوفة فخرج على غير الجادّة، فالتقى بهؤلاء النفر في عَرَض الطريق، حتى إذا قاربوا الحسين عليه السلام، ورأوه من بعيد، حدى بهم الطرماح فقال:

يا ناقتي لا تذعري من زجري     وأسرِ بنا قبل طلوع الفجرِ
‏خير ركبان وخير سَفر             حتى تحلّ‏َ بكريم البجرِ
الماجد، الحرّ رحيبَ الصدر        أتى بهِ الله لخيرِ أمر
                    ثمتْ أبقاهُ بقاءَ الدهرِ


فلما انتهوا إلى الحسين عليه السلام أنشدوه الأبيات، فقال عليه السلام:

"أما والله إني لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا، قُتلنا أم ظفرنا".

ثم أن الحرّ أراد حبسهم، أو ردّهم إلى الكوفة، فقال للحسين عليه السلام: هؤلاء ليسوا ممن أقبل معك.

فصاح به الحسين عليه السلام وقال:

"لأمنعهم مما أمنع عنه نفسي، إنّما هؤلاء أنصاري وأعواني، وهم بمنزلة من جاء معي، وقد كنت أعطيتني، ألاّ تعرّض لي بشي‏ء، حتى يأتيك كتاب ابن زياد، فإن بقيت على ما كان بيني وبينك، وإلا ناجزتك؟".

فكفّ الحرّ عنهم، فالتحقوا بالحسين عليه السلام وأصحابه.


135


ثم إن الحسين عليه السلام سأل هؤلاء النفر الكوفيين الذين التحقوا به، عن رأي الناس، فأخبروه، بان الأشراف عظمت رشوتهم، وقلوب سائر الناس معك والسيوف عليك، ثم أخبروه عن قتل قيس بن مسهر الصيداوي فقال عليه السلام:

"
﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، اللهم اجعل لنا ولهم الجنة منزلا، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك".

وقال له الطرماح: رأيت الناس قبل خروجي من الكوفة، مجتمعين في ظهر الكوفة، فسألت عنهم فقيل: إنهم يُعرضون ثم يُسرَّحون إلى الحسين عليه السلام فأنشدك الله أن لا تقدم عليهم، فإني لا أرى معك أحداً، ولو لم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكفى: وسر معنا، لتنزل جبلنا الذي يدعى (أجا)، فقد امتنعنا به عن ملوك غسان وحميَر ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام، حتى تأتيك طيْ (قبيلة) رجالاً وركباناً وأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي، يضربون بين يديك بأسيافهم، إلى أن يستبين لك ما أنت صانع.

فجزاه الحسين عليه السلام وقومه خيراً، وقال: "إنّ بيننا وبين القوم عهداً وميثاقاً، ولسنا نقدر على الانصراف، حتى تتصرف بنا وبينهم الأمور في عافية، فاستأذنه الطرماح ووعده بأن يوصل الميرة إلى أهله، ويعجّل لنصرته، فأذن له وصحبه الباقون، فأوصل الطرماح الميرة إلى أهله ورجع مسرعاً، فلما بلغ عذيب الهجّانات، بلغه خبر قتل الحسين عليه السلام فرجع إلى أهله"69.

(لاحظ عدم تقدير طرماح لأهمية الموقف فآثر ان يوصل الميرة، إلى أهله ففاتته سعادة الدنيا والآخرة).


136


قصر بين مقاتل:

حيث فيه قصر يُنسب إلى مقاتل بن حسّان التميمي ويقع بين عين التمر والشام، على مقربة من كربلاء70.

ولم يزل الحسين عليه السلام يجدّ السير، والحُرِّ يسايرهُ، حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل، فرأى فُسطاطاً مضروباً، ورمحاً مركوزاً، وفرساً واقفاً، فقال‏ عليه السلام: لمن هذا الفُسطاط؟

فقيل: هو لعبيد الله بن الحرّ الجحفي، فبعث عليه السلام إليه الحجّاج بن مسروق الجحفي، فسأله عبيد الله عما جاء به. فقال:

"هدية إليك وكرامة إن قبلتها هذا الحسين بن علي، يدعوك إلى نصرته، فإن قاتلت بين يديه أجرت، وإن قُتلت استُشهدت".

فقال عبيد الله: "إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهية، أن يدخلها الحسين وأنا فيها لكثرة من رأيته خارجاً لمحاربته، وخذلان شيعته، فعلمتُ أنه مقتول، ولا أقدر على نصره، والله ما أريد أن أراه ولا يراني"71.

فأعاد الحجاج كلامه إلى الحسين عليه السلام، فقام عليه السلام بنفسه ومشى إليه في جماعة من أهل بيته وصحبه، فدخل عليه الفُسطاط، فوسّع له ابن الحرّ عن صدر المجلس.

يقول ابن الحرّ: ما رأيت أحداً قط أحسن من الحسين، ولا أملأ للعين منه، ولا رققتُ على أحدٍ رقتي عليه، حين رأيتُهُ يمشي والصبيان حوله72،


137


ونظرت إلى لحيته، فرأيتُها كأنها جناح غراب (أي كانت لحيته عليه السلام سوداء)، فقلت له: أسواد أم خضاب؟

قال عليه السلام:

"يا ابن الحرّ، عجّل على الشيب".

فعرفت أنه خضاب.

(لاحظ أن ابن الحرّ يريد أن يهرب من المراجعة التي لا بد منها في بيان موقفه إزاء مشاركته في نصرة الحسين عليه السلام).

ولما استقر المجلس بأبي عبدالله عليه السلام، حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"يا ابن الحرّ، إن أهل مصركم هذا (الكوفة) كتبوا إليّ، إنهم مجتمعون على نصرتي، وسألوني القدوم عليهم، وليس الأمر على ما زعموا، وإن عليك ذنوباً كثيرة، فهل لك من توبة تمحو بها ذنوبك؟".

قال ابن الحرّ: "وما هي يا ابن رسول الله؟".

فقال عليه السلام:

"تنصر ابن بنت نبيّك وتقاتل معه".

قال ابن الحرّ: "والله، إني لأعلم أن من شايعك لسعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أغني عنك، ولم أخلف لك بالكوفة ناصراً، فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة، فإن نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فرسي (المُلحِقة) فأركبها، فخذها فهي لك، فاركبها حتى تلحق بمأمنك، وأنا لك بالعيالات حتى أردّها إليك".

فقال عليه السلام:

"أما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجة لنا في فرسك ولا فيك
﴿وَمَا


138


كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا 73، ولكنه فرّ فلا لنا ولا علينا، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلاّ أكبّه الله على وجهه في نار جهنم".

قال ابن الحر: "أما هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله، ثم قام الحسين عليه السلام من عنده حتى دخل رحله"74.

(راجع كيف ندم ابن الحر وأبياته هي مما ينبغي حفظها لخطيب المنبر الحسيني في المصادر وفي كتب المقاتل (2) وغيرها).


قرى الطفّ:

ولما كان آخر الليل، أمر عليه السلام فتيانه بالاستقاء والرحيل من قصر بين مقاتل، ولم يزل الحسين عليه السلام يتياسر إلى أن انتهى إلى نينوى والحرّ يسايره، ويحاول رده إلى الكوفة والحسين عليه السلام يمتنع عليه امتناعاً شديداً.

فإذا هم براكب على نجيب75 له وعليه السلاح، متنكب قوساً مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعاً ينتظرونه، فلما انتهى إليهم عرفوه، فإذا هو مالك بن النسر الكندي، جاء وسلّم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلّم على الحسين عليه السلام وأصحابه، ودفع إلى الحرّ كتاباً من عبيد الله بن زياد، فإذا فيه: "أما بعد فجعجع76 بالحسين حين يبلغك كتابي هذا، ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلا بالعراء في غير خُضرة وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام".


139


فقرأ الحرُّ الكتاب على الحسين عليه السلام وأصحابه، فقالوا: "دعنا ننزل نينوى أو الغاضريات أو شَفيّة".

فقال، لا أستطيع إن الرجل عين (جاسوساً) عليّ.

فالتفت زهير بن القين إلى الحسين عليه السلام وقال: "يا ابن رسول الله، إن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال مَن يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا ما لا قِبَلِ لنا به".

فقال عليه السلام:

"ما كنت لأبدأهم بقتال حتى يبدؤوني".

فقال زهير: سر بنا يا ابن رسول الله إلى هذه القرية، فإنها حصينة، وهي على شاطئ الفرات فإن منعونا قاتلناهم، فقال الحسين عليه السلام: ما اسمها؟ قال زهير: تسمّى (العُقر).

فقال عليه السلام:

"اللهم إني أعوذ بك من (العُقر)".

قال زهير فسر بنا يا ابن رسول الله حتى ننزل كربلاء، فإنها على شاطئ الفرات.

فعند ذلك دمعت عينا الحسين عليه السلام وقال:

"اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء".


كربلاء:

ثم سار عليه السلام والحُر يسايرُه ويمانعُه، حتى إذا وصلوا كربلاء، قال الحسين‏ عليه السلام لأصحابه: "أهذه كربلاء؟".

قالوا: نعم يا ابن رسول الله.


140


قال عليه السلام:

"هذا موضع كرب وبلاء، انزلوا، ها هنا محط رحالنا، ومناخ ركابنا، ومقتل رجالنا، ومسفكُ دمائنا، وهنا محل قبورنا، بهذا حدثني جدّي رسول الله...".

وكان وصولهم يوم الخميس الثاني من المحرم عام 61 ه77.


بداية التخلص:

وهنا لا بأس بإيراد الأبيات المناسبة لهذه المصيبة وقد أشرنا إلى بعضها في نهاية المجلس الأول من الليلة الرابعة - هذه - المتقدم، أو أي شعر مناسب آخر، مثل أبيات من قصيدة للحاج هادي الكواز ومنها:

نزلوا بأكناف الطفوف ضُحىً     من دونهم وقفوا
‏وإلى الجنانِ عشيةً رحلوا        وبحبهم أرواحهم بذلوا


أو يختم المجلس بقولنا: "ثم جمع الحسين عليه السلام وُلْدَه وأخوته وعموم أهل بيته ونظر إليهم وبكى، ثم قال:

"اللهم إنا عترة نبيّك محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا، وتعدّتْ بنو أمية علينا، اللهم فخذ لنا بحقنا، وانصرنا على القوم الظالمين"78.

(وهنا يمكن للخطيب أن يصور حال عيال الحسين عليه السلام ونسائه وهن يسمعن الكلام حيث بدت علائم المأساة وفراق الأحبة تلوح أمامهم).


141


ومن المناسب هنا إيراد الشعر الملائم لهذه الحالة، مثل مقاطع من قصيدة الشريف الرضيّ، وهو يخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومطلعها:

كربلا لا زلت كرباً وبلا              ما لقي عندك آل المصطفى‏

ومنها:

وضيوف لفلاة قفرة                 نزلوا فيها على غير قِرى‏
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا      بحداً لسيفِ على ورد الردى
يا رسول الله لو عاينتهم‏ ‏          وهُم ما بين قتلٍ وسبا


أو يقارن نزولهم اليوم مع رحيلهم من كربلاء، كما ذكرنا ذلك سابقاً فراجع.


142


هوامش

1- راجع الدر النضيد، ص‏318 - أدب الطف، 225/6.
2- راجع الدرّ، ص‏53.
3- راجع الدرّ، ص‏18 - وديوان السيد حيدر الحلي.
4- الطبري، 284/5 - ابن الأثير، 276/3 - مروج الذهب، 65/3.
5- راجع الملهوف، ص‏12 - وغيره.
6- الطبري، 82/5 3 - ابن الأثير، 285/3 - تاريخ ابن عساكر والمسعودي وغيرهما.
7- الطبري، 383/5 - مقتل الخوارزمي، 216/1 - ابن الأثير، 275/3.
8- البستاني، دائرة المعارف 48/7 - مقتل الخوارزمي، 216/1 - ابن الأثير، 275/3.
9- الذهبي، تاريخ الإسلام، 343/1.
10- مقتل الحسين، للخوارزمي، 317/1.
11- ابن خولويه، الكامل في الزيارات، ص‏275 - اللهوف، لابن طاووس، ص‏27.
12- ابن خولويه، أبو الفرج، الأغاني، 151/8.
13- مقتل الحسين، المقرم، ص‏192.
14- الطبري، 381/5 - الإرشاد، ص‏228 - مقتل الخوارزمي، 220/1 - تذكرة الخواص، ص‏244.
15- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 377/4.
16- الذهبي، تاريخ الإسلام، 344/1 - أنساب الأشراف، 160/3 - الهيثمي، مجمع الزوائد، 193/9.
17- ابن عساكر في تاريخ دمشق.
18- العير هي قافلة الحمير، ثم كثر استعمالها لكل قافلة، والمراد هنا قافلة الجمال.
19- نبات أصفر كالسمسم يصبغ به، يعتبر من زينة تلك الأيام.
20- أنساب الأشراف (3/164).
21- اخبار التنعيم في، الطبري، 218/6 - مقتل الخوارزمي، 220/1 - ابن كثير، 166/8 - ومصادر أخرى.
22- القطار: القافلة التي يتصل بها بعير بآخر، ومنه أخذ المعنى الحديث للقطار باتصال عربة بأخرى (المصنّف).
23- الطبري، 386/5 - إرشاد المفيد، ص‏1-2 - الكامل لابن الأثير، 276/3 - ابن كثير، 166/8 - الصواعق المحرمة، لابن حجر، ص‏118 - ومصادر أخرى.
24- اليلامق: الأقبية الجبب.
25- الدرق: جمع درقة وهي الدرع.
26- مثير الأحزان، ابن نما، ص‏21 - اللهوف، لابن طاووس، ص‏29.
27- فرام الأمة: الفرام: خرقة تضعها المرأة في قبلها أيام حيضها. الأمة: المرأة المملوكة.
28- البحار، 368/44 - ابن كثير، 169/8.
29- الحموي، معجم البلدان 290/4.
30- الطبري، 195/5 - ابن كثير، 268 /8 - ينابيع المودة، للقندوزي، باب 61 - الإرشاد، ص‏202 - الأنساب، 167/3.
31- احتمله الشيخ المفيد في الإرشاد، وروضة الواعظين النيسابوري، ص 251.
32- راجع: الطبري، 395/5 - اللهوف، ص‏32 - الإرشاد، ص‏203.
33- ابن كثير، البداية والنهاية، 168/8.
34- الطبري، 396/5 - الكامل، لابن الأثير، 277/3 - الإرشاد، ص‏203.
35- روافد الواعظين، النيسابوري، ص‏175 - إرشاد المفيد، ص‏203.
36- ابن نما، مثير الأحزان، ص‏23.
37- بُلُنجر: مدينة في اذربيجان فتحت أيام عثمان على يد سلمان بن ربيعة الباهلي تقع حالياً قرب مدينة أردبيل في شمال غرب إيران،(أنصار الحسين، الزنجاني، ص‏140).
38- قيل هو سلمان الفارسي رضوان الله عليه وكان ضمن ذلك الجيش، أو قائده سلمان الباهلي، والأول أولى.
39- راجع ما ذكر في الطبري، 397/5 - ابن الأثير، 278/3 - مقتل الخوارزمي، 222/1 - انساب البلاذري، 168/3 - اللهوف، لابن طاووس، ص‏30 - وإرشاد المفيد وغيرها.
40- الطبري، 995/6 - ابن كثير، 168/8 - اللهوف، ص‏41.
41- الكامل، لابن الأثير، 17/4 - سير أعلام النبلاء - الذهبي، 208/3.
42- أخذنا من الرواية ما ذكرنا أعلاه، وتمامها (... حتى يكونوا أذلّ من قوم سبأ، إذ ملكتهم امرأة منهم، فحكمت في أقوالهم ودمائهم ولم نذكرها في المتن، لأنها قد تثير بعض التساؤل والأشكال حول المرأة وموقعها في الإسلام، ولهذا ينبغي على الأخوة الخطباء أيدهم الله أن لا يتحكموا بكل شي‏ء يقرأونه، بل عليهم معرفة الظروف والأجواء ومراعاة حساسية ما يطرح على المنبر، والله الموفق، راجع اللهوف، ص‏29 - مقتل الخوارزمي، 324/1 - أعيان الشيعة ،للأمين، 184/4 - أمالي الصدوق، المجلس، 30.
43- الإسراء:71.
44- الشورى: 7.
45- راجع أمالي الصدوق، ص‏193.
46- راجع: بصائر الدرجات للصفّار، ص‏3 - أصول الكافي، باب مستقى العلم من بيت آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
47- سير أعلام النبلاء، الذهبي، 205/3.
48- ابن شراشوب، المناقب، 95/4، الخوارزمي في مقتله، 321/1.
49- معجم البلدان للحموي.
50- عبدالله بن يقطر: صحابي جليل من محبّي أهل البيت عليهم السلام، وهو لدة الحسين عليه السلام (أي ولدا في زمن واحد)، وأبوه يقطر كان خادماً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمه ميمونة تعمل في بيت علي عليه السلام، ولد قبل الحسين بثلاثة أيام، احتضنت امّه ميمونة الحسين عليه السلام فهو اخو الحسين من حيث الحضانة،(راجع أسد الغابة في معرفة الصحابة للجزري).
51- الطبري، 398/5 - الخوارزمي، 324/1 - أنساب الأشراف للبلاذري، 169/3.
52- الطبري، 226/6 - ابن الأثير، 78/3 - تاريخ الإسلام للذهبي، 345/20 - ومصادر أخرى كثيرة.
53- الطبري، 399/5 - ابن الأثير، 278/3 - الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي، ص‏37 إرشاد المفيد، ص‏206.
54- الطبري، 399/5، ابن الأثير، 278/3، الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي، ص‏37 إرشاد المفيد، ص‏206.
55- معجم البلدان.
56- اسم جبل يبعد رحلتين عن الكوفة، كان النعمان بن المنذر يصطاد فيه، وللنابغة فيه أبيات‏.
57- هوادي الخيل: أعناقها، مفردها: هادي: وهو العنق من الخيل أو الإبل.
58- الأسنة: مفردها سِنان وهو نصل الرمح، اليعاسيب، مفردها يعسوب وهو ذكرُ النحل أو أميرها، وإذا طار فرش جناحيه، فشبّهوا الرماح باليعسوب.
59- رشف الماء بشفتيه: بالغ في مصه، والمعنى هنا: السقي قليلاً قليلاً...
60- القِصاع: مفرده قَصعَة (بالفتح): الإناء الكبير، الطساس: مفرده طسة أو طست (لغة في الطشت).
61- الراوية: الجمل الذي يستقي عليه الماء، في لهجة أهل الحجاز، والحسين عليه السلام تكلم بلهجته الحجازية فلم يفهم المقابل.
62- راجع ديوانه رضون الله عليه.
63- من أصحاب الحسين المبرّزين، وكان يلقّب ب (مؤذن الحسين)، وأعظم به من لقب، لمن جعل الصلاة قائمةً إلى يوم القيامة.
64- الخُرج: حقيبة من صوف أو غيره.
65- راجع ما ذكرنا اعلاه، في تاريخ الطبري، 403/5 - تاريخ ابن الأثير، 280/3 - مناقب ابن شهراشوب، 96/4 - إرشاد المفيد، ص‏208 - أنساب الأشراف، 171/3.
66- الطبري، 129/6 - ابن الأثير، 21/4 - أنساب الأشراف، 170/3.
67- معجم البلدان.
68- إن الأوضاع الأمنية القاسية التي فرضها ابن زياد بعد استشهاد مسلم بن عقيل في الكوفة، جعلَ تحرّك، رجال الشيعة البارزين في غاية الصعوبة، وإذا خرج أحدهم على فرسه اتهم بأنه يريد الحرب والخروج نحو الحسين، ولهذا نجد نافع وكذلك حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة، ربما آخرون، يبعثون خيولهم مع عبيدهم ليوهموا الآخرين أنها خارجة للرعي ثم يلحقون به ويركبوا الأفراس باتجاه الحسين عليه السلام.
69- الطبري، 406/5 - ابن الأثير، 281/3 - مقاتل الطالبيين، ص‏19 - مروج الذهب، 72/2.
70- معجم البلدان للحموي.
71- الاخبار الطوال، الدنيوري، ص‏246 - إرشاد المفيد، ص‏209.
72- أقول: وهنا تخلّص جيد، كأن يقول الخطيب: يا ابن الحر رفقت على الحسين حينما رأيت الصبية والأطفال حوله، وهو الحياة ومعه أهل بيته وأصحابه، فكيف حالك لو نظرت إليه مطروحاً والأطفال يلوذ بعضهم ببعض، والنار قد التهمت المخيم، والمنادي ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين.... إلخ.
73- الكهف: 18.
74- الطبري، 407/5 - ابن الأثير، 282/3 - خزانة الأدب، البغدادي، 298/1 - الأخبار الطوال ص‏249.
75- النجيب: النفيس النادر من كل شي‏ء.
76- الجعجعة: الإزعاج والحبس والتضييق.
77- للهوف، ص‏33 - الطبري، 40/5 - ثم ابن الأثير، 282/3 - أنساب الأشراف، 176/3.
78- البحار، 383/44 - مقتل الخوارزمي.