الليلة الخامسة

سفير الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل رضوان الله عليه‏

ابتداءً من هذه الليلة تبدأ المجالس الحسينية بالتخصّص، إذ أن من الممكن للخطيب أن يقرأ ما بدا له في الليالي الأربع السابقة، وإن كان الترتيب الذي ذكرناه آنفاً في مجالسها هو الأولى والأفضل، أما في الليالي 5 وحتى 10 فلا بد من أن تنتهي المجالس بمصائب محدّدة ليس للخطيب أن يجتازها إلى غيرها، والله الموفق.

والليلة الخامسة مخصصة لسفير الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل رضوان الله عليه.


أولاً: قصائد الليلة الخامسة

لقد حظي شهيد الكوفة مسلم رضوان الله عليه بعدد مهم من القصائد الرثائية نختار منها ثلاثاً:

1- قصيدة للشيخ كاظم سبتي رضوان الله عليه، ومطلعها1:

إن رمت خير حمىً وخير مقيلِ‏     فاعقل بمثوى مسلم بن عقيلِ‏

2- قصيدة الشيخ قاسم الملاّ، أضاف إليها السيد باقر الهندي رحمهما الله أبياتاً، ومطلعها2:

لحيّيكم مهجني جانحة             ونحوّكم مقلتي طامحه‏


143


3- قصيدة للسيد صالح الحلي رضوان الله عليه ومطلعها3:

لو كان ينقعُ للعليل غليلُ‏         فاض الفراتُ بمدمعي والنيلُ‏


ثانياً: العنوان المناسب لهذه الليلة

في هذه الليلة يختار عنوان مستلّ من كتب الإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة أو من كتبهم إليه عليه السلام، فيما يتعلق بموضوع مسلم بن عقيل رضوان الله عليه مثل:


1- من كتاب الحسين عليه السلام الذي بعثه مع سفيره مسلم رضوان الله عليه إلى أهل الكوفة:

"... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، مسلم بن عقيل...".

2- من كتاب شيعة الكوفة إلى الحسين عليه السلام:

(... الحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد، الذي انتزى على هذه الأمة بغير رضاً منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعُدت ثمود، إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحق...).

3- من كتاب مسلم بن عقيل رضوان الله عليه الوحيد إلى الإمام الحسين عليه السلام، وبعد وصوله إلى الكوفة:

(أمّا بعد فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي).

ثالثاً: البحث

في ليلة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه هذه، مجال كبير للحديث، عن التشيّع في


144


الكوفة وتاريخ ذلك، وعن علاقة أهلها بأهل البيت عليهم السلام، وعن وفود أهل الكوفة للإمام الحسن‏ عليه السلام، ثم الإمام الحسين‏ عليه السلام بعيد الصلح وحتى قبل وفاة معاوية، وعن التحرك الأخير للكوفة بعد ورود نبأ وفاة معاوية وامتناع الحسين‏ عليه السلام عن بيعة يزيد وهجرته إلى مكة، حديث مستفيض ومتعدد الرؤى حول حركة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، إن كان في الخطوات التي اتخذها، أو تغير ظروف الكوفة بتغيّر واليها، أو الخيارات المطروحة أمام مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، وكيفية محاربته واستشهاده وموقفه مع ابن زياد.

وسنطرح ثلاثة موضوعات في بحث هذه الليلة من المحرّم...


الموضوع الأول الذي يمكن طرحه في الليلة الخامسة من محرم:


وعي الكوفة عبر وثيقة تأريخية:

(من سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاقه من شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته والمسلمين من أهل الكوفة، أما بعد فإنا نحمد الله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها واغتصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضاً منها، فقتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعُداً له كما بعُدت ثمود... إنه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق...).

للنصوص والوثائق في كل حركة تاريخية أهمية قصوى لأنها تعكس الحالات المتفاعلة في مسيرتها وطبيعة ومدى المستوى الفكري والعقائدي لرموز تلك الحركة والناس عامة... وفي حركة الحسين عليه السلام الكثير من النصوص، تلك الحركة التي لا تزداد مع الأيام إلاّ رسوخاً وعطاءً ولذلك تجد الأمة وأجيالها الحاجة ماسة إليها وهو من أهم أسباب خلودها بما تزود الأجيال من توجيه وعطاء ودروس...


145


وإن مسألة اختيار الحسين عليه السلام الكوفة كمحور وهدف لتحركه وثورته قد ذكرت لها عدة أسباب، مثل الظلم الذي عاشته الكوفة من الأمويين بمختلف جوانبه الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وكوجود قاعدة جماهيرية نوعية قياساً مع باقي الأمصار آنذاك، ومن جهة ثالثة موقعها باعتبارها قاعدة عسكرية توجه منها الجيوش الفاتحة الغازية ويتواجد فيها عدد كبير من الجند.

كما أن الكوفة كانت هي البلدة الوحيدة التي ما فتأت تطلب قيادة الحسن‏ عليه السلام ومن ثم الحسين‏ عليه السلام في زمن معاوية وبعده، قبل إعلان رفض الحسين عليه السلام لبيعة يزيد وبعدها حينما كان في مكة.

وهو مؤشّر وعي متميز لها ساعد في وجوده وانتشار حلبة الصراعات الفكرية والتيارات السياسية التي كانت تعتمل في مجتمع الكوفة.

ولعل هذا النص الذي بين أيدينا يعتبر من المؤشرات الواضحة لهذا الوعي وهي مجرد وثيقة مهمة لا تعكس وعي مرسليها فقط ولا رأي الجو الفكري الذي تربوا فيه فقط بل وتعطينا صورة لبعض الظلامات والتجاوزات التي كانت ترتكب مع الأمة ومع المفاصل الواعية الموالية فيها، وهذا الكتاب بعثه أربعة من الرجال قتل منهم مع الحسين عليه السلام، حبيب بن مظاهر، وكان من الذين تمكنوا من اختراق الحصار الذي ضربه ابن زياد على الكوفة مخافة لحوق أهلها بالحسين عليه السلام كما قاد الآخرون ثورة التوابين وقتلوا فيها.

وهذا بحد ذاته يكسب هذه الوثيقة أهمية أبلغ لأنها كتبت بأيد رجال صادقين:

﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ.

ونحاول الآن بعد الاتكال على الله تبارك وتعالى أن نأخذ فقرات هذه الوثيقة التأريخية الرائعة.


146


1- تبدأ الوثيقة بحمد الله تعالى لأنه (قصم عدوك):

أي معاوية بموته واختفائه من مسرح الأحداث تلك الشخصية التي عملت بمكرها وخداعها وتضليلها على اختلاس الأمر من أهله وغيرت ما غيرت وبدلت ما بدلت ولهذا عبروا عنه (الجبار العنيد) بما يعني التجبّر والفساد من إصرار على الظلم والجور كأنها تكاد تحكي المعاناة والألم الذي كانوا يعانونه منه وتأتي دالة على وعيهم بالدور الذي لعبه في صيرورة الأمة إلى ما وصلت إليه ثم تؤكد الوثيقة ذكر بعض ما اقترفته يداه من فظائع:

2- (الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها):

حاكية عن الطريقة اللاشرعية والملتوية التي اتبعها للوصول إلى مبتغاه ومراده بعملية ابتزاز واضحة مكشوفة حين حارب الإمام العادل عليه السلام حتى انتزى على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنها تذكر بحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشأن.

وبذا يحدد هؤلاء الطريق الشرعي لقيادة الأمة لا أن كل من يتملك أمرها بظلم أو احتيال أو مكر يصير هو الخليفة وولي الأمر الذي تجب طاعته....

فأي خطورة تكمن في مثل هذا الحاكم الذي يجلس مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويشرّع كما يشرّع صلى الله عليه وآله وسلم ويغير أحاديثه وسنّته!!.

فالأمة هي المغدورة وهي صاحبة الخسارة والحيف إذا هيأت الأمر لأمثال هؤلاء فالأمر هو لها لأن شريعة الله جاءت لإنقاذ الناس من الظلمات إلى النور.

3- (واغتصبها فيئها):

وهي إشارة إلى الحيف الاقتصادي الذي عانت منه الأمة عموماً والواعون منها خصوصاً، فقد كان من صفات معاوية أنه يغتصب الحق الذي جعله الله للأمة تدير به عجلة الحياة الاقتصادية ويوزع مال الله بين عباد الله كما أراد الله لا كما يشتهي، فكيف يمكن أن يتم التوافق بين هذا القول وقول معاوية


147


الذي خطب الناس ذات يوم قائلا: "أيها الناس المال مال الله وأنا خليفة الله من أشاء أعطي ومن أشاء أمنع"!!.

ولهذا أرسل معاوية إلى كافة عمّاله باصطفاء الذهب والفضة وأن يوزع الباقي على الناس، ومنهم زياد بن أبيه الذي بادر بتبليغ أوامر معاوية إلى كافة عمّاله ووكلائه ومنهم عمرو بن الحكم (أحد شيوخ البخاري) فلما بلغه ما ذكر في كتاب معاوية قال: لقد جاءني كتاب قبل كتاب معاوية وهو كتاب الله حيث أمرني بتوزيع الأموال على مستحقيها، وفعلاً فقد وزع المال حسب ما أراد الله لا ما أراد معاوية... فلما بلغ ذلك معاوية، أمر باستدعائه ثم حبسه وأمر به فضرب حتى مات.

وكانت النتيجة الطبيعية لهذه السياسة في اغتصاب في‏ء الأمة هي المجاعة والضيق الاقتصادي. تلك المعاناة التي سجل بعض معانيها أحد الشعراء بقوله:

معاويُ إننا بشر فاسجح‏        فلسنا بالجبال ولا الحديد
أكلتم أرضنا فجردتموها        فهل من قائم أو من حصيد
فهبنا أمة ذهبت ضياعاً        يزيدُ أميرها وأبو يزيد
أتطمع بالخلافة إذ هلكنا       وليس لنا ولا لك من خلود
4

ونعود إلى متابعة الوثيقة.

4- (وتأمّر عليها بغير رضا منها):

والذي هو عبارة عن تعبير آخر عن المقطع الأول ولكن هنا التأكيد واضح على مسألة عدم رضا الأمة عن تصرفه كما أنها تعطي تعبيراً آخر عن تسلطه وتلبسه لباس المؤامرة.


148


5- (ثم قتل خيارها واستبقى شرارها):

وهي صفة في غاية الدقة تعرف بها الحكومات الجائرة من غيرها، تُرى على من يجرد الحاكم سيفه؟ أيجرده على أهل الفساد والانحراف؟ أيتابع الأشرار لكي يريح منهم البلاد والعباد؟ ولكي تأمن منهم الأرض أم العكس هو الموجود، فإذا طال السيف رقاب المؤمنين الأخيار فهي علامة صارخة على ظلم الحاكم وانحرافه وهذه الصفة كانت من أوضح الصفات في الفترة التي تلت صلح الحسن عليه السلام إلى ثورة الحسين عليه السلام ..

فقد شهدت هذه الفترة أفظع عمليات المطاردة والتصفية والتشريد فقد قتل فيها حجر بن عدي الكندي الصحابي الجليل مع ولده همام وسبعه من الكوفة في مرج عذراء، كما قتل عمرو بن الحمد الخزاعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، وجي‏ء برأسه إلى زوجته المعتقلة آمنة بنت شريد في سجن دمشق وقتل رشيد الهجري بعد قطع يديه ورجليه ولسانه وقتل عمر الحضرمي مع أصحابه العبّاد الزهّاد، وهكذا استمرت حملات التصفية الجسدية لحواري أمير المؤمنين عليه السلام وأعمدة الولاء في الأمة حتى قبيل استشهاد الحسين عليه السلام حين صلب ميثم التمار قبل وصول الحسين إلى كربلاء بعشرة أيام.

في نفس الوقت استبقى الفساق والأشرار من الانتهازيين والظالمين حيث أشيع أمر شراء الذمم مثل الحتات عم الفرزدق، الذي وفد على معاوية مع رجلين حيث أعطى كل واحد منهما مائة ألف واعطاه سبعين ألفاً فلما كانوا في طريق الرجوع ودار بينهم الكلام غضب الحتات ورجع إلى معاوية قائلاً: فضحتني في بني تميم أما حسبي فصحيح أولست ذا سن مطاعاً في عشيرتي؟. قال: بلى، قال: فما بالك خسست بي دون القوم وأعطيت من كان عليك أكثر ممن كان لك؟ فأجابه معاوية بلا حياء: إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك فقال: وأنا اشترٍ مني ديني!!


149


6- (وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها).

وهذا أمر كان رائجاً في تلك الفترة فقد منح معاوية خراج مصر إلى عمرو بن العاص ما دام حياً مكافأة له على موقفه منه. حتى خيم الفقر في أمصار المسلمين عدا الشام التي أغدق عليها بالأموال والعطايا.

ومرّ معاوية في حجه على يثرب فاستقبله أهلها مشاة وهم الأنصار فقال لهم: ما منعكم أن تتلقوني كما يتلقاني الناس؟.

فقال له سعيد بن عبادة: منعنا من ذلك قلة الظهر وخفة ذات اليد وإلحاح الزمان علينا وإيثارك بمصروفك غيرنا!.

فقال معاوية استهزاءاً: أين أنتم عن نواضح المدينة؟.

فرد عليه سعيد: نحرناها يوم بدر يوم قتلنا حنظلة بن أبي سفيان!!

وأما ما لاقاه شيعة أهل البيت عليهم السلام خاصة من التجويع والتهجير والقتل فهو أمر عظيم حيث بعث إلى كافة عماله بنسخة واحدة (انظروا إلى من قامت عليه البينة انه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه).
 

التخلص:

ثم قاموا بهدم بيوت شيعة أهل البيت عليهم السلام، وتوسعت المعركة من الميدان الاقتصادي إلى الميدان الاجتماعي إذ أمر كافة عماله بعدم قبول شهادة الشيعة مبالغة منه في إذلالهم وهجّر زياد بن أبيه خمسين ألف شيعي من الكوفة إلى خراسان.

وهذا وغيره فوجد الحسين عليه السلام أنه لا سبيل للوقوف بوجه هذه الانحرافات وتنبيه الأمة إلى ما آل إليه أمرها من الظلم والجور إلا سبيل الدم المراق، سبيل الشهادة ولغة الدماء.

فما رأى السبط للدين الحنيف شفا       إلا إذا دمه في كربلاء سفكا


150


ولما سمع الكوفيون باستقراره عليه السلام بمكة جاءت الرسل وكثرت الكتب فبعث ابن عمّه مسلماً ليستبين صدقهم، وتحرك الحسين عليه السلام حتى وصل إلى منزل في طريقه إلى كربلاء، يسمى (زرود) وهناك رأى فارسين مقبلين من جهة الكوفة.

ثم يذكر الخطيب نبأ استشهاد مسلم وهانئ وبكاء الحسين عليه السلام وأهله ثم توجهه عليه السلام نحو الخيام وما صنعه مع يتيمة مسلم حميدة، وهناك أبيات شعر شجية في ذلك، راجع مجالس الليلة الرابعة حول الوصول إلى (زرود).


الموضوع الثاني الذي يمكن طرحه في الليلة الخامسة من محرم:


تأملات في حركة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه:

".. وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم فإن كتب أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً ان شاء الله..".

تتميز الأبحاث التي يكون موضوعها التاريخ وأحداثه عن تلك الأبحاث ذات المواضيع الطبيعية بأمور لعل من أبرزها أن المواضيع الطبيعية تتميز بسهولة وإمكانية إعادة التجربة ودراسة النتائج حول أي معادلة بتوفير العناصر المطلوبة وإجراء التفاعل لتأتينا النتائج طبيعية ومؤكدة، في حين أن مسائل التاريخ ودراسته وسبر أغواره لا تتوفر فيها عناصر الوضوح والمختبرية والنتيجة المؤكدة التي توفرت في أبحاث العلوم الطبيعية التطبيقية.

وأحداث واقعة كربلاء الخالدة وما سبقتها من تطورات وما تلتها من تغيرات فيها الكثير من مجالات التأمل والدراسة ومحاولة استنطاق الحدث التاريخي لارتباطه بمواقفنا وتصرفاتنا باعتباره حجة لنا أو علينا في اتخاذ خطوة ما أو الإحجام عن أخرى.


151


ولا شك أن في حركة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه خاصة نقاط واضحة تحتاج إلى موقف وتأمل ودراسة. ومشكلتنا مع أحداث التاريخ والسير أن بعض الكتاب والمؤرخين لا يكتفون لعرض الحدث التاريخي بل يحاولون تفسير ذلك وإبرازه ضمن منحى معين في التفكير أو التقييم... وبالتالي يدخل ذلك التفسير والتأويل ضمن تلك الواقعة التاريخية فيدخل عنصر وعي واستيعاب وإيمان المؤرخ في إعطاء وجه دون آخر للواقعة التاريخية.

فتجد حادثة واحدة في مصدرين تاريخيين كل منهما يخرجها إخراجاً يختلف عن الآخر.

نعود لما ذكرناه من ان في حركة مسلم رضوان الله عليه وتطورات خطته في الكوفة والأحداث الدراماتيكية المتفاعلة المتغايرة السريعة في الكوفة الكثير من التساؤلات والتأملات.. نحاول في هذا المجال الوقوف عند بعض نقاط هذه الحركة.

النقطة الأولى:

ما ذكرته كتب التاريخ عن رسالة بعث بها مسلم بن عقيل رضوان الله عليه إلى الإمام الحسين عليه السلام بعدما غادر مكة متوجهاً إلى الكوفة ومروره بالمدينة وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووداع أهله ثم استأجر رجلين ليدلاه على الطريق فأضلاّه حتى ماتا من العطش وبلغ مسلم الطريق بشق الأنفس بإشارة من الدليلين قبل موتهما، فهنا تشاءم مسلم من هذا الحدث المؤلم وبعث رسالته إلى الإمام الحسين عليه السلام مع قيس بن مسّهر الصيداوي يخبره فيها بما جرى عليه وهو يقول:

".. وقد تطيرت من وجهي هذا فإن رأيت أعفيتني عنه وبعثت غيري والسلام"5.


152


فلما وصل كتاب مسلم رضوان الله عليه ردّ عليه الإمام عليه السلام بكتاب فيه:

"أما بعد فقد خشيت أن لا يكون قد حملك على الكتاب إلي في الاستعفاء عن الوجه الذي وجهتك إليه إلا الجبن، فامض لوجهك الذي وجهناك إليه والسلام عليك".

فلما قرأ مسلم رضوان الله عليه الكتاب قال:

"أما هذا لست أتخوفه على نفسي، ثم أقبل على وجهه".

1- فلنتوقف أولاً عند كتاب مسلم إلى الحسين عليه السلام ... فنقول إن تشاؤم مسلم المزعوم هنا من حادث ربما يحدث مع أي مسافر يقطع تلك الصحراء لأمر خاص أو تجارة أو حج إلخ.. لا يسوّغ لمسلم أن يتنصل عن مسؤوليته الكبيرة فضلاً عن أن يقترح على الحسين عليه السلام استبداله بآخر!! فكيف يتأتى هذا مع اختيار الحسين عليه السلام له وتفضيله إياه في هذه المهمة، حيث قوله لأهل الكوفة:

"أني بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي".

وأوكله مهمة في غاية الخطورة والأهمية؟ وكيف ينتكس على أثر حادث طارئ يمكن أن يحدث لأي مسافر في تلك الظروف؟ والحسين عليه السلام لم يكتب هذا الكتاب له إلا بعدما أطلع على الموقف واحتمالاته الخطيرة، فبعد أن كثرت الكتب على الحسين عليه السلام وهو في مكة حتى بلغت إثنا عشر ألف كتاب دخل عليه السلام البيت وصلى ركعتين بين الركن والمقام وسأل الله الخيرة في ذلك ثم طلب مسلم بن عقيل رضوان الله عليه وأطلعه على الحال(!!) وينبغي أن نتأمل هذه المقالة وأمره بالمسير إلى أهل الكوفة6، وقال‏ عليه السلام له:


153


"إني موجهك إلى أهل الكوفة وسيقضي الله من أمرك ما يحب ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء فامض على بركة الله وعونه حتى تدخل الكوفة" ثم عانقه الحسين وودعه فبكيا جميعاً7.

فكيف بمن مرّ في هذا الإعداد وهذا الإطلاع على الموقف أن يطلب الإعفاء بمجرد حدوث هذا الأمر الطارئ.

2- وحتى لو لم يطلعه الحسين عليه السلام على الموقف، أو لم يكن مسلماً واعياً بأحداث تلك المرحلة ألم يكن متفاعلاً ومطلعاً على الأحداث الرهيبة التي حلت برجالات وشيعة عمه أمير المؤمنين عليه السلام، وإذا لم يكن بتلك الحالة من الوعي لما أمكن الحسين عليه السلام أن يختاره لتلك المهمة الكبرى.

3- إن مسلم على علم تام بكل تطورات حركة الحسين عليه السلام ابتداءً من أخذ الحسين عليه السلام لمجموعة من فتية بني هاشم معه إلى قصر الإمارة وبداية المواجهة وحتى لو لم يكن مسلم مع تلك المجموعة فلا شك انه كان على اتصال بها.

4- إن الذي تذكره كتب التاريخ أن أهل بيت الحسين عليه السلام اقترحوا عليه أن يتنكب الطريق في خروجه من المدينة كما صنع ابن الزبير، حيث نصت بعض المصادر على أن المتحدث به هو مسلم بن عقيل رضوان الله عليه أي أن الرجل كان يعي حقاً خطورة موقف الحسين عليه السلام في رفضه البيعة وخطورة موقفهم معه!!.

فرجل بذلك الإعداد العام والإعداد الخاص والأخص كيف يعقل منه أن يكتب ما نسب إليه !!


154


(عام باعتباره من مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وخاص باعتباره ممن خرج مع الحسين عليه السلام، الأخص باعتباره قد اختير لهذه المهمة بالذات).

إن الأعجب من ذلك كتاب الحسين له عليه السلام وفيه اتهام مباشر لمسلم بالجبن وإن جاء بشكل غير محدد، وعلى هذا الكتاب عدة إشكالات:

1- هذا الكتاب لو صح يكشف عن عدم دقة الحسين عليه السلام في اختياره مسلماً لهذه المهمة وهو ما أجمعت كل المصادر على تقييمه له (وثقتي من أهل بيتي).

2- نفس أسلوب الكتاب لا يليق بأدب الحسين‏ عليه السلام خاصة وهو يخاطب به أخاه وابن عمه.

3- وحتى لو صح أن مسلماً أرسل ذلك الكتاب له لكان الأليق والأنسب مع خلق الحسين عليه السلام أن يكون كتاب الحسين عليه السلام مذكراً له بما أطلعه على حال مهمته والصفات التي اختارها فيه لهذه المهمة، فالحسين عليه السلام بأخلاقه العالية الذي سقى من جاءوا لحربه ماءاً في قلب الصحراء الملتهبة، كيف يقسو بهذا الشكل على مسلم.

4- كما أن الموقف المطلوب في هكذا تطور غير مترقب على فرض أن يوكل الحسين عليه السلام المهمة لرجل آخر أوعى من مسلم رضوان الله عليه لمسؤوليته لا أن يجبره على أن يمضي في طريق ثبت من بدايتها الرجل غير المناسب له.

إذن مجمل هذه المناقشة تجعلنا نشكك في صحة الكتابين، نعم ربما بعث مسلم بكتاب يخبره بما جرى عليه لا أن يطلب منه إعفاءه، وممكن أن يكون الحسين عليه السلام رد عليه بكتاب يشجعه ويحثه لا أن يتهمه بالجبن...


155


النقطة الثانية:

من الأمور التي أثيرت وما تزال تُثار حول نشاط مسلم رضوان الله عليه في الكوفة هو لماذا لم يسيطر مسلم وشيعته عليه السلام على قصر الإمارة ليقطعوا الطريق على أي تحرك غير متوقع من قبل الأمويين في محاولة السيطرة ثانية على الكوفة؟

خاصة إذا رجعنا بعض الشي‏ء إلى الوراء وقرأنا في كتب الكوفيين إلى الإمام عليه السلام في مكة (وهذا النعمان بن بشير لسنا نجتمع معه في جمعة ولا جماعة ولا نخرج معه في عيد ولو قد بلغنا انك أقبلت إلينا، أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله).

والمفروض أن مجي‏ء مسلم كمجي‏ء الحسين عليه السلام فلماذا لم يبادروا إذن إلى ما كتبوه للحسين عليه السلام مسبقاً له.

ويمكن أن نصل إلى الإجابة عن هذا الإشكال باستذكار جملة أمور:

1- إن مهمة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه التي بيّنها الحسين عليه السلام في كتابه للكوفة لم يكن منها مسألة السيطرة على الكوفة، فهو قد بعث لاستقراء الجو العام ودراسته الواقع دراسة ميدانية وإخبار الحسين عليه السلام بذلك:

"وأمرت أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم فإن كتب انه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت به عليّ رسلكم وقرأت في كتبكم أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله؟".

2- لم يثبت أن الكوفيين أرادوا السيطرة على القصر ومنحه مسلم رضوان الله عليه، إن المسألة ليست بتلك البساطة المتصورة.. فمسلم كان في أيامه الأولى - وصل مسلم في 5 شوال وقتل في 8 ذي الحجة - في وضع دراسة واستقصاء للوضع ولم تمض مدة يستطيع من خلالها اتخاذ مثل هذا القرار لو أنه كان مخولاً به، ولا يمكنه اتخاذ ذلك القرار وهو بعد لم


156


يعرف صدق مشاعر الناس ولم يرتب للأمر ولم يتهيأ له، ولعله لو تحرك لذلك وفشل للامه الناس والتاريخ والحسين‏ عليه السلام على تحركه ذاك.

3- إن النعمان بن بشير لم يكن بالرجل العامي. صحيح أنه لم يبد كثيراً من الضغط والإرهاب لقمع حركة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه ولعل ذلك أو لأن مسلم بن عقيل رضوان الله عليه نازل في دار صهره المختار، ولعله يحب العافية كما قيل، النعمان هذا لم يكن يحب أهل البيت عليهم السلام كما يتصور البعض فأبوه بشير أول من بايع أبا بكر يوم السقيفة وهو وأبواه كانا الأنصاريين الوحيدين مع بني أمية، والنعمان هو الذي أرسل قميص عثمان وأصابع زوجته نائلة إلى معاوية في الشام حتى ان اتخذها أكبر عمل دعائي لحرب أمير المؤمنين عليه السلام، ولذا نجد أنه خطب في الكوفة وهدد وأوكد ولو تحرك مسلم لما كانت حركته بلا مواجهة، ففي الكوفة أتباع مخلصين للأمويين لأنه من كتب ليزيد حول مسألة مسلم رضوان الله عليه هو من عامة الجند وهو من عامة الناس الذين يميلون مع السلطة وأبنائها، فلم يكن الأمر اذن بتلك السهولة المفترضة المتوقعة.

4- إن مسلم بن عقيل رضوان الله عليه أراد أن يستثمر جو المعارضة السلمية التي سمح بها النعمان بن بشر ليتوغل أكثر في المجتمع الكوفي بحرية فلماذا يستعجل مسلم بن عقيل رضوان الله عليه أمراً قد يفضي إلى تطورات غير معروفة، ثم هو يكتب للحسين عليه السلام وينتظر منه الجواب، فقد تحدث الحرب تمزقاً في الساحة ودماراً وثاراتٍ وحزازات.

5- لم يكن من المتوقع تحرك ابن زياد بتلك السرعة حتى انه أخرج معه خمسمائة رجل من البصريين ليكونوا معه إذا دخل الكوفة فلم يره أحد لفرط السرعة التي كان يسير بها نحو العراق.

لعل هذه النقاط توضح إشكال السيطرة على قصر الإمارة.


157


النقطة الثالثة:

في تفرق الناس عن مسلم رضوان الله عليه


من النقاط المهمة والتي تثير الكثير من التساؤلات هي تفرق الناس عن مسلم رضوان الله عليه بتلك الكيفية التي تضعها كتب التاريخ والسّير، والأشد غرابة هنا هو تفرق خُلَّص أصحابه لا سيما من عقد لهم الأولوية في هجومه على قصر الإمارة، وهم عبد الرحمن بن كريز الكندي على ربع كنده وربيعة ومسلم بن عوسجة على مذحج وأسد، وأبو ثمامة الصائدي على تميم وهمدان، والعباس بن جعده بن هبيرة على قريش والأنصار، خاصة بالنسبة للشخصيات التي حظيت بشرف الالتحاق ونصرة الحسين عليه السلام والشهادة بين يديه مما يسقط احتمال قتلها أو اعتقالها أو تغير ولائها مثل حبيب، وابن عوسجة، وأبي ثمامة الصائدي وآخرين وهم شخصيات لها دورها ومكانتها الاجتماعية والقبلية.

وقد سأل أحد العلماء عن ذلك فقال انهم أعدوا أنفسهم للشهادة بين يدي الحسين عليه السلام وهذه الإجابة غير صحيحة، لأنهم لم يعرفوا بعد بتحرك الحسين عليه السلام الذي كان في نفس يوم مقتل مسلم في 8 ذي الحجة، ثم هل يكون ذلك مبرراً لترك قائدهم ومبعوث إمامهم وحده يواجه في الأزمة؟.

وأجاب آخر أنهم أدركوا أن الأمر لا مجال فيه لأي احتمال بنجاح مسلم وبذا لم يرتئوا أن يعرضوا أنفسهم للقتل وهم يعرفون النتيجة مقدماً... ولا أظن أن هذه الإجابة شافية كذلك.

ومع ثقتنا بموقف هؤلاء الشهداء المخلصين الذين شاركوا مسلماً في حركته وانتهوا بنصرة الحسين عليه السلام والقتل معه، قد يكون هناك سبب لم يصلنا عبر كتاب التاريخ ولعل الأمور حصلت بسرعة مذهلة وارتباك وتفرق غير متوقع ولعل بعضهم اعتمد على الآخر وظن أن مسلماً معه فلان من أنصاره وهذا يحدث كثيراً في الظروف الأمنية الطارئة والشديدة الخطورة.

ومع ذلك تبقى المسألة غير واضحة تماماً إذ يذكر التاريخ أنه انتهى إلى


158


المسجد ومعه ثلاثمائة رجل... أفلم يكن من هؤلاء مخلص من شيعته الأوفياء أو من القادة الذين يعتمد عليهم؟!..


التخلص:

وعلى كل حال فقد بقي مسلم وحيداً مستفرداً وهو المتحير الذي يتلفت يميناً وشمالا - يعز على كل موالٍ غير ذلك- نعم وهذا حيث يقذفه زقاق إلى زقاق وطريق إلى آخر حتى انتهى به الأمر إلى باب فجلس عنده وقد أحس بالتعب بعد يوم من الشدائد والمحن والتغيرات الرهيبة يشغله أمر نفسه وأمر أهله أكثر مما يفكر بنفسه وبينما هو متفكر وإذا بالباب يُفتح عن امرأة رأت رجلاً بهي الطلعة مهاب الجانب عليه علامات الشرف يجلس على باب دارها.

قالت: ما جلوسك على باب دارنا؟.
فتردد وتحير ثم قال: اسقني. فأخرجت له ماءً فشرب وحمد الله، وأرجعت الإناء ورجعت فوجدته على حاله جالساً.
فقالت: يا عبدالله ألم تشرب؟. قال بلى.
قالت: فاذهب إلى أهلك، فسكت، ثم أعادت عليه مثل ذلك فسكت.
فقالت في الثالثة: سبحان الله يا عبد الله قم عافاك الله إلى أهلك فإنه لا يصلح لك الجلوس على باب داري، ولا أحلّه لك.
فلما وصل الأمر إلى حالة الإشكال الشرعي قام (وتصفه الروايات وقد اسودت الدنيا في عينيه) وقد تبادرت منه دمعة.
فقالت: مم بكاؤك؟ ولم أقل لك شيئاً وأنت رجل ذو وقار.
فقال: وأي أمر أمض لقلبي وأجلب لحزني وهو قولك (اذهب إلى أهلك).
فقالت: معاذ الله في هذا؟.


159


قال: اعلمي أنه ليس لي أهل في هذا المصر ولا عشيرة، فهل لك أجر ومعروف ولعلي مكافئك بعد اليوم؟. ويا لها من كلمة.
فقالت: من أنت؟.
فقال: إن كنت تسألين عن البلد فأنا من بلد الوحي والتنزيل، وان كنت لم تسأليني عن العشيرة فأنا ممن خدمتهم ملائكة الجليل وإن تسألين عني فإني مسلم بن عقيل
.

حين ذلك لطمت وجهها وقالت واخجلتاه منك يا سيدي واخجلتاه من عمك أمير المؤمنين ادخل إلى دارك وبيتك.

ثم يكمل المصيبة إلى أن جاءت طوعة تسأل عنه فقيل لها أنه قد استشهد ورميت جثته من أعلى قصر الإمارة.


الموضوع الثالث الذي يمكن طرحه في الليلة الخامسة من محرم:


خطوات مسلم بن عقيل رضوان الله عليه إلى الكوفة:

"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإن الرائد لا يكذب أهله وقد بايعني من الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي والسلام".

هنا أول وآخر كتاب وصل إلى الحسين عليه السلام من مسلم بن عقيل رضوان الله عليه لما وصل الكوفة، فهو الكتاب الوحيد إذن الذي عكس فيه مسلم الحالة التي استقبل فيها بالكوفة، والسؤال الذي يطرح هنا هل أن مسلماً رضوان الله عليه وعى مجتمعه الذي أرسل إليه أم انه بعث الكتاب انخداعاً بالجو الجماهيري العام المتعاطف مع أهل البيت عليهم السلام، خاصة وأن هناك أموراً يكون قد قالها أصحابها ليشيروا ولو بطرف خفي إلى احتمال صدق مواقف ذلك المجتمع.

أعني أن مسلماً رضوان الله عليه لما وصل إلى الكوفة واجتمع إليه الناس وكلّما دخل


160


عليه مجموعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام الذي بعثه معه إلى الكوفيين وهم يبكون ويبدون استعدادهم لنصرته وتأييده حيث أن عابس ابن أبي شبيب الشاكري رضوان الله عليه قام وقال: (إني لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرّك بهم والله إني أحدثك عمّا أنا موطّن عليه نفسي والله لأجيبنكم إذا دعوتم ولأقاتلن معكم عدوّكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله) وما كاد ينتهي ابن أبي شبيب الشاكري من مقالته هذه حتى وثب حبيب رضوان الله عليه وقال: (رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من القول وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما أنت عليه) ثم قال سعيد بن عبدالله الحنفي مثل قولهما.

وهؤلاء الثلاثة رجال صدقوا وقتلوا بأجمعهم بعد ذلك يوم عاشوراء.

أقول ألم تكن هذه المقالات تشير إلى عدم اطمئنان الثلة المؤمنة لهذا الاندفاع الجماهيري؟؟.

لا شك وأن ذلك الأمر أخذه بالإعتبار سفير الحسين عليه السلام ولكنه يعلم كما يعلم كل أصحاب المبادئ أن استجابات الناس واستعداداتهم متفاوتة في الدفاع عن مبدأ ما وفكرة ما.

ولهذا كان الناس في ذلك الوقت واقعاً صادقين في اندفاعهم إذ لا ضريبة تدفع من أجل البيعة فالوالي مسالم والجو العام مع مسلم رضوان الله عليه فلم لا يبايع الناس وهم مؤمنون بالحسين عليه السلام وبصدقه ونزاهة حركته ولا ريب أن ذلك التطور طمأن مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، فأرسل كتابه الأول والأخير للحسين‏ عليه السلام. فما هي الخطوات التي خطاها مسلم رضوان الله عليه حين وأثناء تلك الفترة في ولاية النعمان بن بشير.

1- اتخاذه دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي مقراً لعمله وغرفة لعمليات حركته تأتي اليه أفواج المبايعين.


161


فالرجل من ثقاة الشيعة وشجعانها، ومن رجال الكوفة المشهود لهم بالفضل والمنزلة، كما أنه صهر للوالي، إذ أن المختار كانت زوجته ابنة الوالي النعمان بن بشير.

2- قام مسلم بتوزيع المسؤوليات على أصحابها، فمثلاً كانت مهمة أبو ثمامة الصائدي جمع الأموال التي يحتاجها تحركه وكان مسلم بن عوسجة الأسدي يأخذ البيعة له. وهو دائم اللقاء بهم والتحدث معهم.

فاختار إذن مجموعة من خيرة أصحاب عمه وابن عمه عليه السلام كحلقة ارتباط بينه وبين الأمة ومجساً دقيقاً وصادقاً لتحركهم.

3- فتح سجلاً للمبايعين وعشائرهم.

4- اهتمامه بشراء السلاح واستئجار بيوت تكون مقراً للرجال ومشاجب للأسلحة. وهكذا كانت الأمور تجري على خير ما يؤمل ويرتجى.

ولكن لا يسكت المنحرفون وأعداء الله والدين عن هذا التحول المبارك في مسيرة الأمة فكانت مراسلة مجموعة من العناصر الموالية للأمويين إلى يزيد يحذرونه من خطورة ترك الأمر هكذا في الكوفة.

فكتب عبد الله بن مسلم الحضرمي وعمارة بن عتبة بن معيط (أخو الوليد) وعمر بن سعد إلى يزيد: (أما بعد فإن مسلم بن عقيل رضوان الله عليه قدم الكوفة وبايعته شيعة الحسين بن علي فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوّك فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو يتضعف).

فكان الاختيار على السفاك بن السفاك عبيد الله بن زياد الذي كان مجيئه إلى الكوفة يعني تغييراً مريعاً في حركة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه وعلاقة الناس بها لأن للحكومة المستبدة تأثير كبير على ميول الناس وتوجيهاتهم.

وهكذا أعلنها ابن زياد تهديداً ووعيداً وتخويفاً في الأمة أجمع ثم استدعى


162


العرفاء وأخافهم (من وجدنا في عرافته رجل من جماعة ابن عقيل صلبناه على باب داره).

فكانت خطوات ابن زياد:

1- تسخير العرفاء لإحضار كل المعارضين للنهج الأموي وتقديم أسمائهم وأعمالهم وعشائرهم.

2- قيام العرفاء بدور الرقابة لمتابعة من له ميل مع مسلم رضوان الله عليه.

وكما ذكرنا يصلب العريف الذي لم يخبر عمن في عرافته من شيعة الحسين‏ عليه السلام وإلا يمكن أن يتعهد بعدم وجود المخالف للحكم في عرافته وقام العرفاء بتلك المهمة التي كانت تستهدف أموراً:

- الحد من تيار التعاطف الجماهيري مع مسلم.
- الضغط على المبايعين بالانسحاب وإعلان التبرؤ.

3- المبالغة في إشاعة أجواء الخوف والرعب وتسخيرها لقتل روح الاندفاع الرسالي في الأمة.
4- إشاعة وتركيز مفهوم الأخلاقية المادية في شراء الذمم والرشاوى.
5- محاولة إثارة التعصب القبلي.
6- الترغيب بالوعود المعسولة فيما لو أطاعوا ابن زياد.
7- التخويف من الخطر الوهمي القادم من الشام.

ولهذا كان على مسلم رضوان الله عليه اتخاذ خطوات مقابلة ليفسد على ابن زياد حركته، فبدأت مرحلة العمل السري والمتكتم والدقيق وانسحبت مظاهر الولاء التي كانت ظاهرة إلى همهمات وإشارات والخطوات التي قام بها مسلم رضوان الله عليه:

1- نقل مقر إقامته من دار المختار إلى دار هانئ بن عروة لأسباب:

- أن دار المختار قد عرفت واكتشفت من قبل الناس والدولة على حد سواء حينما كانت الجماهير تؤمها لإعلان البيعة لمسلم رضوان الله عليه.


163


- إن الحماية التي كان يوفرها الوالي السابق قد ذهبت بنهايته.
- لأن هانئ بن عروة إضافة إلى قدمه في الإيمان والولاية فهو رجل صاحب جاه اجتماعي وامتداد جماهيري كبير وتعاطف قبائلي لا يستهان به. صحابي هو وأبوه.
- هناك أمر كشف عن تطورات الموقف وهو وجود حالة احترام بين زياد وابن عروة كشف عنها ابن زياد لما علم بوجود مسلم في بيته وذكرها من قبيل ذكر الجميل والفضل على هانئ (ألم تعلم أن زياد قد قتل هذه الشيعة عدا أبيك وعداك!!).

وبالتالي فإن اختيار مسلم لهذه الدار مقراً يعتبر أفضل الخيارات المطروحة أمام سفير الحسين عليه السلام.

2- إصدار أوامر مشددة بالسرية وهذا أمر واضح من خلال بقاء ابن زياد متحيراً لعدة أيام لا يدري كيف يهتدي إلى مكان ابن عقيل حتى تمكن بمسألة الاختراق عبر جاسوسه المحترف معقل.

3- أوامر مسلم بن عقيل رضون الله عليه إلى العناصر البارزة والمكتشفة بالخروج إلى خارج الكوفة وتحديد ساعة صفر معينة لاقتحام القصر على ابن زياد كالمختار ورايته الخضراء وابن عبد الله بن الحارث بن نوفل برايته الحمراء.

4- إعطاءه كلمة السر (يا منصور أمت) للرجال الذين جمعهم في عدة دور في الكوفة مع السلاح.

وهنا يأتي السؤال عن تطور كبير وهو زيارة ابن زياد لدار هانئ ليعود شريك بن عبدالله الهمداني الشخصية الشيعية الكبيرة التي جاءت من جهة البصرة حيث تمارض فأخبر ابن زياد أنه يريد عيادته.

فهنا قال شريك لمسلم رضون الله عليه (لا يفوتنك إذا جلس) ولكن ابن زياد جاء


164


وخرج ولم يخرج إليه مسلم رضوان الله عليه ولم يباغته بسيفه على الرغم من نداءات شريك له:

فما الانتظار بسلمى أن تحيوها      حيّوا بسلمى وحيوا من يحييها

                   كأس المنية بالتعجيل اسقوها

فلماذا لم يخرج مسلم رضوان الله عليه لقتل ابن زياد ولانتهاء تلك المحنة؟؟

1- نراجع أصل الاقتراح لماذا يطلب أساساً من قائد الحركة أن يقوم بهذه المهمة، لماذا لم يقترح شريك وغيره على رجل آخر القيام بهذه المهمة والقضاء على ابن زياد من جهة وعدم إحراج مسلم من جهة أخرى.
2- إن مسلم أجاب بما سأله شريك عن عدم خروجه على ابن زياد بأن ذلك يعود لأمرين:

- كراهية هانئ أن يقتل في بيته (وقيل بل زوجته).
- الحديث الذي سمعه ممن سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

"إن الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن".

3- فإذن هناك سببان أبرزهما مسلم بن عقيل رضوان الله عليه بحيث يؤدي ذلك الى:

- أن يسبب إحراجاً شديداً لهانئ الذي استضافه وخدمه في أحرج الظروف فكيف يقوم بفعل يؤدي إلى إحراج مضيفه.
- عدم إمكانية بقاء مسلم في دار هانئ مستقيلاً ولا يعلم أحد بالتطورات التي تحصل فيما لو قتل ابن زياد هناك.
- التسبب بإحراج موقف هانئ اجتماعياً وقبائلياً بحكم صلاته وعلاقاته وموقعه الاجتماعي. ولكن هل أن هانئ لم يكن بذلك الوعي الذي نمتلكه الآن وننظر من خلاله الأحداث.
- قتل ابن زياد يغير المعادلة بأجمعها.


165


والسبب الآخر الذي منع مسلماً هو الحديث الذي سمعه فإنه سوف يغتال ابن زياد والفتك أهم من الاغتيال وإن كان قد يأتي بهذا المعنى؟.

والواقع أنه لا يوجد إشكال شرعي على اغتيال ظالم كهذا لينتصر به الإسلام وأهله فإذن لا بد أن يكون المانع ذلك هو الأسلوب الأخلاقي للتعامل مع الآخرين أصدقاء كانوا أو أعداء والا يكن في نهج الإسلام ابتداءً الحرب والاعتداء على الآخرين وابن زياد إلى تلك الساعة لم يتحرك ولم يصدر منه شي‏ء.

4- كما أن من المحتمل أنه قرر عدم مصلحة تلك الخطوة أما باجتهاده وتقييمه للواقع، أو لوصية خاصة من الحسين عليه السلام وإلا فلما لا يهرب من المواجهة ولا تعوزه الشجاعة واليأس ولا يعوزه حسن التدبير منعه إلقاء القبض على هانئ. ندائه بكلمة السر (يا منصور أمت) وتوزيع الألوية والإحاطة بالقصر.


التخلص:

ورغم تلك الانتكاسة فقد بقي رضوان الله عليه على ثباته وإصراره ولم يبد للعدو أي خضوع عندما أحيط به في دار طوعة بعد تفرق الناس عنه وهو يرتجز ويقول:

هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع    فأنت بكأس الموت لا شك جارع
‏فصبراً لأمر الله جل جلاله‏                ‏فحكم قضاء الله في الخلق شائع
أقسمت لا أقتل إلا حراً ‏                  وإن رأيت الموت شيئاً نكرا
كل امرئ يوماً ملاقٍ شرا                رد شعاع الشمس فاستقرا


حتى قتل منهم مقتلة عظيمة ولما بعث ابن الأشعث يستمد رجالاً من ابن زياد قال لقد بعثناكم إلى رجل واحد فصنع بكم هذا الصنيع فكيف إذا بعثناكم لغيره


166


يعني بذلك الحسين عليه السلام ولكثرة ما أعياه نزف الدم وبعد أن طعنه رجل برمح سقط وتكاثر عليه القوم فبقي على ثباته وقد شتت شمل دولة ابن زياد في تلك المواجهة الباسلة ومن ثم عاد فمرغ كبرياءه ابتداءً من دخوله عليه ولم يسلم، فهو يقول لمن قال له سلم على الأمير (ما هو لي بأمير).

وعندها قال له ابن زياد بعد محاورة عنيفة: "قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام".

فأجابه: "أما انك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه أما انك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة ولا أحد من الناس أحق بها منك..". ولما أمر به أن يصعدوا به إلى القصر ويقتلوه ويرموا رأسه وجثته، صعد وهو يذكر الله ويكبر ويستغفر ويقول:

"اللهم أحكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وأذلونا..".

ثم وجه وجهه إلى جهة المدينة ورمق السماء بطرفه وانطلقت دمعة من عينه وهو ينظر إلى أهله القادمين من مكة...

ويمكن أن يعرّج على مصيبة دخول السبايا إلى الكوفة ومجي‏ء يتيمته حميدة ولقائها مع طوعة التي قصت لها ما جرى على أبيها وإيراد الشعر المناسب.


167


هوامش

1- راجع: سفير الحسين، للشيخ عبد الواحد المظفر، ص‏149.
2- راجع: كتاب الشهيد مسلم بن عقيل رضوان الله عليه للسيد عبد الرزاق المقرم، ص‏299. كتاب سفير الحسين عليه السلام، للشيخ عبد الواحد المظفر، ص‏145.
3- راجع: كتاب الشهيد مسلم بن عقيل رضوان الله عليه للسيد عبد الرزاق المقرم، ص‏312.
4- خزانة الأدب.
5- الطبري، ابن الأثير، الأخبار الطوال، البحار، إرشاد المفيد..
6- اللهوف، لابن طاووس ويضيف الخوارزمي في مقتله مفصلاً.
7- بحر العلوم، 153 و216.