الليلة السابعة

أبو الفضل العباس إبن أمير المؤمنين عليه السلام

وهذه الليالي تخصص لقمر بني هاشم أبي الفضل العباس إبن أمير المؤمنين‏ عليه السلام.

في هذه الليلة يمكن التحدّث حول موضوعات الأخوة وحقوق الأخوة الإسلامية، وقضاء حوائج المؤمنين، وإصلاح ذات بينهم، إضافة إلى سيرة أبي الفضل عليه السلام والتي لم يزوّدنا بها التاريخ إلا في كربلاء وأجوائها، وأما قبل ذلك فما وصل إلينا قليل، وهي نفس المشكلة التي ستواجهنا في الليلتين الباقيتين 8 و9 حينما نتحدث عن القاسم والأكبر عليهما السلام.


أولاً: قصائد الليلة السابعة

في أبي الفضل عليه السلام روائع من القصائد نذكر أشهر ثلاثة منها:

1- قصيدة السيد جعفر الحلّي رضوان الله عليه ومطلعها1:

وجه الصباح عليّ لي مظلمُ‏           وربيع أيامي عليّ محرّم‏

هذا وقد ذكرنا في مجالس الثانية والثالثة إمكانية الاستفادة من أول 13 بيت من هذه القصيدة، أما إذا أردنا توظيفها في ليلة العباس عليه السلام فعلينا أن نبدأ من الأبيات التي تبدأ بقول الشاعر:

عبست وجوه القوم خوف الموت‏    والعباس فيهم ضاحك يتبسّمُ‏

أو:

ما راعهم إلا تقحّم ضيفهم‏           غيران يعجم لفظه ويتمتمُ‏


195


2- قصيدة الشيخ محمد رضا الأزدي رضوان الله عليه، والتي تبدأ2:

يا للرجال لحادث متفاقم‏             لو حلّ هابطه لدك شمامها

3- قصيدة للشيخ حسون القطفان رضوان الله عليه ومطلعها3:

هيهات أن يجفو السهادُ عيوني‏     أو أنّ داعية الأسى تجفوني‏


ثانياً: العنوان المناسب لهذه الليلة

إذا طرحنا موضوعاً تربوياً أو أخلاقياً فيمكن الاستفادة من الآيات القرآنية الكريمة أو الأحاديث الشريفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام المناسبة لذلك، وأما السيرة (وهي موضوعنا في هذا الكتاب) فيمكن أن نستفيد من بعض الأقوال في حق العباس عليه السلام مثل قول أمير المؤمنين:

"إن ولدي هذا قد زق العلم زقاً".

أو قول الإمام السجّاد عليه السلام:

"لقد كان عمي العباس نافذ البصيرة صلب الإيمان".

أو نأخذ مقاطع من زيارته عليه السلام ونحاول الوقوف عند دروسها وأبعادها.


ثالثاً: البحث


الموضوع الأول الذي يمكن طرحه في الليلة السابعة من محرم:


زيارة الحسين عليه السلام:

أن نأخذ مقطعاً من زيارة العباس عليه السلام، ونمهّد له بذكر بعض الروايات حول زيارة الحسين عليه السلام وبعض آثارها، كمقدمة للموضوع ثم نقف عند مقاطع من الزيارة الشريفة.


196


ورد في زيارة أبي الفضل العباس عليه السلام:

(أشهد أنك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتّبعاً للنبيّين..).

تعتبر مفردة الزيارة، من المفردات الأساسية التي دأب أئمة أهل البيت عليهم السلام، على التأكيد عليها، والحثّ باتجاهها، وذلك ضمن هدف كبير يسعى لربط الأمة بشهداء الطف، وإبقاء تلك الشعلة وهّاجة متّقدة.

ومن تلك التأكيدات، ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام:

"إن إتيان قبر الحسين بكربلاء فريضة على كل من دان له بالإمامة".

وعن أبي سعيد المدائني قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام (الإمام الصادق) فقلت له: جعلت فداك، آتي قبر الحسين عليه السلام، فقال عليه السلام:
"نعم يا أبا سعيد، ائت قبر ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أطيب الطيبين وأطهر الطاهرين، وأبرّ الأبرار".

وعن الإمام الرضا عليه السلام في حوار له مع الريّان بن شبيب:

"يا بن شبيب إن سرّك أن تلقى الله عز وجل ولا ذنب عليك فزر الحسين عليه السلام".

ولم يرد الأئمة عليهم السلام أن تكون زيارة الإمام الحسين عليه السلام، مجرد وقوف على تلك القبور الطاهرة، بل أخذوا عليهم السلام يوضّحون لشيعتهم شروطاً لا بد من توافرها كي يكونوا بمستوى جني ثمار الزيارة، والوصول إلى عطاءاتها وفهم أبعادها...

فعن الإمام الكاظم عليه السلام:

"أدنى ما يُثاب به زائر الحسين عليه السلام بشط الفرات، إذا عرف حقّه وحرمته وولايته، أن يُغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".

ومن جهة أخرى، بيّن الأئمة عليهم السلام لشيعتهم، كيفية زيارة أولئك الشهداء،


197


فكانت النصوص التي ينبغي للزائر أن يوليها اهتمامه، وأن يعيش مفرداتها بما تكتنزه من مفاهيم وأبعاد، عقائدية وفكرية وتربوية.

إن أجواء الزيارة العاطفية، والانفتاح النفسي على شهداء كربلاء، واللهفة في الوقوف على تلك المراقد الطاهرة، توفر أجواءً مثالية في تلقّي الأفكار، وتوغّل المفاهيم التربوية، إلى نفس الإنسان الزائر، وهو يستنطق تلك الأجواء التي تترك أبلغ الأثر وأعمقه، وأقربه إلى الروح والقلب، في زيارة الحسين عليه السلام وبقية الشهداء. وكان لانفراد أبي الفضل العباس بمرقد خاص به عليه السلام، ولمنزلته المميّزة، ومقامه الرفيع قبل ذلك، أن خصصت زيارات بنصوص خاصة، يتلوها الزائر إذا وقف على قبره عليه السلام.

لقد وردت زيارة خاصة بعلي الأكبر عليه السلام وأخرى بالعباس عليه السلام، بعد الزيارة الأساسية للإمام الحسين عليه السلام. في حين أدرج بقية الشهداء في زيارة عامة جمعتهم في مفرداتها وألفاظها...

إذن فقد كان للعباس عليه السلام زيارة خاصة، زاره بها الأئمة من أهل البيت‏ عليهم السلام، وحثّوا على ذلك شيعتهم ومواليهم.

ومن بين تلك الزيارات، كانت زيارة وارث، والتي يقول فيها المحققّون أنها أفضل زيارة يزار بها الإمام الحسين عليه السلام، فيما تعتبر زيارة أمين الله، أفضل الزيارات التي يزار بها الإمام أمير المؤمنين وبقية الأئمة غير الحسين عليهم السلام.

ونقف عند مقطع من مقاطع زيارة العباس عليه السلام التابعة لزيارة وارث:

(أشهد أنك مضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين، ومتّبعاً للنبيّين).

حيث يقف الإمام الصادق عليه السلام ليزور عمّه العباس عليه السلام بهذه الزيارة، ولتقف بعده مسيرة طويلة من زوّاره وشيعته...

(أشهد أنك مضيت على بصيرة من أمرك...)


198


صفة رائعة، وبُعد واضح في شخصية أبي الفضل عليه السلام، أنها صفة الوعي، والوضوح في الموقف. إن العباس عليه السلام لم يندفع الى مواقفه الخالدة في أحداث نهضة الإمام الحسين عليه السلام، من خلال عاطفة الأخوة أو أواصر الأسرة أو دوافع القرابة أو تعصّب القبيلة.

لقد كانت مواقفه عليه السلام منطلقة من وعي عميق، وفهم يضرب في كل شخصيته عليه السلام. فالأزمات المتلاحقة، والمواقف الحرجة المتتالية، لن يثبت في مواجهتها إلاّ من تمحضت البصيرة في نفسه، وتجذّر الوعي في روحه.

إن العباس عليه السلام تلميذ بارز في مدرسة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، رائد الوعي، ورمز البصيرة في مسيرة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إن مواقف العباس عليه السلام الثابتة وإصراره على إكمال المسير، تدل دلالة لا لبس فيها على عمق وعيه وبصيرته.

بعض الناس لا يعرفون عن شخصية العباس عليه السلام إلا جوانب الشجاعة والإقدام والجرأة والاندفاع إلى مواجهة العدو بقوة وشكيمة، وهذا جانب كبير ورائع ولا ينكر في شخصية أبي الفضل عليه السلام حتى لما عُرض لواؤه على يزيد عندما وصل ركب السبايا إلى دمشق، رأى أن السهام قد تركت أثرها على خشبته إلا ما كان منه موضعاً لكفِ العباس، فدهش يزيد وقام وهو يردد: أبيت اللعن يا عباس!!.

إن العباس يتميز بشجاعة هادفة، منطلقة من عمق إيمان وبصيرة واضحة، هذه البصيرة التي انعكست في مواقف عدّة، منها، أنه عليه السلام رفض أمانين عُرضا عليه:

أحدهما: عصر تاسوعاء من قبل خاله عبدالله بن أبي المحلّ الكلابي فردّه ردّاً جميلاً واعتذر لرسول خاله عن قبول الأمان.

والثاني، في يوم عاشوراء، قبل نشوب الحرب، وكان قد تقدّم به الشمر


199


بن ذي الجوشن حينما نادى: أين بنو أختنا، أين العباس وإخوته؟. وهنا سكت العباس وأخوته ولم يردّوا على هذا النداء. فالتفت الحسين عليه السلام إلى أخوته وقال لهم:

"أجيبوه وإن كان فاسقاً".

نعم لقد احتقر بنو علي عليه السلام هذا الصوت اللئيم، وهذا النداء المتهاوي، إنهم أشبال أمير المؤمنين عليه السلام، وإنّ مما يؤلم المؤمن ويوجع المجاهد، أن ينسب إلى أناس لا خلاق لهم من دين أو ورع أو خلق.... نعم المرء يسمو فخراً ورفعة حينما ينسب إلى صالح أرحامه، وخيرة أقربائه... وإن كان كل إنسان مسؤول عن موقفه لا موقف غيره...

وكان قول الحسين عليه السلام:

"أجيبوه وإن كان فاسقاً".

إدراكاً لما من أجله أعرضوا عن ذلك النداء. وأخيراً استجابوا لاقتراح أخيهم الحسين عليه السلام، فقالوا للشمر:

"ما شأنك وما تريد؟".

فقال عليه اللعنة: يا بني أختي انتم آمنون، فلا تقتلوا أنفسكم مع الحسين وادخلوا في طاعة أمير المؤمنين يزيد!!.

لاحظ بُعد المنطقين، واختلاف النهجين، وتناقض التوجّهَين!.

فانطلق العباس عليه السلام من بصيرته ووعيه، وردّ عليه ذلك الردّ الحاسم:

"لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأبناء اللعناء".

إنها ترجمة واضحة للبصيرة، تلك الصفة الرائعة في شخصية أبي الفضل‏ عليه السلام حيث يؤكدها ابن أخيه الإمام زين العابدين عليه السلام بقوله:

"لقد كان عمي العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان".


200


ما أروع هذا الثنائي، وعي عميق، وصلابة في المعتقد!!.

وكان يترجم العباس عليه السلام مواقفه، ويشير إلى ذلك اليقين والبصيرة في تلك المواقف... فلما رفض أن يشرب الماء كان يخاطب نفسه الزكية بقوله:

تالله ما ذاك فعال ديني‏       ولا فعال صاحب اليقين‏

ولهذا اختاره الحسين عليه السلام على رأس المجموعة التي بعثها عصر تاسوعاء، للاستعلام عن نية القوم بعدما زحفوا نحو مخيم الحسين عليه السلام.

ويقف بعض المحققين عند مقطع آخر للزيارة:

(لعن الله أمّة استحلت منك المحارم وهتكوا في قتلك حرمة الإسلام).

وحرمة الإسلام لا تهتك بمجرد قتل الشجاع، وانما تهتك بقتل الأنبياء والأئمة عليه السلام والعلماء ذوي البصيرة والعلم واليقين.

ثم يأتي المقطع التالي من الزيارة، التي اخترناها في مقدمة المجلس:

(وأشهد أنك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتّبعاً للنبيين).

فنقف عند المقطع:

(مقتدياً بالصالحين ومتّبعاً للنبيين).

إن هذا المقطع يأتي مكملاً للمقطع الأول، مقطع البصيرة، فيأتي بعده مقطع الاقتداء والإتباع. إذ يمكن أن نجد واعين متزمتين، معتدّين بأنفسهم، لا يرون أحداً أهلاً للإقتداء به.

كما يمكن أن نجد في المقابل أناساً متّبعين للآخرين ومقتدين بالصلحاء، ولكن رصيدهم من الوعي قد يكون متواضعاً.

فما أروع أن تمتزج البصيرة مع الاقتداء الواعي والهادف.


201


إن القرآن الكريم أكّد على هذه المفردة التربوية، حينما دعا عموم المسلمين إلى الاقتداء برسول الله، والأتباع له صلى الله عليه وآله وسلم:

﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةً حَسَنَة 4.

ومن كتاب لأمير المؤمنين عليه السلام إلى واليه على البصرة، عثمان بن حنيف:

"ألا وأن لكل مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضي‏ء بنور علمه....".

إن الإمام الصادق عليه السلام حينما يؤكد على هذه الصفة في شخصية أبي الفضل عليه السلام، فإنما يريد عليه السلام أن يوحي إلى الزائرين أهمية هذه الخاصيّة، وعظمة هذا السلوك، نعم إنها دعوة لأن نقتدي بالنبي ‏صلى الله عليه وآله وسلم‏ وآله الطاهرين عليهم السلام والصالحين من العلماء والمؤمنين.

إن من مشاكل الجيل المعاصر، غياب النموذج المتّبع، والقدوة المقتداة. وبمن اقتدى العباس عليه السلام، ومن هم الصالحون؟. أما الأنبياء فقد كانوا حاضرين في شخصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي جعلها العباس أمامه للاقتداء والسلوك.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاضراً وبشكل بارز في مواقف العباس، ومنها قوله عليه السلام لما قطعت يمينه:

والله إن قطعتمُ يميني‏ ‏        إني أحامي أبداً عن ديني‏
وعن إمامٍ صادق اليقينِ      نجل النبي الطاهر الأمين‏


أما الصالحين، فرموزهم والمبرزين منهم، علي وجعفر والحمزة عليهم السلام. اقتدى بأبيه علي وجهاده واستماتته في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وها هو العباس اليوم يدافع عن سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. واقتدى بجعفر حيث قطعت يداه كما قطعت يدا جعفر بن أبي طالب عليه السلام يوم مؤتة. واقتدى بالحمزة، حين راح شهيداً وحزّ رأسه.


202


فنال بذلك منزلة يقول عنها الإمام زين العابدين عليه السلام:

"إن لعميَ العباس منزلة، يغبطُهُ عليها جميع الشهداء".


التخلص:

ويوم عاشوراء يقف العباس ليقدم أخوته للحرب، وهم عبدالله وعثمان وجعفر، كما وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وقد تقدم علي وحمزة وعبيدة بن الحارث...

إقتداء وإتباعاً للنبيين...

وكان العباس عليه السلام يناديهم:

"تقدّموا يا بني أمّي حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله".

لاحظ الوعي، أنه يريد من أخوته، من أشقّائه، أن يترجموا إيمانهم مواقفاً وشهادة ودماً...

ثم التفت بعد ذلك إلى أخيه عبد الله وكان أكبر من عثمان وجعفر...

وقال له:

"تقدّم يا ابن أمّي حتى تُقتل واحتسبك".

وهكذا برزوا وقاتلوا بين يدي أخيهم أبي الفضل حتى استشهدوا:

أفدي قرابين الإله‏             مجزرين على الفرات
خير الهدايّة أن يكون ال     هدي من زمرِة الهداةِ
من بعدِ ما قضوا الصلاة      قضوا فداءً للصلاةِ


كم نحن مغبوطون بالانتماء إلى هذه المدرسة المعطاء مدرسة عاشوراء، مدرسة الحسين عليه السلام وشهداء كربلاء!!.

ثم إن العباس عليه السلام لم يطق صبراً بعد قتل أخوته وأبناء عمومته، فوقف أمام أخيه الحسين عليه السلام يستأذنه في الذبّ عنه ومواجهة الظالمين.


203


وراحت كلماته تصل إلى مسامع الإمام الحسين عليه السلام:

"لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين وأريد أن آخذ ثاري منهم...".

فأجابه الحسين عليه السلام:

"أنت صاحب لوائي، وقائد عسكري... فاطلب لهؤلاء الصبية شيئاً من الماء".

فذهب إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار، فلم ينفع معهم الوعظ فرجع إلى أخيه عليه السلام، فسمع الأطفال ينادون:

"العطش العطش..".

عرف المواعظ لا تفيد بمعشر        صمّوا عن النبأ العظيم كما عموا

ودّع أخاه الحسين عليه السلام، وأخذ قربة الماء، وامتشق حسامه وتقدّم نحو الفرات، وجالد القوم حتى أزاحهم عن الفرات، وركز رايته على المسنّاة، ثم دخل إلى الفرات وملأ القربة ماءً، واغترف ماء بيده ولكنه رمى الماء ولم يشرب... نعم لم ينس الحسين عليه السلام وأطفال الحسين عليه السلام (على بصيرة من أمرك..).

يقول الإمام الصادق عليه السلام:

"كان قلب عمّي العباس كصالية الجمر من الظمأ".

الله أكبر ومع كل ذلك لم يبلّ حتى شفتيه اليابستين...

ثم رمى الماء من يده وراح يجالد القوم...

لا أرهب الموتَ إذا الموتُ زقا        حتى أواري في المصاليت لقى‏
إني أنا العباس أغدو بالسقا          ولا أهاب الموت يوم الملتقى


‏واعصوصب عليه القوم، حتى قطعوا يمينه ويساره، ورضخوا رأسه بعامود من حديد..

"وا سيداه وا حسيناه..".

وسمع الحسين عليه السلام استغاثة أخيه العباس...


204


ومشى لمصرعه الحسين وطرفه ‏    بين الخيام وبينه متقسّمُ‏
قد رامَ يلثمه فلم يرى موضعاً        لم يدمه عضّ السلاح فيلثمُ‏


وأحس العباس عليه السلام بحركة عند رأسه، فقال:

"يا هذا أقسم عليك بمن تعبد، إلاّ ما تركتني فواق ناقة".

فقال الحسين عليه السلام:

"ما تصنع بها؟".

فقال العباس عليه السلام:

"حتى يأتي إليّ أخي وابن والدي، أودّعه ويودعني وأشمّه ويشمّني".

فقال الحسين عليه السلام:

"أنا أخوك عند رأسك...".

ورفع الحسين عليه السلام رأس العباس وتركه في حجره وهو يصرخ:

"أخي عباس.... الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوّي..".

وإذا بأبي الفضل عليه السلام يعيد رأسه إلى التراب، فأعاد الحسين عليه السلام رفع الرأس، فإذا العباس عليه السلام يعيده مرة أخرى إلى الأرض...

فقال له الحسين عليه السلام:

"أخي مالي كلما تركت رأسك في حجري أرجعته إلى التراب؟".

فقال العباس عليه السلام:

"الآن تضع رأسي في حجرك، ولكن بعد ساعة من يرفع رأسك من التراب ليضعَهُ في حجره؟".

يا لله يا للمواساة، يا للإخاء!!


205


الموضوع الثاني الذي يمكن طرحه في الليلة السابعة من محرم:


حركة الحسين عليه السلام ووضع الأمة آنذاك:


نتطرق في هذا البحث إلى موضوع عام يرتبط بحركة الحسين عليه السلام ووضع الأمة آنذاك وهو بحث يمكن أن نستفيد منه في أكثر من ليلة من ليالي عاشوراء، وفي آخر المجلس يمكن للخطيب أن يعرّج على أي مصيبة من مصائب الطف، بما يمتلك من حسن تخلّص، ولهذا عرّجنا في آخر هذا المجلس على مصيبة أبي الفضل عليه السلام، وإلا فإن أصل المجلس هو أمر آخر.

قال سيد الشهداء عليه السلام:

"ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً".

النص المبارك من النصوص والوثائق المعروفة والمشهورة بين نصوص ووثائق الثورة الحسينية، وقراءة سريعة في تلك النصوص توضح معالم الوعي والتشخيص المبكر الذي عرفت به الثورة بشخص قائدها الإمام الحسين عليه السلام والثلة الواعية المخلصة من أهل بيته وأصحابه.

وهذا المقطع من خطاب الحسين عليه السلام حينما وصل كربلاء يكشف حالتين مترتبتين: الأولى، مدى الانحراف والتشويه الذي أحدثه الأمويون لمعلم مهم من معالم الإسلام وهو ما يدعى أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، والباطل الذي عم الأمة، والحالة الثانية هي أن نتيجة الوعي والعمل بهذا المعلم المهم يؤدي إلى الشهادة.

فمن يعي ويكتشف الأمر ويتخذ مواقفه وفقاً لذلك الوعي والتشخيص ينبغي عليه أن يدفع ضريبة التشخيص المبكر هذا، فهناك علاقة جدلية بين المرحلتين، مرحلة تشخيص ووعي حالة الأمة وتشخيص ما تدفع حالة الوعي تلك.


206


وهكذا نجد إن الواعين هم في مقدمة الضحايا، (فيستشهد الواعون والأمة تقف متفرجة عليهم) فالتضحية في كل مجتمع هي ضريبة الوعي، والحسين‏ عليه السلام كان عالماً بهذه النتيجة، التي ستؤول إليها حركته ونهضته ولكنه‏ عليه السلام علم بنفس الوقت أنه لا سبيل لإنقاذ أمة جده صلى الله عليه وآله وسلم وعودة الحياة إليها وشيوع الوعي فيها إلا بسفك دمه الطاهر ودماء الصفوة المنتجبة معه.

وفي خطبة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام وهي من خطب النهج يشرح فيها وضع الأمة ويستقرئ أفق المستقبل المظلم الدامي لحكم بني أمية وأثر فتنتهم الخطيرة على الإسلام وأهله:

"عمت خطتّها وخصّت بليتها".

فالانحراف والفساد يعم الأمة ولكن البلاء يخص الواعين من أبناءها ويوضح ذلك عليه السلام في مقطع آخر:

"وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها".

يا له من تشخيص دقيق وواعٍ فالبلاء يكون حصة أهل البصيرة والوعي الذين يقودهم وعيهم لقول كلمة الحق واتخاذ موقف الحق وأما الغافلون من الناس اللاهون ذوو الهموم الشخصية والدنيوية الزائلة فالبلاء بعيد عنهم ولكن الويل لهم إذا تسرب اليهم الوعي وشملتهم حالة التشخيص.

فإذا ما كانت النفوس كباراً       تعبت في مرادها الأجسام‏

لقد واجه الإمام الحسين عليه السلام منذ بداية تحركه في رفضه لبيعة يزيد ضغوطات من قبل الناصحين والمشفقين عليه والمحبين له كأخوته الأطرف وابن الحنفية وابني عمه عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس.. والذي يجمع مجمل أقوالهم أنهم قد شخصوا حالة وسمة من سمات ذلك المجتمع عليه السلام تتلخّص في قساوة الحكم الأموي وتخاذل الناس عن الحسين عليه السلام.


207


والحسين عليه السلام لم يكن هذا الأمر غائباً عنه بل أكّده في أكثر من مناسبة ومناسبة.

1- فلما خرج من مكة عليه السلام خطب:

"خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف... كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات".

2- في الطريق إلى كربلاء قال عليه السلام لأبي حمق الأزدي:

"إن هؤلاء أخافوني وهذه كتب أهل الكوفة وهم قاتليّ فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا لله حراماً إلا انتهكوه بعث الله إليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذل من فرام المرأة".

3- وقال عليه السلام يوصي عياله يوم عاشوراء:

"استعدوا للبلاء واعلموا أن الله حافظكم ومنجيكم من شر الأعداء ويعذب أعدائكم بأنواع البلاء".

إذن ما شخصه الآخرون لم يكن بغائب عن الحسين عليه السلام كيف وإن كان من لقيهم الحسين عليه السلام في طريقه إلى كربلاء كانت تتفق كلمتهم المقالة التي أمست معروفة (قلوبهم معكم وسيوفهم عليكم) وبما أن الحسين عليه السلام كان مستحضراً لتوقعات ابن عباس خاصة لأنه رجل ذو خبرة وتجربة غنية ولهذا يذكر المؤرخون أن الحسين عليه السلام يوم عاشوراء كان يقول:

"لله در ابن عباس كان ينظرمن ستر رقيق".

وكان ردّه على الجميع:

"لا يخفى عليّ الرأي".

إن كل تلك النصائح كان مصدرها الخوف على الحسين عليه السلام من أن يقتل كشخص له موقعه في نفوس الناس وفي القربى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم


208


والحسين‏ عليه السلام أراد أن يوضح لهم أن الدين أعزّ من شخصه عليه السلام الدين الذي ضحى من أجله جده صلى الله عليه وآله وسلم وأبوه عليه السلام وأخوه عليه السلام وينبغي هو عليه أيضاً أن يأخذ دوره في التضحية وهي تضحية متميزة جداً.

الحسين عليه السلام أراد أن يوضح لهم أن حرمة الإسلام وروحه ومفاهيمه وقيمه في خطر..

إن تشخيصهم الأول كان صحيحاً وهو انه سوف يقتل وكان عليه السلام يقول لشيخ من بني عكرمة في بطن العقبة:

"لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي".

ولكنهم لم يكونوا يتصورون أن تأثير دمه سيبلغ ما بلغ فلم يكن في خلد ابن عباس أو ابن الحنفية أو ابن جعفر والآخرين أن الحسين عليه السلام سيحيا بكل هذا الخلود وهذا العطاء وسيكون لحركته تلك التي أجحف بها المسلمون فلم ينصروها ولم يؤدوا حقها التأثير الذي بدأ من ظهر يوم العاشر ولا يعلم إلى من أو إلى أين أو إلى متى سيبلغ مداه.

لم يكونوا بذلك المستوى من الوعي المبكر والتشخيص المسبق الذي عليه الحسين عليه السلام.

فقد أدرك أهل المدينة بعد عام بعض ما كان يدركه الحسين عليه السلام، ولما شكلوا وفداً للإطلاع على أحوال حكومة بني أمية في دمشق فاطلعوا على أمور كانوا عنها غافلين فلما رجعوا صرح عبد الله ابن غسيل الملائكة حنظلة بأنه جاء من عند أكفر الناس وأفسقهم.

خرج الحسين عليه السلام من المدينة ليس معه إلا أهل بيته وقلّة قليلة من غلمانه وأنصاره... فأين كانت هذه الروح الجهادية وأين كانت هذه المواقف الواعية عن اللحوق بحركة الحسين عليه السلام نعم إن ثورة المدينة ما وصلت إلى ما وصلت إليه من نضج ووعي وتشخيص لولا حركة الحسين عليه السلام فهي الثورة السبّاقة.


209


لقد أرجع الحسين عليه السلام بتضحيته الحياة إلى مفاهيم الإسلام ومسؤولية الإنسان المسلم ودوره في المجتمع، لقد عرّف الحسين الناس أنه في الإسلام قوة الانقضاض على الظلم والانحراف، وأن هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والمغتصبين الموقع الإلهي يجب على الأمة مجاهدتهم:

"ألا إن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وعطلوا الحدود واستأثروا بالفي‏ء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله".

ولهذا صبغت كل الانتفاضات على الأمويين بصبغة الإسلام وصبغة الدين، لأن الحسين عليه السلام أوضح للأمة مفهوم أهل الدين ومن هم المبتزين عقيدة الأمة ودينها.

والله أعلم لولا ثورة الحسين عليه السلام لكان يمكن أن تجد في تاريخ تلك الفترة نهضات تدعو إلى الثورة على الإسلام كدين، لأن الناس كانت ترى الإسلام الأموي، ولا سيما تلك الشعوب التي دخلت في الإسلام حديثاً.. ثورة الخرسانيين مثلاً على الأمويين لولا دماء الحسين عليه السلام ونهج الحسين عليه السلام كان المتوقع منها أن تكون ثورة على هذا الدين الذي أوصل الأمويين إلى الحكم.

ولأن الحسين عليه السلام شخّص وضع الأمة وشخّص العلاج فإنه عليه السلام كان يسعى لأن يوسع من دائرة تأثيره ولأن تساهم حركته في مزيد من الوعي وتحريك حالة الركود والاستسلام التام والخانع للمخطط الأموي الجاهلي...

ولهذا كان يرفض كل أمر يؤدي إلى التكتم على ثورته وإخفاء حركته.

1- نراه يرفض أن يحيد عن الطريق الأعظم في خروجه من المدينة إلى مكة كما فعل ابن الزبير قبله.
2- نراه عقد في مكة اجتماعين في كل يوم يلتقي فيهما الحجاج والمعتمرين موضحاً لهم سنّة جده صلى الله عليه وآله وسلم التي خالفها الأمويون.


210


3- أرسل رسله إلى أهل البصرة.
4- خطاباته ولقاءاته مع أهل المياه والآبار من العرب.
5- ولم ينس ذلك حتى يوم عاشوراء عبر خطاباته.

ولقد كان من أروع النتائج المترتبة على مرحلة السبا المؤلمة هيجان المسلمين وانتباههم من نومتهم واستيقاظهم من غفلتهم، والحسين عليه السلام إنما اصطحب الحوراء عليها السلام معه لأنه كان عارفاً بوعيها و:

"أنها عالمة غير معلّمة".

وما مقالتها عليها السلام أمام طاغية الكوفة عبيد الله بن زياد حينما سألها كيف رأيت ما صنع الله بأخيك والعصاة المردة من أهل بيتك؟. قالت عليها السلام:

"ما رأيت إلا جميلاً".

إلا تدليلاً واضحاً على عمق الوعي الذي كانت تحمله.

وكان عليه السلام يختار الواعين من أصحاب المهمات لإيقاظ الناس وبث الوعي فيهم ومحاولة توسيع رقعة المشاركين من الأمة في نهضته وكانت عملية التوعية والتنبيه ومحاولات بث الوعي والشعور بالمسؤولية الدينية مستمرة إلى يوم عاشوراء، فالحسين عليه السلام مع تيقّنه من الشهادة خاصة بعد ما تجمعت جيوش الأمويين يوم عاشوراء نجده يبادر إلى مخاطبة القوم خطبتين في يوم عاشوراء قبل بداية الحرب، ثم نراه يأذن لمن أراد الكلام من أصحابه ليبثوا الوعي في تلك الجموع التي خرجت لحربه فخطب برير بن خضير الهمداني، ثم زهير بن القين البجلي، وخطبهم الحرّ بن يزيد الرياحي بعد توبته وأما من أهل بيته، فإن الوحيد الذي خطب قبل استشهاده كان أبو الفضل العباس عليه السلام.


211


التخلص:

ولكن أرباب المقاتل لم ينقلوا لنا تفصيلات خطاباته أو مقاطع من بياناته، وهو ابن سيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين عليه السلام، نعم اقتصروا في قولهم، فذهب العباس إلى القوم وخطبهم وحذرهم غضب الجبار، لكنه عليه السلام لم يجد أي استجابة من تلك النفوس التي طبعت على معصية الله ورسوله، ولم تنفع مواعظه في قلوب ران عليها النفاق، وعيون لا تبصر الحق، وآذان لا تسمع الحق ونداءه، ورحم الله الشاعر وهو يمتدح العباس عليه السلام بقوله:

عرف المواعظ لا تفيد بمعشر          صموا عن النبأ العظيم كما عموا
فانصاع يخطف بالجماجم والكِلا        والسيف ينثر والمثقف ينظمُ‏


ثم قال الشاعر:

أو تشتكي العطش الفواطم عنده‏       وبصدر صعدته الفراتُ المفعمُ‏

فأخذ العباس عليه السلام قربته وقد تعلقت به قلوب الفواطم وأرواح الأطفال ينتظرون عودته ولهذا فإنه عليه السلام لما صرع على رمضاء كربلاء مقطوع الشمال واليمين وجاءه الحسين عليه السلام يريد إرجاعه وحمله إلى المخيم اعتذر إليه العباس عليه السلام:

"إني كنت قد وعدت سكينة بالماء وأني والله لمستحٍ منها".

ثم الشعر المناسب والمطلوب.


الموضوع الثالث في زيارة أبي الفضل العباس:

ورد في زيارة أبي الفضل العباس عليه السلام:

(أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة...).


212


كان من المتوقع أن يخفّ وهج الجانب العاطفي في نهضة الإمام الحسين‏ عليه السلام شيئاً فشيئاً مع تقادم الأيام والليالي، وكرّ العصور والدهور، وهذا الجانب يعتبر من أبرز جوانب هذه النهضة المباركة، ومن أشدّها شدّاً للأمة وجذباً وجدانياً لها تجاه واقعة من أكثر وقائع الإسلام مناغاةً للقلب ومحاكاةً للروح ولهفةً للنفس.

إن وقائع التاريخ الإسلامي لو تأملناها، لوجدنا أنها إما وقائع تضمنت مواقف بطولية لا يبرز فيها الجانب العاطفي إلا بشكل بسيط وعَرَضي، مثل واقعة بدر والأحزاب وفتح مكة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أو الجمل وصفين والنهروان مع أمير المؤمنين عليه السلام.

وأما وقائع وأحداث فيها مظلومية وألم، ولكنها لا تختزن بُعداً جهادياً وروحاً للإقدام والفداء، مثل واقعة أحد وآثارها الحزينة استباحة المدينة في واقعة الحرَّة.

لكننا نجد في واقعة كربلاء أن كلا الجانبين حاضرين بشكل لافت وواضح.

ولهذا فإننا نؤكد على الجانب العاطفي واذكائه، وأهميته في شدّ الأمة إلى نهضة كربلاء الخالدة في الوقت الذي لا نريد أن نغفل جانب الإباء والاقدام والجهاد.

ونعود إلى ما ذكرنا في أول المجلس، أن هذا الجانب العاطفي الأخّاذ في واقعة الطف كان مهدداً بالضمور أو التناسي مع ابتعاد الأمة زمنياً عن عاشوراء عام 61ه.

ولكن أئمتنا عليهم السلام عملوا بجهود جبارة واصرار متواصل وحثّ أكيد عبر توصياتهم وتوجيهاتهم لأصحابهم ولشيعتهم، بالاجتماع وإقامة مجالس عزاء الحسين عليه السلام وقول الشعر فيه عليه السلام.

كما أنهم يحثون مواليهم على زيارة قبور الشهداء بكربلاء، وبأوقات ذات بعد


213


عبادي مثل أول رجب ومنتصفه، ومنتصف شعبان، وليالي القدر في شهر رمضان، وليلة عرفة ويومها، وليلة عيد الفطر ويومه، وكذلك بالنسبة ليوم الأضحى، إضافة إلى الزيارة الأبرز في عاشوراء ثم زيارة الأربعين. بل يستحب زيارته عليه السلام في كل آن ليلاً أو نهاراً.

والملاحظ أنّ النصوص الواردة في زيارات الإمام الحسين عليه السلام المخصوصة أو المطلقة جاءت بأربعة مقاطع، المقطع الأول زيارة الإمام الحسين عليه السلام المقطع الثاني زيارة علي الأكبر المقطع الثالث زيارة الأنصار من الهاشميين وغيرهم، والمقطع الرابع: هو زيارة أبي الفضل العباس عليه السلام.

والملاحظة الثانية أن الزيارات الواردة اختصرت زيارتي الأكبر عليه السلام والشهداء في حين أنها قد أفاضت في زيارة الإمام الحسين عليه السلام وزيارة أبي الفضل العباس عليه السلام. حيث ازدحمت المعاني والمفاهيم والقيم التي بثّها الأئمة عليهم السلام في نصوص الزيارات لاشباع الجوانب العقيدية والتربوية والأخلاقية والإيمانية التي أرادوها عليهم السلام من وراء هذه النصوص، وإلاّ كانت الزيارة مجرّد وقوف على القبور الطاهرة وتأمّلٍ لمواقفهم دون نصّ أو برنامج خاص.

لقد كان أبو الفضل العباس عليه السلام أبرز شخصية في الأنصار وشهداء كربلاء بعد الإمام الحسين عليه السلام مباشرة، فقد كان أكبر هاشمي يوم الطف وعمره أربع وثلاثون سنة.

وأمه فاطمة ابنة حزان العامرية، وذهب بعض المؤرخين أنها الزوجة الأولى لأمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام. وقال آخرون أنها الثانية حيث تزوج عليه السلام بأمامة بنت زينب بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم. وللعباس ثلاثة أخوة هم عبد اللَّه وجعفر وعثمان.

ونعود إلى أصل المجلس، حول زيارات العباس عليه السلام التي حظيت بأوسع مساحة بعد زيارات الإمام الحسين عليه السلام دون بقية شهداء الطف.


214


وهذا المقطع يبدأ بشهادة يؤديها إمام معصوم، وهو الإمام الصادق عليه السلام. وهي شهادة منطلقة من سليل النبوة والإمامة الذي يسأله ذات يوم رجل فيقول: ما رأيك يا بن رسول اللَّه في كذا؟ فيقول له عليه السلام:

"أتسألني عن رأي وإنما أحدثك بحديث جدي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم".

يقف الإمام الصادق عليه السلام على قبر عمّه العباس عليه السلام ليزوره بهذه الزيارة، ويشهد له بتلك الصفات التي وجدت أفضل مصداق لها بين أنصار الحسين‏ عليه السلام متجسداً في أبي الفضل عليه السلام:

"أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة...".

لقد حفل هذا النص المبارك بأربعة أوسمة وسمّها الإمام الصادق عليه السلام لعمه العباس عليه السلام فيقول عليه السلام: أشهد لك بالتسليم.

إن التسليم هو الانقياد ولكن أي انقياد، إنه انقياد الوعي والبصيرة وعمق الفهم، إنه التسليم كمفهوم مرتبط بالإسلام، بدين اللَّه تعالى الذي تلخص جميع مفاهيم هذا الدين في ربط الإنسان فرداً كان أو مجتمعاً باللَّه تعالى، إنه مفهوم التسليم للَّه والاذعان لأوامره ونواهيه، والانقياد الواعي لتشريعات السماء. التي فيها خير هذا الإنسان في الدنيا وسعادته في الآخرة.

ونرى في العباس عليه السلام كيف قد يتجسد التسليم لأخيه الحسين عليه السلام لأنه يرى فيه أمامه ومن يقتدي به:

إني أحامي أبداً عن ديني‏       وعن إمام صادق اليقين

‏فيوم السابع من المحرم هو خامس يوم بعد نزول ركب الحسين بكربلاء، وقد ضُيّق على أهل البيت عليهم السلام ومنعوا من ماء الفرات الذي يرونه أمام أعينهم كأنه بطون الحيّات في انحداره، التفت الحسين عليه السلام إلى أخيه أبي الفضل عليه السلام وأمره أن يأخذ القرب ومعه ثلاثون فارساً وعشرون راجلاً، لكي يملأوها ماءً لنساء أهل البيت وأطفالهم الذين أضرّ بهم العطش.


215


فلما قاربوا النهر صاح فيهم عمرو بن الحجاج الزبيدي الذي وكّله عمر ابن سعد بحفظ جهة الفرات ومنع الماء عن معسكر الحسين عليه السلام من هناك؟

فأجابه نافع بن هلال الجملي: "أنا نافع جئنا لنشرب من هذا الماء الذي ملأتموه عنا".

فقال: "اشرب وارجع".

فقال نافع: "لا واللَّه لا أشرب قطرة والحسين وآله وصحبه عطشى".

دنا نافع يحمل راية هذه المجموعة التي خرجت تحت قيادة العباس عليه السلام الذي أصدر عليه السلام أمره فاشتغل بعض الذين معه بالهجوم على القوم، وآخرون بملأ القرب والعباس عليه السلام يتقدم المقاتلين، حتى أزاحهم عن المشرعة وملأوا القرب ماءً وعادوا موفورين إلى مخيم الحسين عليه السلام.

ويذكر ... أن تخصيص اليوم السابع من المحرم لأبي الفضل عليه السلام هو لهذه الخاصيّة.

وفي يوم عاشوراء وبعد أن نشبت المعركة وسقط خمسون شهيداً من أنصار الحسين عليه السلام أخذ الرجلان والثلاثة والأربعة يبرزون حتى أكثروا القتل في معسكر ابن زياد.

(وخرج عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه وجابر بن الحارث السلماني ومحمد بن عبد اللَّه العائذي، وشدّوا بأجمعهم على أهل الكوفة، فلّما أوغلوا فيهم عطف عليهم الناس من كل جانب وقطعوهم عن أصحابهم، فندب لهم الحسين عليه السلام أخاه العباس فاستنقذهم بسيفه، وقد جرحوا بأجمعهم).

وأبرز ما يتضح فيه تسليم أبي الفضل عليه السلام صبره عن النزول إلى المعركة يوم عاشوراء مع كثرة التقى من أهل بيته وأنصار الحسين عليه السلام، وهو يقول للحسين عليه السلام:

"ائذن لي أريد أن أشفي صدري من هؤلاء المنافقين".


216


والحسين عليه السلام يقول له:

"أنت حامل لوائي وقائد عسكري".

نعم لقد كان العباس عليه السلام في مواقفه يجسد مفهوم (التسليم) بأروع صوره وأبهاها. ولهذا كان الحسين عليه السلام حريصاً يوم الطف.


المفهوم الثاني الذي ذكره النص الشريف في زيارة العباس عليه السلام:

"أشهد لك التسليم والتصديق...".

وهنا تأتي صفة رائعة أخرى توضح مفهوم التسليم السالف الذكر وتعمّقه في ابراز بعض خصائص ومواصفات شخصية أبي الفضل عليه السلام.

إذ قد يكون الجندي في ساحة الحرب متصفاً بصفة التسليم والانقياد والطاعة لقائده في المعركة "هل أن كل جندي منقاد لقائده وزعيمه يكون مؤمناً في قلبه بحيث يكون موقفه في القتال منسجماً مع قناعاته الداخلية وإيمانه الذي ينعقد عليه فكره وعقله وقلبه؟".

نعم فرق كبير بين من يتصف بالتسليم مع الصدق والإيمان والقناعة وبين من يتصف به دون ذلك.

ولهذا ركّز الإمام الصادق عليه السلام على هذا البعد في زيارة عمه العباس عليه السلام "التصديق" وهذا مبدأ قرآني في ابراز صفة المؤمنين، قال تعالى:

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ.

فالصدق في الآية جاء من اجتماع الإيمان مع التصديق وهو معنى قوله تعالى:

﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا.

مع الجهاد في سبيل اللَّه تعالى.

ولهذا ورد في العباس روايات توضح بُعد التسليم النابع عن التصديق من خلال ما اكتسب من علم ووعي.


217


فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام وهو يشير إلى ولده العباس:

"إنّ ابني هذا قد زُق العلم زقّا".

ثم جاءت الصفة الثالثة والرابعة.

"التسليم والتصديق والوفاء والنصيحة".

صفة ثالثة في أبي الفضل هي صفة الوفاء، وأي وفاء جسّده قمرُ العشيرة يوم كربلاء لقد رفض العباس عليه السلام كل محاولات ثنيه عن نصرة أخيه الحسين‏ عليه السلام، حيث لم يتأثر بوعود الأعداء التي جاءت إليه وإلى إخوته فردّهم وبقي على وفائه والتصاقه بركب الحسين عليه السلام.

وكان العباس ملاصقاً لأخيه الحسين عليه السلام في كل تحركاته، فلما كان الحسين عليه السلام يخرج لعدة ليال في كربلاء لحوار عمر بن سعد ومناقشته كان يأخذ معه أخاه العباس عليه السلام على رأس جماعة من أهل بيته وأصحابه.

وفي عصر عاشوراء لما اقترب القوم من معسكر الحسين، التفت عليه السلام إلى أخيه العباس قائلاً له:

"اركب بنفسي أنت حتى تلقاهم، واسألهم عمّا جاء بهم وما الذي يريدون".

فركب العباس في عشرين فارساً فأخبروهم أنهم جاؤوا لتخييرهم بين النزول على حكم ابن زياد أو الحرب، فرجع العباس عليه السلام إلى الحسين عليه السلام ليخبره بما جاء به القوم، ثم رجع العباس إليهم لينقل إليهم قول الحسين عليه السلام بأن يمهلوهم إلى صباح يوم عاشوراء...

وفي عاشوراء نجد الحسين عليه السلام يعطي رايته لأخيه العباس، ولم يجد غيره مؤهلاً لحمل هذه الراية.

فلما خطب الحسين خطبته الأولى، وسمعت النساء مقالته، بكين وارتفعت


218


أصواتهن بالنحيب، فالتفت الحسين عليه السلام إلى أخيه العباس وابنه علي وقال لهما:

"سكتاهنّ‏َ فلعمري ليكثر بكاؤهن".

إلاّ أن الملاحظ أن من كتبوا حول حالة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء كانوا يصفونه بالثبات والجرأة والقوة، ولم يسجّل أحد منهم أنه عليه السلام بكى على رغم تلك المصائب التي تزول لأقلها الجبال الراسيات. إلاّ مرة واحدة، نعم مرة واحدة سجلتها كتب المقاتل وأرباب السيّر، وهذه المرّة هي حينما رجع الحسين‏ عليه السلام من مصرع أخيه العباس وهو بتلك الحالة، منحني الظهر ينادي:

"الآن انكسر ظهري..".

فتلقته النساء وسألنه عن العباس فلما أخبرهن ارتفعت أصواتهن بالبكاء وقلنا:

"واضيعتنا بعدك".

وبكى معهن الحسين عليه السلام وقال:

"واضيعتنا بعدك".

نعم بكى معهنّ الحسين عليه السلام وردّد معهن مقالتهن في تأبين أبي الفضل‏ عليه السلام.

أأخي من يحمي بنات محمدٍ        إن صرنّ يسترحمن من لا يرحم‏

ولقد أجاد الشاعر بقوله:

أحقُ الناس أن يُبكى عليه‏          فتىً أبكى الحسينَ بكربلاءِ

ولخطيب المنبر الحسيني اشباع كل فقرة من فقرات مصيبة أبي الفضل‏ عليه السلام لتوافر الشعر الجيّد والمتنوع في تأبينه.


219


هوامش

1- راجع الرياض، ص‏239، والدّر، ص‏287.
2- الدرّ، ص‏274 - الرياض، ص‏116.
3- راجع الدر، ص‏315.
4- الأحزاب: 21.