الليلة الثامنة

القاسم إبن الحسن عليه السلام

وهو أحد أربعة أبناء للإمام الحسن عليه السلام قتلوا يوم عاشوراء مع عمّهم الحسين عليه السلام استشهد ثلاثة منهم ونجى الرابع وهو الحسن إبن الحسن عليه السلام ومنه جاءت ذرية الحسن عليه السلام.

أولاً: قصائد الليلة الثامنة

لقد ترك شعراء الطف قصائد رقيقة في القاسم عليه السلام نختار ثلاثة منها:

1- قصيدة للسيد صالح الحلي رضوان الله عليه ومطلعها1:

يا دوحة المجد من فهر ومن مضرِ    قد جفّ ماء الصبا من غصنك النضر

2- قصيدة للشيخ قاسم محيي الدين رضوان الله عليه ومطلعها2:

من مثلهُ بين البرية محتداً           ضربت به أعراقه لمحمد

3- قصيدة للسيد مهدي الأعرجي، رضوان الله عليه، ومطلعها3:

لا تركنن إلى الحياة                  إن المصير إلى المماتِ‏


ثانياً: العنوان المناسب لهذه الليلة

وهي الليلة المخصصة لشاب من شباب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو القاسم بن


221


الحسن‏ عليه السلام كما سبق بيانه وهي ليلة خصبة لبحث موضوعات حول التربية، والأسرة واليتم، ودور الأم، وغيرها من العناوين التربوية والأخلاقية.

أما بالنسبة للسيرة فإننا سنواجه بقلة ما بين أيدينا من المصادر التي تحدثنا عن سيرة القاسم ومواقفه، لأنه شاب لم يبلغ الحلم، وكانت أضواء عمّه الحسين‏ عليه السلام، هي المسيطرة على ما نقلته المصادر التاريخية.

فلا نجد ذكراً للقاسم إلا موقف له ليلة عاشوراء وموقفه حينما برز للقتال ثم الشهادة ولهذا فإننا نجد أنفسنا مضطرين لبحث موقف أبيه الإمام الحسن‏ عليه السلام وأثر صلحه مع معاوية على نهضة الإمام الحسين عليه السلام.

أو نبحث أموراً عامة تتعلق بجوانب واقعة الطف ثم نعرّج على مصيبة القاسم وبالتالي فإن العنوان المختار يكون مناسباً لطبيعة البحث المعروف.


ثالثاً: البحث

الموضوع الأول الذي يمكن طرحه في الليلة الثامنة من محرم:


بين صلح الحسن عليه السلام وثورة الحسين عليه السلام:


قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

"الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا".

لقد شكل الاختلاف في موقف السبطين عليهما السلام حيث صالح الحسن عليه السلام معاوية وحارب الحسين عليه السلام يزيداً، مورداً لكثير من الآراء والتحليلات. ولكي نكون على قرب من الظروف والأحداث التي أحاطت بصلح الإمام الحسن عليه السلام والتي كان لها ارتباط وثيق الصلة بالأحداث التي تمخضت عنها ثورة الإمام الحسين عليه السلام، فلا بد من دراسة تاريخية لهذه التطورات، خاصة وأن هذه الليلة مخصصة لأحد أبناء الإمام الحسن عليه السلام وهو القاسم بن الحسن عليه السلام.

فبعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، قام الحسن عليه السلام خطيباً في


222


المسجد الجامع بالكوفة، وهو في غاية التفجع لفقد أبيه عليه السلام. فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

"لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، لقد كان يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فيقيه بنفسه وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوجهه برايته، فيكتنفه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، ولا يرجع حتى يفتح الله على يديه، ولقد توفي في الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم عليه السلام وفيها قبض يوشع بن نون وصي موسى‏ عليه السلام، وما خلّف صفراء ولا بيضاء....".

إلى أن خنقته العبرة فبكى، وبكى الناس معه. ثم إنه عليه السلام ذكر فضله وفضل أهل البيت عليهم السلام فبايعه الناس طواعية. ويمكن إجمال خطوات الإمام الحسن‏ عليه السلام بالنقاط التالية:

1- كان عليه السلام يبايع الناس على أن يكونوا سلماً لسلمه وحرباً لحربه، فكان الناس يقولون: "أنه لا يريد بهذا إلا الحرب". إذن فقد كان عليه السلام من اللحظة الأولى مهتماً بمسألة الحرب، وتهيئة أجواء الجهاد في الأمة، لمواجهة معاوية وحزبه...

2- ثم أن معاوية ازداد نشاطاً وعدوانيةً، فبعث الجواسيس لكي يكتبوا له أحوال الداخل، بعد ما سيطر على الشام ومصر، فألقى الإمام عليه السلام القبض على رجل من حمير واستخرجه، وعلى رجل من بني القين في البصرة وأمر بإعدامهما. وهي خطوات لا يقوم بها إلا من أخذ بالحزم في مواجهة العدو.

3- ثم بعث عليه السلام برسالة شديدة إلى معاوية منها:

"أما بعد... فإنك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال. وأرصدت العيون كأنك تحب اللقاءَ وما أوشك ذلك إن شاء الله...".


223


إن حادث الجاسوسين يكشف، أن عداء معاوية لم يكن مع شخص الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، بل مع الخط الذي يمثله، إضافة إلى أن اكتشاف اثنين من الجواسيس، لا يعني عدم وجود غيرهما لم يكتشف أمرهم بعد.

4- وكان الإمام عليه السلام قبل ذلك قد أرسل العمّال ونظر في السجلات وزاد في عطاء الجند. وكل ذلك من شأنه تشجيع الناس على لقاء القاسطين حزب معاوية.

هذه خطوات اتخذها الحسن عليه السلام قبل بداية التلكؤ الذي انتهى إلى خيانة ذلك الجيش حتى الاضطرار إلى إبرام وثيقة الصلح... ولكن ما هو المجتمع الذي تحرك فيه الحسن عليه السلام، والذي وضع هذه الخطوات لتحفيزه وتحريكه؟ لنرجع إلى نهج البلاغة ونسمع شهادة أمير المؤمنين عليه السلام المتقطرة ألماً ولوعة:

أ- "لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرّت ندماً، وأعقبت سئماً، ولقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً".

ب- "إن هؤلاء القوم أهل الشام سيدالون منكم، باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، ومعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم بالباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وإصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعبٍ لخشيت أن يذهب بعلاقته".

ج- "صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، لوددت والله أن يصارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم".

د- "إذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر، قلتم: هذه حمّارة القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء، قلتم: هذه صبّارة


224


القر أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فراراً من الحر والقر فأنتم والله من السيف أفرّ، يا أشباه الرجال ولا رجال".

إن هذه الأخلاقية وهذا النمط من السلوك، كان له أثر سلبي على تخطيط الإمام الحسن عليه السلام حتى اضطر معه إلى ما اضطر إليه.

يضاف إلى كل ذلك، أن تلك المهابة التي كانت لأمير المؤمنين عليه السلام لم تكن موجودة للحسن عليه السلام، ولهذا تحرّك معاوية باتجاه عاصمة الحسن عليه السلام وبادره بالتحرك...

وفي المقابل بدأ التحرك بتباطؤ أهل الكوفة، بعد تحركه عليه السلام إلى معسكر النخيلة وإرساله مقدمة جيشه مع ابن عمه عبيد الله بن العباس، والذي بادر إلى اللحوق بمعاوية! ان عبيد الله بن العباس لم يكن ابن عم الإمام عليه السلام فقط، بل ان له ثأراً مع الأمويين، وبالخصوص معاوية، حيث أرسل أحد قوّاده وهو بسر بن أرطأة إلى اليمن حينما كان عبيد الله هذا والياً عليها وهرب، فبادر بسر بن أرطأة إلى قتل طفلين صغيرين لعبيد الله بن العباس، حتى ذهب عقل أمهما!!.

وحاول قيس بن سعد بن عبادة أن يتلافى نتائج الموقف، ثم هرب قائد سرية آخر بعثت إلى الأنبار، ثم عين آخر محله فهرب إلى معاوية أيضاً!! ولك أن تتصور حالة بقية الجيش إذا كان قادتهم بهذا المستوى.

ثم أخذ قادة جنده بمراسلة معاوية مبدين استعدادهم لتسليم الحسن عليه السلام إلى معاوية كتافاً. فأرسل معاوية رسائلهم إلى الحسن عليه السلام ولم يتفاجأ عليه السلام .. وضربوه بسهم أثناء صلاته فلم يؤثر فيه، لأنه عليه السلام كان قد تدرع تحت ثيابه... إلى أن هجم القوم على رحله ونازعوه مصلاه الذي كان تحته، ثم خرج راكباً دابته. فبادره رجل حينما مر عليه السلام بمظلم ساباط حيث أخذ بلجام بغلته، فطعنه في فخذه فشقه، فأُخذ وأُخذ رجل كان معه فقُتلا، ثم حمل عليه السلام بعد


225


ما نادى ربيعة وهمدان، حيث منعوه الناس، إلى دار والي المدائن، حيث مكث مدةً يداوي جرحه. فكيف يقاتل بمثل هذا الجيش؟.

ثم بعث معاوية بورقة بيضاء وقّع تحتها، يطلب من الحسن عليه السلام أن يملي عليه شروطه. فرأى الحسن عليه السلام بعين بصيرته وحكمته الأمة وعدم تمييزها أهل الحق من غيرهم، إذ لا بدّ لهم من تجربة قاسية يمرّون بها كما لا بد من كشف معاوية وسلوكه المخالف للإسلام. وفي انتظار الظرف المناسب لمواجهته. وقد قال عليه السلام لمعاوية لما طلب منه أن يشاركه في حرب جماعة من الخوارج بعد الصلح:

"أأقاتل قوماً أنت أولى منهم بالقتال".

ولكنها الظروف الموضوعية التي مرّت على جده صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أبيه عليه السلام من قبل في بعض الأوضاع، مما جعلتهما يغيران طريقة عملهما تبعاً للظروف التي مرّا بها، فلو كان أي إمام آخر غير الحسن عليه السلام في هذا الظرف لما سلك غير سلوكه عليه السلام. ويحضرني هنا قول رائع للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين، حيث قال: "لو أن إمامة الحسين عليه السلام كانت سابقة على إمامة الحسن‏ عليه السلام، لصالح الحسين معاوية ولقاتل الحسن يزيداً".

إذن لم يكن هناك إجراء أصوب من الصلح، وقد تقدم به معاوية وفق شروط يحددها الحسن عليه السلام. قبل أن تأتي ظروف تملي الشروط عليه عليه السلام. فشرط عليه السلام أموراً منها:

"العمل بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو شرط يوضح مفهومه أن معاوية لم يكن عاملاً بهما كما أن ليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده، وأن الناس في كل أمصارهم آمنون، وأن أصحاب علي‏ عليه السلام وشيعته آمنون في أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يبغي للحسن ولا للحسين ولا لأحد من بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غائلة".


226


ومن المعروف أن معاوية لم يعمل بأي شرط منها، بل أنه بادر حينما دخل الكوفة إلى فضح ما انطوت عليه نفسه، حينما خطب بمسجدها: "إني والله ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلّوا ولا لتزكّوا، فإنكم تفعلون ذلك وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، ولقد كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي له". ثم سار فدخل الكوفة فأقام فيها أياماً.

وكان موقف الحسين عليه السلام هو نفس الموقف الذي كان لأخيه عليه السلام لأنه كان يصرح عليه السلام (بأننا عاهدنا) بصيغة الجمع، مما يعكس موقفاً واحداً لهما عليهما السلام. ولنأخذ أمثلة لذلك:

1- هناك رواية حول أن حجراً دخل على الحسن عليه السلام (وفي أخرى انه قيس بن سعد) وجرى كلام ثم دخل على الحسين عليه السلام ومعه جماعة فأجابهم عليه السلام:

"إننا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل إلى نقض بيعتنا".

2- ومر جماعة آخرون على الحسن عليه السلام حتى نادوه باللفظ القاسي: يا مذل المؤمنين، ثم توجهوا إلى الحسين عليه السلام وأخبروه كيف ردّ عليهم الحسن عليه السلام فأجابهم الحسين عليه السلام:

"صدق أبو محمد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الرجل معاوية حياً".

3- تصريحه عليه السلام يوم دفن أخيه، وبعد الذي جرى مع مروان وغيره:

".... فإنكم نقضتم العهد بيننا وبينكم وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا".

وهكذا كان الحسين عليه السلام دائماً ما يصرّح انه على رأي أخيه عليه السلام، وكأنه ينتظر أن تتم مخالفة كل شروط المعاهدة، مع اكتمال الشروط الموضوعية لخروجه وثورته عليه السلام.


227


ولو كانت المسألة مرتبطة بطبيعة كل من الحسنين عليهما السلام وما جبلا عليه من سلوك، فكيف نبرر الحوادث السابقة أعلاه بل نضيف إلى ذلك النقاط التالية:

1- لِمَ لَمْ يستجب عليه السلام لشيعته بعد وفاة أخيه الحسن عليه السلام لو كان مجرد بقاء الإمام الحسن عليه السلام حياً مانعاً له من التحرك، بل أمرهم بالصبر وان يخفوا الشخص ويكونوا حلساً من أحلاس البيت.

2- لقد حدثت بعد وفاة الحسن عليه السلام حوادث تحرق القلوب وتهيج المشاعر وتحرك حتى ذوي الطباع الباردة والمتثاقلين، فلو كانت المسألةُ مسألة مزاجية فلم تأخر الحسين عليه السلام ولم يتحرك؟ فحادثة استشهاد حجر وأصحابه رضوان الله عليهم، التي هزت المسلمين وأجّجت مشاعرهم، حتى قال الحسن البصري (ويل لمن قتل حجراً وأصحابه).

وقالت عائشة: (أما والله لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعةُ، ما اجترأ على أن يأخذ حجراً وأصحابه من بينهم، حتى قتلهم بالشام، ولكن ابن آكلة الأكباد علم أنه قد ذهب الناس،...).

خاصة بعد أن جاءه عليه السلام وفد من أشراف الكوفة يخبروه بالحادثة، وينتظرون أوامره، فاسترجع عليه السلام، وشق عليه ذلك كثيراً، فالحسين‏ عليه السلام عالم بما لا يقبل الشك أنه لا بد من لقاء مع هؤلاء القوم، ولكن الظرف لم يسمح بذلك حينئذِ.

3- كما أنه لم يعلن تحركه حينما بدأت محاولات معاوية لأخذ البيعة للفاسق يزيد ولم يعلنه بعدما أجبر معاوية الناس على ذلك.

4- كما أنه لم يعلن تحركه قبل أن يستدعيه والي المدينة الوليد بن عتبة وكان قد توقع وفاة معاوية بل أعلن ذلك بعدما طلب مروان بن الوليد أن يستخدم السيف لإجبار الحسين عليه السلام على البيعة.


228


ففرق بين موقف الحسن عليه السلام الذي هو نفسه أملى الشروط على معاوية، وبين الحسين عليه السلام الذي يطلب منه يزيد أن يبايعه.

إذن فتحرك الحسين عليه السلام جاء بعد تلكم التراكمات الضخمة من الأحداث وتغير الكثير من أرقام المعادلة، وانكشاف زيف بني أمية بفضل الحسن عليه السلام وخطته. لقد جنى الحسين عليه السلام ما زرعه الحسن عليه السلام.

إن الفارق كبير بين قتل يحرّك الأمة، وبين آخر لا يترك أثراً، لأن المقاييس كانت قد ضاعت ولأن الأمة لا تميز بين طرفي النزاع.

وهكذا شوفيت الأمة من داء عدم التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل بفضل صلح الحسن عليه السلام ولكنها أصيبت بداء جديد وهو داء ضعف الإرادة والخوف من مواجهة الظالمين. فكان لا بد للحسين عليه السلام من علاجه بدمه الطاهر، ودماء الشهداء الذين معه، وكان منهم مجموعة من أبناء الإمام الحسن‏ عليه السلام.

وهذه مساهمة أخرى من الإمام الحسن عليه السلام في واقعة كربلاء.


التخلص:

لقد اشترك أبناء الإمام الحسن عليه السلام في واقعة كربلاء، ومن هؤلاء كان الحسن المثنى وهو الحسن بن الحسن عليه السلام، الذي قاتل في عاشوراء حتى أصابته ثمانية عشر جراحة وقطعت يده اليمنى ولم يستشهد حيث تدخّل أخواله وتشفعوا فيه فنجا.

ثم برز أخ آخر له وهو عبد الله الأكبر بن الحسن عليه السلام فقاتل حتى قتل.

وقبل استشهاد الحسين عليه السلام أفلت غلام للحسن عليه السلام من عمته زينب واسمه عبدالله أيضاً وكان له من العمر إحدى عشرة سنة، حتى ذبحه حرملة بن كاهل بسهم وهو في حجر عمّه الحسين عليه السلام ...


229


والابن الرابع للإمام عليه السلام الذي برز يوم عاشوراء، والذي ترك مقتله أثراً وأي أثر في قلب عمّه الحسين عليه السلام، فقد كان القاسم بن الحسن عليه السلام، الذي كان غلاماً لم يبلغ الحلم... والذي ما إن جاء ليستأذن عمه الحسين عليه السلام في البروز للقوم، ورآه الحسين عليه السلام حتى بكى بعدما اعتنقهُ، وألحّ على عمه بأن يأذن له بالقتال.. وأخيراً أذن له ودموع الحسين عليه السلام على خدّيه ونظراته تودّعه، وآهاته تشيّعه، وحزنه يرافقه...

وقبل أن يبرز للمعركة جاءت إليه النساء، عمته زينب عليها السلام وأمه رملة وبقية الفاطميات...

قال الحسين عليه السلام لابن أخيه القاسم بن الحسن عليه السلام:

"كيف ترى الموت؟".

فقال القاسم:

"هو عندي أحلى من الشهد".

هذا مقطع من الحوار الذي جرى بين الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره من أصحابه وأهل بيته ليلة عاشوراء، حيث أوضح لهم ما ينتظرهم من أحداث ومواقف وتضحيات.

لقد كان الحسين عليه السلام وكما أكدت روايات كثيرة وأخبار متواترة كان عارفاً بما ينتظره وحركته من مصير دامٍ بنجيع الشهادة.

وكان إصراره على أخذ رحله من نساء وأطفال وشباب وفتيان، جانباً مشرقاً وبُعداً رسالياً عميقاً في واقعة كربلاء...

لقد كان الشهداء من آل البيت كلهم شباب وكان أكبرهم عمراً هو أبو الفضل العباس عليه السلام بأربع وثلاثين سنة.


230


الموضوع الثاني الذي يمكن طرحه في الليلة الثامنة من محرم:


تتابع الأحداث بعد نزول الحسين عليه السلام في كربلاء:


فكيف جرت الأحداث وكيف تتابعت المواقف منذ أن نزل الحسين عليه السلام مع رحله بكربلاء.

وسوف نتابع في هذا المجلس سيرة الأحداث التي رافقت مسيرة الحسين‏ عليه السلام منذ وصوله كربلاء، حتى أحداث هذه الليلة المفصلية، والتي سيتضمنها مجلسنا هذا.

من المعلوم أن الإمام الحسين عليه السلام غادر مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة سنة 60ه، وهو يوم التروية، ووصل إلى كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم الحرام، لسنة إحدى وستين هجرية، وبذا استغرقت رحلته عليه السلام من مكة إلى كربلاء أربعاً وعشرين يوماً.

وفي أثناء تلك المسيرة، حدث تطوّر كان له أثر كبير، في تحديد سير هذه الرحلة، حيث جاء الحر بن يزيد الرياحي ومعه ألف فارس، فسقاهم الحسين‏ عليه السلام الماء وخطب فيهم، ثم أخرج لهم كتب الكوفيين التي جاءته، تطلب إليه السير إلى الكوفة وإنقاذهم من حكم الأمويين.

فقال الحر للحسين عليه السلام: "إني لست من هؤلاء، وأني أُمرت أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد".

فقال الحسين عليه السلام:

"الموت أدنى إليك من ذلك...".

وأمر أصحابه بالركوب، وركبت النساء.

فحال الحر بينهم وبين الانصراف إلى المدينة!

فقال الحسين عليه السلام له:


231


"ثكلتك أمك ما تريد منّا؟".

وأخيراً اقترح الحر قائلاً: "خذ طريقاً نصفاً بيننا، لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة، حتى أكتب إلى ابن زياد".

هذا هو التطوّر الخطير الذي طرأ على الموقف. إن الحسين عليه السلام كان قاصداً الكوفة حينما خرج من مكة، ولكن تمزّق شيعته وقتل مسلم رضوان الله عليه من جهة، وسيطرة عبيد الله بن زياد على الكوفة من جهة أخرى، ثم مجي‏ء الحر بجيشه هذا يريد اعتقال الحسين عليه السلام، وإدخاله الكوفة ليسلّمه إلى ابن زياد من جهة ثالثة جعلت خيار السير باتجاه الكوفة، يبدو أمراً مستبعداً جداً، وخطوة لا يمكن للحسين عليه السلام أن يخطوها.

وهكذا جاء الحل الوسط، لا للاتجاه نحو الكوفة، ولا للرجوع إلى المدينة، فإلى أين إذن، إلى كربلاء!!

نعم أخذ الطريق يتياسر بركب الحسين عليه السلام وجيش الحرّ معاً، حتى وصلوا إلى قرى الطّف. وإذا براكب على فرس له وعليه سلاح، فانتظروه فإذا هو رسول من عبيد الله بن زياد إلى الحر، جاء بجواب على الرسالة التي بعثها الحر إلى ابن زياد، يطلب منه بيان كيفية التصرّف مع ركب الحسين عليه السلام.

نعم جاء هذا الفارس، ومعه كتاب من ابن زياد إلى الحرّ يقول فيه: "جعجع4 بالحسين، حين تقرا كتابي، ولا تنزله إلا بالعراء، على غير ماء وغير حصن".

وجاء الحر بالكتاب وقرأه على الحسين عليه السلام، فطلب منه الحسين عليه السلام أن ينزل في نينوى أو الغاضريات أو شفيّة، فقال الحر: "لا أستطيع فإن الرجل عيّن عليّ".

واقترح زهير مبادراً بأن يبدأ الحسين عليه السلام الحرب مع هذا الجيش، قبل


232


اكتمال بقية كتائبه، ولكن الحسين عليه السلام رفض أن يبدأ القوم بالقتال.

وهكذا واصلوا سيرهم حتى وصلوا إلى كربلاء، ونزلوا بها ونصب الحسين‏ عليه السلام خيمته، ثم ضربت خيام أهل بيته وأنصاره حتى أحاطت بخيمته. وحطوا الأثقال ناحية من الفرات.

ثم إن الحسين عليه السلام جمع ولده وأخوته وأهل بيته، ونظر إليهم وبكى وقال:

"اللهم إنّا عترة نبيّك محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد أُخرجنا وطُردنا وأزعجنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو أمية علينا، اللهم فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين".

ثم أقبل عليه السلام على أصحابه وقال:

"الناس عبيدُ الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الدّيانون".

ثم حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمد وآله وسلم وقال:

"أما بعد فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون! وإن الدنيا قد تغيرت وتنكّرت وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فأني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً".

فقام زهير بن القين وبعده بُرير بن خضير ثم نافع بن هلال، وكانت مقالاتهم تؤكد بقاءهم على عهدهم، وإنهم مستعدون لبذل أرواحهم دفاعاً عن الحسين وآل الحسين عليه السلام.

(فسر بنا راشداً معافى، مشرّقاً ان شئت أو مغرّباً، فوالله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربنا، وإنا على نياتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من


233


عاداك).

هكذا قال نافع بن هلال مثنيّاً على مقالة صاحبيه.

وحينما نزل الحسين عليه السلام في كربلاء، كتب كتاباً إلى ابن الحنفية وجماعة من بني هاشم:

"أما بعد، فكأن الدنيا لم تكن، وكأن الآخرة لم تزل والسلام".

وهو من أقصر الكتب التي بعثها الحسين عليه السلام أثناء حركته التاريخية.

وبعد أن نزل الحسين عليه السلام في كربلاء، بادر الحرّ فأرسل كتاباً إلى ابن زياد، يخبره فيه بنزول الحسين عليه السلام وأصحابه في كربلاء.

ثم جاء جواب ابن زياد، بكتاب موجّه هذه المرة إلى الحسين عليه السلام، وليس إلى الحرّ. وهو أمر يستحق التوقف عنده، فلمَ لمْ يبعث جواب كتاب الحرّ إليه، ولماذا بعث الجواب إلى الحسين عليه السلام، هل ذاك كان لمزيد غطرسة ابن زياد وعنجهيته وطغيانه؟. أو أنه أراد أن يكتشف ردّ فعل الحسين عليه السلام مباشرة على كتابه؟. أم أنه كان يتصور بأن في مقدوره التأثير على استعداد الحسين عليه السلام للمواجهة وإصراره على موقفه المبدئي؟.

على كل حال، كان كتاب ابن زياد هو: "أما بعد يا حسين، فقد بلغني نزولك كربلاء، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد، أن لا أتوسد الوثير ولا أشبع من الخمير، أو الحقك باللطيف الخبير، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد والسلام".

ولما قرأ الحسين عليه السلام هذا الكتاب، رماه من يده وهو يقول:

"لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق".

ولما طالبه الرسول بالجواب، قال عليه السلام:

"ما له عندي جواب، لأنه حقّت عليه كلمة العذاب".

ولما وصل الرسول إلى ابن زياد وأخبره بمقالة الحسين عليه السلام، اشتد غضب


234


ابن زياد وأمر عمر بن سعد بالخروج إلى كربلاء، في أول مقدمة للجيوش الزاحفة لحرب الحسين عليه السلام ...

وسامته يرخص إحدى اثنتين    وقد صرت الحرب أسنانها
‏فإما يُرى مُذعناً أو تموت‏        نفس أبى العز إذعانها
فقال لها: اعتصمي بالإباء       فنفس الأبيّ وما زانها
إذا لم تجد غير لبس الهوان     فبالموت تنزع جثمانها
‏يرى القتل صبراً شعار الكرام‏    وفخراً يزيّن لها شانها


وهكذا شمّر ابن زياد عن ساعد الاستعداد لحرب آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأصدر أوامره في الكوفة: "أن برأت الذمة ممن لم يخرج لحرب الحسين".

وأما عمر بن سعد، فقد كان معسكراً في الكوفة بمنطقة تسمى (حمام أعين) بأربعة آلاف فارس، استعداداً للتوجه إلى بلاد الري لقمع تمرّدٍ للدَيلم، ثم الفوز بولاية الريّ وجرجان!!.

فلما جاءه أمر عبيد الله بن زياد بالخروج لحرب الحسين عليه السلام في كربلاء، حاول أن يستعفيه من هذا الأمر، ولكن ابن زياد يعرف نقطة ضعف ابن سعد، أنها ولاية الري وجرجان التي قضى عمره للفوز بها وبنعيمها!!

ولهذا قال له ابن زياد: "إذن تردّ علينا عهدنا". فاستمهله ابن سعد ليلة ليفكّر في الأمر! وهذا أول الوهن والسقوط، لأن مجرد التفكير في الإقدام على قتل الحسين عليه السلام أو عدم الإقدام هو سقوط وانحدار وهوان... فابتسم ابن زياد لهذا، وعلم أنه سيعود إليه.. وحاول البعض نصح عمر بن سعد، بعدم السير لحرب الحسين عليه السلام، حتى لو أدى به إلى أن يخرج من كل الدنيا وسلطان الرضى. ولكن ابن سعد بات ليلته تلك مفكراً في أمره، متقلباً على فراشه، وسُمع وهو يقول في تلك الليلة:


235


فوالله ما أدري وأني لحائر            أفكّر في أمري على خطرينِ‏
أأترك ملك الريّ والريّ مُنيتي        أم أرجعُ مأثوماً بقتل حسينِ
‏وفي قتلهِ النارُ التي ليس دونها ‏     حجاب وملك الريّ قرةُ عيني
دعاني عبيدُ الله من دون قومه‏       ‏إلى خطةٍ فيها خرجتُ لحيني‏
يقولون أن الله خالق جنةٍ             ونارٍ وتعذيبٍ وغلّ يدينِ‏
فإن صدقوا فيما يقولون إنني‏        أتوب إلى الله من سنتينِ‏


وأخيراً انهار ابن سعد، وخرج بجيشه الذي كان مقدمة الجيوش الخارجة لارتكاب المجزرة التاريخية.

إن الأمور كانت تجري بسرعة، فبعد نزول عمر بن سعد بجيشه في كربلاء وفي اليوم التالي لنزوله أي في اليوم الرابع من المحرّم، أراد أن يبعث جماعة إلى الحسين عليه السلام ليسألوه عن سبب مجيئه إلى كربلاء، فاعتذروا لأنهم كانوا ممن راسل الحسين عليه السلام وكاتبه.

فقام كُثير بن عبد الله الشعبي، وكان شديد العداوة لأهل البيت عليهم السلام فاتكاً غشوماً.

فلما جاء إلى الحسين عليه السلام ورآه أبو ثمامة الصائدي، قال للحسين عليه السلام: "أصلحك الله يا أبا عبد الله، لقد جاءك شرّ أهل الأرض، وأجرأهم على دمكم وأفتكهم". ورفض أبو ثمامة أن يدخل كثير على الحسين عليه السلام بسلاحه، فرجع إلى ابن سعد.

فأرسل ابنُ سعد رجلاً آخر وهو قرة بن قيس الحنظلي، ولما اقترب من الحسين عليه السلام، سأل عليه السلام أصحابه من يعرفه! فقال حبيب أنه يعرفه، وما كان يتوقع أن يراه في هكذا موقف. ودخل قرة على الحسين عليه السلام وأبلغه رسالة ابن سعد عن سبب مجيئه إلى كربلاء.


236


فقال له الحسين عليه السلام:

"كتب إليّ أهل مصركم أن أقدم، فأما إذا كرهتموني فأني أنصرف عنكم من حيث جئت".

ورجع قرة إلى ابن سعد وأخبره بمقالة الحسين عليه السلام هذه، فقال ابن سعد: "أرجو أن يعافيني الله من أمره". وأرسل كتاباً إلى ابن زياد يخبره بما قاله الحسين عليه السلام، فلما وصل الكتاب إليه وقراه أنشد قائلاً:

الآن وقد علقت مخالبنا به      ‏يرجو النجاة ولات حين مناصِ‏

وردّ على ابن سعد يأمره أن يعرض على الحسين عليه السلام أن يبايع هو وأصحابه ليزيد، فإذا فعل رأى فيهم رأيه!.

أما ابن سعد فلم يعرض هذا الطلب على الحسين عليه السلام، لأنه يعرف أن الحسين عليه السلام لا يجيب إلى بيعة يزيد!! فيما كان ابن زياد يرسل الكتائب إلى كربلاء، حتى بلغت ثلاثين ألفاً وقيل أكثر، وكان ذلك في اليوم السادس من المحرّم، وكان ابن زياد يحث عمر بن سعد على الحرب بعد اكتمال الجيوش لديه.

وفي اليوم السابع، جاءت أوامر ابن زياد بمنع الحسين عليه السلام وأصحابه من الماء، فأرسل ابن سعد عمرو بن الحجاج الزبيدي، في خمسمائة فارس لتنفيذ أوامر ابن زيادّ!! واضطر الحسين عليه السلام لحفر الآبار لشرب الماء، وبلغ ذلك ابن زياد فأصدر أوامره إلى ابن سعد بمنع الحسين عليه السلام من ذلك..

ثم أن الحسين عليه السلام، طلب من ابن سعد الاجتماع به، ليلاً بين المعسكرين، ويقال أن الحسين عليه السلام التقى ابن سعد ما بين الثالث إلى السابع من المحرّم ثلاث إلى أربع مرات.

ثم أن ابن سعد كتب إلى عبيد الله بن زياد يخبره "أما بعد.... فإن الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمة، هذا الحسين قد أعطاني عهداً أن


237


يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن يسير إلى ثغر من الثغور، فيكون رجلاً من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم....".

ثم أضاف: "أن الحسين عليه السلام أبدى استعداده ليضع يده في يد يزيد!! وهو الأمر الذي يستحيل تصوره، بعد كل هذه المواقف التي وقفها الحسين عليه السلام وإصراره على مواقفه هذه".

وكما نفى هذا الخبر، عقبة بن سمعان الذي عايش الحسين عليه السلام وبقي بعده.

ولما وصل الكتاب إلى ابن زياد قال: "هذا كتاب رجل ناصح لأميرهِ مشفق على قومه".

وكاد ابن زياد أن يوافق على هذا الاقتراح، ولكن الشمر بادره قائلاً: "أتقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك وإلى جنبك، والله لئن رحل من بلدك، ولم يضع يده في يدك، ليكونن أولى بالقوة والعزّة، ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة، وإن غفرت كان ذلك لك".

فاستصوب ابن زياد رأي الشمر، وأرسل كتاباً إلى ابن سعد مع الشمر: "إني لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله ولا لتمنّيه السلامة، ولا لتكون له عندي شفيعاً".

ثم قال له: "أما أن ينزل الحسين وأصحابه على حكمي أو ازحف عليهم وأقتلهم ومثّل بهم".

ثم قال: "فإن أنت مضيت لأمرنا، جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فانا قد أمرناه بذلك والسلام".

ووصل الكتاب بيد الشمر إلى عمر بن سعد يوم التاسع من المحرّم، فقال ابن سعد للشمر: "مالك ويلك، لا قرّب الله دارك، وقبّح الله ما جئت به، وإني لأظن


238


أنك الذي نهيته وأفسدت علينا أمراً رجونا أن يصلح، والله لا يستسلم حسين، فإن نفس أبيه لبين جنبيه".

فقال له الشمر: "أتمضي لأمر أميرك، وإلا فخلّ بيني وبين الجند والعسكر".

فقال ابن سعد: "لا ولا كرامة لك، فأنا أتولّى ذلك، فدونك فكن أنت على الرجّالة".

وهكذا سنحت فرصة أخيرة لابن سعد، أن يعيد تقييم موقفه ولكنه لم يفعل حتى هوى إلى سوء العاقبة.

وتحرك جيش ابن سعد عصر تاسوعاء إلى مخيم الحسين، منادياً: "يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري". عجباً لهذه المغالطة، وأي جنة في حرب آل رسول الله وترويع أطفالهم ونسائهم؟!. وكان الحسين عليه السلام محتبياً بسيفه، وقد خفق برأسه، فسمعت أخته زينب‏ عليها السلام الصيحة فدنت من أخيها وقالت:

"يا أخي أما تسمع هذه الأصوات؟".

فرفع الحسين عليه السلام رأسه وقال:

"إني رأيت رسول الله الساعة في المنام، وهو يقول: إنك صائر إلينا عن قريب".

فصرخت زينب عليها السلام وهدأها الحسين عليه السلام، ثم أرسل أخاه العباس عليه السلام وابنه علياً الأكبر عليه السلام في عشرين رجلاً من أصحابه ليستعلموا من القوم نياتهم.

فقالوا لهم: "إما النزول على حكم ابن زياد أو الحرب".

ورجع العباس عليه السلام ليخبر أخاه الحسين عليه السلام بذلك. فطلب الحسين عليه السلام من العباس عليه السلام الرجوع إلى القوم، ليؤخّروهم الى غدّ:

"لعلنا نصلّي لربّنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره، فإنه يعلم أني أحبّ الصلاة وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار".

وهكذا تأجل اللقاء إلى يوم غد، إلى يوم عاشوراء الدامي!.


239


التخلص:

ولما اقترب المساء جمع الحسين عليه السلام أهل بيته وأصحابه وخطبهم، وأذن لهم في الانصراف عنه، فقام بنو هاشم وعلى رأسهم العباس عليه السلام حيث قال:

"ولم نفعل ذلك! لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك".

ثم قال بقية إخوته وأبناء إخوته وآل جعفر وآل عقيل، بمثل مقالة العباس‏ عليه السلام.

ثم تكلم من أنصاره، مسلم بن عوسجة الأسدي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وزهير بن القين، وتكلّم بقية أصحاب الحسين عليه السلام، بقولٍ واحد:

"والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بأيدينا ونحورنا وجباهنا، فإذا نحن قتلنا بين يديك، نكون قد وفينا لربنا وقضينا ما علينا".

وبات الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته عليهم السلام تلك الليلة، ولهم دويّ كدويّ النحل، ما بين قائم وقاعد، وراكع وساجد!!.

ثم وقف القاسم أمام عمه الحسين عليه السلام ليسأله عن مصيره يوم غد، فقال له:

"إنك مقتول معنا".

ووقفة أخرى يوم عاشوراء وقفها القاسم وهو ينظر إلى عمه الحسين عليه السلام منادياً:

"ألا من معين يعيننا ألا من ذاب يذبّ عنا..".

فخرج القاسم فلما رآه الحسين عليه السلام بكى وقال له:

"أنت وديعة أخي الحسن عليه السلام".

واعتنقه وبكى ثم خرج القاسم إلى المعركة وودع عمه وأمه وأهل بيته.


240


الموضوع الثالث الذي يمكن طرحه في الليلة الثامنة من محرم:


الإسلام وقيمة الشباب:


بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُون 5.

دأب الإسلام على تربية الإنسان المسلم، كي يكون سبّاقاً ومبادراً إلى كل ما من شأنه رضا الله، الذي تكمن فيه سعادة الإنسان وتفجير طاقات الخير والنبل في نفسه.

يجعل الإسلام الشاب التائب المبادر إلى طاعة الله، أعظم قدراً من الشيخ الكبير، ويجعل الصلاة في أول وقتها، حينما يبادر إليها المسلم، أعظم أجراً من الصلاة في آخر الوقت، ويوجب الحج على المستطيع ويدعوه إلى المبادرة، وإلا اعتبر مسوّفاً عليه قضاء الحج، حتى لو افتقر بعد ذلك، ان لم يبادر إلى استثمار الفرصة وتأدية المناسك.

هذه الآية الكريمة، دعوة إلهية لكل المؤمنين إلى الإسراع في الحصول على المغفرة من الله. وذلك بالعمل على تحصيل أسبابها، التي جعلها الله في الانسجام مع خطه المستقيم في العقيدة والتشريع وفي الوصول إلى الجنة الواسعة، التي عرضها السموات والأرض في إيحاء بالامتداد والتوسع...

والآية توحي، بأن العمر الذي يعيشه الإنسان، فرصة سانحة قد لا تمتد طويلاً. فلا بد من اغتنامه والمبادرة إلى صرف لياليه وأيامه، في كل ما من شأنه الحصول على الدرجة الرفيعة.

كما أن الآية تشجّع المبادرة في تأدية الطاعات، وكأنها سباق إلى هدف أو جائزة... فعلى المؤمن المبادرة إلى كل طاعة يقدر عليها.


241


لقد وردت في القرآن آيات أخرى تؤكد نفس المفهوم، وتدعو على عين التوجه كقوله تعالى:

﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 6.

وقوله تعالى:

﴿إإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ 7.

وقوله تعالى:

﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ 8.

ويفرق القرآن بين إنفاقين وجهادين على أساس المبادرة:

﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 9.

ومن صفات المؤمن أن لا تمر به الفرص دون استغلال، فقد روي عن النبي‏ صلى الله عليه وآله وسلم:

"اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك".

فكل مورد من هذه الموارد، تؤهلك لأعمال وطاعات، فبادر إليها قبل أن تتغير.


242


وعن أمير المؤمنين عليه السلام:

"انتهزوا فرص الخير فإنها تمرّ مرّ السحاب".

وقوله عليه السلام:

"بادر الفرصة قبل أن تكون غصّة".

ويعطينا القرآن صورة من صور القيامة في غصّة الإنسان الذي فرّط، قال تعالى:

﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين 10.

ولهذا يحذّر أمير المؤمنين عليه السلام من التفريط بقوله:

"التفريط مصيبة القادر".

ولستُ أرى في الناس عجزاً كعجز القادرين عن التمام‏

وقال المفسرون: أن في الآية كلام محذوف، تقديره سارعوا إلى ما يوجد مغفرة من ربكم، وأوردوا أن الموجب للمغفرة، هو فعل الطاعات وترك المنهيّات، والتي جاءت في عدة وجوه هي:

1- الإسلام.
2- أداء الفرائض.
3- الإخلاص.
4- الهجرة.
5- الجهاد.


فهي مصاديق لما يوجب مغفرة الله تعالى.


243


وهذه الأمور بأجمعها، قد تضمنتها حركة الإمام الحسين عليه السلام، الذي كانت نهضته لله تعالى، ولدين الله ودين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

فنهضتُه عليه السلام من أجل الإسلام، ودعا إلى الفرائض، بل أقيمت الفرائض بدمه.

"أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة".

وهو عليه السلام عنوان الإخلاص، إذ أعطى الله كل شي‏ء، وهو عليه السلام علم الجهاد. وهو يصرخ:

"ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه".

ولهذا كان الذين بادروا إلى النهوض مع الحسين عليه السلام، وسارعوا إلى تأييد ثورته، هم تجسيد واضح ومصداق رائع للآية الكريمة:

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ.

لقد كانت حركة الحسين بحد ذاتها، حركة مبادرة ومسارعة، تريد أن يكون زمام المبادرة بيدها.

ولهذا فإن الإمام عليه السلام كان لا يستقر في المكان الذي يعلم انه بمكوثه فيه لا يقوى على المبادرة.

يخرج من المدينة مبادراً بحركة، جاعلاً البلاط الأموي في حيرة، ثم يهاجر من مكة ليضيّع على بني أمية خطة قتله أثناء موسم الحج، وليكون هو المبادر بالخطوة لا أن تفرض الخطوة عليه!.

كما أنه عليه السلام كان يدعو الناس إلى أن يبادروا بالالتحاق به وتأييد حركته، يراسل أهل البصرة، ويخطب في مكة.

"من كان باذلاً فينا مهجته موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا".

فليبادر بالتهيؤ للرحلة التاريخية، وللحركة التاريخية وللشهادة التاريخية.


244


يحثّ بني هاشم الباقين في المدينة:

"من لحق بنا استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح".

إن ممّا يميز حركة الحسين عليه السلام، أنها حركة سريعة. فبعد أربعة وعشرين يوماً من المسير من مكة إلى كربلاء، التي وصلها في الثاني من محرم ليستشهد في العاشر منه.

ولهذا فاز بنصرته أولئك المبادرون، أمّا الذين أخذوا بالتفكير، أو بطلب المشورة، أو بالتردّد، أو بانتظار ما ينجلي عنه الموقف، فهم قد فاتتهم تلك المشاركة الفريدة، وذلك الموقف الذي ليس له نظير!.

لقد كان هناك مؤمنين بحركة الحسين عليه السلام، قد هيئوا أنفسهم للشهادة بين يديه ونصرته، ولكن فاتهم كل ذلك، لأنهم لم يبادروا، وكمثال: الطرماح بن عدي الطائي وهو محبّ لعلي وولده عليهما السلام، التقى بالحسين في منزل عذيب الهجّانات، وقد جاء بمجموعة من الكوفيين خرجوا لنصرة الحسين عليه السلام هذا الرجل لم يقدّر ضرورة حسم القرار، وأهمية المبادرة، فاستأذن من الحسين‏ عليه السلام كي يوصل الميرة (الطعام) إلى أهله ويعود، والرجل صادق، فقد رجع بالفعل، ولما وصل إلى عذيب الهجانات، بلغه قتل الحسين عليه السلام فرجع.

نحن لا نشك في صدقه وولائه، لكنه قد فاته ذلك الموقف العظيم، لأنه لم يبادر... رحمك الله يا طرماح، ما قيمة هذه الميرة وما قدرها، وقد أعاقتك وأخّرتك عن هذا الشرف وهذه المنزل؟!.

هل تكون دليلاً لرجال خرجوا من الكوفة والتحقوا به واستشهدوا، وتعود أنت بطعامك إلى أهلك وتفوتك الشهادة.

أين ميرة الطرماح، من موقف زهير بن القين، الذي رغم كل أرضيته العقائدية البعيدة عن أهل البيت عليهم السلام، فإنه لما قرر الاندماج بركب الحسين‏ عليه السلام خرج من كل شي‏ء، ترك أمواله، وأوصى أن توزع بيوته وممتلكاته،


245


وطلّق زوجته، وخرج من الدنيا ولم يقل للحسين عليه السلام: ائذن لي حتى أوصل زوجتي إلى أهلها، أو أقوم بتصفية حساباتي ثم أعود!!.

إنه الوعي وإنه التوفيق وإدراك طبيعة الموقف، وضرورة أهمية المبادرة!!!.

لقد فاز مجموعة من المبادرين، بشرف الشهادة مع الحسين عليه السلام، وتسجيل أسمائهم في سجل الخلود الإلهي العظيم، حين لم يتماهلوا، وسارعوا للالتحاق بالحسين عليه السلام ...

وهكذا يمكن لك أن تتصور الآن الحسين في مكة، فيخف إليه بعض أنصاره، ثم يسير ركب الحسين عليه السلام إلى حيث موعد الشهادة، ولقاء الأحبة في كربلاء، تبادر مجموعات وأفراد من المؤمنين وهم يخترقون الحصار الأموي على الكوفة وضواحيها، ليبادروا للالتحاق بركب الحسين عليه السلام الألهي.

ومن الذين التحقوا بالحسين عليه السلام في مكة، إضافة إلى البصريين يزيد بن نبيت أو نبيط وأصحابه، أسرة قد قدمت من نواحي المدينة ولحقوا بالحسين‏عليه السلام، وينضم جنادة بن كعب الأنصاري الخزرجي مع زوجته وابنه عمرو الذي استشهد معه في كربلاء.

كما قد بادر جماعة يعتد بها من الكوفيين، فالتحقوا بالحسين عليه السلام في مكة منهم:

1- عابس بن أبي شبيب الشاكري، الذي جاء بكتاب مسلم رضوان الله عليه إلى الحسين‏ عليه السلام وبقي معه حتى الشهادة.

2- الحجاج بن مسروق الجعفي، الذي لُقِّب بمؤذّن الحسين عليه السلام لما سمع بخروج الحسين من المدينة إلى مكة، خرج إليه والتحق به في مكة، حتى قتل. ويا له من شرف، بأن يكون مؤذناً لمن جعل الصلاة والآذان قائمَين إلى يوم القيامة!!.

3- زاهر بن عمرو الكندي، من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، صحب


246


الحسين عليه السلام، من مكة. وقد كان مختفياً طوال عشر سنين من الطلب الأموي.

4- برير بن خضير، حيث خرج من الكوفة، ليلتحق بالحسين عليه السلام في مكة.

ويذكر ابن عساكر في تاريخه، أنه كان مع الحسين عليه السلام حين خروجه من مكة ستون شيخاً من أهل الكوفة! وكلّ هؤلاء كانوا المبادرين...

وهناك آخرون من الكوفيين، بادروا للحاق بالحسين، بعد تطورات حركة مسلم رضوان الله عليه المؤلمة، حيث زادت الضغوط، ووضعت المسالح، وأخذت شرطة الحصين بن نمير، تجوب أطراف الفرات تمنع الناس من اللحوق بالحسين‏ عليه السلام، والله يعلم كم من مؤمن مجاهد حاول اللحوق بالحسين، ولكن الإجراءات الأمنية المشددة، وتعقد الأمور يوماً بعد يوم، قد حال دون غايته...

فلو كانوا قد بادروا واستثمروا تلك الفرصة، لحظوا بشرف الشهادة في أيام عصيبة عصفت بالمؤمنين في الكوفة، حيث حملات الإعدامات على قدم وساق، إذ يخبرنا التاريخ.

على سبيل المثال:

إن ميثم التمار الذي قتل قبل وصول الحسين عليه السلام إلى كربلاء بعشرة أيام، قد كان عاشر عشرة في إحدى حملات الإعدامات.

نعم فكم من فرصة قد تُهيأ للمؤمن، ثم يتراخى عنها حتى يصعب أو يستحيل إرجاعها.

لقد استطاع رسولا الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة، قيس بن مسهر الصيداوي وعبدالله بن يقطر، أن يوصلا نداء الحسين عليه السلام لهم، ويحددا موقع ركبه!! مما ساهم في تشجيع من أراد الالتحاق به عليه السلام.

ومن الذين التحقوا بالحسين في الطريق:

1- الصحابي أنس بن الحرث الكاهلي.


247


2- نافع بن هلال الجملي.
3- عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه.
4- مجمع بن عبدالله العائذي ومعه غلامه نافع.

وهؤلاء الأربعة الأواخر، حاول الحر إرجاعهم، فأصرّ الحسين عليه السلام على التحاقهم بركبه.

5- أبو الشعثاء الكندي الرامي.
6- كما التحق في الطريق وهب وأمه وزوجته.

ولما وصل الحسين عليه السلام إلى كربلاء، وجُيّشت الجيوش لحربه خشي ابن زياد من توجه شيعته لنصرته، فتعقدت الأمور أكثر، حيث أرسل زهير بن قيس الجعفي في خمسمائة فارس وأمره أن يقيم في جسر الصراة، يمنع كلّ خارج من الكوفة يريد اللحاق بالحسين عليه السلام. والتاريخ لم يسجل أسماء من حاول ذلك، فصدّه أولئك الظالمون أو سجنوه.

نعم سجل التاريخ لنا، محاولة مؤمن مجاهد، وهو عامر بن أبي سلامة الدالاتي، وهو من أصحاب علي عليه السلام، حيث منعه القوم فشدّ عليهم بسيفه وقاتلهم، حتى أفلت منهم وانطلق نحو كربلاء إلى نحو الحسين عليه السلام، إلى الشهادة والخلود... هنيئاً لأولئك الذين بادروا لنصرةِ الحسين عليه السلام وأهل بيته، وأحرزوا الكرامة في الدنيا والسعادة في الآخرة.

التخلص:

وفي ليلة عاشوراء الشهادة، نجد كيف بادر أهل بيت الحسين عليه السلام وأنصاره لتسجيل مواقف الإباء والتضحية، حينما راح سيد الشهداء عليه السلام يدعوهم إلى تركه وانهم في حلّ‏ٍ من بيعته لأن الأمويين إنما حشدوا جيوشهم لأجله لا لأجلهم، وأول المتكلمين كان العباس عليه السلام ثم آل عقيل وبقية أهل بيته، ثم الأنصار.


248


وإذا بالقاسم الغلام الذي لم يبلغ الحلم والذي كان له من العمر ثلاثة عشر سنة أو أربع عشر يبادر عمّه متسائلاً:

"وهل أنا ممن سيقتل غداً يا عمّ؟".

وأراد الحسين عليه السلام أن يعرف مدى استعداد شبل الإمام الحسن عليه السلام للشهادة، فسأله:

"وكيف ترى الموت وطعمه؟".

فقال القاسم عليه السلام:

"هو أحلى عندي من الشهد معك يا عماه".

فقال عليه السلام له:

"وأنت ممن يُقتل معنا غداً يا ابن أخي".

وهكذا كان القاسم عليه السلام متوثباً ومنتظراً للفرصة الملائمة.

فلما قتل أنصار الحسين عليه السلام ثم بدأ أهل البيت ولم يبق مع الحسين عليه السلام إلا العباس عليه السلام واخوته بادر إلى عمه الحسين طالباً منه الإذن في الذبّ عنه والدفع عن جرمه:

فقال له الحسين عليه السلام:

"لو بقيت مع النساء والأطفال لترعاهم بعدنا؟".

فقال القاسم عليه السلام:

"أني لا بد لي من أن ألتحق بأبناء عمومتي وأخوتي".

فبرز القاسم وهو يقول:

إن تنكروني فأنا شبل الحسن‏      سبط النبي المصطفى والمؤتمن
هذا حسين كالأسير المرتهن‏       ‏بين أناس لا سقوا صوب المزن‏


249


هوامش

1- راجع: من لا يحضره الخطيب، 303/1.
2- راجع: من لا يحضره الخطيب، 311/1.
3- راجع: من لا يحضره الخطيب، 307/1 - وديوان الشاعر.
4- والجعجعة هي الإزعاج أو التضييق أو الحبس.
5- الواقعة: 10.
6- آل عمران: 133.
7- الأنبياء: 90.
8- القيامة: 21.
9- الحديد: 10.
10- ص: 56.