الليلة السادسة
وَقضَى شَهِيداً بِالنِزَالِ جُنَادَةُ والرُوحُ صَارَتْ عِندَ حُورِ العِينِ
وَإذَا بِزَوجَتِه تَهِبُّ كَأَنَّمَا... هِي لَبوَةٌ فُجِعَتْ بِلَيثٍ عَرِينِ
قَالَتْ وَقَد ذَبَحَ الطُغَاةُ حَبِيبَها في حَدِّ سَيفٍ بِالرَدى مَشحُونِ
يَا عَمرُو يا وَلَدي وَأنتَ لِمُقلَتِي نُورٌ بِأَحلَاكِ الدُجَى يَهدِينِي
هَيَّا إلى المَيدانِ وَاغْْضَبْ لِلهُدَى غَضَباً يُوَّفِي لِلحُسينِ دُيونِي
نَصْرُ الحسينِ عَليكَ حَقٌّ وَاجِبٌ قَاتِلْ فَإنَّ مُصَابَهُ يَكوِيني
خَرَجَ الغُلامُ إلى القِتالِ كَأَنَّهُ سَهمٌ وَكَأَنَّ الزِندَ غَيرُ مَكينِ
طِفلٌ صَغيرٌ وَهوَ غَيرُ مُرَاهِقٍ وَلهُ مِن الأَعوامِ تِسعُ سِنينِ

39


نَالتهُ في المَيدانِ ضَربَةُ فَاجِرٍ في قَسوةٍ لمَ تَتَّسِمْ بِالِلينِ
صَاحَ الفَتَى وَالعُنْقُ يَشخَبُ بِالدِمَا أُمَّاهُ... يَا أُمَّاهُ قَد ذَبَحُونِي
قَالتْ وَقَدْ فَرِحَتْ بِمَقتَلِهِ لَقَد أَفرَحتَني هذا الذي يُرضِينِي
نَمْ يا حَبيبي هَانِئَاً فَغَدَاً تَرَى أُمَّ الحسينِ حَنِينُها كَحَنِينِي

 

الفزع يهل الوفى عليه تراكم حين على الثرى نمتوا تراكم
اصبر كيف وعيوني تراكم گتل كلكم يفرسان الحميه

 

غدوا هذا على حر الأرض مطروح وذاك يعالج ودم منحره يفوح
هذا من الطعن ما بگت بيه روح وذاك من الطبر جسمه تخذم

(ولمّا كثر القتل في أصحاب الحسين عليه السلام حتّى بانت القلّة في مخيّم سيّد الشهداء)

ومن الشهداء جنادة الأنصاريّ، وقد رأت زوجة جنادة كثرة الشهداء من الأنصار حول المخيّم كالبدور اللوامع، أقبلت وقد


40


أمرت ولدها عمر، قائلة: أخرج يا بنيّ وانصر سيّدنا الحسين عليه السلام فألبسته لامة الحرب وقلّدته سيف أبيه، فخرج الفتى متوجّهاً نحو خيمة الإمام الحسين عليه السلام، ولمّا دخل الخيمة، ضمّه الإمام إلى صدره، قال عليه السلام : "ماذا تريد يا بنيّ"، فقال عمرو: الإذن، فقال الحسين عليه السلام : "الإذن في ماذا"، فقال الصبيّ: سيّدي أبا عبد الله إنّي أريد أن أقاتل القوم، فهل تأذن لي؟

نظر إليه الإمام الحسين عليه السلام طويلاً متأمّلاً الغلام... إلى دموعه التي تجري على خدّيه المتورّدين...

إلى السيف الذي بدا وكأنّه أطول منه...

إلى رجليه الحافيتين... ثمّ قال عليه السلام لمن حوله: "إنّ هذا الغلام قتل أبوه في المعركة، ولعلّ أمّه تكره له القتال، فانبرى عمرو قائلاً: سيّدي يا بن رسول الله، إنّ أمّي هي التي قلّدتني هذا السيف، وألبستني لامة الحرب... وأمرتني أن أمضي لنصرتك، ... حتّى أقتل بين يديك.

قال عليه السلام : بنيّ ارجع إلى أمّك، لعلّها تكره قتالك، رجع الغلام إلى أمّه باكياً، نظرت إليه أمّه قالت: بنيّ ماذا تفعل هنا، هل رجعت خوفاً من القتال، فقال: لا يا أمّاه، إنّ سيّدي الحسين عليه السلام ردّني ولم يأذن لي.


41


فأخذت أمّ عمرو بيد ولدها ومضت إلى خيمة الحسين عليه السلام، فلمّا انتهت إليه قالت له: سيّدي أبا عبد الله أمِن الإنصاف أن تفجع بك أمّك الزهراء عليها السلام ولا أفجع بولدي، تفقد أمّك الزهراء زوجها وولدها ولا أواسيها بفقد زوجي وولدي.

فامتلأت عينا الإمام عليه السلام بالدموع وقال عليه السلام : "بارك الله فيكم وجزاكم الله عنّي خيراً".

كأنّها كانت كلمة إذن من الإمام لعمرو بالقتال؛ وتوجّه نحو الميدان مهرولاً، وحمل على الأعداء وهو يرتجز ويقول:

أمِيري حُسينٌ ونِعمَ الأَمير سُرورُ فُؤادِ البَشيرِ النَذيرِ
عَليٌ وَفَاطِمةٌ وَالِداهُ فَهل تَعلَمونَ لَهُ مِن نَظيرِ

جعل يقاتلهم قتال الرجال حتّى قتلوه، ولم يكتفوا بذلك، بل قطع أحدهم رأسه ورمى به نحو معسكر الحسين عليه السلام، فأخذته أمّه في حجره، وكان الدم لا يزال يتدفّق منه بحرارة، وراحت تمسح التراب عن وجهه، وتقول: أحسنت يا نور عيني، أحسنت يا سرور فؤادي، بيّض الله وجهك كما بيّضت وجهي عند فاطمة الزهراء عليها السلام، ثمّ رمت بالرأس نحو الأعداء... وأخذت عموداً من الخيمة وبرزت تقاتلهم قائلة:

 


42


أنَا عَجوزٌ سَيِّدي ضَعيفَة خَاوِيَةٌ بَالِيَةٌ نَحِيفَة
أضرِبُكُم بِضَربَةٍ عَنيفَة دُونَ بَنِي فَاطِمَةِ الشَرِيفَة

إلى أن جاء الحسين عليه السلام فردّها وهي تقول: اللّهم لا تقطع رجائي، فدعا لها الحسين عليه السلام قائلاً: "لا يقطع الله رجاءك".

وبعد أن قُتِلَ كلّ الأنصار وبقي الحسين عليه السلام وحيداً وقف حائراً ينظر إليهم، وهم ما بين من صافح التراب جبينه، وقطع الحِمام أنينه، فصار يناديهم عليه السلام، "يا حبيب بن مظاهر... يا زهير بن القين... يا حرّ الرياحيّ... يا فرسان الوغى وليوث الهيجاء، ما لي أناديكم فلا تسمعون... وأدعوكم فلا تجيبون أنتم نيام أرجوكم تنتبهون... أم حالت مودّتكم بين إمامكم فقوموا عن نومتكم أيّها الكرام، وادفعوا عن حرم رسول الله هؤلاء الطغاة اللئام.. ولكن صرعكم والله ريب المنون وغدر بكم الدهر الخؤون، وإلّا لما كنتم عن نصرتي تقصّرون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

غده يتعتب عليها بگلب مألوم يطيب الكم يا فرسان الوغى النوم
تخلوني وحيد بين هالگوم او كل منهم لعد قتلي توزم

43


اشلون اعيونكم يا اهل الوفا تنام او تسمعون الحرم لاجت بالخيام
قامت تضطرب عالقاع الأحسام اورادت تنتهض لولا المحتم

 

خَضَبُوا وَمَا شَابُوا وَكانَ خِضَابُهُم بِدَمٍ مِن الأودَاجِ لا الحِنَّاءِ
أطفَالُهُم بَلَغُوا الحُلومَ بِقُربِهِم شَوقَاً إلى الهَيجَاءِ لا الحَسنَاءِ

44