الليلة الرابعة: مجلس الحر الرياحيّ

لَقَدْ هَاجَ فِي قَلْبِي الشَّجِيِّ غَرامُ                         لِرَكْبٍ بِجَرْعاءِ الغَنِيمِ أَقَامُوا

سَرَوا فَأَذَلْتُ الدَّمْعَ إِثْرَ مَسَيرِهِمْ                        دَماً وَالحَشَا مِنِّي عَرَاهُ سِقَامُ

أَأَحْبَابَنا هَلْ مِنَ سَبيلٍ لِوَصْلِكُمْ                           فَيَحْيَى فُؤادٌ لَجَّ فِيهِ هُيامُ

وَهَلْ نَلْتَقِي بَعْدَ الفِراقِ سُوَيْعَةً                          فَيُطْفَى مِنَ القَلْبِ الشَّجِيِّ أُوَامُ

فَيا سَعْدُ دَعَ عَنْكَ الصَّبابَةَ والهَوَى                    وَعَرِّجْ عَلَى مَنْ بِالطُّفُوفِ أَقَامُوا

وَحَيِّي كِراماً مِنْ سُلالَةِ هَاشِمٍ                          نَمَتْها إلى المَجْدِ الأَثِيلِ كِرَامُ

بِنَفْسِي أَفْدِي أُسْرَةً هَاشِمِيَّةً                            لَهَا قَدْ سَما فَوْقَ السِّماكِ مَقامُ

رَأَتْ أَنَّ دِينَ اللهِ بَيْنَ أُمَيَّةٍ                               تَلاعَبُ فَيهِ مَا تَشَاءُ طِغَامُ

فَقَامَتْ لِنَصْرِ الدِّينِ فُرسانُ غَالِبٍ                     عَلَيْها مِنَ البَأْسِ الشديدِ وِسَامُ

إلى أَنْ ثَوَوا فِي التُّرْبِ بِيْنَ مُبَضَّعٍ                     وَمُنْعَفِرٍ مِنْهُ تَطايَرَ هَامُ


29


فَجَاءَهُمْ سِبْطُ الرَّسولِ مُنادِياً                           أَحِبَّايَ هُبُوا فَالمَنَامُ حَرامُ

رَضِيتُمْ بَأنْ أَبْقَى وَحِيداً وَأَنتُمُ                           ضَحايا عَلَى وَجْهِ الصَّعيدِ نِيَامُ

شعبي:

تعنّاهم حسين ووگف يمهم                             لگاهم عالوطية ايسيل دمهم

سكب دمعه اعلى اهل بيته ويكلهم                   عليّ افراگكم يكرام يزحم

اشلون اعيونكم يهل الوفا اتنام                       او تسمعون الحرم لاجت بالخيام

گامت تضطرب عالگاع الاجسام                      اورادت تنهض لولا المحتم

أبوذيّه:

بالطف لهيب الشمس والحر                            ذاب اوسال دم العبد والحر

وهلال وحبيب الليث والحر                             هووا مثل النجوم اعلى الوطيّه


30


لم يكن الحرّ بن يزيد الرياحيّ في أفعاله وأقواله يحمل العداوة للحسين عليه السلام، بل بدا احترامه وتقديره له عليه السلام، ولذلك عندما صلّى الحسين عليه السلام بأصحابه صلّى الحرّ معه..

وعندما قال له الحسين عليه السلام: ثكلتك أمّك ما تريد؟ قال له الحرّ: يا أبا عبد الله لو أنّ غيرك من العرب يقولها لي لأجبته وما تركت ذكر أمّه بالثكل كائناً من كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما أقدر عليه..

وقد كان الحرّ فيمن سبقت له من الله الحسنى، وإن كان في ظاهر الحال وقبل وروده إلى كربلاء ليس منهم..

ولذلك عندما وجّهه عبيد الله بن زياد إلى الحسين عليه السلام قال الحرّ: خرجت من القصر- يعني قصر ابن زياد- فنوديت من خلفي: أبشر يا حرّ بخير، فالتفتّ فلم أرَ أحداً، فقلت: والله ما هذه بشارة وأنا أسير إلى الحسين عليه السلام.

ومن هنا عندما تكامل جيش عمر بن سعد وعرف الحرّ عزم القوم على القتال، تنحّى عنهم وجعل يدنو من الحسين قليلاً قليلاً وهو يرتعد ويرتجف، فاستنكر عليه رجل كان بقربه واعتقد أنّه يرتجف من خوف القتال، قائلاً له: لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال له الحرّ: إنّي


31


والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطِّعت وحُرِقت.

وكان مع الحرّ ابنه، فخاطبه قائلاً بني لا طاقة لي على العار ولا على غضب الجبّار، فقال وما ذاك يا أبه؟ قال: يا بني أما تسمع صوت ابن بنت رسول الله يطلب الناصر والمعين، بني هلمَّ بنا إليه.

ثمّ ضرب فرسه ولحقه ولده وتوجّه نحو الحسين مطأطئ الرأس منكسراً وقَلَبَ ترسه على ظهره وهو يقول: اللهمّ إليك تبت فتب عليّ، فلمّا دنا من الحسين عليه السلام صاح: السلام عليك يا أبا عبد الله السلام عليك يا بن رسول الله، فأجابه الحسين عليه السلام: وعليك السلام، ارفع رأسك من أنت؟ قال: سيّدي أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، أنا الحرّ، والله يا سيّدي ما كنت أظنّ أنّ القوم يبلغون بك إلى ما أرى، وأنا الآن تائب نادم، فهل لي من توبة؟ فقال له الحسين عليه السلام: نعم إن تبت يتوب الله عليك، انزل يغفر الله لك.

فقال الحرّ: سيّدي أنا لك فارساً خير منّي راجلاً، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري، يا بن رسول الله كنت


32


أوّل خارج عليك فائذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك -يعني من ذلك الوقت-، وأوّل من يصافح جدّك غداً فقال له الحسين عليه السلام: فاصنع رحمك الله ما بدا لك، فتقدّم الحرّ للقتال متوجّهاً نحو الأعداء، وعظهم وحذّرهم ونصحهم فلم ينفع النصح، فجرّد سيفه وحمل عليهم يقاتلهم وهو يقول:

إِنِّي أنا الحُرُّ وَمَأْوَى الضَّيْفِ                     أَضْرِبُ فِي أَعْناقِكُمْ بِالسيفِ

عِنْ خَيْرِ مَنْ حَلَّ بِأَرْضِ الخَيْفِ                  أَضْرِبُكُمْ ولا أَرَى مِنْ حَيْفِ


فما زال يقاتلهم حتّى أكثر فيهم القتلى، وعقروا فرسه فجعل يقاتل راجلاً، فحملوا عليه وتكاثروا حتّى أردوه إلى الأرض صريعاً، فصاح: السلام عليك يا أبا عبد الله سيّدي أدركني!

فمشى إليه الحسين عليه السلام، وفي رواية: احتمله أصحاب الحسين عليه السلام حتّى وضعوه بين يديه، وكان به رمق، فجعل الإمام يمسح التراب عن وجهه (هنيئاً لك يا حرّ هذه الشهادة)، وهو يقول: أنت حرٌّ كما سمّتك أمّك، حرٌّ في الدنيا وسعيد في الآخرة، ثمّ أنشأ عليه السلام يقول:- وفي رواية أنّ هذه الأبيات لعليّ بن الحسين عليه السلام -:

لَنِعْمَ الحُرُّ حُرُّ بَني رِياحِ                            صَبورٌ عِنْدَ مُشْتَبَكِ الرِّماحِ

وَنِعْمَ الحُرُّ إذْ وَاسَى حُسَيْناً                        وَجَادَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَّبَاحِ


33


اجاه احسين شبه الليث يهدر                      يگله ودمع العين اعليه ينثر

أمك ما خطت من سمتك حر                       مسح عنه التراب وصاح يا ويل


وهكذا كان يصنع الإمام الحسين عليه السلام مع كلّ شهيد يسقط من أصحابه، وكلّما توجّه واحد من الأصحاب يودّع الحسين عليه السلام، قائلاً: السلام عليك يا بن رسول الله فيجيبه الحسين عليه السلام: وعليك السلام، ونحن خلفك، ويقرأ قوله تعالى:
﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، حتّى قضوا عن آخرهم..

أّدْرَكُوا بِالحُسيْنِ أَكْبَرَ عِيدٍ                          فَغَدَوا فِي مِنَى الطُّفُوفِ أَضَاحِي

لَبِسُوا القُلوبَ عَلَى الدُّرُوعِ وَأَقْبَلُوا               يَتَهَافَتُونَ عَلَى ذِهابِ الأَنْفُسِ

نَصَرُوا الحُسَينَ فَيا لَهَا مِنْ فِتْيَةٍ                  عَافُوا الحَياةَ وَأُلبِسُوا مِنْ سُنْدُسِ

وقف أمامهم يستنهضهم، ينظر يميناً وشمالاً، فلا يرى من أنصاره إلّا من صافح التراب جبينه وقطع الحمام أنينه، فنادى: يا أبطال الصفا ويا فرسان الهيجاء، ما لي أناديكم فلا تجيبون، وأدعوكم فلا تسمعون، أأنتم نيام أرجوكم تنتبهون، أم حالت مودّتكم عن إمامكم فلا تنصروه؟ هذه نساء الرسول لفقدكم قد


34


علاهن النحول، فقوموا عن نومتكم أيّها الكرام، وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام، ولكن صرعكم والله ريب المنون، وغدر بكم الدهر الخؤون، وإلّا لما كنتم عن نصرتي تقصّرون..

ثمّ نادى بصوت حزين يقطّع القلوب:

يا حبيب بن مظاهر، ويا زهير بن القين، ويا هلال بن نافع، ويا مسلم بن عوسجة، ويا حرّ الرياحيّ، ويا فلان، ويا فلان..

يهل الشيم هذا محلكم                         وللمعركة نذخر هممكم

شنهو العذر يكرام منكم                      تخلّون بالذلة حرمكم

اشلون عيونكم يهل الوفا اتنام             او تسمعون الحرم لاجت بالخيام

كامت تضطرب عالگاع الاجسام           اورادت تنتهض لولا المحتم

بعد هيهات دهري بيكم ايعود                ورد اشيل راسي بيكم اردود

اوترد اكفوف ابو فاضل للزنود             وتتلايم النوب اجروح الاكبر


35


لَمَّا رَأَى السِّبْطُ أَصْحَابَ الوَفا قُتِلُوا                نَادَى أبَا الفَضْلِ أَيْنَ الفَارِسُ البَطَلُ

وَأَيْنَ مَنْ دُونيَ الأَرْواحَ قَدْ بَذَلُوا                   بِالأَمْسِ كَانُوا مَعِي وَاليَومَ قَدْ رَحَلُوا

وَخَلَّفُوا فِي سُوَيْدا القَلْبِ نِيرَانا


36