الليلة الخامسة: مجلس شهادة مسلم بن عقيل عليه السلام

لَهْفَ نَفْسِي لِصَرِيع ٍقَدْ هَوَى

مُوثَقَ الأَكْتَافِ مِنْ قَصْرِ الإمَارَهْ

لَسْتُ أَنْسَاهُ وَحِيداً مُفْرَداً وَعَلَيْه قَدْ هَجَمَ الأَعْدَاءُ َدَارَهْ
مُذْ أَتَاهَا فَغَدَا جَاراً لَهُم وَأَبَى أَنْ يَحْفَظَ الَقَوْمُ جِوَارَهْ
مَا رَعَى أَهْلُ الشَّقَا ذِمَّتَهُ لَا وَلَا بَنُو الشِّركِ ذِمَارَهْ
عَجَباً لِمْ قَعَدَتْ فِهْرٌ وَلَمْ تَشْرَعِ الأَسْيَافَ كَيْ تُدْرِكَ ثَارَا
أَتَنَاسَتْ مُسْلِماً بَيْنَ العِدَى والنِّسَا تَرْمِيهِ قَسْراً بِالحِجَارَة
حَرَّ أَحْشَائِي عَلَى طِفْلَتِهِ مُذْ رَأَتْ مِنْ عَمِّهَا السِّبْطِ انْكِسَارَا
فَغَدَتْ تَسْأَلُهُ عَنْهُ وَفِي قَلْبِهَا الحُزْنُ قَدْ غَدَا يُضْرَمُ نَارَا
فَانْبَرَى السِّبْطُ لَهَا يُعْلِمُهَا عَنْهُ بِالتِّلوِيحِ مِنْهُ وَالإشَارَه
فَغَدَا يَمْسَحُ مِنْهَا رَأسَهَا وَهْيَ بِاْليُتْم ِلهَاَ أَجْلَى إِشَارَه

45


شعبي:

يعمي اعله ابويه أرد أنشدك سولفلي عنّه وآنه عندك
أشوفن خبر منّه مهيضدك مقتول كأنّه وحگ جدّك
لمّن سمعها جذب ونّه وگال اِلها جاني الخبر عنّه
مقتول بالكوفه أظنّه وگطعت الرّجه وأيّست منّه
مصيبتهـــم مصيـبــه تصـــدع الأجبــال ومن گبل المشيب تشيب الأطفال
شفت ميّت يجرّونه بالحبال يصاحب لا تظن صارت مثلها

 

أبوذية:

گلبي امن الحزن شايل علامه تحط ايدك على راسي علامه
يعمي لليتم هذي علامه وظن عودي انگتل وانگطع بيه

46


أمسى مسلم وصلّى المغرب وما معه إلّا ثلاثون نفساً في المسجد, فلمّا رأى أنّه قد أمسى وليس معه إلّا أولئك النفر خرج متوجّهاً إلى أبواب كندة, فلم يبلغ الأبواب إلّا ومعه عشرة, ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه أحد يدلّه على الطريق, فإذا هو غريب وحيد فمضى على وجهه في أزقّة الكوفة وهو لا يدري أين يذهب, حتّى جاء إلى باب دار امرأة يقال لها طوعة, وكانت تقف على باب دارها تنتظر عودة ولدها, فرآها مسلم وسلّم عليها, فردّت عليه السلام, فقال لها: أمة الله, هل لي إلى شربة ماء من سبيل, فدخلت طوعة إلى الدار وأخرجت إليه إناءً فيه ماء فشرب مسلم, ثمّ أدخلت المرأة الإناء وعادت إلى باب دارها فرأت مسلماً جالساً على باب الدار, قالت: يا عبد الله ألم تشرب الماء؟ قال: بلى, قالت: فاذهب إلى أهلك, فسكت, فأعادت الكلام وقالت: أصلحك الله, لا يصلح لك الجلوس على باب داري ولا أحلّه لك, فقام مسلم وقال: يا أمة الله, ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة, فهل لك في أجر ومعروف ولعلّي مكافيك بعد اليوم؟

يگلها وعينه مستديره

لا أهل عندي ولا عشيره


47


 

غريب وعمامي بغير ديره

ومثل حيرتي ما جرت حيره

أنا مسلم الفاگد نصيره  


قالت: يا عبد الله, وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل, كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني, قالت: أنت مسلم؟! قال: نعم, قالت: أدخل على الرحب والسعة, فدخل إلى بيت في دارها غير البيت الذي تكون فيه, وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يأكل, ولم يكن بأسرع من أن جاء ولدها فرآها تكثر الدخول والخروج إلى ذلك البيت, فألحّ عليها فأعلمته بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بالكتمان, وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لمن يأتيه بخبر مسلم, فلمّا أصبح وشى بخبر مسلم إلى ابن زياد, وبات مسلم بن عقيل ليلته في دار تلك المرأة ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد, وتارة يناجي ربّه وأخرى يتضرّع وتارة يتلو القرآن إلى أن طلع الفجر, فجاءت طوعة إلى مسلم بالماء ليتوضّأ فقالت له: يا مولاي, أنا ما رأيتك رقدت هذه الليلة, فقال لها: اعلمي أنّي رقدت رقدة فرأيت في منامي عمّي أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقول: الوحا الوحا, العجل العجل, وما أظنّ إلّا أنّه آخر أيّامي من الدنيا فتوضّأ وصلّى صلاة الفجر وكان مشغولاً بدعائه إذ سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال,


48


عرف أنّه قد أُتي فعجّل في دعائه ثمّ لبس لامته وقال: يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس له من محيص, فقالت المرأة: سيّدي, أراك تأهّبت للموت؟ قال: نعم, لا بدّ لي من الموت, وأنت قد أدّيت ما عليك من البرّ والإحسان وأخذت نصيبك من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...

ظلت تناديهم يهل كوفان ارحموه

هذا ابن اخو الكرار حيدر لا تسحبوه

خلوه يمشي براحته گلبه شعبتوه خافوا من الله ما لكم مذهب ولا دين

فاقتحموا عليه الدار وهم ثلاثمائة رجل, فخاف مسلم أن يحرقوا عليه الدار, فخرج منه وشدّ عليهم حتّى أخرجهم من الدار ثمّ عادوا إليه, فحمل عليهم وهو يقاتلهم قتالاً شديداً ويقول:

هُوَ المَوْتُ فَاصْنَعْ وَيْكَ مَا أَنْتَ صَانِعُ

فَأَنْتَ بِكَأسِ المَوْتِ لَا شَكَّ جَارِعُ

فَصَبْراً لِأَمْرِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَحُكْمُ قَضَاءِ اللهِ فِي الخَلْقِ ذَائِعُ

49


حتّى قَتَلَ منهم مقتلة عظيمة وكان من قوّته أن يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت, فأرسل ابن الأشعث إلى ابن زياد: أدركني بالخيل والرجال فقد قتل مسلم منهم مقتلة عظيمة, فأنفذ ابن زياد يقول: ثكلتك أمّك وعدِمَك قومك, رجل واحد يقتل هذه المقتلة العظيمة؟ فكيف لو أرسلتك إلى من هو أشدّ بأساً وأصعب مراساً- يعني الحسين بن عليّ عليه السلام؟- فكتب إليه: عساك تظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة أو جرمقاني من جرامقة الحيرة, وإنّما وجّهتني إلى بطل همام وشجاع ضرغام وسيف من سيوف عليّ بن أبي طالب, فأرسل إليه بالعسكر وقال له: أعطه الأمان فإنّك لا تقدر عليه إلّا به, فبينما هو يقاتل إذ اختلف بينه وبين بكر بن حمران ضربات, فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا, وأسرع السيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه, فحمل مسلم على القوم فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من أعلى السطوح يرمونه بالحجارة ويلهبون النّار في أطناب القصب, ثمّ يرمونها عليه, فلمّا رأى ذلك خرج إليهم مصلتاً سيفه في السكّة, فقال محمّد ابن الأشعث: لك الأمان يا مسلم لا تقتل نفسك, فقال: وأيّ أمان للغدرة الفجرة؟! وأقبل يقاتلهم وهو يرتجز ويقول:

أَقْسَمْتُ لَا أُقْتَلُ إلَّا حُرّاً

وَإِنْ رَأَيْتُ المَوْتَ كَأساً مُرَّا

كُلُّ امْرِئ يَوْماً مُلَاقٍ شَرّاً أَخَافُ أَن أُخْدَعُ أَوْ أغَرَّا

وكان, روحي له الفداء, قد أُثخن بالجراح وعجز عن القتال


50


وأسند ظهره إلى جنب تلك الدار فضربوه بالسهام والحجارة فقال: ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفّار وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار؟ ألا ترعون رسول الله في عترته؟! فعند ذلك تقدّم رجل منه وطعنه من خلفه فخرّ إلى الأرض, فتكاثروا عليه وانتزعوا سيفه وأخذوه أسيراً, فعند ذلك دمعت عيناه, وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون, فقال له عبيد الله بن العبّاس: إنّ من يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك, فقال: والله إنّي ما لنفسي بكيت ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ أبكي الحسين وآل الحسين...

وين الذي يوصل بهل الحين

لرض المدينه ويخبر احسين

مسلم وحيد وما له معين ودرات عليه القوم صوبين

ثمّ التفت إلى ابن الأشعث وقال: هل تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً يبلغ الحسين عن لساني فإنّي لا أراه إلّا وقد خرج اليوم مقبلاً أو خارج غداً, ويقول لك ابن عمّك مسلم بن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أنّه يمسي حتّى يقتل, ويقول لك: ارجع فداك أبي وأمّي, ولا يغررك أهل الكوفة. ولمّا جاؤوا بمسلم إلى باب قصر الإمارة رأى جرّة فيها ماءٌ باردٌ,


51


فقال: اسقوني من هذا الماء, فقال له رجل: أتراها ما أبردها, والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم, فقال له مسلم: أنت أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي, ثمّ جاؤوا له بقُلّة فيها ماء وقدح فصُبَّ فيه ماءٌ باردٌ, وقالوا له: اشرب, فأخذ القدح ليشرب فامتلأ القدح دماً فلم يقدر على الشرب, ففعل ذلك ثلاثاً, فلمّا كان في الثالثة أدنى القدح ليشرب فسقطت ثناياه في القدح, فقال: لو كان من الرزق المقسوم لشربت, ثمّ أُدخل على ابن زياد وجرى بينه وبين ابن زياد كلام فاستشاط ابن زياد غضباً وأمر بأن يُصعد بمسلم إلى أعلى القصر ويُضرب عنقه, فأُصعد مسلم إلى أعلى القصر, ومسلم يسبّح الله ويكبّره ويقول: اللهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا وكذبونا, وتوجّه نحو المدينة وسلّم على الحسين عليه السلام..

صعدوا بمسلم والدمع يجري من العين

اوجّه اوجهه للحجاز ايخاطب احسين

يحسين أنا مگتول ردوا لا تجوني خانوا اهل كوفان عگب ما بايعوني
او للفاجر ابن زياد كلهم سلموني

مفرد ونتوا يا هلي عني بعيدين


ثمّ رفع اللعين سيفه, آجركم الله, عظّم الله لك الأجر يا أبا


52


عبد الله, وضرب مسلماً على عنقه فقطع رأسه, ثمّ رمى به من أعلى القصر, رحم الله من نادى: وامسلماه أي واسيّداه أي وامظلوماه, ولم يكتفوا بذلك بل ربطوا برجليه الحبال وجعلوا يسحبونه في الأسواق..."
 

قَتَلُوهُ ظَمْآناً وَقَدْ فَعَلُوا بِهِ

مَا لَيْسَ يَفْعَلُ قَاْتِلٌ بِقَتيْلِ

صَعِدُوا بِهِ قَصْرَ الِإمَارَةِ نَازِلاً لِلأَرْضِ حِينَ رَمَوْهُ أَيَّ نُزُولِ
سَحَبْوهُ فِي الأَسْوَاقِ وَهْوَ مُرَمَّلٌ

بِدَمِ الشَّهَادَةِ أَفْضَلَ التَّرْمِيلِ


 

عادة اليستجير يكون ينجار

وعن گتله حليف الشرف ينجار

مثل مسلم صدگ بالحبل ينجار او تتنومس بگتله علوج اميه


ولمّا قتل مسلم جاء الخبر إلى الإمام الحسين عليه السلام وهو في زرود فأخذ يسترجع ويقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون وبكى, واشتدّ به الحزن, وقال: رحمك الله يا مسلم, لقد وفيت بعهدك ولقيت ربّك, فارتجّ الموضع بالبكاء لقتل مسلم ابن عقيل, وصار كلّ واحد يلطم على رأسه وينادي: وامسلماه, ثمّ دعا الحسين بطفلة لمسلم اسمها حميدة, فلمّا جاءت إليه أجلسها الإمام في حجره وأخذ يمسح على رأسها كما يُفعل بالأيتام


53


فقالت: يا عمّ, ما رأيتك قبل هذا اليوم تفعل بي مثل هذا, أظنّ أنّه قد استُشهد والدي مسلم, فقال لها: بنيّة, أنا أبوك وبناتي أخواتك, فصاحت ونادت: واأبتاه, وامسلماه...

من اجت عد عمها حميده

گعدت تون ونّه شديده

تگله يعمي ابوي أريده أشوف سفرته صارت بعيده
يگلها وبگه يصفگ بإيده

بالكوفه ابيّك بگه وحيده

وأهل الغدر گطعوا وريده صاحت وتجري الدّمع علخد
يتيمة صرت ومالي احد

گلبي كسرت يا غريب الغاضرية

مثل اليتامى تمسح بكفك عليه تمسح على راسي ودمع العين
كني يتيمه الكافي الله من هالاحوال

ما عودتني بها الفعل من گبل يا خال

خليت دمعاتي على خدي جريه تمسح على راسي ودمع العين سايب
هذا يعمي من علامات المصايب  

54



نعم, كان الحسين يتفقّدها في كلّ حين ويسأل عنها ويجلسها في حجره ويسلّيها, فلم تشعر باليتم, وخصوصاً أنّها لم تر مصاب أبيها بعينها, ولكنّ أسفي على سكينة بنت الحسين عليه السلام, بأيّ حالة رأت أباها؟ رأته مكبوباً على وجهه وقد تكدّست السهام على بدنه, فلمّا رأته صاحت: واأبتاه, واحسيناه, ثمّ رمت بنفسها عليه تقبّله فجاءها جماعة من الأعداء أرادوا أن ينحّوها عن أبيها, فما استطاعوا فأخذوا يضربونها بسياطهم..
 

يا بويه يضربوني واشقف بديه

إشبيدي على دهري الخان بيه

بويه أنا امنين إجتني الغاضريه بويه راحوا هلي من بين إديه


 

مَنْ ذَا تُرَاهُ مُشَمِّراً مِنْ دُوْنِهَا

مَنْ ذَا تؤَمِّلُهُ بِحِفْظِ شُؤُونِهَا

مَنْ تَرْتَجِيهِ سَائِقاً لِظُعُونِهَا أَيَسُوقُهَا زَجْرٌ بِضْربِ مُتُونِهَا
وَالشِّمْرُ يَحْدُوهَا بِسَبِّ أَبِيهَا  


55