مجلس الإمام زين العابدين عليه السلام في الشام

وَمَا أَنْسَ لَا أَنْسَ النِّسَاءَ بِكَرْبَلَا
وَلَمَّا رَأَيْنَ المُهْرَ وَافَى وَسَرْجُهُ
وَلَا أَنْسَ أُخْتَ السِّبْطِ زَيْنَبَ إذْ رَنَتْ
تَقُوْلُ وَدَمْعُ العَيْنِ يَسْبِقُ نُطْقَهَا
أَخِيْ يَا هِلَالاً غَابَ بَعْدَ كَمَالِهِ
أخِيْ أَيَّ رُزْءٍ أَشْتَكِيْ وَمُصِيْبَةٍ
أَمِ الجِسْمَ مَرْضُوضاً أَمِ الشَّيْبَ قَانِياً
أَمِ العَابِدَ السَّجَّادَ أَضْحَى مُغَلَّلاً
أَمِ النِّسْوَةَ الّلاتي بَرَزْنَ حَوَاسِراً
وَيُحْضِرُهَا فِيْ مَجْلِسِ الَّلهْوِ شَامِتاً
وَيُحْضِرُ رَأسَ ابْنِ النَّبِيِّ أَمَامَهُ
حَيَارَى عَلَيْهِنَّ المَصَائِبُ صُبَّتِ
خَلِيٌّ تَوَافَتْ بِالنَّحِيْبِ وَرَنَّتِ
إِلَيْهِ وَنَادَتْ بِالعَوِيْلِ وَحَنَّتِ
وَفِيْ قَلْبِها نَارُ المَصَائِبِ شَبَّتِ
فَأَضْحَى نَهارِيْ بَعْدَهُ مِثْلَ لَيْلَتِي
فِرَاقَكَ أَمْ هَتْكِيْ وَذُلِّيْ وَغُرْبَتِي؟
أَمِ الرَأسَ مَرْفُوعاً كَبَدْرِ الدُّجُنَّةِ
عَلِيْلاً يُقاسِيْ فِي السُّرَى كُلَّ كُرْبَةِ
كَمِثْلِ الْإِما يُشْهَرْنَ فِي كُلِّ بَلْدَةِ
يَزيْدٌ تَغَشَّاهُ الإِلَهُ بِلَعْنَةِ
وَيَنْكُتُ مِنْهُ الثَّغْرَ بِالخَيْزُرَانَةِ

101


شعبي:

يحسين راسك وين ما روح
والجسم بالطف عفته مطروح
بالغاضرية تمسي مذبوح
ودمعه على الوجنات مسفوح
اگبالي وفوگ السمهري يلوح
تلعب عليه الخيل وتروح
وعليلك يفت الروح بالنوح
وبناتك تلوع ابقلب مجروح


أبوذيّة:

شفنه من رزايا الدهر يامر
ولا من الهواشم شخص يامر
عليّه الشمر گام يتشتّم يامر
ويجي يشوف بت حامي الحميّه

102


كان يزيد لعنه الله يحضر النساء والإمام زين العابدين عليه السلام إلى مجلسه مرّة بعد أخرى, وروي أنّه في إحدى المرّات قال لزينب عليها السلام: تكلّمي, فقالت: هو المتكلّم, فأنشد السجَّاد:

لَا تَطْمَعُوْا أَنْ تُهِينُونَا فَنُكْرِمَكُمْ  
وَاللهُ يَعْلَمُ أَنَّا لَا نُحِبُّكُمُ         
وَأَنْ نَكُفَّ الأَذَى عَنْكُمْ وَتُؤذُوْنَا
وَلَا نَلُوْمُكُمُ أنْ لَا تُحِبُّوْنَا

فقال: صدقت يا غلام، ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين, والحمد لله الذي قتلهما وسفك دماءهما, فقال عليه السلام: لم تزل النبوّة والإمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد..
ثمّ قال عليّ بن الحسين عليهما السلام: ويلك يا يزيد, إنّك لو تدري ماذا صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور أن يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعليّ منصوباً على باب مدينتكم, وهو وديعة رسول الله فيكم, فأبشر بالخزي والندامة غداً إذا جُمع النّاس ليوم القيامة.

فغضب يزيد لعنه الله وأمر بقتل الإمام عليه السلام, فأنشأ الإمام السجّاد عليه السلام يقول:


103


أُنَادِيْكَ يَا جَدَّاهُ يَا خَيْرَ مُرْسَلٍ
وَآلُكَ أَمْسَوْا كَالإِمَاءِ بِذِلَّةٍ
يَرُوْعُهُمْ بِالسَّبِّ مَنْ لَا يَرُوْعُهُ
فَلَيْتَكَ يَا جَدَّاهُ تَنْظُرُ حَالَنَا
حَبِيْبُكَ مَقْتُولٌ وَنَسْلُكَ ضَايِعُ
تُشَاعُ لَهُمْ بَيْنَ الأَنامِ فَجَائِعُ
سِبَابٌ وَلَا رَاعَ النَّبِيِّيْنَ رَائِعُ
نُسَامُ ونُشْرَى كَالإِمَاءِ نُبَايَعُ

ودفع الله تعالى عنه القتل..
وأحضر يزيد يوماً أهل البيت وأمر بمنبر وخطيب وقال للخطيب: اصعد واذكر مناقبنا ومثالب أعدائنا, فصعد الخطيب المنبر وأكثر الوقيعة في عليّ والحسين عليهما السلام وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد لعنهما الله, فذكرهما بكلّ جميل, فصاح به عليّ بن الحسين عليهما السلام: ويلك أيّها الخاطب, اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوّأ مقعدك من النّار.

ثمّ قال عليّ بن الحسين عليهما السلام: يا يزيد ائذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات لله فيهن رضا ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب, فأبى يزيد عليه ذلك, فقال النّاس: يا أمير المؤمنين, وما قدر ما يحسن هذا؟ فقال: إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّا, فلم يزالوا به حتّى أذن له, فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه, ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون, وأوجل منها


104


 القلوب, ثمّ قال: أيّها النّاس أُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع, أعطينا العلم والحِلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين, وفُضِّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّداً, ومنّا الصدّيق ومنّا الطيّار, ومنّا أسد الله وأسد رسوله, ومنّا سبطا هذه الأمّة, من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.

أيّها النّاس أنا بن مكّة ومنى, أنا ابن زمزم والصفا, أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا, أنا ابن خير من اتّزر وارتدى, أنا ابن خير من انتعل واحتفى, أنا ابن خير من طاف وسعى, أنا ابن خير من حجّ ولبّى, أنا ابن من حُمل على البُراق في الهواء, أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, أنا ابن من بلغ به جبرئيل سدرة المنتهى, أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى, أنا ابن من صلّى بملائكة السماء, أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى, أنا ابن محمّد المصطفى, أنا ابن عليّ المرتضى, أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا لا إله إلّا الله, أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين, وطعن برمحين, وهاجر الهجرتين, وبايع البيعتين, وقاتل ببدرٍ وحنين, ولم يكفر بالله طرفة عين, أنا ابن صالح المؤمنين,


105


ووارث النبيّين, وقامع الملحدين, ويعسوب المسلمين, ونور المجاهدين, وزين العابدين, وتاج البكّائين, وأصبر الصابرين, وأفضل القائمين من آل ياسين رسول ربّ العالمين, أنا ابن المؤيّد بجبرئيل, المنصور بميكائيل, أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين, وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين, والمجاهد أعداءه الناصبين, وأفخر من مشى من قريش أجمعين, وأوّل من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين, وأوّل السابقين, وقاصم المعتدين, ومبيد المشركين, وسهم من مرامي الله على المنافقين, ولسان حكمة العابدين, وناصر دين الله, ووليّ أمر الله, وبستان حكمة الله, وعيبة علمه, سمْح سخيّ بهيّ, بُهلول زكيّ, أبطحيّ رضيّ, مقدام هُمام, صابر صوّام, مهذّب قوّام, قاطع الأصلاب, ومفرّق الأحزاب, أربطهم عِناناً, وأثبتهم جَناناً, وأمضاهم عزيمةً, وأشدّهم شكيمةً, أسدٌ باسل يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنّة طحن الرحى ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم, ليث الحجاز وكبش العراق, مكيّ مدنيّ, خيفيّ عقبيّ, بدريّ أُحُديّ, شجريّ مهاجريّ, من العرب سيّدها, ومن الوغى ليثها, وارث المشعرَيْن, وأبو السبطَيْن الحسن والحسين, ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب.


106


ثمّ قال: أنا ابن فاطمة الزهراء, أنا ابن سيّدة النساء, أنا ابن خديجة الكبرى, أنا ابن المقتول ظلماً, أنا ابن المجزوز الرأس من القفا, أنا ابن العطشان حتّى قضى, أنا ابن طريح كربلا, أنا ابن مسلوب العِمامة والردا, أنا ابن من بكت عليه ملائكة السما, أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الأرض, والطير في الهواء, أنا ابن من رأسه على السنان يهدى, أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تُسبى.

أيّها النّاس, إنّ الله تعالى وله الحمد ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن حيث جعل راية الهدى والعدل والتقى فينا, وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا.
فلم يزل يقول: أنا أنا.. حتّى ضجّ النّاس بالبكاء والنحيب, وخشي يزيد - لعنه الله - أن يكون فتنة, فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام.

فلمّا قال المؤذّن: الله أكبر الله أكبر, قال عليّ عليه السلام: لا شيء أكبر من الله, فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلّا الله, قال عليّ ابن الحسين عليهما السلام: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي, فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله, التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمّد هذا جدّي أم جدّك يا يزيد؟ فإن زعمت


107


أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت, وإن زعمت أنّه جدّي فلمَ قتلت عترته؟! (فلم قتلت أبي ظلماً وانتهبت ماله وسبيت نساءه؟!).

فلم يجبه يزيد, وفرغ المؤذّن من الأذان والإقامة, وتقدّم يزيد فصلّى صلاة الظهر..
ثمّ إنّ يزيد بن معاوية أمر فأنزلوا آل الرسول وحرائر النبوّة والرسالة وبنات عليّ والزهراء عليهما السلام في محبسٍ لا يقيهم من حرّ ولا برد, وليس فيه سقف يظلّهم من حرارة الشمس, فكانت الشمس تصهرهم في حرارة الظهيرة, حتّى تقشّرت وجوههم من حرارتها..
 

أَنْزَلُوْهُمْ فِيْ خَرْبَةٍ لَيْسَ فِيْهَا
لَا تَقِيْهِمْ حَرَّ الهَجِيْرِ بِظِلٍّ
غَيْرُ مَهْدِ الثَّرَى وَسَقْفِ السَّمَاءِ
وَهْوَ يَصْلَى وَلَا لِهِيْبَ ذُكَاءِ

وخرج زين العابدين عليه السلام يوماً من الخربة يتروّح, فلقيه المنهال بن عمر فقال له: كيف أصبحت يا بن رسول الله؟ فقال: ويحك! أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت؟ أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبِّحون أبناءنا ويستحيون نساءنا، وأصبح خير البريّة بعد محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يُلعن على المنابر، وأصبح عدوّنا يُعطى المال والشرف، وأصبح من يحبّنا محقوراً منقوصاً حقّه، وكذلك لم يزل المؤمنون، وأصبحت العجم


108


 تعرف للعرب حقّها بأنّ محمّداً كان منها، وأصبحت العرب تعرف لقريش بأنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم كان منها، وأصبحت قريش تفتخر على العرب بأنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم كان منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم كان منها، وأصبحنا أهل البيت لا يُعرف لنا حقّ فهكذا أصبحنا يا منهال..

قال المنهال: فبينا نحن نتحدّث, وإذا بامرأةٍ خرجت وهي تنادي: إلى أين تمضي يا نعم الخلف ويا بقيّة السلف؟ فتركني وأسرع إليها, فسألت عنها فقيل: هذه عمّته زينب..

هَتَفَتْ كُلُّ وَالِهٍ وَهْيَ ثَكْلَى
قُلْ لِحَادِي السُّرَى إِذا شَدَّ رَحْلاً
نَاظِرٌ دَامِعٌ وَقَلْبٌ مَرُوْعُ
وَدَمْعُ العَيْنِ فِي الخُدُودِ اسْتَهَلَّا
فَتَرَفَّقْ بِهَا فَمَا هِيَ إلّا

109