مجلس الخروج من كربلاء والرجوع إلى المدينة

قِفْ بِالطُّفُوْفِ وَنُحْ بِقَلْبٍ مُكْمَدِ
لَمْ أَنْسَ زَيْنَبَ إذْ دَعَتْ سُكَّانَهَا
بِاللهِ هَلْ شِيلَتْ جَنَازَتُهُ الَّتِيْ
فَيَخَالُ لِيْ أَنَّ الجَوَابَ أَتَى لَهَا
يَا عَائِدُوْنَ بِرَأسِ سِبْطِ مُحَمَّدٍ
مَهْلاً دَعُوْهُ يُسَائِلُ الجَسَدَ الَّذِيْ
مَاذَا جَرَى بَعْدِيْ عَلَيْكَ مِنَ العِدَا
وَأنَا أُخِذْتُ إلَى دِمَشْقَ مَعَ العِدا
وَكَأَنَّمَا الجَسَدُ الشَّرِيْفُ يُجِيْبُهُ
وَغَدَتْ عَلَى صَدْرِيْ تَجُوْلُ خُيُوْلُهُمْ
وَتُرِكْتُ فَوْقَ ثَرَى الصَّعِيْدِ مُجَرَّداً
وَاسْأَلْ بِهَا عَنْ رَكْبِ آلِ مُحَمَّدِ
هَلْ تَعْلَمُوْنَ بِجُثَّةِ الظَّامِي الصَّدِي
بَقِيَتْ عَلَى حَرِّ الثَّرَى المُتَوَقِّدِ
تِلْكَ القُبُوْرُ فَأَعْوِلِيْ وَتَنَهَّدِي
كَيْ تُوْدِعُوْهُ وِجِسْمَهُ فِيْ مَرْقَدِ
فَصَلَتْهُ آلُ أُمَيَّةٍ بِمُهَنَّدِ
لَمَّا بَقِيْتَ وَأَنْتَ غَيْرُ مُوَسَّدِ؟
وَضُرِبْتُ فِيْ سَوْطِ الطَّلِيْقِ المُفْسِدِ
مِنْ بَعْدِ قَطْعِ الرَّأسِ قَدْ قَطَعُوْا يَدِي
عَمْداً تَرُوْحُ إلَى الطِّرَادِ وَتَغْتَدِي
طاوٍ وَحَرُّ حَشاشَتِي لَمْ يَبْرُدِ

135


يا دافِنِي رَأسِ الحُسَيْنِ بِقَبْرِهِ
وَتَرَيَّثُوْا حَتَّى تُقِيْمَ مَناحَةً
رِفْقاً بِجِسْمٍ بِالسُّيُوْفِ مُبَدَّدِ
مِنْ فَوْقِ حُفْرَتِهِ بَنَاتُ مُحَمَّدِ

شعبي:

يخويه امن السبي جينه ولفيناك
يخويه ابنفسي أگعد اوياك
يخويه اشلون ولية اعداك
يخويه اتحيرت والله ابيتاماك
يخويه اگبالي اوضربوا ثناياك
يخويه وللگبر كلنا گصدناك
يخويه اتيسرت من عقب عيناك
يخويه لا كفن لا دفن عفناك
يخويه كل مرار الگيته اهناك
يخويه وينشتم ممدوح الأملاك

أبوذيّة:

اشكثر قاسيت من هالدهر مرّه
يحادي ظعني اعلى احسين مرّه
ولا ثغري بسّم بالفرح مرّه
نريد انودعه وننصب عزيّه

136


قالوا: لمّا وصلت السبايا إلى كربلاء توزّعت النساء على القبور وأخذت كلّ واحدة تنوح على قبر قتيلها, وهنا تخيّل كيف حال بنات رسول الله ونساء أهل البيت, كلّ واحدة عند فقيدها..

زينب تصب دمعات العيون
اگعد وشوف أحوالنه اشلون
بدموع عبره وقلب محزون
وتصيح يالباللحد مدفون
وانظر يتاماك الينوحون
وضرب السياط أثّر بالمتون


الرباب أمّ عبد الله أقبلت والثكل بادٍ عليها منادية: سيّدي (يا زين العابدين) أين قبر ولدي الرضيع؟ دلّني عليه, فأقبل بها على قبر أبيه الإمام الحسين عليه السلام وعيناه تمطران دموعاً, وقال: ها هنا دفنت ولدك وأشار إلى جانب صدر الحسين عليه السلام على القبر الشريف..

يبني بجاه أبوك بجاه جدّك
أريد احط خدي اعلى خدك
يبني تفك باب لحدك
أخاف تنام الليل وحدك

137


رملة عند ولدها القاسم:

يبني أرد افكّ گبر النمت بيه
يا گبر جاسم عينك اعليه
ما يحمل ابني خاف تاذيه
أو بيك ارد اكلفه او بيك أوصيه
بتراب لحدك لا تغطيه

أمّ كلثوم عند أبي الفضل العبّاس عليه السلام:

اشلون الثرى تضم جسمك يا عباس
نور العين والتاج العلى الراس
وانت طودها الشامخ اعلى النّاس
تاليها بقبر من غير تكفين

سكينة عند قبر أبيها الحسين عليه السلام:

هوت سكنه على قبر حسين تشكي
علمني شگول للناس شحكي
يا يابه الما كنت ترضى من ابكي
لو گالوا يا سكنه الدللك وين

لم يجد السجّاد عليه السلام بُدّاً من الرحيل من كربلاء إلى المدينة بعد أن أقام ثلاثة أيّام, لأنّه رأى عمّاته ونساءه وصبيته نائحات الليل والنهار يقمْن من قبر ويجلسن عند آخر..


138


فأمر عليّ بن الحسين عليه السلام بشدّ الرحال فشدّوها, فصاحت سكينة بالنساء لتوديع قبر أبيها, فدرن حول القبر فحضنت سكينة قبر أبيها وبكت بكاءً شديداً وحنّت وأنّت وأنشأت تقول:

أَلَا يَا كَرْبَلَا نُوْدِعْكِ جِسْماً
أَلَا يا كَرْبَلَا نُودِعْكِ رُوْحاً
بِلَا كَفَنٍ وَلَا غُسْلٍ دَفِيْنَا
لِأَحْمَدَ وَالوَصِيِّ مَعَ الأَمِيْنَا

 

يحسين لو بيدي الأمر كان
فگدك تظن خويه عَلَيّ هان
يتالي هلي بيك الدهر خان
إبنيت اعلى گبرك بيت الأحزان
إلك تشتعل بالقلب نيران
يا هظمتي او فرحت العدوان


وقيل لعليّ بن الحسين عليهما السلام: دع النساء تتزوّد من أهلها, فقال: يا قوم إنّكم لا ترون ما أرى, إنّي أخشى على عمّتي زينب أن تموت, إنّها تقوم من قبر وتجلس عند قبر..


139


والتفت الإمام زين العابدين عليه السلام إلى عمّته زينب عليها السلام وقال: عمّه زينب قومي لنركب ونمضي, قالت: إلى أين يا بن أخي؟ قال: إلى المدينة, قالت: ومن ذا بقي لي في المدينة؟!

بعد شلنه يعمه بالمدينه
يعمه فراقهم يصعب علينه
يعمّه بالمدينه بعد شلنه
نريد بكربلا انگيمه حزنّه
وهاي قبور أهلنا يا ولينه
غابوا وما بقى منهم بقيّه
بقت ظلمه وخليّه ديار اهلنه
وعلى اگبور الأهل ننصب عزيّه

140


(أخي أبا عبد الله, ستبقى في ذاكرتي, وفي قلبي, لا تنطفي نيران حزني عليك).

ثمّ انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة, قال بشير بن حذلم فلمّا قربنا منها نزل عليّ بن الحسين عليهما السلام فحطّ رحله، وضرب فسطاطه وأنزل نساءه وقال: يا بشير! رحم الله أباك لقد كان شاعراً فهل تقدر على شيء منه؟ قلت: بلى يا بن رسول الله إنّي لشاعر, قال: فادخل المدينة وانع أبا عبد الله، قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة فلمّا بلغت مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:

يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ بِهَا
أَلجِسْمُ مِنْهُ بِكَرْبَلَاءَ مُضَرَّجٌ
قُتِلَ الحُسَيِنُ فَأَدْمُعِيْ مِدْرَارُ
وَالرَّأسُ مِنْهُ عَلَى القَناةِ يُدارُ

قال: ثمّ قلت: هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه، فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلّا برزن من خدورهنّ مكشوفة شعورهنّ مخمّشة وجوههنّ، ضاربات خدودهنّ، يدعون بالويل والثبور، فلم أرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه، وسمعت جارية تنوح على الحسين فتقول:


141


نَعَى سَيِّدي نَاعٍ نَعَاهُ فَأَوْجَعَا
فَعَيْنَيَّ جُوْدَا بِالدُّمُوْعِ وَاسْكُبَا
عَلَى مَنْ دَهَى عَرْشَ الجَلِيْلِ فَزَعْزَعَا
وَأَمْرَضَنِي نَاعٍ نَعَاهُ فَأَفْجَعَا
وَجُوْدَا بِدَمْعٍ بَعْدَ دَمْعِكُمَا مَعَا
فَأَصْبَحَ هَذَا المَجْدُ وَالدِّيْنُ أَجْدَعَا

ثمّ قالت: أيّها الناعي جدّدت حزننا بأبي عبد الله وخدشت منّا قروحاً لمّا تندمل، فمن أنت رحمك الله؟ فقلت: أنا بشير ابن حذلم, وجّهني مولاي عليّ بن الحسين عليهما الصلاة والسلام وهو نازل في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله ونسائه، قال: فتركوني مكاني وبادروا فضربت فرسي حتّى رجعت إليهم فوجدت النّاس قد أخذوا الطرق والمواضع فنزلت عن فرسي وتخطّيت رقاب النّاس حتّى قربت من باب الفسطاط وكان عليّ بن الحسين عليهما السلام داخلاً ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسيّ فوضعه له وجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة وارتفعت أصوات النّاس بالبكاء، وحنين الجواري والنساء، والنّاس من كلّ ناحية يعزّونه فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة, فأومأ بيده أن: اسكتوا، فسكنت فورتهم فقال عليه السلام: "الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين الذي بعد فارتفع في


142


السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاضعة، الكاظّة الفادحة الجائحة, أيّها النّاس إنّ الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله وعترته، وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة, أيّها النّاس! فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار والملائكة المقرّبون، وأهل السماوات أجمعون, أيّها النّاس! أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟ أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام؟, أيّها النّاس أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين شاسعين عن الأمصار كأنّا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إنْ هذا إلّا اختلاق, والله لو أنّ النَّبيَّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاءة بنا لما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا


143


 لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأوجعها وأفجعها، وأكظّها، وأفظّها، وأمرّها، وأفدحها! فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ بنا إنّه عزيز ذو انتقام".

يَا مُصَاباً زَلزَلَ السَّبْعَ العُلَى
وَنَجِيْعُ الدَّمْعِ نَادَى قَائِلَا
مَا لَقِي عِنْدَكِ آلُ المُصْطَفَى
وَلَهُ الكَوْنُ بَحُزْنٍ أَعْوَلَا
كَرْبَلَا لَا زِلْتِ كَرْباً وَبَلَا

144