مجلس حزن الإمام السَّجَّاد على أبيه الحسين عليهما السلام

قُرِحَتْ جُفُوْنُكَ مِنْ قَذًى وسُهَادِ
فَأَسِلْ فُؤَادَكَ مِنْ جُفُونِكَ أَدْمُعاً    
وَانْدُبْ إِمَاماً طَاهِراً هُوَ سَيِّدٌ         
مَا أَبْقَتِ البَلْوَى ضَنًى مِنْ جِسْمِهِ      
لَهْفِيْ عَلَيْهِ يَئِنُّ فِيْ أَغْلَالِهِ           
مُضْنىً وَجَامِعَةُ الحَدِيْدِ بِنَحْرِهِ        
تَحْدُوْ بِهِِ الأَضْعَانُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى            
وَالشَّامُ إِنَّ الشَّامَ أَفْنَى قَلْبَهُ                
لَمْ يَلْقَ فِيْهِ سِوَى القَطِيْعَةِ وَالعِدَى           
سَلْ عَنْهُ طَيْبَةَ هَلْ بِهَا طَابَتْ لَهُ             
هَلْ ذَاقَ طَعْمَ الزَّادِ طُوْلَ حَيَاتِهِ            
إِنْ لَمْ تَفِضْ لِمُصِيْبَةِ السَّجَّادِ
وَاقْدَحْ حَشَاكَ مِنَ الأَسَى بِزِنَادِ
لِلسَّاجِدِيْنَ وزِينَةُ العُبَّادِ
وَهُوَ العَلِيْلُ سِوَى خَيَالٍ بَادِي
بَيْنَ العِدَى ويُقَادُ بِالأَصْفَادِ
غُلٌّ يُعَانِيْ مِنْهُ شَرَّ قِيَادِ
بَلَدٍ وتُسْلِمُهُ إِلَى الأَحْقَادِ
أَلمَاً وآلَ بِصَبْرِهِ لِنَفَادِ
وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَالحُسَّادِ
بَعْدَ الحُسَيْنِ نَوَاظِرٌ بِرُقَادِ؟
إلَّا وَيَمْزُجُ دَمْعَهُ بِالزَّادِ

167



شعبي:

عجيب الشِرَب ماي ابشربته اتهنّه
منهو الشاف مثل احسين وامصابه ابقلبه
يطلب ماي من احسين طلابه
يللي تناشدني عليمن تهمل العين كل
يا ليت قبل اضلوعه انرضت اضلوعي
إبكي على امصابه كل صبح ومسيّه
لا زال تندب يا ضحايا الغاضريّه
او مات احسين ظامي اولا شرب منّه
انصاب وإيده انشلّت الصابه
هذا امصاب لا دونه ولا عنّه
البكا والنوح والحسرة على احسين
ومن دون خده اتعفّرت مني الخدين
ابكي وساعد عالبكا الزهره الزكيّه
يحسين وين اللي يواسيني على احسين


أبوذيّة:

يريت الصاب كبد احسين منشال
اسلبوه او ما بگاله ثوب منشال
اوظل نايم على التربان منشال
او ولوه من طاح يوم الغاضرية

168



قال ابن نما: ثمّ دخل زين العابدين عليه السلام وجماعته دار الرسول فرآها مقفرة الطلول خالية من سكّانها خالية بأحزانها قد غشيها القدر النازل وساورها الخطب الهائل وأطلّت عليها عذابات المنايا وظلّلتها جحافل الرزايا وهي موحشة العرصات لفقد السادات..

وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: بكى عليّ بن الحسين على أبيه حسين بن عليّ عليهما السلام عشرين سنة، أو أربعين سنة1، وما وَضع بين يديه طعاماً إلّا بكى على الحسين، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني العبرة لذلك.

وكان عليّ بن الحسين عليهما السلام يميل إلى ولد عقيل، فقيل له: ما بالك تميل إلى بني عمّك هؤلاء دون آل جعفر، فقال: إنّي أذكر يومهم مع أبي عبد الله الحسين بن عليّ عليهما السلام، فأرقّ لهم.

وفي المناقب: وقيل: إنّه بكى حتّى خيف على عينيه.
وكان إذا أخذ إناءً يشرب ماءً بكى، حتّى يملأه دمعاً، فقيل


169


 له في ذلك فقال: وكيف لا أبكي؟ وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش.

وقيل له: إنّك لتبكي دهرك، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا، فقال: نفسي قتلتها، وعليها أبكي.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: ولقد بكى على أبيه الحسين عليه السلام عشرين سنة، وما وُضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتّى قال له مولى له: يا بن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك، إنّ يعقوب النبيّ عليه السلام كان له اثنا عشر ابناً، فغيّب الله عنه واحداً منهم، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ. وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي، وأخي، وعمّي، وسبعة عشر من أهل بيتي، مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟!

وروي أنّه: أشرف مولى لعليّ بن الحسين عليهما السلام، وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي، يا عليّ بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فرفع رأسه إليه، وقال: ويلك - أو ثكلتك أمّك - والله لقد شكى يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا


170


رأيت، حتّى قال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ2، إنّه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي..

واحد موزّع بالسيوف أوصال أوصال
واحد ابساعة عرسه مجدّل بالرّمال
وواحد بلا راس ولا يمنى ولا شمال
وعاين طفل مفطوم بسهام المنية

ولم يغب عن ذهن الإمام زين العابدين المشهد الفظيع، الذي رأى فيه حرق خيام بنات الرسالة وعقائل الوحي, ومنادي القوم ينادي: "أحرقوا خيام الظالمين", وقد فرَّت بنات الرسالة من خباء، إلى خباء والنّار تلاحقهنّ. أمّا اليتامى فقد علا صراخهنّ، فبين من تعلّق بأذيال عمّته الحوراء لتحميه من النّار, وبين من هام على وجهه في البيداء...

رَأَى اضْطِرَامَ النَّارِ فِي الخِبَاءِ
رَأَى هُجُوْمَ الكُفْرِ والضَّلَالَةْ
رَأَى فِرَارَهُنَّ فِيْ البَيْدَاءِ
شَاهَدَ فِيْ عَقائِلِ النُّبُوَّةْ
مِنْ نَهْبِهَا وَسَلْبِهَا وَضَرْبِها
وَهْوَ خِبَاءُ العِزِّ وَالإِبَاءِ
عَلَى بَنَاتِ الوَحْيِ وَالرِّسَالَةْ
وَهْوَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ الأَرْزَاءِ
مَا لَيْسَ فِي شَرِيعَةِ المُرُوَّةْ
وَلا مُجِيرَ قَطُّ غَيْرَ رَبِّها

171


روي أنّه دخل عليه يوماً أبو حمزة الثماليّ فوجده حزيناً كئيباً, فقال له يا بن رسول الله, أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقلّ؟ سيّدي إنّ القتل لكم عادة وكرامتكم من الله الشهادة, ألم يقتل جدّك عليّ بن أبي طالب بسيف ابن ملجم؟ ألم يقتل عمّك الحسن؟ فما هذا البكاء؟ فالتفت إليه الإمام زين العابدين عليه السلام وقال: شكر الله سعيك يا أبا حمزة, هل رأت عيناك أو سمعت أذناك أنّ علويّة سُبيت لنا قبل يوم عاشوراء؟ قتل الرجال لنا عادة, ولكن هل سبي النساء لنا عادة؟ هل حرق الخيام لنا عادة؟ والله يا أبا حمزة ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلّا وذكرت فرارهنّ يوم عاشوراء من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء ومنادي القوم ينادي، أحرقوا بيوت الظالمين وهنّ يلذن بعضهنّ ببعض وينادين: واجدّاه وا محمّداه..

قلبي يبو حمزة تراه تفطّر وذاب
ذيك البدور اللي ابمنازلهم يزهرون
سبعة وعشرة عاينتهم كلهم اغصون
مثل المصيبه اللي دهتني محّد انصاب
والليل كله من العبادة ما يفترون
فوق الوطية مطرّحين بحرّ التراب

172


وأعظم مصيبة زيّدت حزني عليّه
سلبوا عزنه وسيروا زينب سبيّه
ما نكست راسي لاجل فقد الأماجيد
نكّس راسي دخول زينب مجلس ايزيد
داست على جسم العزيز خيول أميّة
حسرى ومن كثر المصايب راسها شاب
ما گصروا بالغاضريّة زلزلوا الميد
هذا اللي هضمني والقلب من شوفته انعاب

نعم فأعظم المصائب على قلب مولانا وأوجعها لفؤاده دخولهم الشام, ولذا يقال إنّه حينما سئل عن أشدّ المصائب وأدهاها قال: الشام, الشام..
ويخرج إلى السوق أحياناً، فإذا رأى جزّاراً يريد أن يذبح شاة أو غيرها، يدنو منه، ويقول: هل سقيتها الماء؟ فيقول له: نعم يا بن رسول الله, إنّا لا نذبح حيواناً حتّى نسقيه ولو قليلاً من الماء, فيبكي عند ذلك، ويقول: وا أسفاه عليك أبا عبد الله الشاة لا تذبح حتّى تُسقى الماء وقد ذُبحت إلى جانب الفرات عطشانَ..

لَا يُذْبَحُ الكَبْشُ حَتَّىْ يُسْقَى مِنْ ظَمَأٍ       ويُذْبَحُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ عَطْشَانَا


173


وجاء عنه أنّه دخل يوماً، فرأى غريباً، فسلّم عليه، ودعاه إلى بيته لضيافته, وقال له بحضور جمع من الناس: أترى لو أصابك الموت وأنت غريب عن أهلك، هل تجد من يغسّلك ويدفنك؟ فقال النّاس: يا بن رسول الله، كلّنا يقوم بهذا الواجب, فبكى وقال: لقد قُتل أبو عبد الله غريباً، وبقي ثلاثة أيّام تصهره الشمس بلا غسل ولا كفن!

وهكذا كانت حال أئمّة أهل البيت عليهم السلام مع جدّهم الإمام الحسين عليه السلام, يبكونه ويرثونه ويحزنون لمصيبته..وهكذا هو حال إمام زماننا عجّل الله تعالى فرجه, فها هو يخاطب جدّه الحسين على ما في زيارة الناحية المقدّسة: "..فلئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً، حسرة عليك وتأسّفاً على ما دهاك وتلهّفاً، حتّى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتياب..

يبن الحسن شيل اللوا وگوم يمندوب لأخذ الثار كل يوم

174


تنسه الغريب المات مظلوم
تنسه سبي زينب او كلثوم
عطشان ومن الماي محروم
سارت سبايا وتطوي الحزوم

 

أَتَنْسَى أَبِيَّ الضَّيْمِ فِي الطَّفِّ مُفْرَداً
أَتَنْسَاهُ فَوْقَ التُّرْبِ مُنْفَطِرَ الحَشَى
تَحُوْمُ عَلَيْهِ لِلوَداعِ فَواطِمُهْ؟
تَناهَبُهُ سُمْرُ الرَّدَى وَصَوارِمُهْ؟

175


هوامش

1- الظاهر أن الترديد من الراوي
2- سورة يوسف, الآية 84.