مصرعُ عبدِ اللهِ الرَّضيعِ

ثمَّ تَقَدَّمَ الإمامُ الحسينُ عليه السلام إِلى بَابِ الخَيمةِ، وَدَعَا بِابنِه عَبدِ اللهِ الرَّضيعِ لِيُوَدِّعَه، فأَجلَسَه فِي حِجرِهِ، وَأَخذَ يقبِّلُهُ وَيقُولُ: "وَيلٌ لِهَؤُلاءِ القَومِ إِذَا كَانَ جَدُّكَ المُصطَفَى خَصمَهُم".
وفي بَعضِ المَقَاتِلِ: ثُمَّ أَتَى بِهِ نحوَ القومِ يطلُبُ لهُ المَاءَ، وقالَ: "يا قومُ، قَتَلْتُم شِيعَتي وأهلَ بَيْتِي, وقَدْ بَقِيَ هَذا الطِفلُ يَتَلَظَّى1 عَطَشاً, فاسقُوه شَربةً مِنَ المَاء".

فَرَمَاه حَرملَةُ بنُ كاهلِ الأَسَديّ بِسَهْمٍ فَذَبَحَهُ- وَهُوَ فِي حِجرِ أَبيه - فَتَلقَّى الحُسَينُ عليه السلام الدَّمَ بِكَفِّه، وَرَمَى بِهِ نَحوَ السَّماءِ.

فَعَنِ الإِمَامِ البَاقِرِ عليه السلام أَنَّه: "لَمْ يَسقُطْ مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ قَطرةٌ إِلى الأَرضِ".

وجاء فِي زيارةِ النّاحيةِ المقدَّسَةِ: "السَّلامُ عَلَى عبدِ اللهِ بنِ الحُسَينِ الطّفلِ الرَّضيعِ، المَرمِيِّ الصَّريعِ، المتُشحِّطِ2 دَمَاً، المُصعَّدِ دَمُهُ فِي السَّماءِ، المَذبوحِ بِالسّهمِ فِي حِجرِ أَبيهِ"...


64


ثمَّ قَالَ الحُسَينُ عليه السلام: "هَوَّنَ مَا نَزَلَ بِي أَنَّه بِعينِ اللهِ، اللهمَّ لا يَكُن أَهونَ عَلَيكَ مِن فَصيلِ (ناقَةِ صَالحٍ)، اللهمَّ إِنْ كُنتَ حَبَستَ عَنَّا النَّصرَ فاجْعَلْهُ لِمَا هُوَ خيرٌ مِنه، وَانتقِمْ لَنَا مِنَ الظَّالِمين"...

ثمَّ وَضَعَه مَعَ القَتلَى مِن أَهلِ بَيتِهِ.
يا ناس حتَّى الطفل مذبوح          دمّه على زند حسـين مسفوح
وين اليساعدني ويجي ينـوح       قلبي علـى فرگاه مجروح

ثمَّ إِنَّه عليه السلام أَمَرَ عِيَالَهُ بِالسُّكوتِ، وَوَدَّعَهم..
ثمَّ تَقَدَّمَ عليه السلام نَحوَ القَومِ مُصْلِتاً سَيفَه3، عَازِمَاً عَلَى الشَّهادَةِ، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى البِرَازِ، فَلَم يَزَلْ يَقْتُلُ كلَّ مَن بَرَزَ إِليه حتَّى قَتَلَ جَمعاً كَثيرَاً.

ثمَّ حَمَلَ عَلَى المَيمَنَةِ، وَهَوَ يقولُ:
المَوتُ أَولَى مِنْ رُكُوبِ العَارِ         وَالعَارُ أَولَى مِنْ دُخُولِ النَّارِ


ثمَّ حَمَلَ عَلَى المَيسَرةِ، وَهَوَ يَقولُ:
أَنَا الحُسَينُ بنُ عَلـي                  آليــــتُ أَنْ لا أنْثـــني
أَحمِي عِيالاتِ أَبِـي                    أَمضِي عَلَى دِيـنِ النَّبِي


قَالَ بعضُ مَنْ حَضَرَ المعرَكَةَ: فَوَاللهِ، مَا رأيتُ مَكثورَاً - يَعْنِي


65


 تَكَاثَرَ عَليهِ النَاسُ - قَطُّ، قَد قُتلَ وِلْدُه وَأهلُ بيتِهِ وَصَحبُهُ أَرْبَطَ جَأْشَاً مِنه، وَلا أَمضَى جَنانَاً وَلا أَجْرأَ مَقدَمَاً، وَلَم أَرَ قَبْلَهُ وَلا بَعدَهُ مِثْلَه، وَلقد كَانتِ الرِّجالُ لَتَشُدُّ عَلَيه، فَيشُدُّ عَلَيها، فَتَنكشفُ بينَ يَدَيْه...

ولَقَد كَانَ يَحمِلُ فِيهِم، وَقَد تَكامَلَوا ثَلاثِينَ أَلفَاً، فَينهزِمونَ بينَ يَديهِ كَأنَّهم الجَرَادُ المنتشرُ، وَلَم يَثْبُتْ لَه أَحَدٌ، ثمَّ يَرجِعُ إِلى مَركَزِه وَهَوَ يقولُ: "لا حولَ وَلا قوّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظيمِ"، حتَّى قَتَل مِنهُم مَقْتلةً عَظِيمَةً، فعندَ ذلك صاحَ عُمرُ بنُ سَعدٍ بقومهِ: الويلُ لكُم، أَتَدْرونَ مَنْ تُقاتِلُون؟..هذا ابنُ الأَنْزَعِ البَطِينِ..احْملُوا عَليهِ مِنْ كُلِّ جَانِب.

واستدعَى شِمْرُ الفُرْسَانَ, فَصَارُوا في ظُهُورِ الرجَّالَة, وأَمَرَ الرُمَاةَ أَنْ يَرْمُوه, فَرَشَقُوهُ بِالسِهَام..
وجَاءَ الشِمْرُ في جَمَاعةٍ مِنْ أَصْحَابِه, فَحَالُوا بَيْنَ الحسينِ عليه السلام وبَيْنَ رَحْلِهِ وَعِيَالِه.

فَصَاحَ بِهِم الحسينُ عليه السلام: "وَيْحَكُمْ يا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَان, إنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ وَكُنْتُم لا تَخَافُونَ المَعَاد, فَكونُوا أَحْرَاراً في دُنْياكُم وارجِعوا إلى أَحسَابِكُم إنْ كُنتُم عُرُباً كما تزعُمُون".

فناداه شِمرٌ: ما تقولُ يا ابنَ فَاطمة؟
فقال عليه السلام: "أقولُ: أنَا الذِي أُقَاتِلُكُم وَتُقَاتِلُونَنِي والنِّساءُ


66


ليسَ عَلِيْهِنَّ جُناح4, فَامنَعُوا عُتَاتَكُم وَجُهَّالَكُم عنِ التَعَرَّضِ لحَرَمِي مَا دُمْتُ حَيّاً".

فقالَ شِمٌر: لكَ ذَلِك.
ثمَّ صَاحَ بالقومِ: إِليْكُم عَنْ حَرَمِ الرجُل, فَاقصُدُوهُ بِنَفسِهِ فَلَعمْري لَهُوَ كَفْءٌ كريم. فَقَصَدَهُ القومُ واشتدَّ القِتَالُ، وجَعَلَ يَحْمِلُ عليهِم ويَحْمِلونَ عليهِ، وقَدْ اشتدَّ بهِ العطَشُ، وكلَّمَا حمَلَ بفرسِهِ على الفُراتِ حمَلوا عليهِ حتَّى أَجْلَوْهُ عنهُ.


67


هوامش

1- يتلظّى: يلتهب ويتوقّد.
2- تشحّط في دمه أي تلطّخ فيه واضطرب وتمرّغ.
3- أصلت سيفه: جرّده من غمده.
4- جُناح: إثم وتضييق.