الدرس الأول: الجهة العامة للخطيب

 وهي التي تبحث عن الحالة العامّة للخطيب بمعنى أنّها لا تختصّ بحال الخطاب وإلقاء الكلام بل تتعرّض لحالات الخطيب عموماً وماذا يجب عليه أن يفعل قبل حال الخطابة كي يستطيع التأثير على الجمهور بالشكل المطلوب، ويبحث فيها عن نقطتين رئيستين:


النقطة الأولى: منزلة الخطيب عند المخاطب

ممّا يزيد في تأثير هذا الأسلوب -أي الخطابة- على الجمهور منزلة الخطيب في نفوس سامعيه2. فلمعرفة شخصيّة الخطيب الأثر البالغ في التأثير على المخاطب. وذلك فيما إذا كان له شخصيّة محترمة سعى في إيجادها قبل أن يخاطب الناس ويطلب منهم الاقتناع بما يقوله. فلمعرفة منزلته تأثير كبير في سهولة انقياد المستمعين إليه والإصغاء له وقبول قوله، فإنّ الناس تنظر إلى من قال لا إلى ما قيل. وذلك بديهيّ، إذ أنّهم إذا عرفوا أن الخطيب الذي يتحدّث إليهم هو العالم الفلانيّ أو القائد الكذائيّ أو الوجيه الفلانيّ فإنّهم ينصتون


13

أكثر ممّا ينصتون لرجل عادي وتؤثّر كلماته فيهم بشكل أكبر من تأثير كلمات أخطب الخطباء فيما لو كان مجهولاً إلّا ما ندر من الحالات ممّا هو على خلاف ذلك.

والمنزلة الجيدة يكتسبها الخطيب في الحياة العامّة من كسب علم أو منصب أو نبوغ في ميدان من الميادين الحياتيّة المحبّبة إلى الناس.

ثمّ إنّ معرفة هذه المنزلة أو فلنقل تعريف المخاطب على هذه المنزلة (وهي أمر مهمّ و إلّا لا يتحقّق المطلوب) تحصل بإحدى طريقتين:


الطريقة الأولى

الأسلوب الذي كان متّبعاً قديماً. وهو أن يبدأ الخطيب بتعريف نفسه، حسبه ونسبه إن كان له ما يتشرّف به منهما. أو يثبت لنفسه فضيلة يكون بها أهلاً لأن يصدّق، كما قال تعالى حاكياً عن هود عليه السلام3:
﴿وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ4.

فإنّ ذلك يستدعي احترام المستمعين وإقبالهم عليه. وكذلك لو أثبت لنفسه فضيلة لا يمكن لأحد نكرانه. أو نفي سيئة عنها ما نجا منها إلّا أصحاب الفخر والفضل كأن يقول: "أيها الناس، اعلموا أنّي أنا من لا يعرف الفرار ولا النكوص". ونحو ذلك.

ولذلك نجد كثيراً من الخطباء القدامى كانوا يبدأون خطابهم بقول: "أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي. أنا فلان بن فلان، فاعل كذا وكذا، تارك كذا وكذا... وهكذا".

ولنعطك على ذلك أمثلة حيّة. استمع إلى قول السيّدة الزهراء


14


عليها السلام في خطبتها الشهيرة التي ألقتها في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بحضور الخليفة الأوّل تطالبه بحقّها من ميراث أبيها، حيث قالت في مستهلّ كلامها: "أيّها الناس، اعلموا أنّي فاطمة، وأبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً"5.

ومن ذلك أيضاً قول بعلها عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مستهلّ خطبة يعظ بها الناس ويبلغهم فيها أحكام الله: "تالله لقد علمت تبليغ الرسالات وإتمام العدات وتمام الكلمات وعندنا أهل البيت أبواب الحكمة وضياء الأمر"6.

فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ المخاطب بعد أن يعلم أنّ المتحدّث إليه لا يقول غلطاً أو يعلم أنّ المتكلّم معه خبير في تبليغ الرسالات، وعنده العلم بالأحكام، سيتوجّه إلى استماع ما يقوله غاية التوجّه وبالتالي يكون مجال إقناعه بما يراد إقناعه به أكبر وأسهل.


الطريقة الثانية

وهي الطريقة المتّبعة حاليّاً، وهي أن يأتي شخص آخر يسمّى بالمعرِّف أو عريف الحفل فيُطلع الحاضرين على مكانة وقدر المتكلّم ويبيّن لهم منزلته وعظم أمره ويعدِّد له فضائله ويشوّقهم إلى ما سيقوله لهم ثمّ يمدح الموضوع الذي سيتكلّم الخطيب فيه. وبكلمة أخرى يمهّد للخطيب أرضيّة الإلقاء المثمر. ولكن هذا الأسلوب يكاد يهجر لأنّ المعرِّف بات يهتمّّ بتبيين منزلة الخطاب أكثر من اهتمامه


15


تبيين منزلة الخطيب بل ربما لا يشير إلى الخطيب إلّا بذكر اسمه أو لقبه.

والمعرِّف لا بدّ له من إجادة الخطابة أيضاً كي يتمكّن من تقديم الخطيب إلى الناس بالشكل المطلوب الذي يترك فيهم التأثير ويهيئهم للاستماع إليه والإقبال عليه. ولا بدّ للمعرِّف من أمور:

1- أن يكون صوته جهوريّاً عاليّاً مسموعاً لجميع الحاضرين.

2- أن يتكلّم بهدوء وكأنّه يلقي الشعر على مسامعهم.

3- عليه أن يهتمّ بمخارج الحروف وإتقان التلفّظ بالكلمات بشكل سليم وواضح وقوي.

4- أن يستعمل العبارات الجزلة الفخمة حتّى كأنّه يقول شعراً إذ أنّ التعريف أشبه شيء بالشعر الحديث فلا بدّ أن يشتمل على تشابيه وكنايات واستعارات بشكل مناسب.

5- عليه أن يُلبس كلامه ثوباً من البديع بأن يطعّمه بشيء من السجع العفويّ المطلوب أو بقليل من الجناس وما شابه ذلك.

6- عليه أن لا يطيل الكلام وألاَّ يكون قد أخذ دور من يقوم بتقديمه للجمهور لإلقاء الخطاب، فإنّ هذا يثير اشمئزازهم.


النقطة الثانية: سلوك الخطيب في نظر المخاطب

إنّ قناعة المستمع بسلوك الخطيب لها مزيد التأثير في إمكان إقناعه وعدمه فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الخطيب إذا أراد أن يثبت أمراً ما ويقنع به الناس لا بدّ أن يكون مقتنعاً به أوّلاً وقبل الآخرين. فإذا كانوا يعلمون أنّ سلوكه على خلاف ما يقوله فسوف لن يكون لكلامه أيّ


16


تأثير فيهم. إذ كيف يقنعهم بحسن قول الصدق والابتعاد عن الكذب مثلاً في حال أنّهم يعلمون أنّه من أوّل الكذّابين. أم كيف يقنعهم بضرورة الاستبسال في الحرب وهو المعروف عندهم بأنّه جبان. وكيف يطلب منهم أن يزهدوا في الدنيا وهو مقبل عليها؟ فإنّ هكذا خطيب لن يحصد من كثرة كلامه إلّا التعب والنصب، هذا إن لم يستهزئوا به بل ربما ضربوه ببعض ما تيسّر لهم من القمامة.

وأحسن مثال يضرب لتبيين تناسب سلوك الخطيب مع كلامه ومدى تأثيره عليهم خطبة الحجّاج بن يوسف الثقفيّ في أهل العراق، وما جاءت به من أثر عجيب أدّى إلى إذعان الجميع لأمره وأمر خليفته بعد أن عجزت الدولة الأمويّة عن ضبط أمور العراق وكبت الفتن والمشاكل التي ما تكاد تخبو حتى تهبّ من جديد.

فقد جاء في تاريخ ابن عساكر7، وفي صبح الأعشى8 ما حاصله:

"قدم الحجّاج أميراً على العراق وقد دخل المسجد معمّماً بعمامةٍ قد غطّى بها أكثر وجهه متقلّداً سيفاً متنكّباً قوساً يؤمّ المنبر، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلّم وهم لا يعرفونه، فقال الناس بعضهم لبعض: "قبّح الله بني أميّة حيث تستعمل مثل هذا على العراق".
حتى قال عمر بن ضامئ الرجميّ: "ألا أحصبه9 لكم"؟
فقالوا: "أمهل حتى ننظر".
فلمّا رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال:


17


أنا ابن جلاّ وطلاّع الثنايا
                     متى أضع العمامة تعرفوني

يا أهل الكوفة أمّا والله أنّي لأحتمل الشرّ بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله وإنّي لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإنّي لصاحبها وإنّي لأنظر إلى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى، قد شمّرت عن ساقيها فشمّر10.

فإنّ كلامه هذا مع ما كان قد اشتهر عنه من الظلم والقسوة، و أنّه من أشدّ الناس حبّاً لسفك الدماء، وأنّه من أقسى الناس قلباً، حتى قيل أنّه لم يأخذ ثدي أمّه ليرضعه حينما كان طفلاً إلّا بعد أن لُطِّخ بدم شاة، قد عمل فيها عمله وأخافهم من بطشه وسطوته المعروفين.

وممّا يدلّّ على مدى تأثيره فيهم ما جاء في كتاب قصص العرب11 بعد إيراد خطبته المتقدّمة من أنّه قال: "يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين".

فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين... سلام عليكم...".

فلم يقل أحد منهم شيئاً فقال الحجّاج: "أكفف يا غلام".

ثمّ أقبل إلى الناس فقال: "سلّم عليكم أمير المؤمنين فلم تردّوا عليه شيئاً، هذا أدب ابن نهية12 أمّا والله لأؤدبنّكم غير هذا الأدب أو لتستقيمنّ، اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين".

فلمّا بلغ إلى قول سلام عليكم لم يبق أحد في المسجد إلّا قال:


18


"وعلى أمير المؤمنين السلام".

وهذا يدلّ بشكل واضح على مدى تأثير كلامه عليهم وما ذلك إلّا لما ذكرنا من التناسب بين السلوك والقول، ولذلك ترى أن خطبه الوعظيّة لم يكن لها ذلك الأثر على أحد، بل كانت موضع اشمئزاز وتعجّب، استمع إلى ما ورد من مثال لعدم التناسب بين سلوك الحجّاج وخطبه الوعظيّة.

خطب الحجّاج يوماً فقال: "أيّها الناس، قد أصبحتم في أجل منقوص وعمل محفوظ..." إلى أن قال: "هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك، هذه الشمس التي طلعت على التبابعة والأكاسرة وخزائنهم السائرة بين أيديهم وقصورهم المشيدة ثمّ طلعت على قبورهم. أين الملوك الأوّلون؟ أين الجبابرة المتكبّرون؟ المحاسب الله، والصراط منصوب، وجهنم تزفر وتتوقّد، وأهل الجنّة ينعمون في روضة يحبرون، جعلنا الله وإيّاكم من الذين إذا ذكِّروا بآيات الله لم يخرّوا عليها صمّاً وعمياناً".

فكان الحسن البصريّ يقول: "ألا تعجبون من هذا الفاجر؟ يرقى عتبات المنابر، فيتكلّم كلام الأنبياء وينزل فيفتك فتك الجبّارين. يوافق الله في قوله، ويخالفه في عمله"؟13

وبما أنّ الحسن البصريّ وغيره من أهل العراق وساكنيه ممّن حضر خطبته لم يكونوا ليجرؤوا على معارضة الحجّاج والردّ عليه لم يجيبوه بما يستحقّه من الجواب ويسخروا منه. أمّا لو كان المتكلّم غيره لكان لقي جزاءه موفوراً كما حصل للضحّاك بن قيس حين خطب في أهل


19


الكوفة أنفسهم فقال: "بلغني أنّ رجالاً منكم ضُلاَّلاً يشتمون أئمّة الهدى ويعيبون أسلافنا الصالحين، أمّا والذي ليس له ندٌّ ولا شريك، لئن لم تنتهوا عمّا بلغني عنكم لأضعنّ فيكم سيف زياد، ثمّ لا تجدوني ضعيف السورة، ولا كليل الشفرة. أمّا أنّي لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم فكنت أوّل من غزاها في الإسلام، وشرب ماء الثعلبيّة ومن شاطئ الفرات، أعاقب من شئت وأعفو عمّن شئت. ولقد ذَعرْتُ المخدَّرات في خدورهنّ وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلّا بذكر اسمي. فاتقوا الله يا أهل العراق. أنا الضحّاك قيس أنا بن قيس أنا قاتل عمرو بن عميس".

فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد الأزديّ فقال: "صدق الأمين وأحسن القول. وما أعرفنا والله بما ذكرت. ولقد لقيناك بغربيّ تدمر فوجدناك شجاعاً مجرّباً صبوراً.

ثمّ جلس وهو يقول: " أيفخر علينا بما صنع ببلادنا أوّل ما قدّم؟ وأيم الله لأُذكِّرنه أبغض مواطنه إليه".

ويعني بأبغض مواطنه أنّه حينما أغار الضحّاك على الحيرة أرسل له عليّ عليه السلام جنوداً كثيرين منهم عبد الرحمن بن عبيد هذا فهرب الضحّاك فأدركوه وقتلوا أصحابه ثمّ أوغل في الفرار فلم يلحقوه.

فسكت الضحّاك قليلاً وكأنّه أخزى واستحى ثمّ قال وبكلام ثقيل: "كان ذلك اليوم بآخره"14 ثمّ نزل.


20


هوامش
2- جواهر البلاغة، ص36.
3- تلخيص الخطابة، ابن رشد، ص30.
4- الأعراف:68.
5- الاحتجاج، الطبرسيّ، ج1، ص124.
6- نهج البلاغة، من كلام له عليه السلام، رقم 120، ص176.
7- تاريخ ابن عساكر، ج4، ص53.
8- صبح الأعشى، ج1، ص128.
9- معنى أحصبه هو أرميه بالحجارة ولكنّه هنا كناية عن القول القاسي.
10- هذا مثل يضرب في الحثّ على الجدّ في الأمر، مجمع الأمثال، ج2، ص93.
11- قصص العرب، ج3، ص37.
12- ابن نهية اسم صاحب الشرطة الذي كان قبل الحجّاج في الكوفة.
13- جمهرة خطب العرب، ص301.
14- آخره بثلاث فتحتات يعني آخر الشيء ونهايته، يريد كان ذلك اليوم نهاية أمري، أقرب الموارد، ج1، ص6.