الخطبة الثالثة: خطبة الجهاد

أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وهُو لِبَاسُ التَّقْوَى، ودِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ، وجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ1، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وشَمِلَهُ الْبَلَاءُ، ودُيِّثَ بِالصَّغَارِ والْقَمَاءَةِ2، وضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْأسْدَادِ3، وأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وسِيمَ الْخَسْفَ4 ومُنِعَ النَّصَفَ.

أَلَا وإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا ونَهَاراً وسِرّاً وإِعْلَاناً، وقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَ اللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا
5، فَتَوَاكَلْتُمْ وتَخَاذَلْتُمْ، حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ،


113


ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ، وهَذَا أَخُو غَامِدٍ (وَ) قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ6، وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ، وأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا7، ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ والْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلُبَهَا وقَلَائِدَهَا ورُعَاثَهَا8، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ والِاسْتِرْحَامِ9، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ10، مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ، ولَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَو أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً، فَيَا عَجَباً، عَجَباً واللهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، ويَجْلِبُ الْهَمَّ، مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، فَقُبْحاً لَكُمْ وتَرَحاً11، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى، يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولَا تُغِيرُونَ، وتُغْزَوْنَ ولَا تَغْزُونَ، ويُعْصَى اللهُ وتَرْضَوْنَ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ12، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ13، وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ14، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ، كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ، فَإِذَا


114


كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ واللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ.

يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ ولَا رِجَالَ، حُلُومُ الْأَطْفَالِ وعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ
15، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ، مَعْرِفَةً واللهِ جَرَّتْ نَدَماً، وأَعْقَبَتْ سَدَماً16، قَاتَلَكُمُ اللهُ، لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً17، وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ والْخِذْلَانِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ ولَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ، لِلَّهِ أَبُوهُمْ؛ وهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً، وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي18، لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ19، ولَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ.
 


115


هوامش

1- جنّته- بالضمّ- وقايته.
2- ديث مبنيّ للمفعول من ديثه أي ذلـله. وقمؤ الرجل ككرم قمأة وقماءة أي ذلّ وصغر.
3- الأسداد: جمع سدّ يريد الحجب التي تحول دون بصيرته والرشاد, قال الله:" وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون", ويروى بالإسهاب وهو ذهاب العقل أو كثرة الكلام, أي حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلام بلا فائدة.
4- أديل الحقّ منه أي صارت الدولة للحقّ بدله. وسيم الخسف أي أوّلى الخسف وكلفه, والخسف الذلّ والمشقّة أيضاً, والنصف- بالكسر- العدل, ومنع- مبني للمجهول- أي حرم العدل بأن يسلّط عليه من يغلبه على أمره فيظلمه.
5- عقر الدار- بالضم-وسطها وأصلها, تواكلتم: وكّل كلّ منكم الأمر إلى صاحبه, أي لم يتولّه أحد منكم بل أحاله كلّ على الآخر, ومنه يوصف الرجل بالوكل أي العاجز, لأنّه يكل أمره إلى غيره. وشنّت الغارات: فرقت عليكم من كلّ جانب كما يشنّ الماء متفرّقاً دفعة بعد دفعة, وما كان إرسالاً غير متفرّق يقال فيه سنّ – بالمهملة-.
6- أخو غامد: هو سفيان بن عوف من بني غامد, قبيلة من اليمن من أزد شنوءة, بعثه معاوية لشنّ الغارات على أطراف العراق تهويلاً على أهله. والأنبار: بلدة على الشاطىء الشرقيّ للفرات, ويقابلها على الجانب الغربيّ هيت.
7- جمع مسلحة- بالفتح- وهي الثغر. والمرقب: حيث يخشى طروق الأعداء.
8- المعاهدة: الذميّة. والحجل- بالكسر-: خلخالها. والقلب بالضمّ: سوارها. والرعاث: جمع رعثة ويحرّك بمعنى القرط, ويروى رعثها بضمّ الراء والعين جمع رعاث جمع رعثة.
9- الاسترجاع: ترديد الصوت بالبكاء, والاسترحام: أن تناشده الرحم.
10- وافرين: تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم, والكلم- بالفتح-: الجرح.
11- ترحاً بالتحريك: أي همّاً وحزناً أو فقراً, والغرض: ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها, فقد صاروا بمنزلة الهدف يرميهم الرامون وهم نصب لا يدفعون, وقوله: ويعصي الله, يشير إلى ما كان يفعله قوّاد جيش معاوية من السلب والنهب والقتل في المسلمين والمعاهدين ثمّ أهل العراق راضون بذلك إذ لو غضبوا لهمّوا بالمدافعة.
12- حمّارة القيظ: شدّة الحرّ.
13- التسبيخ بالخاء المعجمة والتخفيف والتسكين.
14- صبّارة الشتاء: برده, والقرّ- بالضمّ-: البرد.
15- حجال جمع حجلة: وهي القبّة وموضع يزين بالستور والثياب للعروس. وربّات الحجال: النساء.
16- السدم محرّكة: الهمّ أو مع أسفٍ أو غيظٍ. والقيح: ما في القرحة من الصديد. وشحنتم صدري: ملأتموه.
17- النغب جمع نغبة: كجرعة وجرع لفظاً ومعنى, والتهمام- بالفتح-: الهم وكلّ تفعال فهو بالفتح إلّا التبيان والتلقاء فإنّهما بالكسر, وأنفاساً: أي جرعة بعد جرعة.
18- مراساً: مصدر مارسه ممّارسة ومراساً أي وزاوله وعاناه.
19- ذرفت على الستين: أي زدت عليها, ويروى نيّفت بمعناه. وفي الخطبة روايات أخرى لا تختلف عن رواية الشريف في المعنى وإن اختلفت عنها في بعض الألفاظ. أنظر الكامل للمبرّد.