الدرس الثاني: الجهة الخاصـّة للخطيب

يقع البحث عمّا يجب على الخطيب فعله حال الإلقاء أو قبله، والكلام فيها من جهتين أو فلنقل في موضعين:


الموضع الأوّل: مقدّمات إلقاء الخطاب

وهي ثلاث مقدّمات رئيسيّة

الأولى:الاطلاع على أصول فنّ الخطابة وحفظ قواعده والسعي لتطبيقها أثناء إلقاء الخطاب مهما أمكن، فإنّ ذلك أمر أساسيّ لمن يريد أن يصبح خطيباً ناجحاً. و أمّا أولئك الذين يخطبون في الناس دون أن يسيروا على هدى من أمرهم ودون أن يعرفوا ما يجب فعله وما يجب تركه فأولئك سيبقون خطباء فاشلين مدى عمرهم. وإن وصلوا فسوف يصلون متأخرين بعد أن يكونوا قد أفنوا كثيراً من عمرهم في التعلّم من التجارب.

الثانية: كثرة المطالعة والتمعّن في كلّ ما يقرأ وحفظ أكبر قدر ممكن من القرآن ونهج البلاغة مع الاطلاع التامّ على معنى ما يحفظ، وعلى المناسبة التي نزلت فيها الآية، وألقيت فيها الخطبة، وعلى ما


23


ورد فيها من محطّات بيانيّة أو مفردات لغويّة فصيحة أو تراكيب بليغة إلى ما هنالك من أمور تساعد من يطّلع عليها في طلاقة اللسان وحسن التعبير عن المقصود، ويعطيه مخزوناً من الألفاظ والمعاني الجميلة التي لا غنى في هذا المضمار عنها.

وقد أكّد ابن الأثير على ذلك في كتابه "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" حيث قال: "إنّ في الاطلاع على أقوال المتقدّمين من المنظوم والمنثور فوائد جمّة، لأنّه يعلم منه أغراض الناس ونتائج عقولهم، يعرف به مقاصد كلّ فريق منهم وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك. فإنّ هذه الأشياء تشحذ القريحة وتقوّي الفطنة... فإنّه إذا كان مطّلعاً على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يسبق إليه"1.

ثمّ إنّ من يريد أن يكون خطيباً ناجحاً فعليه أن يطّلع على مقدار جليل من العلوم خصوصاً السيرة والتاريخ والأخلاق والتفسير وأصول الفقه والسياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس والمنطق، بالإضافة إلى جمع المعلومات المتفرّقة الذي يحصل بالإكثار من مطالعة المجلّات التي تحتوي على مباحث دقيقة وإحصائيّات ذات أرقام موثوقة وأخبار العالم الإسلامي وحتى غير الإسلامي، فإنّ الخطيب يحتاج إلى كثرة الاطلاع من جهة، وإلى حفظ أهمّ ما يقرأه من جهة أخرى، وقد نقل الجاحظ في البيان والتبيين عن الخليل بن أحمد الفراهيديّ أنّه قال: "تكثّر من العلوم لتعرف، وتقلّل منها لتحفظ"2.


24


وكلّما ازداد المخزون الثقافيّ عند المرء ازدادت قدرته على اكتساب ثقة الناس الذين يستمعون لكلماته.

الثالثة: المران والممارسة. فإنّه ما من علم إلّا ويحتاج صاحبه للممارسة والتمرين و إلّا فسوف يأتي عليه يوم يرى نفسه فيه وحيداً نضب ما كان له من ماء علم، وجفّ ما كان لديه من معين فنّ. وربما أعطت الممارسة ما لا يمكن أن تعطيه المطالعة أو الدراسة، إذ قد يتوصّل المتمرّس إلى قواعد جديدة ونظريّات حديثة، ويحصل على ملكات خطابيّة لا يمكن تحصيلها إلّا بكثرة التجارب في هذا الحقل.

ولا أدلّ على ذلك ممّا نشاهده ونلمسه من أن الإنسان الذي يقف على المنبر لأوّل مرّة يرى فيه ارتباك واضطراب ظاهران، ولا يقدر على أداء ما لديه من معلومات بشكل مطلوب ولو كان عالماً متبحّراً.

وأمّا من تمرّس على صعود المنابر وإلقاء الخطب وتعوّد على مقابلة الناس والتحدّث إلى الجماهير والإقبال عليهم بوجهه فنراه يهدر كالسيل الجارف، بل لا يكاد يتمّ عبارة جيدة إلّا ويبدأ بأخرى أجود، وهكذا إلى أن يشغف الجمهور بقوله ويأنس بكلامه ويتمنّى المستمعون لو أنّ خطبته تلك ليس لها نهاية.

وقد أطلعني أحد المعارف العلماء أنّه بينما كان يحضر حفلاً خطابيّاً قد دعي إليه كبار الخطباء في إيران جاءه أحد الأشخاص سائلاً إيّاه عن تفسير إحدى الآيات. فشرحها له بما حضره وما هي إلّا دقائق حتى ارتقى ذلك الشخص المنبر وبدأ خطاباً حول معنى


25


تلك الآية وما يرتبط به من أمور، وهو يتدفّق كالشلّال بأسلوب رزين وحركات محكمة ونظرات موزّعة والناس مشدودون إليه وكأنّ على رؤوسهم الطير، حتى أنّني قد أعجبت به وكدت أشكّك في نفسي بأنّ الذي فسّر الآية لم يكن إيّاي. وهذا يشير بوضوح إلى أهميّة الممارسة والمران.
أمّا أمثلة تأثير الممارسة على متعلّم الخطابة فكثيرة نكتفي بمثالين:


المثال الأوّل

ديموستين أحد أخطب اليونانيّين القدامى وقد قيل إنّه حينما حاول التكلّم على المنبر لأوّل مرّة أثار في سامعيه غريزة الضحك وأخذوا يسخرون منه، إلّا أنّه صمّم على أن يكون خطيباً وأخذ يتمرّن على الخطابة إلى أن وصل إلى مرتبة من التمكّن منها أمكن معها القول أنّه خطيب اليونانيّين الأوحد.


المثال الثاني

ما يحكى عن فضيلة الشيخ أحمد الوائليّ وهو من مشاهير الخطباء المسلمين المعاصرين في ميدان الخطب الدينيّة بل بعض أنواع المحاضرات العلميّة أيضاً فقد نقل أنّه قال عن نفسه أنّه حينما حاول الخطابة لأوّل مرّة ضحك منه زملاؤه الذين كانوا يشاركونه درس الخطابة. ولكنّنا نرى أنّه بالممارسة والمثابرة وصل إلى مرتبة يغبط عليها، ومدح من كبار العلماء.

وأمّا بالنسبة لما قيل من لزوم وجود ما سمّي بالإستعداد الفطريّ للخطابة عند من يريد أن يصبح خطيباً فليس لذلك أساس من


26


الصحّة، إذ يمكن لأيّ إنسان وطّد نفسه على أن يصبح خطيباً وعزم على تحمّل المشاق من أجل خطب ودِّها وسعى لذلك دون يأس أو ملل محاولاً جهده تعلّم فنونها وتطبيق قواعدها، فإنّه سينالها لا محالة ولو لم يكن عنده ذلك الإستعداد المزعوم.


الموضع الثاني: ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب

أوّلاً: لا بدّ من ذكر ثلاث توصيات نقدّمها للخطيب كي ينتفع بها في هذا المجال وهي:

الأولى: من المستحسن للخطيب ألاّ يكون جائعاً فارغ المعدة ولا شبعاناً متخماً. فإنّ لكلّ منهما أثراً سلبيّاً عليه. فالشبع يمنعه من أن يتمتّع بصوت عال ونفس طويل، بل قد تتلبّد أفكاره ويأخذه النعاس فيتثاءب وحينئذٍ يفقد الخطاب رونقه وتأثيره على الناس، كما أنّ الجوع يمنعه من التمادي في الكلام، ومن تناسق الصوت، فإنّ البدن يعطي جهداً حال الخطاب خصوصاً إذا كان هناك حاجة للصوت العالي. فلو كانت المعدة خالية لا يمكن للجسم أن يتحمّل جهداً كبيراً كما هو ظاهر وواضح.

الثانية: يحسن به أيضاً أن يكون مرتدياً ما يناسب جوّ الحفل من البرودة والحرارة و إلّا أخذته رعشة القرّ فمنعته عن حريّة التكلّم أو أصابه الحرور فتصبّب عرقاً ممّا يجعل المستمعين يعدّون ذلك خجلاً منه وارتباكاً، وهما عيبان في الخطيب.

الثالثة: يحسن به أيضاً قبل حال التكلّم أن يدخل إلى بيت الخلاء ويقضي حاجته كي لا تصيبه المدافعة حين التكلّم فيضطر أن يقصّر


27


خطبته فيخلّ بالمطلوب أو يضطرّ إلى أفعال أخرى لا تليق به. وممّا لا يشكُ فيه أن ذلك له تأثير قويٌّ على التفكير.

ثانياً: أمّا ما يجب فعله حال الخطاب يمكن حصره في سبع مسائل:

المسألة الأوّلى: يجب أن يكون الخطيب مستحضراً كلّ النقاط التي يريد أن يتعرّض لها فيما لو كان خطابه ارتجاليّاً وذلك بأن يكون قد نسق أفكاره التي يريد أن يطرحها ورتبها مسبقاً. فلا بدّ أن يقدم ما حقّه التقديم ويؤخّر ما حقّه التأخير ويهيّئ لذلك بعض الألفاظ المعيّنة يستعين بها حال الإلقاء تكون كمخزون لغوي عنده. ولا بدّ أن يكون مستذكراً الكلام الذي يريد إلقاءه كي لا يأخذه حصر الكلام فيصيبه العيّ كما حصل مع كثيرين أمثال مصعب بن حيّان حين دعي لإلقاء خطبة في مناسبة عقد نكاح ولمّا وقف للتكلّم أخذه العيّ وارتبك وتشتّت أفكاره فنسي ما كان يريد قوله فإذا به يقول: "لقنّوا موتاكم شهادة أن لا إله إلّا الله".
فغضبت أمّ العروس أشدّ الغضب وقالت له: "عجّل الله موتك ألهذا دعوناك".
فضحك الناس جميعاً3.

ولو لم يكن الخطيب مستعدّاً ومستحضراً أفكاره لواجه أحد أمرين:

1- أن يقول ما لا يريد قوله، وقد يكون ثمن ذلك غالياً، بأن يتلفّظ بألفاظ لا يريدها تضع من ش أنّه ، أو يتلفّظ بما يكون مستمسكاً عليه لخصومه فيفسح لهم المجال للحطّ من قدره وسمعته، أو


28


يتكلّم بما يثير السخرية والاشمئزاز كما حصل لأحد الخلفاء العبّاسيّين حينما صعد المنبر لإلقاء خطبة الجمعة وقد كان على نزاع مع زوجته إثر خلافات وقعت بينهما فخرج وهو يفكّر بطلاقها، وحينما استوى على المنبر قال: " أمّا بعد..." فانعقد لسانه ونسي ما كان يريد أن يقوله فما نطق إلّا بقول: "زوجتي فلانة طالق".
فضحك الناس منه ضحكاً شديداً.

2- أن يترك المنبر دون أن يتكلّم بشيء وسط جوّ من اشمئزاز الجمهور وسخريته. اللهم إلّا إذا كان حادّ الذهن متوقّده فإنّه قد ينجو بنفسه بأن يورد كلاماً أخر غير ما كان يريد قوله أوّلاً.
وقد اتفق ذلك لكثيرين من الخطباء المشهود لهم4 ومنهم ثابت قطنة5 أحد أمراء سجستان حيث صعد المنبر يوم الجمعة فنسي ما كان يريد قوله وارتجّ عليه وظهر ذلك للناس فتدارك قائلاً: "سيجعل الله بعد عسر يسراً وبعد عيّ بياناً، وأنتم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوال: وأنشد:

فألا أكن فيكم خطيباً فإنّني
                  بسيفي إذا حدَّ الوغى لخطيب6

ويقال أنّه لمّا وصل نبأه إلى خالد بن صفوان قال: "والله ما علا ذلك المنبر أخطب منه في كلماته هذه".


29


هوامش

1- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر.
2- البيان والتبيين، ص141.
3- جمهرة خطب العرب، ج3، ص352.
4- راجع باب نوادر الخطباء في أواخر هذا الكتاب.
5- وفي كتب أخرى "ثابت بن قطبة".
6- أمّا لي السيّد المرتضى، علم الهدى، ج4، ص21.