أسرار موفقية المبلغ من وجهة نظر نهج البلاغة (1) _ محمد سبحاني

"لا عجب إذا ادعينا أن مقام تبليغ الإسلام، هو إيصال رسالة الإسلام إلى عموم الناس، والتعريف بالإسلام كمدرسة، لا يقل شأناً عن مرجعية التقليد. هو مقام في هذه الحدود"1.

مقدمة

تعتبر القدرة على البيان والكلام من جملة خصائص الإنسان وما يميزه عن الحيوانات وقد زرع الله تعالى هذه القوة في داخله.
﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ2.
الخطابة عبارة عن تحريك الأشخاص للقيام بعمل ما أو منعهم منه. لذلك يجب أن تكون الخطابة بأسلوب يؤدي إلى تحريك المخاطبين فتكون الدافع نحو الفعل أو الترك. من هنا كانت الخطابة فناً. قدم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خطابات نافذة ومؤثرة بلغت مرتبتها الأوج حتى كانت شبيهة بالاعجاز، وهو إمام الفصاحة والبلاغة حتى قيل حول كلامه بأنه أدنى من كلام الخالق وأعلى من كلام المخلوق حيث تعلم الكثيرون الخطابة منه3. سنحاول في هذا البحث الرجوع إلى


113


 الإمام عليه السلام وكلامه لنستخرج منه أربعة عشر عاملاً من عوامل موفقية المبلغ في ساحة تبليغ الدين ومعارف أهل البيت عليهم السلام وذلك بعدد المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام.

1ـ المعرفة والإيمان بالهدف

إن وجود الهدف في الحياة جزء أساسي من أجزاء الحياة السعيدة ذات المعنى، فالإنسان يصل إلى مستوى السفور بالأمن والاطمئنان الذهني عندما يرتسم الأفق الواضح فيما يتعلق بمستقبله وعندما يسعى للوصول إلى ذاك الأفق انطلاقاً من الدافع والقناعة الداخليين.

يجب أن يمتلك المبلغ معرفة كاملة بالطريق الذي اختاره ـ وهو عبارة عن هدفه ـ وبعبارة أخرى يجب أن يعرف الهدف جيداً وأن يعمل وفق الطريق الذي اختاره فيدعو الناس إلى الصراط الإلهي المستقيم انطلاقاً من هذه المعرفة حيث أن "العامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح"4.

مما لا شك فيه أن هناك الكثير من الموانع التي تحول دون الوصول إلى الهدف. المبلغ الناجح هو المؤمن بالهدف، بحيث لا يحرفه عنه أي شيء وأي شخص. الشاهد الأبرز على هذا الأمر، الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان مؤمناً بالهدف إلى مستوى أنه قال: "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته..."5.

المبلغ الموفق هو الذي يقتدي بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الإيمان بالهدف. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الخصوص وهو أول مبلغ أرسل إلى اليمن: "انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمَتهم واتبعوا أثرهم فلن يخرجوكم من هُدىً ولن يعيدوكم في ردى فإن لَبَدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم


114


فتضلّوا، ولا تتأخروا عنهم فَتَهْلَكوا"6.

من أبرز آفات العمل التبليغي التي يبتلى بها العديد من المبلغين سواء المستقرين في أماكن محددة أو الذين يهاجرون مدة طويلة للتبليغ في مكان واحد، اضاعة الهدف أو تتبع أهداف متعددة في المنطقة. إن المبلغ الذي يتمحور عمله حول نشر ثقافة أهل البيت عليهم السلام ، لا يجب أن تشغله الأعمال الأخرى عنه ولا يجب أن يشتغل بأمور أخرى إلى جانب العمل التبليغي، بحيث يصبح تبليغ الدين هدفاً ثانوياً له.

يتوجه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى الأشخاص الذين يتتبعون أهدافاً متعددة ويوصيهم ثم يقول: "مَنْ أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل"7. إذا لم يكن لدينا هدف سوى تبليغ الدين وإذا كان الأعداء يعملون ليل نهار تحت عناوين متعددة لإلقاء الشبهات بين الجيل الشاب وبالتالي ادخال الشكوك إلى المبادئ الدينية وتشويه الأجواء في إيران الإسلام، لذلك يجب أن يكون هدفنا الأعلى، القضاء على الباطل وتثبيت الحق. يتحدث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في رسالته إلى عبد الله بن عباس ويقول: "... ولكن اطفاء باطل أو إحياء حق"8 وكم هي جميلة العبارات التي أنزلها العزيز الحكيم حين يقول:
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.

2ـ العلم

من جملة وظائف المبلغ تقديم العلم والمعرفة للمستمعين. وإذا كان الشباب والمتعلمون يشكلون حالياً غالبية أفراد المجتمع الإسلامي، فيجب على المبلغ


115


زيادة معرفته وعلمه باستمرار فلا ينبغي أن يشعر بأنه مستغنٍ عن المطالعة. أوصى الإمام علي عليه السلام أن يكون الحديث منطلقاً من العلم والمعرفة: "لا تقل ما لا تعلم"9.

يجب الاهتمام بالعلم والتعلم قبل فوات الفرص ويجب أن ننهل معارف الدين من مدرسة أهل البيت عليهم السلام . يقول الإمام علي عليه السلام: "فبادروا العلم من قبل تَصْويح نَبْتِهِ ومن قَبلِ أن تُشْغَلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله"10.

المبلغ الناجح هو الذي يمتلك إلى جانب المعلومات الدينية، معلومات حول الأعمال الاجتماعية والسياسية والعمرانية. لأن القيام ببعض هذه الأعمال من دون علم ومعرفة يؤدي إلى الفشل.

ينبغي على المبلغ أن يكون كما مولاه أمير المؤمنين عليه السلام عارفاً بالمسائل السياسية المحيطة طبق الظروف الخاصة بكل زمان. يقول الإمام عليه السلام: "والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللّوْم حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها"11. وهذا يعني ضرورة أن أمتلك المعلومات اللازمة فلا يمكن حينها لشيء أن يغافلني.

3ـ السبق إلى العمل

من جملة وظائف المبلغ الهامة، قيادة وهداية الناس والقائد يجب أن يسبق الجميع. ويجب أن يكون المبلغ متقدماً على الجميع في العمل بما يبلغ.
يقول الإمام علي عليه السلام: "من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره"12.


116


إن الشحص الذي يجعل من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قدوة له في العمل التبليغي، يجب أن يعلم أنه كان الأسبق في الاتيان بما يوصي به وكان في كافات الساحات كالمصباح الذي يضيء الظلام. يقول الإمام عليه السلام حول أسبقيته: "ونطقتُ حيت تعتعوا، ومضيت بنور الله حين وقفوا، وكنت أخفضهم صوتاً واعلاهم فوتاً، فطرت بعنانها واستبددت برهانها كالجبل لا تحركه القواصف ولا تزيله العواصف لم يكن لأحدٍ فيَّ مهمزٌ ولا لقائلٍ فيَّ معمر"13.

4ـ ايجاد التعاون والتعاضد

من جملة الوظائف الملقاة على القائد في المجتمع، ايجاد التعاون والانس والالفة بين الناس. وكما نعلم فإن بعض الخلافات تنشأ بين المجموعات في المجتمع أو المدن أو القرى ومن أبرز مظاهر هذه الخلافات، السياسية والحزبية والقبلية حيث قد تؤدي بعض الأوقات لتشكل عائقاً أمام تقدم المجتمع. هنا يأتي دور المبلغ الذي يجب أن يمتلك الدراية الكاملة لحل كافة هذه الاختلافات من دون أن ينتسب إلى أي حزب أو قبيلة. على المبلغ أن يكون كالخيط الذي يجمع حبات المسبيحة المتفرقة مع احتفاظه بهويته وحقيقته. يتحدث الإمام عليه السلام حول دور القائد في المجتمع وهو بعينه الدور المطلوب من المبلغ: "ومكان القَيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً"14.

5ـ الاخلاص

يعتبر الاخلاص من أوائل الصفات التي يجب أن يتحلى بها مبلغ الدين والاخلاص من أبرز عوامل وأسباب تأثير تبليغ الأنبياء وسر بقاء مدرسة أهل


117


البيت عليهم السلام، فإذا لم يكن التبليغ لله تعالى، لن يترك آثاره على القلوب وبالتالي لن يصل إلى أهدافه.

يضاف إلى ذلك أن خلود الآثار المكتوبة لبعض العظماء يعود إلى جهودهم المخلصة. كان وجود الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بأكمله خالصاً لله تعالى. يقول الإمام عليه السلام: "إنّ من أحَبَّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه... قد اخلص لله فاستخلصه"15.

يتمكن المبلغ من الوصول لأهدافه في ظل الاخلاص في العمل وبهذا النحو يكون تبليغه مؤثراً. يجب أن يبادر المبلغ إلى عمله التبليغي انطلاقاً من نية طاعة الله والتقرب إليه بعيداً عن الرياء والمصالح المادية عند ذلك يكون لكلامه وَقْع على القلوب. يقول الإمام علي عليه السلام: "رحم الله امرءاً... قَدَّمَ خالصاً وعمل صالحاً"16 ويقول أيضاً: "واعملوا في غير رياء ولا سُمعة فإنه من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له"17. ينقل المرحوم الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب ومن أراد به الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة"18. يبين الإمام علي عليه السلام أن الصدق والاخلاص يؤديان إلى القضاء على الأعداء بعون من الله تعالى. يقول عليه السلام: "فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت"19.

من أبرز الآفات التي قد تصيب العمل التبليغي أن يجعل المبلغ الأصل للمصالح المادية، المقام، السلطة و... ويبتعد عن الاخلاص لله في عمله لأن الله تعالى يتوجه لأصحاب الأعمال المنطلقة من النية الطاهرة والقلوب الصافية.


118


إذا كان المبلغ مخلصاً يتابع نشاطه باهتمام وتضحية ولم يكن لديه هدف سوى هداية الناس، عند ذلك سيكون قادراً على تحمل الأمور غير الملائمة والأمور المزعجة التي قد تصدر من الجاهلين وهذا لن يؤدي إلى ايجاد خلل في عمله التبليغي.

6ـ الصبر والاستقامة

يترافق العمل الذي يقوم به الإنسان بنوع من المشقة. ولكل عمل يقوم به الشخص نوع من المشقة والمشكلات التي لا بد من الاختلاط بها. وهكذا حال الأعمال الثقافية إذ يكون لها مشكلات خاصة. والمبلغ الذي يرغب التمهيد لنشاطه الثقافي لا بد سيواجه بعض المشكلات سواء كانت مشكلات ذات علاقة بالعمل التبليغي او الامكانيات الضرورية للحياة. لعل الأمر الهام هنا هو أن الذي يرغب متابعة أعمال أولياء الله وسفرائه يجب أن يزين نشاطه بالصبر على المشكلات سواء كانت سياسية أو اجتماعية20.

يواجه المبلغ العديد من الصعوبات في مكان تبليغه، لا بل قد لا يوجد مبلغ لا يواجه الصعوبات. يوصي الإمام علي عليه السلام بالصبر عند الصعوبات والبلايا حيث ستكون النتيجة حسنة. يقول: "وإن ابتليتم، فاصبروا فإن العاقبة للمتقين"21. ويقول أيضاً: "واستشعروا الصبر فإنه أدى إلى النصر"22.

لو عدنا إلى الأنبياء وإلى سفراء الله العظام، لوجدناهم صابرين أمام الصعوبات والمشكلات وما تعرضوا له من تعذيب وأذى23.


119


وتمكنوا بواسطة هذا الصبر من الوصول إلى الأهداف التي كانوا يعملون لأجلها أي ابلاغ رسالة الله تعالى. قد نصادف في مكان التبليغ أشخاصاً يتسببون ببطء العمل التبليغي انطلاقاً من جهلهم وعدم معرفتهم مما يؤدي إلى حالة يأس واضطراب عند المبلغ. هنا يكون الصبر، السلاح الوحيد الذي يمكن من خلاله تجاوز هذه الصعوبات. يقول الإمام عليه السلام: "رحم الله عبداً... جعل الصبر مطية نجاته"24 قد يضطر المبلغ وعلى أثر المشاكل القومية والقبلية والحزبية والسياسية... إلى الانحياز لفريق ما، هنا يقدم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وصيته قائلاً: "عليكم بالصبر فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد"25.

وإذا غلب الجزع وعدم التحمل على المشاكل عند ذلك لا يمكن الحديث عن نجاح في العمل التبليغي. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "من لم ينجه الصبر أهلكه الجزع"26.
يقول الإمام عليه السلام مخاطباً الأشعث: "إنْ صَبَرَتَ جرى عليك القدر وأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور"27 بناءً على ما تقدم فالصبر من جملة الأسباب التي تؤدي إلى نجاح المبلغ في ساحة تبليغ الدين.


120


  هوامش

1- الشهيد مطهري، الملحمة الحسينية، ج1، ص347.
2- سورة الرحمن، الآيتان: 3 ـ 4.
3- شرح ابن أبي الحديد، ج1، ص24، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، 1404هـ.ق.
4- نهج البلاغة، الخطبة 154.
5- بحار الأنوار، ج18، ص182.
6- نهج البلاغة، الخطبة 97.
7- المصدر نفسه، الحكمة 403.
8- المصدر نفسه، الرسالة 66.
9- المصدر نفسه، الحكمة 382.
10- المصدر نفسه، الخطبة 105.
11- المصدر نفسه، الخطبة 6.
12- المصدر نفسه، الحكمة 73.
13- المصدر نفسه، الخطبة 37.
14- المصدر نفسه، الخطبة 146.
15- المصدر نفسه، الخطبة 87.
16- المصدر نفسه، الخطبة 76.
17- المصدر نفسه، الخطبة 23.
18- الكافي، ج1، ص46.
19- نهج البلاغة، الخطبة 56.
20- نهج البلاغة، الخطبة 193. "وصبراً في شدة".
21- المصدر نفسه، الخطبة 98.
22- المصدر نفسه، الخطبة 26.
23- سورة الأحقاف، الآية: 35.﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ.
24- نهج البلاغة، الخطبة 76.
25- نهج البلاغة، الحكمة 82.
26- المصدر نفسه، الحكمة 189.
27- المصدر نفسه.