خدمة الناس في سيرة وكلام الإمام الحسين عليه السلام - عبد الكريم باك نيا

إنّ خدمة الناس والمحتاجين في المجتمع هي من أهمّ التعاليم التي ذكرها القرآن الكريم وأهل البيت عليهم السلام. إنّ خدمة أفراد المجتمع من وجهة نظر مدرسة أهل البيت عليهم السلام، لا تعرف الحدود، فكلّ متدين حقيقي يعمل وبالالهام من القادة العظماء وفي كافة مجالات الحياة على رفع ما يثقل كاهل الآخرين، وبالتالي تقديم خدمة للآخرين حتى لو كانوا من غير دينه، مع العلم أنّ خدمة أهل الإيمان ذات أهمية خاصة.

يؤكد الإمام الحسين عليه السلام على هذه المسألة الوحيانية ويقول: "اعلموا أنّ حوائجَ الناس إليكم من نِعَم الله عليكم فلا تَملّوا النعم فتتحوّل إلى غيركم"1.

يخاطب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أتباعه ويقول: "أيّما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلا أعطاه الله مثل عددهم خداماً في الجنة"2.

من جملة الأمور التي كان الأئمة عليهم السلام يعكفون على طلبها من الله تعالى، التوفيق لخدمة الناس وقد كانوا يظهرون هذا الطلب على شكل دعاء أو كلام ضمن خطاب. كان الإمام السجاد عليه السلام يناجى ربه قائلاً: "وأجرِ للناس على يديَّ الخير ولا تمحقه بالمنّ"3.


173


إن رفع حاجة المحتاجين والاهتمام بهم من جملة الأمور التي حظيت باهتمام لافت على مستوى المصادر الحديثية والمصادر الفقهية وأفردت لها أبواب مستقلة. من أبرز العناوين التي يتم طرحها في هذا الاطار "قضاء حاجة المؤمن"، "خدمة المؤمن"، "الاهتمام بأمور المسلمين"، "إلطاف المؤمن وإكرامه".

تشير نصوص هذه العناوين إلى الثواب الأخروي لخدمة الناس، بالإضافة إلى النتائج المفيدة على مستوى الدنيا. يتحدث الإمام الحسين عليه السلام في إحدى كلماته إلى الذين يخدمون الناس بشكل صادق ويقول: "من نَفَّس كربة مؤمن فَرّج الله عنه كرب الدنيا والآخرة"4. وعلى هذا الأساس فإن خدمة الناس في المجتمع الإسلامي بالأخصّ من قبل المسؤولين والموظفين وأصحاب السلطة والمال أمر ضروري. ومن المناسب أن ينهض كلّ مسلم عارف بوظيفته وفي أي مقام ومنصب كان، بمسألة خدمة الناس والعمل على تكريسها.

سنحاول في هذا المقال الإطلالة على مسألة خدمة الناس في سيرة وكلام أحد أبرز نماذج الخدمة أي سيد الشهداء عليه السلام حيث سنتعرض لأجمل سلوكيات وأحاديث هذا الإمام العظيم نقدمها للقراء الأعزاء، لأن الإمام عليه السلام هو في الحقيقة ملجأ من لا ملجأ له وكافل الأيتام وأسوة خدمة الناس. يخاطب الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف الإمام الحسين عليه السلام في زيارة الناحية المقدسة قائلاً: "كنت ربيع الأيتام وعصمة الأنام وعزّ الإسلام ومعدن الأحكام وحليف الأنعام".

نعم، كان الإمام الحسين عليه السلام نموذجاً بارزاً في خدمة الناس، كان في أعماله وسلوكه يرفع عن البعض صعوبات ومشقات الحياة عدا عن أنه كان يقدم نموذجاً لكيفية خدمة الآخرين ويعلم كيف تكون الخدمة.


174


آداب الخدمة
اشتملت سيرة الإمام الحسين عليه السلام على نقاط ظريفة فيما له علاقة بخدمة الناس تحتاج إلى الدقة والتأمل. من أبرز الأمور التي يمكن ملاحظتها الاهتمام بشخصية وحيثية الأفراد في أمر الخدمة، لأنه لو جرى أثناء خدمة الناس عدم الالتفات إلى كرامتهم وماء وجوههم، فلن يكون للخدمة أي أثر إيجابي، بل على العكس من ذلك ستكون الخدمة سبباً في الكراهية والابتعاد، وفي هذا الحال تتحول ثمار الخدمة العذبة إلى ذكريات مريرة، لذلك نرى الإمام الحسين عليه السلام كثير الاهتمام بهذه المسألة الخاصّة حيث كان يراعيها مع المحتاجين. فيما يلي نطالع نموذجين من سلوك الإمام في هذا الإطار:
1- في أحد الأيام جاء شخض من الأنصار إلى الإمام في طلب حَلِّ مشكلة، وقبل أن يتلفظ الشخص بكلمة، أدرك الإمام عليه السلام ومن خلال وجهه المضطرب مقدار الألم الذي يحمله في داخله فقال له: "يا أخا الأنصار صُن وجهك عن بذله المسألة وارفع حاجتك في رقعة فإني آت فيها ما سارَّك إن شاء الله". فكتب: "يا أبا عبد الله إن لفلان عليّ خمسمائة دينار وقد ألح بي فكلمه ينظرني إلى ميسرة، فلما قرأ الحسين عليه السلام الرقعة دخل إلى منزله فأخرج صرة فيها ألف دينار وقال عليه السلام له: أمّا خمسمائة فاقض بها دينك، وأمّا خمسمائة فاستعن بها من دهرك".

وأضاف الإمام عليه السلام قائلاً: "ولا ترفع حاجتك إلا إلى أحد ثلاثة: إلى ذي دين، أو مروةٍ، أو حَسَبٍ، فأمّا ذو الدين فيصون دينه، وأمّا ذو المروة فإنّه يستحي لمروته، وأمّا ذو الحسب فيعلم أنك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يَرُدَّك بغير قضاء حاجتك"5.


175


2- وفد أعرابي المدينة فسأل عن أكرم الناس بها، فدُلّ على الحسين عليه السلام فدخل المسجد فوجده مصلياً فوقف بإزائه وأنشأ:
لَمْ يَخِبْ الآنَ من رَجَاكَ           وَمَنْ حَرَّكَ من دونَ بابِكَ الحَلَقه
أنتّ جوادٌ وأنت معتمدٌ           أبوكَ قد كان قاتلَ الفَسَقة
لولا الذي كانَ من أوائِلُكم        كانت علينا الجحيمُ مُنَطبِقه


قال: فسلم الحسين عليه السلام وقال: يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شيء؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فقال: هاتها قد جاء من هو أحق بها منا، ثم نزع برديه ولف الدنانير فيها وأخرج يده من شق الباب حياء من الأعرابي وأنشأ:
خُذْهَا فإني إليك معتذرٌ                 وَاعلَمْ بأني عليك ذو شَفَقه
لو كان في سَيْرَنا الغداةَ عصا         أَمَسْتَ سمانا عليك مُنْدَفِقَه
لكنَّ ريبَ الزمان ذو غِيَرٍ              والكفُّ مني قليلةُ النفقة


قال: فأخذها الأعرابي وبكى فقال له: لعلك استقللت ما أعطيناك، قال: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك6؟!

السلوك الطيب المقبول

إذا لم يتمكن الإنسان بعض الأحيان من قضاء حاجة المحتاج فمن المناسب أن يرضيه بلسان جميل وسلوك مقبول، لأن الشخص صاحب المسؤولية قد لا يتمكن دائماً من تقديم العون المالي، ولكنه يتمكن بسلوكه الطيب المقبول أن يضع مرهماً على جرح المعذبين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم"7.


176


وعليه فالإمام الحسين عليه السلام كان تارة غير قادر على رفع حاجة المحتاج، إلا أنه كان بسلوكه يرضي صاحب الحاجة، ومن جملة المصاديق على ذلك:
عن ابن مهران قال: كنت جالساً عند مولاي الحسين بن علي عليه السلام فأتاه رجل فقال: يا ابن رسول الله إنّ فلاناً له عليّ مال ويريد أن يحبسني، فقال عليه السلام: "والله ما عندي مال أقضي عنك"، قال: فكلمه، قال: فليس لي به أنس ولكني سمعت أبي أمير المؤمنين عليه السلاميقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سعى في حاجة أخيه المؤمن فكأنما عبد الله تسعة آلاف سنة، صائماً نهاره، قائماً ليله"8.

الإمام الحسين عليه السلام والمرضى أصحاب الحاجة

من جملة خصائص سيد الشهداء الهامّة، عيادة المرضى أصحاب الحاجة. كان الإمام عليه السلام يجلس إليهم يخفف عنهم الآلام الروحية والجسدية ويعمل على حَلّ مشكلاتهم الاقتصادية والمادية، لأن المرضى الفقراء يعانون من ناحية ما يعانون من أمراض، فهم يعانون من مشكلات مادية ذات علاقة بالديون والاحتياجات المادية حيث تترك المشكلات المادية آثاراً سلبية عليهم من الناحية الروحية والنفسية. لذلك يجب على أفراد المجتمع الإسلامي بالأخصّ المرفهين منهم الالتفات إلى هذه المسألة.

كتب ابن شهرآشوب: "دخل الحسين على أسامة بن زيد وهو مريض وهو يقول: وا غماه، فقال له الحسين: وما غمك يا أخي؟ قال: ديني وهو ستون ألف درهم، فقال الحسين: هو عليّ، قال أخشى أن أموت، فقال الحسين: لن تموت حتى أقضيها عنك قال: فقضاها قبل موته. وكان عليه السلام يقول: شر خصال الملوك الجبن من الأعداء والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الاعطاء"9.


177


خدمة الضعفاء والأيتام
كان الإمام الحسين عليه السلام كما سائر المعصومين عليهم السلام يهتمون بخدمة المحرومين والأيتام وكان لهم في ذلك برامج خاصة، كان الإمام عليه السلام لا ينتظر حتى يأتي اليتيم إليه ليحدثه بحاجته، بل كان هو الذي يبادر إلى ذلك حيث كان يقصد الأيتام في الليالي المظلمة. كان الإمام الحسين عليه السلام في هذا الأمر كوالدة أمير المؤمنين عليه السلام ذا اهتمام بالغ بهذه المسألة يؤديها بشكل غير محسوس، لذلك كان الناس قبل شهادته غير مطلعين على ما كان يقوم به مع الأيتام والمحرومين. يقول: "شعيب بن عبد الرحمن الخزاعي" في هذا الشأن: وجد على ظهر الحسين بن علي يوم الطف أثر فسألوا زين العابدين عليه السلام عن ذلك فقال: "هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين"10.

الخدمة على قدر المعرفة

إن خدمة الناس في سيرة الإمام الحسين عليه السلام هي على قدر المعرفة، لأن أكثر رأسمال مفيد للشخص هو جوهر المعرفة والعلم والأدب، وإنّ كافة أمور الحياة وفلسفة خلق الإنسان هي للوصول إلى هذا المقام حيث يرافق هذا الرأسمال الإنسان في الدنيا والآخرة.

جاء أعرابي إلى الحسين بن علي عليهما السلام فقال: يا ابن رسول الله قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائه، فقلت في نفسي: أسأل أكرم الناس، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال الحسين عليه السلام: "يا أخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل".


178


فقال الأعرابي: يا ابن رسول الله أمثلك يسأل عن مثلي وأنت من أهل العلم والشرف؟

فقال الحسين عليه السلام: بلى سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "المعروف بقدر المعرفة، فقال الأعرابي: سل عما بدا لك، فإن أجبت وإلا تعلمت منك، ولا قوة إلا بالله".

فقال الحسين عليه السلام: أي الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي: الإيمان بالله، فقال الحسين عليه السلام: فما النجاة من المهلكة؟

قال الأعرابي: الثقة بالله، فقال الحسين عليه السلام: فما يزين الرجل؟ فقال الأعرابي: علم معه حلم، فقال: فإن أخطأه ذلك؟ فقال: مال معه مروءة، فقال: فإن أخطأه ذلك؟ فقال: فقر معه صبر، فقال الحسين عليه السلام: فإن أخطأه ذلك؟ فقال الأعرابي: فصاعقة تنزل من السماء وتحرقه فإنه أهل لذلك.

فضحك الحسين عليه السلام ورمى بصرَّة إليه فيها ألف دينار، وأعطاه خاتمه، وفيه فص قيمته مائتا درهم وقال: يا أعرابي أعط الذهب إلى غرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك، فأخذ الأعرابي وقال: "الله أعلم حيث يجعل رسالاته"11.

تحذير المسؤولين

تحدَّث الإمام عليه السلام قبل مدة قصيرة من موت معاوية في خطبة حساسة وتاريخية في منى في جمع من مسؤولي المجتمع الإسلامي والعلماء أصحاب الدور المؤثر في المجتمع والمقصِّرين على مستوى خدمة الناس وحذرهم مما هم فيه.

يتحدث الإمام عليه السلام في مقطع من كلامه مشيراً إلى تضييع حقوق المستضعفين والمحرومين في المجتمع ومنتقداً عدم اهتمام المسؤولين بالمجتمع. قال: "فأمّا حقُّ الضعفاء فضيَّعتم وأما حقكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه ولا نفساً


179


خاطرتم بها للذي خلقها ولا عشيرة عاديتموه في ذات الله، أنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله وأماناً من عذابه؟!".

ويشير الإمام عليه السلام في مقطع آخر إلى أوضاع المستضعفين والمحرومين المؤسفة ويقول: "وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون وأنتم لبعض ذمم آبائكم تقرعون وذمة رسول الله مخفورة، والعمي والبكم والزمن في المدائن مهملة لا ترحمون ولا في منزلتكم تعملون وفي من عمل فيها تعنون وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون"12.

يعتبر الإمام الحسين عليه السلام أن الامتناع عن الاهتمام بالمحرومين والمحتاجين من أسوأ صفات الحكام ويقول: "شر خصال الملوك: الجبن من الأعداء والقسوة على الضعفاء والبخل عند الإعطاء"13.

كان الإمام عليه السلام يدافع عملياً عن المحرومين في المجتمع ويؤكد على ضرورة خدمتهم وكان له في هذا الشأن أبيات من الشعر، يقول:
إذا جادت الدنيا عليك فَجُدْ بها       على النّاسِ طُراً قبل أن تتفلت
فلا الجودُ يُفنيها إذا هي أَقْبَلت      ولا البُخْلُ يُبقيها إذا ما تولّت


آثار الخدمة

أراد الإمام عليه السلام إعلام الناس بآثار خدمة الناس وذلك بهدف نشر هذا الأمر. يقول: "فمن تعجل لأخيه خيراً وجده إذا قَدم عليه غداً، ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه كافاه بها في وقت حاجته وصرف عنه بلاء الدنيا ما هو أكثر منه ومن نَفَّس كُربة مؤمن فرج الله عنه كرب الدنيا والآخرة"14.


180


أهم شروط الخدمة
هناك شرطٌ أساسي في مسألة خدمة الناس يفقد العمل الحسن القيمة من دونه وهو أن الإحسان يجب أن يحصل عبر الطريق الصحيح والطاهر. يجب أن يكون على أساس التقوى والطهارة ولله فقط وإلا كانت الخدمة لأجل إرضاء الأهواء النفسانية والشيطانية، لأن عمل الخير يجب أن يحصل عبر الطريق الصحيح، كما يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ15. وفي هذا المجال قدم الإمام الحسين عليه السلام تعليمات قيمة.

وعن الحسين بن علي عليهما السلام، أنه قيل له: إنّ عبد الله بن عامر تصدق اليوم بكذا وكذا، وأعتق كذا وكذا، فقال: "أنما مثل عبد الله بن عامر، كمثل الذي يسرق الحاجَّ ثم يتصدق بما سرق، إنما الصدقة الطيبة صدقة من عرق فيها جبينه وأغبر فيها وجهه، قيل لأبي عبد الله عليه السلام: من عنى بذلك؟ قال: أمير المؤمنين عليه السلام"16.


181


هوامش

1- مستدرك الوسائل، ج12، ص369.
2- أصول الكافي، باب خدمة المؤمن، الحديث 1.
3- الصحيفة السجادية، الدعاء 20.
4- كشف الغمة، ج2، ص29.
5- تحف العقول، ص247.
6- بحار الأنوار، ج44، ص190.
7- الاختصاص، ص225.
8- بحار الأنوار، ج71، ص315.
9- مناقب آل أبي طالب، ج3، ص221.
10- م.ن، ج4، ص66، بحار الأنوار، ج44، ص190.
11- بحار الأنوار، ج44، ص196.
12- تحف العقول، ص237 و238.
13- العوالم، الإمام الحسين، ص62.
14- كشف الغمة، ج2، ص29 و30.
15- سورة المائدة، الآية: 27.
16- دعائم الإسلام، ج2، ص329، مستدرك الوسائل، ج7، ص244.