الإسلام والبيئة

الطبيعة أمُّ الإنسان. والإنسان لا يجد طمأنينته إلا في أحضان الطبيعة، ففيها ينمو ويصل إلى كماله.والعالم من دون الطبيعة، كالطبيعة الغارقة دائماً في فصل الخريف الذابل والمكتئب، بوجهه المُحْنَقِ والعاري.

ولا تستقيم ولا ترتقي أيّ حضارة من دون الطبيعة، إذا ظهرت الحضارة في ظلّ الطبيعة إلا أنّها ابتعدت عنها في استمرار حياتها فسيكون مصدرها سيئاً. ولقد تفتّحت وازدهرت الحضارة الغربية ووصلت إلى ما وصلت إليه من التكنولوجيا في أحضان الطبيعة، ولكن للأسف بدلاً من أن تستخدم ما أخذته من الطبيعة وتقنياتها الحديثة ليكونا في خدمة الطبيعة والسعي في المحافظة عليها بشكلٍ دقيق وعلمي، توجّهت هذه الحضارة للسيطرة على الطبيعة والتسلط عليها، وعدّت تلك الغلبة والسيطرة مفخرةً من مفاخرها وفصلت الإنسان عن حضن أمّه الحنون وألقت به في أزمةٍ صعبة طاحنة وجعلت حياته في مهبّ الرياح، وخلقت له أزمة البيئة، وأغرقت العالم في حزنٍ عميق، وأنزلت به بلاءً لا مثيل له منذ بدء الخليقة ولغاية الآن، بحيث إنّه لم يفعل ذلك أيّ شعبٍ متوحشٍ جامحٍ لم يعرف لا الثقافة ولا الحضارة.

وليس مبالغاً ما قاله العالمون وأصحاب النظرة الحادّة، حيث إنّهم سمّوا الحركة المدمرة للحضارة الغربية الجارية في الغابات والجبال والمياه والسهول الخضراء والصحاري بـ "الفيضان" الذي يجرف البشر اليوم نحو مستنقعٍ عميقٍ


55


ومرعب، حيث لا يُرى فيه أيّ نافذة حياةٍ أو خلاصٍ1.

إنّ الكارثة لعميقة جداً. إذ قام الإنسان المعاصر بالقضاء على مستقبل البشر وتعلّق بحضارةٍ وتماشى معها، أو حريٌّ بنا القول جعلوه يضطر للتماشي معها بحيث إنّه يصل بنفسه وبيديه إلى ما أشار إليه روجيه غارودي، المفكّر الفرنسي البارز والناقد النافذ البصيرة: "إذا استمرينا بهذه الطريقة في الحياة في غضون الثلاثين سنة القادمة، بنفس المنوال الذي عشناه في الثلاثين سنة الماضية، سوف نقوم بقتل أحفادنا"2.

ولن يُبقي جشع الإنسان المعاصر وإقباله على الاستهلاك الكبير شيئاً من الطبيعة بحيث تستطيع الأجيال القادمة أن تستمر في العيش في أحضانها وجنباتها. وبناءً للإحصاءات المنتشرة في السنوات الأخيرة:
- إنّ استهلاك الفحم الحجري في السنوات الثلاثين الأخيرة يوازي نصف ما تمّ استهلاكه في الثمانمائة سنة السابقة3.

- إنّ نصف ما استهلكه الإنسان من النفط منذ بدء اكتشافه واستخراجه، قد حرقه فقط في السنوات العشر الأخيرة4.

وتمّ قطع واستهلاك ثلث أشجار الغابات منذ العام5 1952, وفي السبعين سنة الأخيرة، قضت الزراعات الجديدة على نصف الأتربة الخصبة في ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية6.


56


فقد اختلّ تعادل دورة الحياة والطبيعة (النظام البيئي): "النفايات أمثال.... النايلون، لا يمكن تصفيتها وامتصاصها ضمن دورة الحياة الطبيعية على الإطلاق وحتى إنّ بعضها يلوّث مراكز الحياة الأولية بشكلٍ قاتل، ومن المتعذّر معالجة ذلك وهي تعرّض بقاء البشر لأخطارٍ حتمية"7.

لقد وضع هذا الجشع المُدهش جميع زوايا الحياة البشرية في مهبّ العاصفة. وقد ظهر تدمير الطبيعة والقضاء على تعادلها وتوازنها على جسم الإنسان وفكره وثقافته أيضاً، وهذا الأمر غير محدودٍ بمنطقةٍ خاصة أو مهد حضارةٍ جديدة، بل إنّه بلاءٌ عمّ الدنيا كلّها وأوقعها في حبائله: "اليوم، ظهرت بشكلٍ واضح النتائج والآثار السلبية للتصنيع على البيئة وخاصةً على الحياة الدينية والنسيج الاجتماعي حيث أوجدت الاضطرابات الثقافية والنفسية للبشر..... ويمكن مشاهدة شيء من هذه الاختلالات والمشاكل في المدن الإسلامية الكبيرة التي نجحت نوعاً ما في مجال التصنيع"8.

وقد بذل الواعون والمطّلعون الذين رأوا الأرض وما عليها على شفير الهاوية، جهداً واسعاً وأدخلوا قضية "المحافظة على البيئة" إلى مرحلةٍ جديدة.

في بداية السبعينيات، قام احد أهم رؤساء الصناعة في إيطاليا بجمع أكثر من مئة شخصية من كبار العلماء وأصحاب الرأي في العالم كي يقدّموا تقريراً حول ما سيؤول إليه العالم في نهاية القرن العشرين,وعلى هذا الأساس، تمّ تأسيس هيئة من أصحاب الرأي أُطلق عليها "نادي روما".

عملوا في هذا النادي على دراسة تغيّرات العالم في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وعدّوا أهم خمسة تغيّرات ستحصل في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المذكور وعرضوها على بساط البحث:


57


1- زيادة عدد السكان.
2- المصادر الطبيعية.
3- الغذاء والمحاصيل الزراعية.
4- المنتجات الصناعية.
5- تلوّث البيئة9.

واليوم، في ظلّ الظلمة التي أحاطت بالعالم، لا يزال هناك بارقة أملٍ في عالم الغرب الصناعي. فقد نشأت في قلب العالم الصناعي انتفاضةٌ جديدة للحدّ من الآثار المدمرة للتكنولوجيا وآثارها المخربة: "لقد تمّ تنظيم هذه الانتفاضة الجديدة لأجل حماية التعادل والتوازن البيئي (الإيكولوجي) بين الإنسان وبيئته: ليتمّ احترام الأراضي، الأشجار، الأنهار والبحيرات التي ماتت على أيدي البشر بسبب التلوّث، وليتمّ حماية البحار والمحيطات والأجواء... فالأرض والماء والسماء وكل الطبيعة، وديعةٌ إلهية سُلّمت إلى الإنسان وأوجِدت للاستفادة منها بشكلٍ متوازن، انطلاقاً من ذلك، الإنسان هو المسؤول عن حفظ الطبيعة"10.

يعتبر الإنسان الواعي المعاصر نفسه خاسراً. فهو لا يرى أنّ جسمه في معرض التهديد فحسب، بل إنّ معنويته وروحه ونفسه في معرض التحلل أيضاً، وهو لا يجد مفرّاً من هذه المخاوف والإضطرابات التي أحاطت بحياته والآن هو قلقٌ على نفسه وقلقٌ على مستقبله ومستقبل أبنائه. وليس صدفةً توجّه الإنسان المعاصر نحو المعنويات التي نُحيّت جانباً لسنواتٍ عديدة11.


58


وها هو اليأس مثل الكابوس المرعب يقضُّ مضاجع الإنسان الغربي. ويشكّ الذين يعرفون الصناعة والتكنولوجيا ومطلعون على آثار ذلك وعلى علمٍ بزوايا الكارثة جيداً، يشكّون في أن يستطيع الإنسان التخلص من هذا الوادي المميت المرعب12. أدّى هذا القلق والمخاوف والإهتمام إلى بدء حركةٍ جديدة في الغرب ضد تلوّثات المعامل الصناعية و... . وما هو بارز ومهم ومحلّ بحث ودراسة في هذه الحركة، التوجه الحاصل نحو الثقافات الشرقية.

يحاول موجدو هذه الحركة تجنّب الآثار الكريهة للصناعة الغربية من خلال اللجوء إلى الثقافات الشرقية. ففي هذه البرهة من الزمن، والتي ضاق البشر بها ذرعاً من تلوث البيئة ويسعى جاهداً في التفتيش عن مهربٍ من ذلك، ومتوسلاً حضناً حنوناً يلجأ إليه من عنف التكنولوجيا. من المناسب أن يكتب العلماء حول ذلك، ليعيدوا عرض وجهة نظر الإسلام ويُطلّوا على التجارب الماضية، خصوصاً في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، لعلّ ذلك يكون مفيداً في تخليص البشر من هذه الحيرة والدوامة التي ابتلوا بها.سنحاول في هذا المقال التقدّم خطوة صغيرة إلى الأمام، والكشف عن بعض زوايا رؤية الإسلام إلى البيئة بمقدار ما يسمح لنا المجال.

الطبيعة من وجهَتَيْ نظر

من الواضح أنّ التعرّف على الحضارات مرتبطٌ بمعرفة نوع نظرتها ورؤيتها إلى مجموعة الطبيعة وتفسيرها حول اتصال الإنسان بطبيعة الحضارة المادية. وللحضارة الغربية التي تمثّل وترمز اليوم إلى الحضارة المادية، نظرتها وموقفها من الطبيعة، كما أنّ للحضارة المعنوية والماوراء مادية والتي كان الإسلام في الماضي مظهراً ورمزاً لها، نظرةً وموقفاً أيضاً من الطبيعة.


59


الإنسان في الحضارة الغربية مطلقٌ ومنفصلٌ عن السماء. وتعتبر الأرض وثرواتها الكامنة فيها محوراً وأساساً في هذه الحضارة. وتسعى الحضارة الغربية المادية جاهدةً في السيطرة على الطبيعة وأن تجعل الإنسان يهيمن عليها بكلّ ما أوتي من قوة واستثمارها بمقدار ما يستطيع. قد ظهرت في مقابل هذه النظرة المنقطعة عن السماء، مدارس ومذاهب منها مدرسة أصالة الحضارة والمنفعة.

ولكن النظرة والموقف من الطبيعة واتصال الإنسان بالطبيعة في الحضارة الإسلامية، مختلفةٌ وعلى منوالٍ آخر.

أ- الخلافة: الإنسان من وجهة نظر الرؤية الإلهية والإسلامية هو خليفة الله على الأرض. وكما أوجد الله الأرض بكلّ حنانٍ ولطف، وحافظ عليها من الآفات وأنزل عليها مطر رحمته وأحبّ الطبيعة، يجب على الإنسان أن يكون كذلك وأن يُكرّمها بكلّ محبة وأن لا يستخدمها بنحوٍ يُوصل إليها الضرر والفساد.في هذه الرؤية، تتصل الأرض بالسماء، وتُلقي الأرض على نفسها خِلعةً سماوية. ويعتبر العمل والكدح على هذه الأرض المتصلة بالسماء والمدّثرة بدثارٍ سماوي، عبادة ونوعاً من العبودية لله. وترتبط هذه العبودية بالخلافة. فالإنسان هو عبدٌ لله ومنقادٌ له، وفي الأرض خليفته. وإذا خرج هذا الخليفة عن مدار الطاعة والإنقياد، يصبح متحرراً من القيود ويشدّ عزيمته في القضاء على الطبيعة. لهذا السبب، جعل الإسلام عبودية الله ركناً لحركة الإنسان. لذا، الإنسان خليفة الله هو عبدٌ ومطيعٌ ومنقادٌ، وليس حاكماً مطلق العنان ومسلطاً على الطبيعة.إذن، لقد جعل الله الإنسان خليفته لإدارة الأرض، إذ يقول عزّ وجلّ لملائكته: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً13 ويخاطب الإنسان قائلاً:


60


﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ...14.

وقد وجّه الله سبحانه هذه الخلافة عبر عبادته والإنقياد لأوامره وأحكامه: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ15.

إنّ الإرتباط بين الخلافة والعبودية وتأثيرهما المتبادل واقعٌ حقيقي، ويشكّل ذلك أساس الحضارة الإسلامية، لأنّ الإنسان من وجهة نظر هذه الرؤية الكونية، حاملٌ للأمانة ويجب أن يجعل كلّ شيءٍ في الإتجاه الذي يريده صاحب الوجود والطبيعة، أمانةً من صاحب الوجود وضعها بين يدي الإنسان وعليه أنّ يستخدمها ويحافظ عليها حسبما يريده صاحب هذه الأمانة.
وتعتبر الطبيعة في هذه النظرة آيةً وعلامة لإرشاد الإنسان نحو الجمال والكمال المطلق16. انطلاقاً من ذلك، لا يحق لأيّ صاحب عقل وشعور في هذه النظرة أن يعزم على تدمير هذه الآية وأن يمنع نفسه من الوصول إلى الكمال المطلق.

وفي هذه الرؤية أيضاً، تعتبر جميع الظواهر والمخلوقات والكائنات، أجزاءً مكمّلة ومرتبطة ببعضها بعضاً. وهي تقوم جميعها بوظيفتها بشكلٍ منسجم ومتناغم في ظلّ حقيقة العبودية والإنقياد وتمهّد الأرضية لعبودية الإنسان بإخلاص.

ولا يوجد أيّ ظاهرةٍ أو حركةٍ أو جهدٍ من وجهة نظر هذه الرؤية خارج مجال قدرة وإشراف الله تعالى: ﴿وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا17.

وعندما ينقاد الإنسان لله سبحانه، يسلّم للعبودية لله وسيُعدّه محيطاً بكلّ شيء، وبالتالي لن يوجِد أيّ اختلالٍ واضطرابٍ في نطاق سلطانه الذي تعتبر الطبيعة جزءاً منه، ويستسلم للنظام والقانون الحاكم على الطبيعة ولا يتجاوزه. ويرى


61


الإنسان حينئذٍ الشرق والغرب من الله عزّ وجلّ وملكاً له ويعتقد بأنّ كل ما تقع عليه عيناه، من الله وإلى الله: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ...18.

على هذا الأساس، لا يخرج أيّ شيءٍ من حيطة قدرة الله، والإنسان هو عبدٌ ومخلوق وواقعٌ تحت إشراف الله ورعايته ويجب أن يستطيع القيام بما يتناسب وعبوديته لله وأن يستثمر الطبيعة بما يتلاءم وعبوديته. وإذا تجاوز ذلك فقد خان الأمانة وعصى أمر الحقّ وابتلي بمعصية الإسراف والتبذير.

إذا خَطَا الإنسان قُدماً متوجّهاً إلى منزلته ومكانته في الأرض والتزم بالعبودية ونظر إلى الأرض كمهدٍ للحياة السليمة وقام بالأعمال الصالحة وجعلها شعاراً في حياته، عندها يستحقّ أن يشمله وعد الله تعالى بخلافته في الأرض: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ ..."19.

فإذ لم يكن بين الخلافة والعبودية اتصالٌ وارتباطٌ وثيقٌ وقوي، سوف تغرق الطبيعة في دوامة الفناء:
"لا يوجد شيء أخطر على الطبيعة من إعمال السلطة في مقام الخلافة على المجتمع البشري حيث تنتفي هنا عبودية إله ويخرج الإنسان عن طاعة أوامره. تعتبر الشريعة الإلهية، بصراحة، أنّ تكليف الإنسان المتديّن يشتمل النظام والبيئة الطبيعية أيضاً. إذ إنّ الإنسان غير مكلّف بإطعام الفقير فحسب، بل مكلّفٌ أيضاً بعدم تلويث المياه الجارية.ليس المطلوب من وجهة النظر الإلهية الإحسان للوالدين فقط، بل المطلوب زرع الأشجار والتعاطي المناسب مع الحيوانات أيضاً"
20.


62


فالإنسان المسلم هو الذي يستلهم الوحي ويعظّم ارتباطه بملكوت عالم الوجود، في نفس الوقت الذي يعيش في عالم المُلك ويتجنّب أذية الحيوانات والنظر إليها نظرة دونية وتدمير الطبيعة بل يعتبر المحافظة على الطبيعة والظواهر النامية في أحضانها تكليفه الديني والإسلامي.

ويذكر الإمام علي عليه السلام هذا الرابط والإتصال بين الإنسان والطبيعة بشكلٍ جميل: "اتقوا الله في عباده وبلاده فإنّكم مسؤولون عن البقاع والبهائم"21.

لا يجوز للمسلم أن يكون حرّاً ومن دون قيود في تصرّفه بالطبيعة واستخدامه لها. ولا يحقّ له أن يكرّم نفسه عن طريق تدمير الطبيعة والظواهر الطبيعية ونهبها. بل هو مكلّف رعاية حقوق الله، وحقوق جميع المخلوقات صغيرةً كانت أم كبيرة. فهو لا يتمتّع بالحرية المطلقة في أن يحصل على كلّ شيءٍ لنفسه وأن لا يفكر سوى في حقوقه وأن يعتبر نفسه غير مدينٍ لأحد أو لأيّ شيء.

"انطلاقاً من أنّ مقام الإنسان في العالم الإسلامي التقليدي لم يكن مطلقاً، لذلك لم تكن حقوق الإنسان مطلقة أبداً على حساب النسيان الكامل لحقوق الله وسائر مخلوقاته. والإنسان الحداثوي والغربي، بخلاف المسلم التقليدي... لا يرى نفسه مديناً لأحدٍ أو لشيءْ. حتى إنّه لا يشعر بالمسؤولية قِبال موجودٍ آخر، ما وراء الإنسان. في المقابل، كان المسلم التقليدي، أو الإنسان المسلم، يعيش دائماً واعياً لحقوق الله وحقوق الآخرين بما في ذلك العالم غير الإنساني أيضاً. فهو يبقى على وعيٍ تام بمسؤوليته أمام الله وكذلك أمام مخلوقاته"22.


63


ب- الإستعمار: هناك علاقة خاصة بين الإنسان والطبيعة من وجهة النظر الإسلامية. فالإنسان قد خُلق من التراب ويحب أن يحافظ على حرمتها كالأم، ولا يجوز له ظلمها وإلّا سيكون عاقاً للأرض. ويكون تكريم الأرض بإعمارها ومنع القضاء عليها: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ...23 يشير القرآن الكريم إلى أنّ إعمار الأرض يقع على عاتق الإنسان، وهو من عليه المحافظة على محلّ نموه والإمتناع عن خرابه.والمقصود من مفهوم الإستعمار (بعكس المفهوم السلبي السائد حالياً) في القرآن، الإعمار. ويضع اللغويون الإعمار في النقطة المقابلة لكلمة التدمير والتخريب. يقول الراغب في المفردات: "العمارة نقيض الخراب"24.

يعتبر الإمام علي عليه السلام في عهده التاريخي والمهم لمالك الأشتر، أنّ من واجبه إعمار المدن التي تقع ضمن نطاق سلطته25. ويُستفاد من الكثير من الموارد التي ذُكرت في المصادر الإسلامية حول هذا الموضوع ولا يتسع المجال للإشارة إليها هنا، فالإسلام يستثمر الطبيعة والظواهر الطبيعية في بناء حضارته على أساس المعايير الصحيحة والإنسانية، ويخالف أيّ حضارةٍ قامت على أساس تخريب الطبيعة.

ج- ترويض الطبيعة:
تكررت في القرآن عبارةُ "تسخير" عدة مراتٍ وهي تشير إلى كيفية تعاطي وتعامل الإنسان المسلم مع الطبيعة. وتحمل هذه العبارة والعبارات المرادفة لها والمشتركة في مادتها مثل "المسخّر" و... رسالةً بناءة وتُظهر نظرة الإسلام إلى الطبيعة.

ويقول الشهيد مرتضى مطهري في هذا المجال:
"لقد تكررت هاتان الكلمتان في القرآن الكريم مراراً. وتتضمن مفهومي "الترويض (التسخير)" و"الإنقياد (المـُسخّر)". وقد ذُكر في القرآن تسخير


64


القمر، الشمس، الليل والنهار، البحار، الأنهار، الجبال (للنبي داوود عليه السلام) والرياح (للنبي سليمان عليه السلام) وكل ما في الأرض (لأجل الإنسان). ومن البديهي أنّ المقصود في كل هذه الموارد أنّ هذه الأمور خُلقت بنحوٍ تكون فيه تحت سيطرة الإنسان ومحلّ استخدام واستثمار الإنسان. وقد تحدّثت كل هذه الآيات حول كون الأشياء مسخّرة للإنسان، وليس كون الإنسان مسخّراً للأشياء..."26.

ورغم أنّ القرآن الكريم قد اعتبر الطبيعة مسخّرةً للإنسان بحيث يستطيع استثمارها كيفما يشاء. إلاّ أنّه يجب أن يجعل ذاك الإستثمار في سبيل كسب كمال ورشد ونمو قيمه الإنسانية، لذا وجّه هذا التحذير بأنّ "التسخير" غير "التخريب والتدمير".

ولا يجب بذريعة الإستثمار القضاء على الطبيعة وتدميرها. بل يجب استثمارها بطريقةٍ تضمن نشاط وحيوية استمرارية الحياة للأجيال القادمة. وإنّ أي نوعٍ من الإستغلال العشوائي وغير الصحيح، فهو ظلمٌ للطبيعة: ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ 27.

تشير الجملة الأخيرة من الآية الشريفة إلى إستثمار البشر للنِّعم الطبيعية بشكلٍ غير صحيح. وعلى أساس هذه الآية الشريفة، الظالم والكافر هو الإنسان الذي لا يشكر النعمة ويقضي على كلّ ما سخّره الله للإنسان ووضعه بين يديه.

يعتبر تلويث مياه البحار، واستخدامها بطريقةٍ غير صحيحة وغير عاقلة،


65


وإهدار الطاقة وتلويث البيئة بالملوّثات المختلفة و.... ابتعاد عن الله والشريعة الإلهية المقدسة وإقبال نحو الشيطان.

تعتبر ثقافة الإسلام الحضارية الطبيعةَ مهداً لكمال ورشد ورقي الإنسان28، انطلاقاً من ذلك تعادي هذه الثقافة كلّ من يسعر النار في هذا المهد ويجعله غير آمن لكمال ورقي ورشد الإنسان وتعدّه في زمرة الظالمين والعاصين وغير الشكورين الذين سوف يتذوقون العذاب الإلهي الشديد.

ولم يُلق نظام الطبيعية عبثاً. فالسحاب والرياح والقمر والشمس والأفلاك....، كلّها تتحرك كي يصل الإنسان إلى رشده وكماله المادي والمعنوي وكي يكسب دنياه وآخرته بالتمام والكمال.

ويقول الإمام الصادق عليه السلام للمفضل بن عمر: "فإنّك إن تأملت العالم بفكرك وميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده. فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر وكلّ شيءٍ فيها لشأنه معدُّ، والإنسان كالمُملّك ذلك البيت والمخوّل جميع ما فيه وضروب النبات مهيأة لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه..."29.

إنّ بيتاً فخماً كهذا، قد اشتمل على كلّ شيءٍ بما يتناسب مع مصلحة البشر، يجب أن يعيش تحت سقفه المزيّن بالمصابيح الجميلة والمتلألئة في سكينةٍ واطمئنان، والإستفادة من متاعه المتنوع في سبيل رقيه ورشده.

د- المحافظة على الطبيعة:
إنّ الله هو الحفيظ. ومن وجهة نظر الرؤية الكونية الإسلامية، يقع كلّ الوجود ضمن مجال "حفظ" الله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ30.


66


ويجب على الإنسان المسلم أن يُزيّن نفسه بهذه الصفة الحسنة، وأنّ يستظلّ بظلّها في كلّ لحظات حياته، وأن يكون حفيظّا في أيّ نطاقٍ ومجالٍ كان وحافظاً للأمانات والنِعم والمنافع العامة والبيئة الإنسانية.

وتشمل كلمة "الحفيظ" على كلّ نوعٍ من الحفظ والصيانة31، وتضمّ دائرة الحفيظ أيضاً منع الإبتذال والإتلاف والتدمير32. وأن يكون الإنسان حفيظاً، فهذا يصون المجتمع من البلاءات والآفات. وقد اعتبر النبي يوسف عليه السلام نفسه مؤهلاً لإدارة الأمور الإقتصادية للمجتمع المصري لأنّه كان حفيظاً وعليماً، ورأى في نفسه القدرة على إنقاذ مصر من القحط والمصائب القادمة، لذلك عندما طلب عزيز مصر منه أنّ يؤدّي دوراً في الإدارة الإجتماعية، اقترح عليه النبي يوسف عليه السلام: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ33.

واعتبر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الأرضَ أمّ الإنسان الذي يجب أن يقوم بحفظها لأنّها هي من يقدّم له عصارة روحها حتى يبقى حيّاً ويسكنه كمهدٍ في جنباتها بطمأنينة ويطعمه من موائدها لتنمي جسمه. وبناءً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ الأرض فضلاً عن أنّها أمٌ، وأنّها تربّي البشر من عصارة روحها، وأنّ لها حق الأمومة على الإنسان، فإنّها تسجّل أيضاً العمل الصالح والسيِّئ في باطنها وتُخبر به: "تحفّظوا من الأرض فإنّها أمّكم وأنّه ليس من أحدٍ عاملٍ عليها خيراً أو شراً إلا وهي مخبرةٌ به"34.

إذن الأرض، في هذه النظرة المقدسة، كالأمّ وهي مقدسة لأنّها أمين الله وتُخبر بالأعمال الخيرة والشريرة.من الواضح أنّ النظرة الأمومية إلى الطبيعة، والتي علّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأتباعه واعتبار نفسه ابنها ومتربيّاً في حجرها، ستؤثر بشكلٍ كبير في كيفية الإستفادة منها واستثمارها.


67


وانطلاقاً من هذه الرؤية إلى الطبيعة، يعتبر الإنسان نفسه بحاجةٍ إليها كما يحتاج الولد إلى أمّه.

وفي مقابل هذه النظرة المتعالية والمتلألئة والمقدسة، هناك نظرة الحضارة الغربية الظلامية إلى الطبيعة حيث يظهر شيء من ذلك في المقطع التالي: "في ذلك الزمن الذي كان يعتبر فيه البشر الأرض أمّهم والسماء أباهم، كانت الأرض مسؤولةً عن تغذية أبنائها التي أولدتهم. ومنذ ذلك الوقت الذي لم يعد البشر يعتبر الأرض أمّهم، بل كامرأةٍ أسروها وغنموها في الحرب ويجب الإعتداء عليها، لم تعد الأرض تغذّي كلّ أولادها"35.

لا ينحصر الإسلام والحضارة الغربية في إقليمٍ واحد. ولا يتحمل الإسلام هذه النظرة إلى الطبيعة ولا يتوافق معها ولا يستطيع أن يقبل بأنّ تقع الطبيعة، مع كل جمالها وحضنها الدافئ والحنون، أسيرةً بأيدي غير المتّقين البعيدين عن الله والتعاليم الإلهية.

"وطالما أنّ اللامتّقين هم المسيطرون على الحضارة الغربية والمهيمنون على الشرايين الإقتصادية المهمة، لا يمكن للمرء أن يأمل بطبيعةٍ سالمة لأنّه لا يمكن الوصول إلى ذلك إلاّ بالتقوى الإلهية. ولذلك يقول الإمام علي عليه السلام: "اتقوا الله في عباده وبلاده فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"36.

هـ- الطهارة والنظافة:
يُفهم من تأكيد الإسلام الشديد على الطهارة والنظافة والإبتعاد عن القاذورات والنجاسات، أنّه يريد من الإنسان المسلم أنّ يحافظ على بيئته طاهرة ونظيفة ونقية من أيّ تلوثٍ وقذارة.ومن أصول دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حليّة الأشياء الطاهرة وحُرمة الأشياء النجسة للإنسان: ﴿... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ37.


68


وتتصف الآية الشريفة المذكورة بالشمولية ولا يمكن تطبيقها في نطاقٍ ومعنًى خاص. فكلّ قذارة في دائرة محيط الحياة مضرةٍ لجسم الإنسان وروحه هي حرام، وكلّ شيءٍ طاهر ولا يجلب الضرر لجسم الإنسان وروحه فهو حلال.

ويحصّن هذا الأصل الخالد بيئة الإنسان المسلم من أيّ نوعٍ من التلوّث. وهذا ما هو مشهودٌ عليه طوال تاريخ المسلمين. فقد كان المسلمون يتمتّعون في كل مراحل تاريخهم المشرق وفي لحظات حياة حضارتهم المتلألئة، ببيئةٍ سالمة.

نرى اليوم التلوّث موجود في بيئة المسلمين، وذلك لابتعادهم عن تعاليم الإسلام وعدم الإصغاء لها.

وقد وقعت البلاد الإسلامية في مصيدة الحضارة الغربية الملوِّثة ولا مفرّ لهم للتخلّص منها سوى العودة إلى تعاليم الإسلام الأصيلة وإحياء الطهارة والنظافة في بيئتهم وتجنّب كلّ ما يلوّث الأرض.

يستطيع الإنسان المسلم من خلال التعاليم الخالدة التي وضعها القرآن والرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه، وعبر بذل الجهد والتمسّك والإلتزام بهذه التعاليم، بناءَ حضارةٍ طاهرة ونظيفة وتقديم سبيل الخروج من هذه المضيقة الصعبة والضبابية للعالم.

ومن الجدير هنا عرض لمحةٍ عن تعاليم ومعارف الإسلام حول الطهارة والنظافة، كي نوضّح وجهة نظر الإسلام إلى البيئة.

ولا يكتفي الإسلام بتعليم أتباعه، القضايا العقائدية والعبادية الكلية، بل يمضي معهم خطوة خطوة، ويقدّم لهم برنامجاً سواءً في حياتهم الشخصية أم الحياة الإجتماعية. وقد وجهت هذه البرامج التي وضعها الإسلام بين يدي الإنسان المسلم لإدارة حياته الفردية والإجتماعية، إلى مسائل صغيرة ودقيقة وإلى مسائل وقضايا كبيرة أيضاً.

على الإنسان المسلم أن يطابق بين مختلف نواحي حياته مع أوامر وأحكام


69


الإسلام المشرقة حتى يصبح لائقاً في أن يكون بمصافّ الإنسان الكامل والمسلم.

كان يعيش في المدينة المنورة عددٌ من اليهود، ولم يكونوا يراعون النظافة الشخصية والأسرية ولا يحافظون على نظافة بيوتهم، وكانوا يضعون النفايات والنجاسات أمام منازلهم.

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو المسلمين إلى الطهارة والنظافة وكان يبعدهم عن القاذورات والنجاسات والتمثّل باليهود: "إنّ الله تعالى طيّبٌ يحبّ الطيب ونظيف، يحبّ النظافة ... فنظّفوا أفنيتكم ولا تشبّهوا باليهود"38.

وقد جاء في التعاليم الإسلامية حول الجنة أنّه: "ليس للرجس سبيل إلى الجنة، لا محلَّ إلا للطهارة والنظافة هناك. فالجنة محلّ المطهرين ولا يتحدّثون ولا يفكّرون ولا يأكلون الا نقاءً وطهارة. ولا يُرى في الجنة رجسٌ، ويتمتع الجميع بهواءٍ ومحيطٍ معافى".

ويجب أن تكون حياة المجتمع الإسلامي حياة أهل الجنة، وأن يبتعد عن كلّ أنواع الملوّثات، ولذلك يجب على الإنسان المسلم الذي يتمنى أن يكون من أهل الجنة، أن يبتعد عن الملوثات والخبائث.

ويقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجال: "إنّ الإسلام نظيف، فتنظّفوا فإنّه لا يدخل الجنة الّا نظيف"39.

ويقوم أساس المجتمع المنشود والحضارة الدينية المتلألئة على النظافة والطهارة، وهو يدعو أتباعه دائماً إلى التمسك بهما.

وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: "فتنظّفوا بكل ما استطعتم فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة"40.


70


إذن، عدّ الإسلامٌ النظافة من الإيمان41.

واعتبر نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنسانَ القذرَ والمتسخَ بعيداً عن محبة الله: "إنّ الله يبغض الوسَخ والشّعث"42.

وكما أشرنا سابقاً فإنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعرض للحديث حول أدق المسائل والقضايا الصحية التي يجب على الإنسان المسلم أن يطبّقها جميعها في حياته الشخصية والإجتماعية وذلك بهدف بناء مجتمع سليم وبيئة نظيفة وطاهرة43.

"اغسلوا ثيابكم وخذوا من شعوركم واستاكوا وتزيّنوا وتنظّفوا فإنّ بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم"
44.

و. الرائحة الزكية واستخدام العطر: أوصى الإسلام مراراً باستخدام العطر والروائح الزكية. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستخدم العطر كثيراً وكان يحب أن يستخدم المسلمون العطور ويحضّهم على تعطير الجسم. فالله خالق الجمال، ويحب الجمال.

والإنسان هو خليفة الله في الأرض، لذا يجب أن يكون مظهراً للجمال والطهارة والنقاء.

فخالق الجمال يريد من أشرف مخلوقاته أن يزيّن ويرتّب نفسه وأن يستثمر جمال عالم الخِلقة في الخير والإحسان: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ45.


71


يُستفاد من الآية والروايات السابقة الذكر مسائل عديدة تبيّن نظرة الإسلام إلى البيئة:
1- يؤكد الإسلام على الترتيب والجمال والزينة الظاهرية ويوصي أتباعه بارتداء الثياب النظيفة وتقصير الشعر وتمشيطه، واستخدام العطور وخاصةً عند الذهاب إلى المسجد.

2- بناءً للرؤية الإسلامية، يجب أن يكون مكان العيش والحياة نظيفاً وطاهراً، خاصةً الأماكن العامة، مثل المسجد الذي يتمتّع بأهمية كبيرة وخاصة، وتأمر الآية الشريفة التي ذكرناها الذين يريدون الصلاة وإيتاء الأعمال العبادية الأخرى في المسجد أن: يدخلوا المسجد بثيابٍ مرتبة ومزينة وجسمٍ ذي رائحة عطرة وظاهرٍ مرتبٍ والإمتناع عن الذهاب إلى المسجد بثيابٍ غير لائقة وغير جميلة وأقدامٍ غير نظيفة ووسخة وذات رائحة كريهة وأفواهٍ تفوح منها رائحة الثوم و... .46

3- ويُستنبط من الآية الشريفة وكلام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لا ينبغي اعتبار الجمال والتجمّل أمراً واحداً. ويجب وضع حدودٍ بين النظافة والثياب المرتبة وبين الإسراف والتبذير. إنّ استثمار المواهب والعطايا والنعم الإلهية والإستفادة منها جائزٌ بشرط أن لا ينجرّ ذلك إلى الإسراف والتبذير والمخملية والأرستقراطية.

وفضلاً عن الآية المذكورة والآيات الأخرى وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أكد الأئمة الأطهار عليهم السلام على المسلمين استخدام العطر الزكي وتنظيف البيئة المحيطة بهم.


72


عن الإمام علي عليه السلام: "نِعم الطيب المسك، خفيف محمله عطرٌ ريحه"47. ويقول عليه السلام أيضاً: "والطّيب نُشره"48.

ويكتب العلامة المجلسي في معنى "نُشرَه": "نُشرَه هو ذلك الشيء المزيل للحزن. ويُقال للعطر نُشرَه من حيث إنّ استخدامه يؤدي إلى إزالة الأمراض وعدم الراحة"49.

ز.: لقد شجّع الإسلام على زراعة الشجر وإيجاد المساحات الخضراء بعباراتٍ وبياناتٍ متنوعة وأكد على ذلك، واعتبر قطع الأشجار حتى أثناء الحروب أمراً قبيح ومنع حصول ذلك.
والدّين الذي يمنع تدمير الأشجار والمزارع والسهول الخضراء والقضاء عليها أثناء الحرب، ويأمر مقاتليه باجتناب قطع الأشجار، يستطيع أنّ يوجّه في العصر الحالي رسالةً إلى شعوب العالم وخاصةً الدول الصناعية.

فاليوم يواجه العالم الصناعي يباس الأشجار وفقدان المساحات الخضراء وذبول الورود والنباتات وموتها. وكما أدّى تمزّق القيود في الصناعة وتحررها منها كلّها إلى سلب الأخوة والصفاء والتعاطف والمحبة والأواصر العائلية الوثيقة من الناس الصناعيين وجعلت نفوسهم مريضة ومتألمة، فقد خرّبت آخر نافذة أملٍ يعني الغابات والمساحات الخضراء والسهول والمزارع الخصبة المعالجة للآلام والطاردة للأحزان والمفعمة بالفرح، وتركت الإنسان وسط الخردة المزروعة في الأرض والدخان ومختلف التلوّثات الصناعية وحيداً فريداً، ونحن نشهد اليوم الملايين من البشر اليائسين والمنفصلين عن أسرهم والحائرين والمشرّدين والذين يعانون الكآبة والإضطراب النفسي. إنّ كلّ ما ذُكر هو جزءٌ من كارثة


73


إنسانية عظيمة ابتلي بها العالم الصناعي.

طبعاً، تحدّث العديد من العلماء وأصحاب الرأي في أمريكا وأوروبا وآسيا حول هذه الكارثة العظيمة. واعتبر بعضهم أنّ آفات وأضرار الصناعة أكثر من الكوارث الطبيعية50. على سبيل المثال، ألمانيا التي كانت الغابات والأشجار تغطي خمسة وعشرين بالمئة من مساحتها، تتعرض في السنوات الأخيرة إلى انحدارٍ تحذيري لغاباتها وأشجارها نحو الزوال51، وقد كُتب في هذا المجال: لقد مات ثلث أشجار غابات ألمانيا، والنصف الآخر على مشارف الموت. بحيث إنّ ألمانيا تقع على شُرف حصول كارثةٍ بيئية تُدعى موت الأشجار52.

ولكنّ الإسلام، منذ البداية، ربّى الإنسان المسلم على برنامجٍ وأحكامٍ وشريعة، لو التزم المسلم بها بدقة وتمسّك بها، ولم يلهث وراء الطمع، ذلك المرض الغربي المنتشر في البلاد الإسلامية، لما واجه المجتمع الإسلامي هذه الأزمة المخرّبة على الإطلاق، ولو جعل العالَم هذه البرامج الإسلامية دليلاً في طريقه، لما جعل مظلة الموت الأسود هذه فوق رأسه.

ويحيط الإسلام الأعمال الحسنة والصالحة بهالةٍ من التقدّس. وهو يعتبر العمل الصالح، وبذل الجهد والكدح، وإبداع الجمال والزراعة وتربية الورود والأشجار.. من العبادة أيضاً، ويحبّ من يقوم بهذه الأمور أو يصرف وقته في مثل هذه الأعمال ويمدحه.

ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حول زراعة الأشجار: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"53.


74


ويقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "من نصب شجرة وصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر، كان له في كل شيءٍ يصاب من ثمرة صدقة عند الله"54.

تشير هذه الرواية فضلاً عن الإهتمام بزراعة الأشجار، إلى الإهتمام بصيانتها والمحافظة عليها أيضاً بحيث إنه لو ظلّ هذا الأمر جارياً بين المسلمين لكنّا شهدنا تجليّاتٍ جميلة للبيئة السالمة والجميلة والمفعمة بالنشاط. واعتبر الإمام الصادق عليه السلام المحافظة على الشجرة، مخلوق الله الجميل، من مسؤولية الإنسان المسلم: "وخلق له الشجر فكلّف غرسها وسقيها والقيام عليها"55.

وعُدّت زراعة الشجر في أحاديث المعصومين عليه السلام كتلاوة القرآن وتعليمه56، وطُلب من زارعي الأشجار أن يذكروا الله بألسنتهم أثناء زرعهم لها57.

وتحتلّ الصدقة في الإسلام مكانة عالية، واعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمرة الزراعة والشجرة التي تُزرع صدقةً للزارع: "ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسانٍ أو بهيمة إلا كان له به صدقة"58.

وما تأكيد الإسلام على الزراعة وإيجاد المساحات الخضراء وزراعة الشجر وتربية الورود والنباتات، وإعطاء الأجر المعنوي للذي يعمل في الزراعة والبشرى بالثواب والجنة، إلا من منطلق أن تبقى دنيا الإنسان المسلم سعيدة ونشطة، وأن يعيش الإنسان المسلم في جوٍّ من المساحات الخضراء والأشجار بعيداً عن الكآبة والأمراض النفسية وأن يُظلل الفرح والنشاط المجتمع، مما يهيىء الأرضية لحركاتٍ عظيمة وبالتالي التخطيط لحضارةٍ سالمة ومجيدة.


75


وقد ورد في الروايات أن الخُضرة تقوي العين وتطرد الحزن59. هذه النظرة إلى الخضرة والجو المليء بالخضار والزرع والأشجار والنباتات التي وصلت عبر كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدين، تجعل المسلمين يقدسون ذلك وتحثّهم على أن تكون البيئة المحيطة بهم والتي يعيشون فيها مفعمة بالحيوية وأن كلّها خضراء ومزيّنة بالنباتات والورود.

وعندما يسمع الإنسان المسلم عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ حليب البقرة دواء للآلام، لأنّ البقرة تتغذى على الأشجار والنباتات60، فذلك يحفّزه على تربية الأبقار الحلوب والاشتغال بالزراعة لتأمين طعامها والإستفادة من حليبها كغذاءٍ سالمٍ له ولأسرته، اتّباعاً منه للتعاليم الدينية.

ويسعى الإسلام من خلال برامجه وأساليبه الخاصة إلى أن يوجِد صلةً راسخة بين الإنسان والطبيعة، وذلك انطلاقاً من أنّ اتصاله بالطبيعة يجعله يتمتع بجسمٍ وعقلٍ سليمَيْن من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يستطيع الإسلام عبر الناس السالمين على كافة الصعد أن ينشر رسالته في كافة أنحاء العالم، وبالتالي إيجاد مجتمعٍ نشط وحيوي وحضارة متلألئة.

وطالما لم يتصل الإنسان بالطبيعة بشكلٍ جيد، ولم يستفد من الطبيعة، التي هي أمّه، بطريقةٍ سالمة ومفيدة، لن يُدرك رسالة الدين جيداً. يعني لن يكون أُذناً لسماع الحق، ولا عيناً لرؤية الحق ولا قوةً لتمييز الحق من الباطل والصالح من الطالح.

صيانة العناصر الأربعة والمشتركات وعدم تلويثها

إنّ العناصر الأربعة وهي: الماء والهواء والتراب والشمس و... ملكٌ لكل الناس، بل ملكٌ لكل مبدعٍ، وليس من حقّ أحدٍ أن يضع يده عليها ويمنع الآخرين من


76


الإستفادة منها أو أن يكون عائقاً أمام استثمار الآخرين لها من خلال تلويثه لها.

ويُطلق الفقهاء على العناصر المذكورة أعلاه وكذلك على الطرق والمساجد والمدارس و... مصطلح "المشتركات". ويقول الفقهاء في تعريفهم للمشتركات وتفاوتها عن الأنفال، ما يلي: "وتشمل الأنفال الأبنية والأشجار والأراضي والممتلكات المنقولة وغير المنقولة، الموضوعة في تصرف الإمام وولي أمر المسلمين، والتي يصرفها في سبيل تقوية الدين والقيم الدينية ومصلحة المجتمع الإسلامي ولا يجوز إهمالها أو تملّكها من دون إجازته"61.

وأمّا المشتركات فهي عبارة عن: "الأشياء التي لا تعتبر من الأنفال، وهي غير موجودة ضمن نطاق مالكية شخصٍ أو أشخاصٍ، مثل: ضوء الشمس، الطرق العامة، المساجد، المدارس و..."62.

ويجب أن تبقى المشتركات والعناصر الأربعة دائماً متاحة للجميع وفي كل الأحوال وبشكلٍ متساوٍ، وأن يستفيد منها جميع الناس، لا أن تقتصر على عددٍ معينٍ من الأشخاص في المجتمع بحيث إنّهم يستثمرونها أكثر من غيرهم ويكونون هم أكثر الملوثين لها. وهذا الأمر ظلمٌ كبير يجب على الجميع الوقوف بوجهه وأن لا يدعوا أهم الموارد حيويةً وأكثرها حساسيةً في معرض عاصفة الطامعين الذين يسدّون الطريق أمام حياةٍ وبيئةٍ سالمة وحتى إنّهم يمنعون التنفس وشمّ الهواء الطلق والإستفادة من الماء الزلال والضوء، وهذه كلّها مشتركاتٌ بشرية وتمّت الإشارة إليها في الأحاديث المنقولة عن المعصومين عليهم السلام.63


77


وكتب أحد الفقهاء: "إنّ الهواء والتراب وضوء الشمس والمياه العامة والبيئة بشكلٍ عام، من المشتركات التي من حقّ الجميع أن يستفيدوا منها بشكلٍ صحيح ومنظم ولا يحق لأحد أن يجعل حياة الآخرين شاقة وخطيرة من خلال تلويث هذه المشتركات واستغلالها بشكلٍ سيِّئ، ويُستفاد من الأحاديث الشريفة بأنّ الجميع، يحمل مسؤولية شرعية اتجاه هذه المشتركات"64.

ومن المصاديق والنماذج التي ذكرها الفقهاء السابقون واللاحقون تحت عنوان المشتركات، عبارة عن: الطرقات، الشوارع، المدارس، المساجد، الأوقاف العامة، الحدائق العامة، المراكز والميادين الرياضية، المرابط، المسابح والأماكن التي بُنيت وأُعدّت ليستفيد منها الجميع وليست ملكاً لأحدٍ.65

واعتبر عددٌ من الفقهاء بأنّ الهواء والفضاء من الأنفال66، فيما اعتبرها البعض الآخر من المشتركات67, ولكن لم يُجز كلا الطرفَيْن تلويثها واستخدامها بشكلٍ غير ملائم.

ومن وجهة نظر فقهية، إذا أضرّ بناء ناطحات السحاب والأبنية العالية بهواء وفضاء الناس، وحرمهم ذلك من الهواء الطلق، فهذا خلاف الشرع ويجب منع حصوله.

وتعتبر ثقافة استثمار العناصر الأربعة والمشتركات والإنتفاع منها وإبقاؤها نظيفة من التلوّث، من أهم ركائز التنمية المستدامة التي يتمّ التحدث حولها كثيراً في عالمنا المعاصر ويعدّونه أمراً واجباً وضرورياً.


78


وإذا كانت طريقة بناء الأبنية، وتنظيم المدن، وبناء المصانع ومسارات الصرف الصحي لها و... تضرّ بنحوٍ ما بالعناصر الأربعة والمشتركات البشرية، يجب منع هذه الإنشاءات وهذه الطريقة في البناء والتنظيم بناءً للشرع ودستور الجمهورية الإسلامية القائم على أساس الشرع.

"في الجمهورية الإسلامية، تُعتبر المحافظة على البيئة التي تتجه فيها الحياة الإجتماعية للجيل الحالي والأجيال اللاحقة نحو الرشد، واجباً عامّاً. وانطلاقاً من ذلك، تُمنع الأنشطة الإقتصادية وغيرها المتلازمة مع تلويث البيئة أو الإضرار بها بشكلٍ لا يمكن تعويضه"
68.

وفي نهاية هذا القسم، لا بد من ذكر عدد من الأمور التي توضح نظرة الإسلام أكثر حول المحافظة على البيئة وإجتناب تلويثها بشدة، وكذلك للإشارة إلى أنّ التعاليم الإسلامية والثقافة الدينية تعتبر بناء الحضارة الدينية وظهور المجتمع الإسلامي متلازماً وممزوجاً مع حفظ البيئة وصيانة قانون الحياة الجماعية (يعني من دون حفظ وصيانة البيئة وقوانين الحياة الجماعية لن تستطيع الحضارة القائمة بين الأمة الإسلامية أن تكون إسلامية بشكلٍ تامٍّ وكامل)، من أبرز هذه الأمور:
الف. منع تلويث الطرقات: تكشف الطرقات والشوارع ومراكز النقل العامة عن وجه الناس والنظام الحاكم والقانون السائد فيه. إذ يعكس جمال ونظافة وطهارة هذه الأماكن عن مستوى الأدب والثقافة لدى الناس وعن لياقة حكّام المجتمع، كما أنّ اتساخ وتلوّث هذه الأماكن تعكس ابتعاد الناس عن الأدب والثقافة وعدم لياقة وأهلية الحكّام والقيّمين على المجتمع.
على هذا الأساس، فقد جُعلت هذه الظاهرة ضمن جدول اعمال الإسلام واهتماماته، وتمّ التوجّه إلى هذا الأمر المهم على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم


79


والمعصومين عليه السلام ببياناتٍ متنوعة وحذّروا المسلمين من توسيخ المعابر والطرقات العامة وتلويثها.

فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد والظلّ وقارعة الطريق"69.

وكتب العلامة المجلسي في هذا المجال: "إنّ امتلاك مستجمعٍ للمياه في المنزل يدلّ على تفقه وثقافة الناس المعتقدين بفكر وعقيدة التشيّع"70.

وهكذا منع الإسلام بطرقٍ مختلفة المسلمين عن أيّ حركةٍ تسبب الإنزجار والإشمئزاز والنفور. ولم يغفل الإسلام في هذه الحركة التربوية والإصلاحية حتى عن أكثر مسائل الحياة خفاءً وذكر مسائل حول كيفية القيام بها. ومن الأمثلة على ذلك، منع التغوّط تحت الأشجار وأمام المساجد والمعابد وبالقرب من أحواض المياه والأنهار والطرق والشوارع أو الإختفاء عن الأنظار أثناء قضاء ذلك71 أو رمي المخاط وبزاق الفم في المعابر و....

ويبيّن كل ذلك مدى محبة الإسلام في أن تكون مدن المسلمين نظيفة وطاهرة وأُناسها أهل ثقافةٍ وأدب. وهنا نذكر نموذجاً من سيرة الإمام علي عليه السلام في تعاطيه مع الشباب الماجن والفاسق والملوّث للبيئة، حتى يتضّح أنّ من وظائف الحكومة الإسلامية مكافحة أيّ نوعٍ من تلويث البيئة بما في ذلك المجون والفحش حتى يتخلص المجتمع من التلوثات.

"روي أن الفرات مدت على عهد علي عليه السلام فقال الناس: نخاف الغرق ، فركب وصلى على الفرات، فمر بمجلس ثقيف فغمز عليه بعض شبانهم فالتفت إليهم وقال: يا بقية ثمود يا صغار الخدود ، هل أنتم إلا طغام لئام، من لي


80


بهؤلاء الاعبد، فقال مشايخ منهم: إن هؤلاء شباب جهال فلا تأخذنا بهم واعف عنا قال: لا أعفو عنكم إلا على أن أرجع وقد هدمتم هذه المجالس، وسددتم كل كوة، وقلعتم كل ميزاب، وطممتم كل بالوعة على الطريق، فان هذا كله في طريق المسلمين، وفيه أذىً لهم"72.

يحمل هذا المقطع من سيرة الإمام علي عليه السلام العديد من الدروس والعبر للناس كأفرادٍ وحكّام حيث يجب عليهم أنّ يتأملوا فيه ويجعلوه نموذجاً لبناء المجتمع السليم:
1- يجب تنظيف ساحة الحياة من أيّ نوعٍ من التلوّث، سواءً كان هذا التلوّث صادراً عن الشباب الماجن الذي يؤرق طمأنينة وسكينة وأمن وراحة الناس من خلال نظراته وكلامه وسلوكه غير اللائق، أو كان صادراً عن مستجمعات مياه المنازل التي توسّخ الشوارع والطرقات والمعابر والأزقة.

2- يجب إغلاق مراكز الفساد والتلوث من دون أيّ تساهلٍ وتسامح، أو ضربها وسحقها.

3- يجب أن يراعي البناء والهندسة المعمارية مسألة عدم توجيه مستجمعات المياه ومجاري مياه الأسطح نحو الأزقة فتؤذي الناس وتلوّث البيئة.

4- وفضلاً عن ذلك، لا يجب أن تُفتح نوافذ البيوت نحو الأزقة مما يسبب الأذى والإزعاج للناس أو أن يضر أهل المنزل بهذه الطريقة العابرين أو الإستهزاء بهم.

5- وفي النهاية، إنّ كلّ ما ذُكر هو من مهامّ الدولة وواجبٌ عليها أن تمنع البناء المزعج والشباب الماجن والفاسق وأيّ حركةٍ وسلوكٍ مضرٍ.

ب- الإبتعاد عن التلوث الصوتي:
يُلحق الصوت الضرر بروح الإنسان إذا ما


81


تجاوز الحدّ اللازم. وقد ابتلي الإنسان منذ سنواتٍ بالتلوّث الصوتي بسبب ظاهرة الآلة، وتتعرّض أعصابه ونفسه في كل لحظةٍ لمطرقة الأصوات المؤذية، مما يُخرجه من حدّ التوازن ويشعر بالألم وتحيط به الأمراض المتنوعة.

والإنسان هشٌّ للغاية، ويملك روحاً حساسة وأعصاباً قوية ومرهفة جداً بحيث إنّ أقلّ الأصوات تؤثر فيها بنحوٍ من الأنحاء. لذلك، فإنّ أيّ نوعٍ من الأصوات، حتى صوت الإنسان، لا يجب أن يتجاوز حدّه اللازم وإلاّ كان أثره فظيعاً في أعصاب الإنسان وروحه. وقد نقل الله سبحانه في القرآن عن لسان لقمان وهو يعظ ابنه: ﴿(يا بني) وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ73.

فالتكلم بصوتٍ عالٍ، فضلاً عن أنّه يعدّ من الوقاحة وسبباً لتنزّل مكانة الإنسان الإجتماعية، ويجعل الإنسان كالحمير ذات النهيق المؤذي الصادر بغير آوانٍ، فإنّه ملوّثٌ صوتي ومسبب لزعزعة السكينة والهدوء الروحي والنفسي للناس.

عندما يكون موقف الإسلام حول أصوات الإنسان العالية وصوت الحمار ما ذُكر أعلاه، فمن الواضح موقفه حول أصوات السيارات والحافلات والمصانع وآلات الحدادة وتكسير الحجارة و... وكيف يتعاطى مع مسألة التلوث الصوتي. إنّ الدين الذي يلتفت إلى هذه المسائل الحيوية منذ ألف وأربعمائة سنة وحتى إنه يأمر بتجنب إصدار أصواتٍ هي أدنى بكثير ممَّا يصدر في عصرنا من أصواتٍ للسيارات وما شاكل ذلك مما يحيط بالإنسان، ومن المحتّم أنّه إذا بنى حضارةً فإنّ أول خطوةٍ سيقوم بها إيجاد سياقٍ وأرضيةٍ لطمأنينة الإنسان حيث يتمتع الإنسان بمكانةٍ عالية واحترامٍ خاص. وهكذا الإنسان أصلٌ في الحضارة القائمة على أساس الإسلام، خلافاً للحضارة الغربية التي جعلت الأصل في الربح والرأسمال ويجب أن يتمّ التضحية بكلٍ شيءٍ في سبيلهما حتى الإنسان.


82


ولا قيمة للتكنولوجيا التي حوّلت العالم بتلوثّها الصوتي إلى جهنّمٍ تحيط بالإنسان، حتى إنّها ضحّت بهذا الإنسان في سبيل كل شيء. لا يستطيع الإسلام الذي يعتبر إخفات الصوت من أمارات التدين والإحسان الديني، الإنسجام مع هكذا حضارة.

ويقول الإمام علي عليه السلام: "خفّض الصوت وغض البصر ومشي القصد من أمارة الإيمان وحسن التديّن"74.

إذن، يشكّل الإتصال بين الدين والسلوكيات الإجتماعية ركائز الحضارة الإسلامية. فالمجتمع الذي تسوده الأصوات والسلوكيات غير الطبيعية، لا أثر للتدين فيه ولا رؤية مستقبلية لبناء حضارة. إنّ ابتعاد المجتمع وأفراده عن الملوّثات الصوتية من مؤشرات المجتمع الحضاري. وقد اعتبر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إصدار الصوت العالي لإلقاء القلق والخوف في نفوس الآخرين من الظلم: "لا ترعوا المسلم فإنّ روعة المسلم، ظلمٌ عظيم"75.


83


هوامش

1- هشدار به زندكان، روجيه كارودي، ترجمة علي أكبر كسمائي/25، هاشمي، تهران.
2- ن.م، 24.
3- ن.م، 34.
4- ن.م.
5- ن.م،35.
6- ن.م، 36.
7- توسعه ومباني تمدن غرب، الشهيد آويني/7، ساقي، طهران.
8- جوان مسلمان ودنياي متجدد غرب، دكتور حسين نصر، ترجمة مرتضى اسعدي، ص184.
9- جهان امروز وفردا، علي اكبر كسمائي، ص327، مؤسسة اطلاعات، طهران.
10- نياز به علم مقدس، الدكتور حسين نصر، ترجمة حسن ميانداري، ص204، مؤسسة فرهنكي طه، طهران.
11- جوان مسلمان ودنياي متجدد، ص208.
12- نياز به علم مقدس، ص139.
13- سورة البقرة، الآية 30.
14- سورة الأنعام، الآية 165.
15- سورة الحديد، الآية 7.
16- سورة فصلت، الآية 53.
17- سورة النساء، الآية 126.
18- سورة البقرة، الآية 115.
19- سورة النور، الآية 55.
20- نياز به علم مقدس، ص221.
21- نهج البلاغة، صبحي صالح، ترجمة سيد جعفر شهيدي، الخطبة 167، ص174، آموزش انقلاب اسلامي، طهران.
22- نياز به علم مقدس، ص226.
23- سورة هود، الآية 61.
24- المفردات في غريب القرآن، راغب الأصفهاني، عبارة "عَمَر".
25- نهج البلاغة، الرسالة53.
26- مجموعة آثار الشهيد مطهري، ج2، ص115، صدرا، طهران.
27- سورة إبراهيم، الآيات 32 - 34.
28- سورة النبأ، الآية 6.
29- بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج3، ص115، مؤسسة الوفاء، بيروت.
30- سورة هود، الآية 57.
31- المفردات في غريب القرآن، عبارة "حفظ".
32- مجمع البحرين، الطريحي، مادة "حفظ"
33- سورة يوسف، الآية55.
34- نهج الفصاحة، ترجمة ابو القاسم بايندهن العدد 1130، جاويدان.
35- نياز به علم مقدس، ص154.
36- نهج البلاغة، الخطبة 167.
37- سورة الأعراف، الآية 157.
38- نهج الفصاحة، العدد703.
39- ن.م.، العدد 612.
40- ن.م.، العدد 1182.
41- ن.م.، العدد1361.
42- ن.م.، العدد 741.
43- ن.م.، العدد 1456.
44- ن.م.، العدد377.
45- سورة الاعراف، الآية 31 - 32.
46- رسالة توضيح المسائل، الإمام الخميني، المسألة 915.
47- نهج البلاغة، الكلمات القصار، العدد397.
48- ن.م.، الكلمات القصار، العدد400.
49- بحار الأنوار، ج 63، ص291.
50- جهان امروز وفردا، ص113.
51- ن.م.، ص55.
52- ن.م.
53- نه الفصاحة، العدد 567.
54- كنز العمال، حسام الدين الهندي، ج12.
55- بحار الأنوار، ج3، ص86.
56- ن.م.، ج100، ص64.
57- الكافي، ثقة الإسلام الكليني، ج5، ص163، وسائل الشيعة، ج 13، ص197.
58- فيض القدير، ج5، ص496.
59- نهج الفصاحة، العدد 1491.
60- ن.م.، العدد 1135.
61- جواهر الكلام، ج16، ص116، 134.
62- مصطلحات الفقه، علي المشكيني، ص491، نشر الهادي.
63- وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص331.
64- جريدة ايران، 13/3/80، استفتاء لآية الله لطف الله صافي الكلبايكاني.
65- مصطلحات الفقه، ص492.
66- ن.م.
67- جريدة ايران، 13/3/80، استفتاء لآية الله لطف الله صافي الكلبايكاني.
68- دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الأصل الخمسين.
69- سنن ابن ماجة، ج1، ص 119.
70- بحار الأنوار، ج 77، ص 192.
71- ن.م.، ج10، ص 247.
72- ن.م.، ج41، ص250.
73- سورة لقمان، الآية 19.
74- غرر الحكم، آمدي، ج3، ص453، جامعة طهران.
75- نهج الفصاحة، العدد 2450.