المحاضرة الأولى: أسباب الخلود

الهدف:
بيان عوامل وأسباب بقاء مؤثّرية النهضة الحسينيّة, ودور الإخلاص في خلود الأثر والعمل.

تصدير الموضوع:

عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً"1.


123


مقدّمة:
الخلود من معالم النهضة الحسينيّة

إنّنا وكلّ ما ومن في الوجود إلّا ما ومن استثنى إليه آيل إلى الفناء والاندثار، أو لا أقلّ أنّ بنفسه لا يملك عناصر الخلود والبقاء إلّا أن يفاض علينا ما به بقاؤه وخلوده ممّن له الخلود والبقاء ومن يملك الموت والحياة.

ولو أردنا أنّ البقاء بدوام الذكر في الدنيا وعلى مرّ الأجيال فما الضامن لذلك إذ كم من أمّة مرّت على هذه الدنيا وكان لها ما كان لا تجد لها ذكراً حتّى كأنّها لم تكن.

ومثلها الكثير من الأفراد، إلّا أنّ ثمّة أمراً ملفتاً في القرآن الكريم وهو أنّه تعالى جعل بعض الثواب لبعض الأنبياء دوام الذكر في الدنيا من خلال إيراد ذكره والتنويه يجهده وجهاده في القرآن الكريم بل أمر بذكرهم بقول
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ...2، ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا...3 تنفيذاً لسنّته ووعده: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ4 بل ليكون ذكرهم مقروناً بالسلام عليهم ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، ﴿سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ5 وغير هؤلاء.

ومن أبرز من خلّد ذكرهم في الدنيا بذكرهم في كتابه الكريم من خلال التنويه بأعمالهم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم


124


الحسين عليه السلام، فالحسين عليه السلام باقٍ ذكره مع القرآن وفيه حتّى قبل حصول ما حصل في كربلاء وعاشوراء فضلاً عن الزخم الذي أحدث به عاشوراء ذكر الحسين من أسباب بقاء وخلود، فالبقاء والأبديّة والخلود من أبرز معالم ومزايا الحسين والنهضة الحسينيّة، لا من حيث الذكر فقط بل من حيث المؤثّريّة والفاعليّة على مرّ الأزمنة وتعاقب الأجيال، وهذا ما أنبأ به الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً"6.

محاور الموضوع
أسباب البقاء والخلود:

كلّنا وبفطرتنا وما جبلنا عليه نحبّ البقاء ونحبّ أن يبقى لنا الأثر الحسن والذكر الحسن في الحياة بعد رحيلنا عن هذه الدنيا، فهل ثمّة من سبيل إلى ذلك؟

وبجواب مباشر نقول نعم هناك أمور يمكن أن نحفظ بها جهودنا ولنقف على شيء منها نقف على ما جاء في القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى:
﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا


125


مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ7.

ولنا أن نستخرج من هاتين الآيتين ما يلي:
1- إنّ الصبر والثبات في طرق طاعة الله من أفضل أعمال الإنسان.
2- إذا كان العمل من ثمار وجود الإنسان فإن كان المقصود به النّاس فإنّه يذهب بذهاب النّاس
﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ولا مادة له تحدّه بأسباب الدوام والبقاء.
3- من أراد لعمله البركة ودوام النفع، وأراد إنقاذ عمله من الفناء والاندثار عليه أن يقرنه بالدائم الباقي، وممّا لا شكّ فيه أن من له البقاء والدوام هو الله.

وبتعبير آخر إنّ كلّ ما هو لنا من وجودنا في هذه الدنيا هو عملنا فلا مال يبقى ولا بنون، وعزّ ولا جاه، فكنزنا الذي نحصل عليه من حياتنا في هذه الدنيا هو عملنا، وحتّى يبقى لنا هذا العمل ويسلم ويرافقنا إلى الحياة الآخرة لا بدّ أن يكون عملاً صالحاً يعني أن يكون مفيداً وبناءاً من جهة ومن جهة لا بدّ وجود الداعي والباعث الإيمانيّ، وإلّا فإنّ الأعمال حتّى لو كانت صالحة فهي لا تملك أسباب بقائها لترافقنا في الموت وما بعده ما لم يحدّها الإيمان بالحياة.


126


فالأعمال كلّ الأعمال عبادات كانت أو أعمال خير من صدقات وأعمال برّ وصلة رحم وقضاء حوائج وتعلّم وتعليم وحتّى الجهاد علينا أن نعتبرها كنوزاً نخشى عليها الضياع فعلينا أن نودعها عند من لا تضيع عنده الودائع ألا وهو الله تعالى، وبطريقة مباشرة نقول معنى كون العمل عند الله هو أن نخلص النيّة لله قبلة قلوبنا فحينها سيكون لأصغر عمل أكبر الأثر، وهذه ضربة عليّ عليه السلام إنّما كانت تعدل عمل الثقلين لأنّها صدرت عن نفس عليّ عليه السلام بصورة خالصة لم تشبها شائبة.

من آثار الإخلاص في النيّة:

عندما سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن قوله تعالى:
﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً قال: "هي القناعة"8.

وممّا يستفاد من ذلك أنّ العمل الصالح الصادر عن باعث هو الإيمان بالله تعالى له أثر في الدنيا على نفس العامل وعلى نفسه بالخصوص, إذ يزيل أسباب القلق والاضطراب ليحلّ محلّها الطمأنينة والسكينة.

فكلّما كان العمل بنّاءاً ومفيداً وكانت النيّة خالصة فيه لله كلّما اطمأنّت النفوس وسكنت وصارت حياتها طيّبة هانئة سعيدة.


127


وكذلك فإنّ المجتمع الذي يتنافس فيه أبناؤه في الأعمال الصالحة وبدواعٍ متجرّدة عن الأنانيّات والمصلحيّات تسود هذا المجتمع الطمأنينة والهناء.

خاتمة:

من يرد الخلود والبقاء عليه أن يتأسّى بالصالحين من أمثال إبراهيم عليه السلام حيث جعل الله ذكره مقروناً بعبادة من أعظم العبادات وهي الحجّ وبأمكنة هي من أقدس الأمكنة وهي البيت الحرام، فكان مقام إبراهيم وحجر إسماعيل وقصّة حربه للشيطان عند الجمرات وكذلك في منى والخيف وعرفات وغيرها.

بل إنّ نداءه بأمر الله للحجّ كان له أثر اخترق الأمكنة والأزمنة والأجيال وأخبر تعالى عن ذلك بقوله:
﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ9.

وكذلك فإنّ الإمام الحسين عليه السلام أطاع الله تعالى في أغلى الأشياء عنده فقدّم ما قدّم وهو يقول: عند الله أحتسب.

بل يقول ورضيعه بين يديه: "هوّن ما نزل بي أنّه بعينك يا ربّ...".

لتكون نداءات الحسين عليه السلام وشعاراته بعد هذه الأضاحي "هل من ناصر ينصرني..." و "هيهات منّا الذّلّة".


128


كأنّها نداء جدّه إبراهيم عليه السلام لتحجّ الأرواح والنفوس والقلوب إلى الحسين عليه السلام شخصاً، ومقاماً، ومبادئ، وأهدافاً.

بعض النّاس يعمد إلى حفر اسمه على جذع شجرة أو على صخرة ما ليبقى اسمه وذكره.

لكن الحسين عليه السلام كتب بدمه اسمه على جبين الزمان فحفرت حروفه في القلوب حرارة لا ولن تبرد أبداً.


129


هوامش
1- مستدرك الوسائل,ج 10، ص 318.
2- راحع سورة مريم، الآيات 16 – 41 – 51 – 54 – 56.
3- سورة ص, الآية: 45.
4- راجع على سبيل المثال: الصافات 80 – 105 – 110 – 121 – 131.
5- الصافات 130.
6- مستدرك الوسائل,ج 10، ص 318.
7- سورة النحل, الآية: 96- 97.
8- نهج البلاغة الكلمات القصار- رقم 299.
9- سورة الحجّ, الآية: 27.