المحاضرة الثالثة: الوالدان وصيّة الله عزَّ وجلّ

الهدف:
التأكيد على طاعة وإكرام الوالدين وأكرامهما في حياتهما وبعد موتهما خصوصاً، وإكرام الأمّ خصوصاً.

تصدير الموضوع:
﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
1.


215


مقدّمة: وصيّة الله
اللّهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك، وأهل بيته الطاهرين، واخصص والديّ بأفضل صلواتك ورحمتك وبركاتك. يقول الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام في رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ أمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحي وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحرّ والبرد، لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه. وأمّا حقّ أبيك فأن تعلم أنّه أصلك، وأنّه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك، فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوّة إلّا بالله".

إنّ الله سبحانه وتعالى قرن طاعة الوالدين بطاعته، ونهى في آيات كتابه الكريم عن التعرّض لهما بأدنى أذيّة تذكر، حيث يقول: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا2، ويقول في آية أخرى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا
3.


216


محاور الموضوع
طاعة الوالدين من طاعة الله تعالى:

إنّ تكريم الوالدين فضلاً عن ترك أذاهما من أقلّ ما يمكن أن يقوم به الإنسان تجاههما لأجل ما بذلاه من الغالي والنفيس في سبيل تربيته، والتعب في الليل والنهار ليكون عنصراً ناجحاً في أمّته، ولا يحتاج الإنسان ليستبين هذه الحقيقة إلى آيات قرآنيّة أو يستفيدها من أيّ حديث شريف، فالبرّ بالوالدين من الأمور التي تدعو إليها الفطرة السليمة النقيّة، وإنّ حقّ الوالدين هذا إنسانيّ بامتياز، قبل أن يكون حقّاً إجتماعيّاً أو شرعيّاً.

ومهما بذل الإنسان في سبيل والديه فإنّه لن يستطيع أن يؤدّي بعضاً من حقّهما عليه:
قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، ما حقّ الوالد؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أن تُطيعه ما عاش" فقيل: ما حقُّ الوالدة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "هيهات هيهات، لو أنّه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيّام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها"4.

قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ والدتي بلغها الكِبَر، وهي عندي الآن، أحملها على ظهري، وأُطعمها من كسبي، وأُميط عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياءً منها


217


وإعظامًا لها، فهل كافأتها؟" قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا، لأنّ بطنها كان لك وعاءً، وثديها كان لك سقاءً، وقدمها لك حذاءً، ويدها لك وقاءً، وحجرها لك حواءً، وكانت تصنع ذلك لك وهي تمنّى حياتك، وأنت تصنع هذا بها وتحبُّ مماتها"5.

فإذا كان مقدار التأكيد على طاعتهما والبرّ بهما بهذه الدرجة من الأهميّة فما بالك بمن لا يتورّع عن جلب الأذى لهما في كبرهما، وهذا ما سنسلّط الضوء عليه وعلى عواقبه.

المجازاة بسوء الصنيع:

في مقابل كلّ هذا التفاني والتضحية التي يقدّمها الوالدان للإبن، فإنّ أدنى ما يقال في أذاهما أنّه مجازاة لحسن الصنيع بعمل قبيح، على أنّ جزاء الإحسان إنمّا يكون بإحسان مقابل، يقول الله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ
6.

وحينما نتحدّث عن سوء الصنيع والأذى، يكون الكلام عن كلّ أشكال الأذيّة التي يمكن أن يستشعر بها الوالدان، فالأب والأمّ يتوّقعان من الولد أن يكون:
1- معيلاً لهما في كبرهما: فيساعدهما على تخطّي العجز الجسديّ، ولا سيّما الأب الذي قد يصل لمرحلة لا يستطيع أن يعمل بها، بسبب العجز وعدم القدرة على تحمّل المشقّات. ومعيلاً لهما من الجهة المعنويّة، بحيث يشعران بوجود من


218


يمكنهما الاعتماد عليه، والدفاع عنهما إن ألمّ بهما أيّ سوء، وهذه حاجة نفسيّة في غاية الأهميّة لكبار السنّ.

2- مطيعاً لهما:
بمعنى أن يستفيد من تجربتهما في الحياة، وهي تجربة طويلة، وحينما يقدّمها الأهل للولد مجّاناً، فإنّها تكون قد حدثت لهما بعد تحمّل الكثير من الشقاء والتعب.

3- مكرماً لهما:
بمعنى أن يحافظ على مكانتهما التي احتلّوها بما بذلاً لأجله، فيرفع من قدرهما، ويبيّن بين الناس محاسنهما، ويحفظ لهما حسن صنيعهما معه.

4- خلفاً صالحاً:
لأنّ من سعادة المرء في الدارين أن يخلفه ولد صالح، بحيث يكرمه في حياته، ولا يهينه في مرحلة الشيخوخة والكبر، ويجرّ إليه الذكر الطيّب والرحمات بعد وفاته، من خلال الأعمال التي يرسلها الحيّ إلى أهل البرزخ، ومن خلال عمله الذي يذكّر الناس بطيب أصله وحسن تربيته.

فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ثلاثة من السعادة: الزوجة المؤاتية، والأولاد البارّون، والرجل يرزق معيشته ببلده، يغدو إلى أهله و يروح"7.

وعن عليّ بن الحسين عليهما السلام أنّه قال: "من سعادة المرء أن يكون متجره في بلده، ويكون خلطاؤه صالحين، ويكون له ولد يستعين بهم"8.


219


العقوق من الكبائر:
عدّ العلماء العظام والفقهاء المجتهدون العقوق من كبائر الذنوب، بناءً على ما جاء في روايات أهل بيت العصمة  والطهارة عليهم السلام، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وأمّا الكبائر فهي كلّ معصية ورد التوعيد عليها بالنّار أو بالعقاب، أو شدّد عليها تشديداً عظيماً، أو دلّ دليل على كونها أكبر من بعض الكبائر أو مثلها، أو حكم العقل على أنّها كبيرة، أو كان في ارتكاز المتشرّعة كذلك"، أو ورد النصّ بكونها كبيرة، وهي كثيرة: "منها اليأس من روح الله، والأمن من مكره والكذب عليه أو على رسوله وأوصيائه عليهم السلام، وقتل النفس التي حرّمها الله إلّا بالحقّ، وعقوق الوالدين"9.

وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ من الكبائر عقوق الوالدين، واليأس من رَوح الله، والأمن من مكر الله"10.

عاقبة العقوق العاجلة:

إنّ هنالك نوعاً من الذنوب يعجّل به العذاب في الدنيا قبل الآخرة، وذلك لشدّة عظمة الذنب وقبحه الشديد، ومن تلك الذنوب عقوق الوالدين، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة من الذنوب تعجّل عقوبتها، ولا


220


تؤخّر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان"11.

ومن عقوبات العقوق في الدنيا زوال النعم التي منّ الله تعالى بها على العبد، والتي أشير إليها في دعاء كميل بن زياد رحمه الله: "اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تغيِّر النعم"، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الذنوب التي تغيرّ النعم: البغي، والذنوب التي تورث الندم: القتل، والتي تنزل النقم: الظلم، والتي تهتك الستور: شرب الخمر، والتي تحبس الرزق: الزنى، والتي تعجّل الفناء: قطيعة الرحم، والتي ترّد الدعاء وتظلم الهواء: عقوق الوالدين"12.

خاتمة: في الدعاء للتوفيق لبرّهما:

من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلامفي الصحيفة السجّاديّة نختم به حديثنا:
"اللهمّ اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرهما برّ الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالدي، وبريّ بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن حتّى أوثر على هواي هواهما، وأقدّم على رضاي رضاهما، وأستكثر برّهما بي وإن قلّ، وأستقلّ بريّ بهما وإن كثر. اللهمّ خفضّ لهما صوتي،


221


وأَطبْ لهما كلامي، وألنْ لهما عريكتي وأعطفْ عليهما قلبي، وصيّرني بهما رفيقا، وعليهما شفيقا. اللهمّ اشكر لهما تربيتي، وأثبهما على تكرمتي، واحفظ لهما ما حفظاه منّي في صغري. اللهمّ وما مسهَّما منّي من أذى، أو خَلُص إليهما عنّي من مكروهٍ، أو ضاع قبلي لهما من حقّ، فاجعله حطّة لذنوبهما، وعلواً في درجاتهما، وزيادة في حسناتهما، يا مبدّل السيّئات بأضعافها من الحسنات. اللهمّ وما تعدّيا عليّ فيه من قول، أو أسرفا عليّ فيه من فعل، أو ضيعاه لي من حقّ، أو قصّرا بي عنه من واجب فقد وهبته لهما، وجدت به عليهما، ورغبت إليك في وضع تبعته عنهما، فإنّي لا أتهمهما على نفسي، ولا أستبطئهما في برّي، ولا أكره ما تولّياه من أمري يا ربّ، فهما أوجب حقاً عليّ، وأقدم إحساناً إلي، وأعظم منّة لدي من أن أقاصهما بعدل أو أجازيهما على مثل. أين إذاً يا إلهي طول شغلهما بتربيتي؟ وأين شدّة تعبهما في حراستي؟ وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة عليّ؟ هيهات ما يستوفيان منّي حقّهما، ولا أدرك ما يجب عليّ لهما، ولا أنا بقاضٍ وظيفة خدمتهما. فصلّ على محمّد وآله، وأعني يا خير من أستعين به، ووفّقني يا أهدى من رغب إليه، ولا تجعلني في أهل العقوق للآباء والأمّهات يوم تجزى كلّ نفس بما كسبت وهم لا يظلمون. اللهمّ صل على محمد وآله وذرّيته، واخصص أبوي بأفضل ما خصصت به آباء عبادك المؤمنين وأمّهاتهم يا أرحم الراحمين.


222


هوامش
1- سورة النساء, الآية: 36.
2- سورة النساء، الآية: 36.
3- سورة الإسراء، الآية: 23.
4- جامع أحاديث الشيعة, السيّد البروجوردي، ج 21، ص435.
5- نفسه، ص 436.
6- سورة الرحمن، الآية: 60.
7- الكافي، ج 5، ص 258.
8- نفسه.
9- تحرير الوسيلة، السيّد الخمينيّ، ج1، ص 274.
10- الكافي، ج 2، ص278.
11- بحار الأنوار، ج 70، ص 373.
12- نفسه، ص 374.