المحاضرة الثانية: الصبر

الهدف:
 بيان أهمّيّة الصبر وآثاره وضرورة التحلّي به وعدم استعجال النتائج.

تصدير الموضوع:

فيما جاء من رواية عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام: "... الصبر يعقب خيراً فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا"1.


262


مقدّمة: الصبر, حكمةٌ وثمرة
إنّ الإنسان في هذه الدنيا معرّض للبلاءات، وللاختبارات والامتحانات ومن ثوابت التجربة الإنسانيّة أن مواجهة ذلك كلّه له عدّته الملائمة والمناسبة لرفع سوءته وجلب خيره، وسواءٌ كان ما يبتلى فيه الإنسان محبوباً أو مكروهاً فلا بدّ له لإصابة وجه الخير والحسن فيه من عدّة، ورأس العدد كلّ العدد وقوام أي عدّة هو الصبر, فإنّ الله يكشف عن سنّة عامّة بقوله:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
2. ولكنّه تعالى يقول إنّ هذه المعاناة مفتاح لشيء شديد الحسن والجمال والقيمة وهو لخاصّة هم الصابرون فأتمّ قوله الآنف: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ3.

فالحكمة من سنّة الابتلاء والبلاء هو الصبر، أضف إلى كونه الثمرة المرجوّ حصولها في نفوس المؤمنين جرّاء مكابدة المشاق والمتاعب والآلام, والتعوّد على تحمّلها ومواجهتها بثبات وصمود. فإن كان الإنسان في وجوده الدنيويّ لا ينقل وجوده هذا عن احتمال تعرّضه في كلّ آن إلى المصائب والبلاءات كالأمراض وذهاب الأموال وخسارتها أو تعرّضها للتلف أو فقد الأعزّة والأحباب، أو أن يتسلّط عليه من الظلمة من يفقده


262


الأمان والشعور به أو غير ذلك ممّا لا يكون في الحسبان عنده, فإنّه لا بدّ له من الصبر عدّة وسلاماً ودرعاً ووقاءً في مواجهة الدهر وعواديه.

محاور الموضوع
1- معنى الصبر:

عُرّف الصبر بتعاريف كثيرة وشرح بشروح مختلفة منها: "أنّه كفّ النفس عن الجزع أو امتناعها عن الشكوى"، والحقيقة أنّ معنى الصبر من الأمور الواضحة عند العرف والتي لا يشتبه فيها, وهو ضدّ الشكاية والجزع, ومعناه وجود قوّة تحمّل عند الإنسان وثباته عندما يواجه المصاعب والمتاعب والبلاءات، بحيث لا يضطرب ولا يتزلزل ولا يفقد الاتّزان بل يبقى متماسكاً صامداً مقاوماً حتّى تنتهي المحن ونزول الصعوبات, وينفتح باب الفرج ويكتب له النّصر والفوز والفلاح والنجاح.

فليس الصبر قيمة سلبيّة تعني الخضوع والخنوع وقبول وتحمّل الشقاء والذلّة والاستسلام بل هو تحمّل إيجابيّ للمعاناة المترتّبة على المواجهة إمّا مع النفس أو مع الأعداء أو مع الظروف والحوادث ذات الطبيعة المرّة والمؤلمة، بمعنى أن لا ينهار الإنسان ويستسلم لتدوسه عجلات الواقع السيّء متعلّلاً بالعجز لأنّ


263


"العجز آفة"4 أو لتطأه نعال المحتلّين والظالمين أو يتردّى في سلاسل أغلال النفس الأمّارة فيمكث دهره في عبوديّتها ليحشر يوم القيامة وفي عنقه السلسلة التي ذرعها سبعون ذراعاً.

2- ثمار الصبر في الدنيا:

إنّ للصبر آثاراً جمّة ولذا نرى العقلاء في طول المسيرة البشريّة- ومهما كانت توجّهاتهم الذكريّة والدينيّة - يمدحون هذه الصفة والمتحلّين بها ويحثّون عليها.
فالصبر أحد أهمّ مقوّيات الإرادة والعزم، ويعين الإنسان على ترويض نفسه في عمليّة بنائها وتكاملها، ولذا فهو مفتاح أبواب السعادات, ووسيلة لرقي الإنسان وتطوّره, فالذي يريد المقامات العلميّة لا بدّ له من الصبر ولذا ورد أنّه: "من لم يصبر على ذلّ التعلّم ساعة بقي في ذلّ الجهل إلى قيام الساعة"5.

والصبر يهوّن الصعاب ويعين الإنسان على تجاوز المحن والمصائب ويهوّنها ويمنح الإنسان القدرة على التماسك وعدم السقوط والتزلزل والاضطراب بحيث يستطيع امتلاك القدرة على الفعل والمواجهة، والصبر كذلك يصون حريّة الإنسان وعزّته, فبالصبر عن المعصية لا تستذلّه الأهواء والشهوات والمطامع فيلج منه إلى التقوى، وبالصبر على البلايا يترقّى إلى


264


مقامات كالرضا بالقضاء، وبالصبر على الطاعة يمكن أن يجد حلاوة العبادة فيستأنس بها ليرقى بعدها إلى الاستيناس بالمعبود.

وبالصبر على مخاوف المواجهة والحرب تحصل الشجاعة فالإقدام يكون النصر ولذا كان: "النصر صبر ساعة"6.

ويكفي لمعرفة مقام وأثر الصبر أنّه وسيلة للإصطفاء الإلهيّ فقد قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
7, فالإمامة منصب يشكّل الصبر أحد أسباب استحقاقها. بل إنّ الصبر وسيلة لاستدرار المدد الغيبيّ: ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ8.

وكذلك فإنّ من ثمار الصبر هو المعيّة الإلهيّة: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
9.

3- ثواب الصبر:

لقد ورد أنّ هناك باباً من أبواب الجنّة هو باب الصابرين يدخلون منه، ويكفي في ذلك أنّ الصابرين يدخلون الجنّة بلا حساب فهم معفون من المساءلة والمداقّة في الحساب وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ
10.


265


بل إنّ ثواب الصابرين هو إعطاؤهم الأجر على أحسن عملهم لا على أقلّه حيث قال الله: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ11.

وأيضاً من ثمار الصبر المغفرة الإلهيّة والصبر الكبير: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ12.

وذلك كلّه إضافة إلى الجنّة ونعيمها: ﴿وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا13.

خاتمة: لا تستعجلوا النّصر:

إنّ الصبر للمؤمن نفحة روحيّة تأتيه من الله وبتوفيق منه وباعتصامه بها يخفّف من بؤسه وبأسائه ويجرّ بها إلى أعماق نفسه وقلبه السكينة والاطمئنان بدل أن تثقل خطاء البلاءات النازلة وتجمّده عن الحركة وتؤدّي إلى إنهياره وانصهاره في حممها.

ويمكننا أن نقول وبصدق مستفيدين من حكمة أمير المؤمنين عليه السلام "العجز آفة والصبر شجاعة"14، إنّ من يعتصم بالصبر يحصّل الشجاعة التي هي صبر على ملاقاة الأعداء وخوض غمار المعارك وإلقاء النفس في لهواتها مع توطين النفس


266


على تحمّل آلامها ومشاقّها مع الإقدام والعزم والثبات، من يعتصم بالصبر مقدماً على القتال والمواجهة سوف يحطّم قيود العجز ويجدها أوهاماً لا حقائق، فالصبر يصنع القدرة على النصر والنجاح وإيجاد القوّة والقدرة على الفعل، ولكن لا بدّ من التنبيه على أمر خطير وهو أنّ ممّا يؤدّي إلى الفشل والهزائم هو استعجال النتائج. فكم مرّة تحوّل النّصر في الكثير من المعارك في بداياتها إلى هزيمة في نهاياتها بسبب استعجال النّصر، ولذا فعلينا مرّة أخرى أن نتحلّى بالصبر حتّى يؤتي الجهاد ثماره ولا نستعجل النتائج, فالكثير من المعارك يحتاج إلى النفس الطويل لتكتمل عناصر النّصر وإلّا فإنّ الاستعجال قد يؤدّي إلى الحرمان.


267


هوامش
1- أصول الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب الصبر الحديث 6.
2- سورة البقرة, الآية: 155.
3- سورة البقرة, الآية: 155.
4- بحار الأنوار, ج 70 ص 160.
5- بحار الأنوار, ج 1 ص 177.
6- ميزان الحكمة, ج 2 ص 1556.
7- سورة السجدة, الآية: 24.
8- سورة آل عمران, الآية: 125.
9- سورة الأنفال, الآية: 46.
10- سورة الزمر, الآية: 10.
11- سورة النحل, الآية: 96.
12- سورة هود, الآية: 11.
13- سورة الإنسان, الآية: 12.
14- بحار الأنوار, 70 ص160.