المجلس الثالث

أَبَا صَالِحٍ يَا مُدْرِكَ الثَّأرِ كَمْ تَرَىْ                     
وَهَلْ يَمْلِكُ المَوْتُوْرُ صَبْرَاً وَحَوْلَهُ                                   
أَتَنْسَى أَبِيَّ الضَّيْمِ فِي الطَّفِّ مُفْرَدا ً                                 
أَتَنْسَاهُ فَوْقَ التُرْبِ مُنْفَطِرَ الحَشَا                                 
وَرُبَّ رَضِيْعٍ أَرْضَعَتْهُ قسِيُّهُمْ                                                 
فَلَهْفِي لَهُ مُذْ طَوَّقَ السَّهْمُ جِيْدَهُ                                               
وَلَهْفِي لَهُ لَمَّا أَحَسَّ بِحَرِّهِ                                           
هَفَا لِعِنَاقِ السِّبْطِ مُبْتَسِمَ اللَّمَى                                             
وَلَهْفِي عَلَى أُمِّ الرَّضِيْعِ وَقَدْ دَجَى                                       
فَمُذْ لَاحَ سَهْمُ النَّحْرِ وَدَّتْ لَوَ انَّها                                                 
أَقَلَّتْهُ بِالكَفَّيْنِ تَرْشُفُ ثَغْرَهُ                                          
بُنَيَّ أَفِقْ مِنْ سَكْرَةِ المَوْتِ وَارْتَضِعْ                                   
وَغَيْظُكَ وَارٍ غَيْرَ أَنَّكَ كَاِظُمُهْ
يَرُوْحُ وَيَغْدُو آمِنَ السَّرْبِ غَارِمُهْ
تَحُوْمُ عَلَيْهِ لِلْوَدَاعِ فَوَاطِمُهْ؟!
تُنَاهِبُهُ سُمْرُ الرَّدَى وَصَوَارِمُهْ
مِنَ النَّبْلِ ثَدْياً دَرُّهُ الثَّرُّ فَاطِمُهْ
كَمَا زَيَّنَتْهُ قَبْلَ ذَاكَ تَمَائِمُهْ
وَنَاغَاهُ مِنْ طَيْرِ المَنِيَّةِ حَائِمُهْ
وَدَاعَاً وَهَلْ غَيْرُ العِنَاقِ يُلَائِمُهْ؟!
عَلَيْهَا الدُّجَى وَالدَّوْحُ نَاحَتْ حَمَائِمُهْ
تُشَاطِرُهُ سَهْمَ الرَّدَى وَتُسَاهِمُهْ
وَتَلْثِمُ نَحْرَاً قَبْلَهَا السَّهْمُ لَاثِمُه
بِثَدْيِكَ عَلَّ القَلْبَ يَهْدَأُ هَائِمُهْ

263


شعبيّ:

يابن الحسن طفل حسين
عطشان ويريد الماي
صاح وكلهم يسمعون
قتلتوا كل هلي وقومي
ما ظل غير عبد الله
يا قوم اشتطلبوني
غدرتوني وهضمتوني
بالقرآن والعتره
وبيده سهم المقدر
يجري من النحر دمه
يفطمه حرمله بسهمه
ياشيعة بني سفيان
اوسدتوهم التربان
اواحد بالخيم وجعان
دعيتوني وخذلتوني
وتدرون النبي اشوصه
طلع حرمله امن الحومه
وين ايصيب عبد الله

264


قام عليه يتفكر
وطاح السهم بالمنحر
وشبك ويلي على ابو اليمه
لاكن تهل عبراته
عين بالسهم جيده
سال امن النحر دمه
سدر بيه لخيمه
وعليه يجذب الحسره

أبوذية:

امصاب الطفل كم مدمع به انصاب
ســهم الصاب عبد الله به انصاب
يحقلي ابكل أرض مأتم به انصب
دليلي وشـفت وياه المنيـــه

ولمّا قتل أصحاب الحسين عليه السلام وأهل بيته جميعا، ولم يبق منهم إلّا أبو عبد الله الحسين عليه السلام وحيدا مع تلك النسوة الأرامل فما كان منه إلّا لقاء الحقّ (جلّ وعلا).
جعل يكثر من ندائه "هل من ناصر ينصرنا.. هل من معين


265


يعيننا"، وإذا بزينب منادية: أخي حسين هذا عبد الله قد دلع لسانه من شدّة العطش( وكان - بأبي ونفسي - قد مضى له ثلاثة أيام لم يذق قطرة من الماء)، فهل تأخذه يا أبا عبد الله لهؤلاء القوم كي يسقوهُ شربة من الماء فإنّ أمّه قد جفّ لبنها.

فأخذه الإمام وأجلسه في حجره يقبّله، وجعل يقول بُعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدّك المصطفى خصمهم. ثمّ أقبل نحو القوم يطلب له الماء، يقول حَميد بن مسلم: خرج علينا الحسين ومعه شيء يُظلِّلُهُ من حرارة الشمس، رفعه ثمّ قال: "يا قوم قتلتم إخوتي وأولادي وأنصاري، وما بقي غير هذا الطفل، وهو يتلظّى عطشاً من غير ذنب أتاه إليكم، فاسقوه شربة من الماء".

اختلف العسكر فيما بينهم، منهم من قال: إن كان ذنب للكبار فما ذنب الصغار، ومنهم من يقول: لا تبقوا من أهل هذا البيت باقية. فالتفت عمر بن سعد إلى حرملة، وقال: ويحك يا حرملة اقطع نزاع القوم، قال: فما أصنع؟ قال: ارم الطفل بسهم.

يقول حرملة: حكّمت سهما في كبد القوس، وجعلت أنظر إلى الطفل أين أرميه. يقول: بينا أنا كذلك إذ هبّت ريح فكشفت البرقع عن وجه الرضيع، وإذا برقبته تلمع على عَضُدَيْ أبيه كأنّها


266


إبريق فضّة، يقول: فرميته فذبحته من الوريد إلى الوريد.

قيل له: ويلك أما رقّ قلبك لهذا الرضيع؟! قال: بلى، قيل: وكيف؟! قال: لأنّ الطفل كان مغمى عليه من شدّة العطش، لمّا أحسّ بحرارة السهم انتزع يديه من قماطه، واعتنق رقبة أبيه وصار يرفرف بين يديه كأنّه الطير المذبوح.

شعبيّ:

گطع اگماطه الطفل بيده
مال اعلى زند احسن جيد
من صابته ابنحره الحديده
والدم تشاخب من وريده

آجركم الله يا شيعة الحسين، ماذا فعل الحسين عليه السلام؟ فوضع يده تحت مجرى الدم، وجعل يملأ كفّه ويرمي به نحو السماء، قائلا: "اللهمَّ لا يكُنْ أهون عليك من فصيل ناقة صالح".
 
شعبيّ:

تلگه احسين دم الطفل بيده اشحاله الينگتل بحضنه وليده

267


سال وترس كفّه من وريده او ذبّه للسمه وللگاع ما خر

فلم تسقط منه قطرة واحدة. وأخذ الإمام عليه السلام يقول: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله، يا ربّ إن كنت حبست عنّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين".

ثمّ أقبل به نحو المخيّم، (ولكن بأيّ حال عاد به إلى الخيمة؟!) حمله تحت ردائه، فكان أوّل من خرج لاستقباله ابنته سكينة، وهي تقول: أبه، لعلك سقيت أخي الرضيع ماء وجئتنا ببقيّته؟! فأخرجه الإمام من تحت الرداء، وهو يقول: " بنيّة خذي أخاك مذبوحاً من الوريد إلى الوريد"، عندما نظرت إليه ورأته بتلك الحالة صاحت: وا أخاه، وا عبد الله.

شعبيّ:

يبويه الطفل للماي اخذته
شنهو الذنب خويه العملته
ابسهم العده مذبوح جيته
والماي حاضر ما شربته

268


ولسانك على صدرك دلعته
مالي گلب بالعين اصد ليه
هذا الخفت منه طحت بيه
يبويه الطفل عني دغطيه
اشوفه ذبيح اوماد رجليه

ولكنّ الموقف الأصعب حينما رأته أمّه الرباب والسهم مشكوك في نحره صاحت: واوَلَداه، واعبد الله...

ماني أُمّك يعبد الله ويبعد أمك
شعب گلبي السّهم من فجّره الدمّك
ست اِشهر بعد يلما وصل عمرك
يا بني سهم المثلث خسف بدرك
ما أنساك وألهج يالولد باسمك
يا سلواي بعدك من يسليني
شذنب اللي جنيته او ينگطع نحرك
ياريت الرماك بسهم راميني

ولمّا بقي الحسين عليه السلام وحيداً فريداً، التفت إلى أصحابه وهم مجزّرون كالأضاحي على رمضاء كربلاء، فنادى برفيع صوته:
"يا أبطال الصفا، ويا فرسان الهيجاء، مالي أناديكم فلا تجيبون وأدعوكم فلا تسمعون؟! أنتم نيام أرجوكم تنتبهون؟ أم حالت


269


 مودّتكم عن إمامكم فلا تنصروه؟ هذه نساء الرسول لفقدكم قد علاهن النحول، فقوموا عن نومتكم يا كرام، وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام، ولكن صرعكم والله ريب المنون، وغدر بكم الدهر الخؤون، وإلّا لما كنتم عن نصرتي تقصّرون"، ثمّ نادى بصوت حزين أصحابه واحدا واحدا، "يا حبيب بن مظاهر، ويا زهير بن القين، ويا مسلم بن عوسجة، ويا فلان ويا فلان، حتى نادى أهل بيته: أخي أبا الفضل، ولدي عليّ، بنيَّ قاسم...".

شعبيّ:

نادى وينكم يا أهل الحميّة
انه منين اجتني الغاضرية
غبتوا فرد غيبة عليّه
خلصوا هلي كلهم سويه

 

لَمّا رَأى السِّبطُ أَهْلَ الوَفَى قُتِلُوا
أينَ مَنْ دُونِيَ الأروَاحَ قَد بَذَلُوا
وَخَلَّفُوا في سُوَيْدِ القَلبِ نِيرَانا
نَادَى أبَا الفَضْلِ أيْنَ الفَارِسُ البَطَلُ
بالأمْسِ كَانُوا مَعِي وَاليَومَ قد رَحَلوا

يا الله


270