بسم الله الرحمن الرحيم

التبليغ مع العمل:
من الأبحاث الهامة في هذا المجال كون الوعظ والتبليغ مترافقاً مع العمل. والواعظ يجب أن يكون وبشكل دائم عامل بما يقول؛ والواعظ بما عمل كالشجر بلا ثمر. في هذا المجال يتحدث القرآن الكريم حول عدم العمل بما ندعو الناس إليه: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾¹.

وجاء في آية شريفة أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾².

ويقول العارف الكبير صاحب "المراقبات": ينبغي على الواعظ بعد رعاية الأمور المتقدمة الإخلاص والصدق العمل بالآية الشريفة: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾، فعليه أن يعظ نفسه أولاً، ثم بعد ذلك يمكنه وعظ الآخرين بالهدوء والليونة والحكمة³.

ويقول العارف الكبير الشيخ محمد بهاري الهمداني: "يجب أن يكون فعله العالم والواعظ موافقاً لقوله، فقد جاء في رواية عن صادق آل محمد عليهم السلام في تفسير الآية الشريفة ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾⁴ قال: "يعني بالعلماء من صدق فعله قوله ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم"⁵.

ويقول كمال الدين حسين الكاشفي البيهقي السبزواري: "يجب على المذكِّر أن يُذكِّر نفسه أولاً ليؤثر تذكيره في الآخرين، يا واعظ عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي من الله، حيث قال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾⁶ واحذر من هذا التقريع والتوبيخ: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ...﴾⁷.

وغير تقي يأمر الناس بالتقى‏****طبيب يداوي والطبيب عليل 8

كيف ينبغي أن يكون التبليغ؟:
يقول العارف الإلهي والعالم الرباني المرحوم الأغا ملكي التبريزي: الواعظ يجب أن يكون كالوالد العالم الذي يسعى لإصلاح أولاده، ويبعد الضرر عنهم ويراعي ما يقع في مصلحتهم، وعليه أن يعمل بما يؤثر فيهم وأن لا يكتفي بالكلام فقط. قد يؤدي تعارض عمل الواعظ وكلامه إلى تجرؤ الأفراد على ارتكاب المعاصي وإلى عدم اعتقادهم بالعلماء وحتى الأنبياء بما يؤدي إلى خروجهم عن الدين. وعلى الواعظ أن لا يُحدث مخاطبيه بالثواب الكبير لبعض الأعمال الصغيرة التي جاء ذكرها في بعض الروايات والتي صعب قبولها من العقل إلا إذا تمكن من الحديث عن قدرة الله تعالى على إيجاد ذلك حتى لا يجرؤ أحد على إنكار هذه الأمور، فيكون عمل الواعظ سبباً في إنكار الروايات وأصل الثواب والعقاب⁹....

ويقول العالم العامل الشيخ محمد بهاري الهمداني:
وهناك فرقة أخرى... وهم الوعاظ المتكلفون في شرائف الملكات ومرغبي الناس إلى فضال الصفات ومحذروهم من الذمائم والآفات بينما هم منغمسون في الرذائل وخالون من الفضائل ظناً منهم أن مجرد القول والاطلاع على المصطلحات وفهم معاني الألفاظ والعبارات يدخله في السالكين إلى الله، أو أن الكلام في إرشاد الناس إلى الحق يجعله مستحقاً ثواب الله تعالى، ولا يعرف حسرة يوم القيامة وأن الندم لن ينفعه، كأن الآية الشريفة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ...﴾¹⁰ لم تطرق سمعه، ولهذا الشخص نقول: "عظ نفسك ثم عظ الناس..."¹¹.

لا يخفي على أحد من المبلغين والوعاظ الأعزاء أهمية هذا البحث، والأصل أن يكون الواعظ عاملاً بما يقول قبل أي شخص آخر. لا بل سيكون كلامه مؤثراً إذا كان عاملاً به وهذا ما يؤكد عليه العرفاء والعلماء المسلمون، لا بل إن طريقة حياتهم أصدق دليل على أن الموعظة تأتي بعد العمل.

العلماء العاملون‏:
1 - قيل حول العالم والعارف التقي الآخوند تربتي: عندما كان الملا عباس يرتقي المنبر للوعظ، فإن نفسه كانت أول شخص تؤثر فيه الموعظة، وكانت الموعظة تؤثر فيه أكثر من أي شخص آخ،. كان يبكي وتسيل دموعه على وجهه.

وكان الحاضرون يقعون تحت تأثيره، وكان الحاضرون يشعرون وكأنهم يجلسون في مسجد المدينة يستمعون إلى الرسول صلى الله عليه وآله...¹².

2 - وقيل حول الواعظ المشهور المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري. لقد بلغ مجلس الوعظ للشيخ جعفر الشوشتري حداً كان يجعل العلماء والمجتهدين والمستمعين يجهشون بالبكاء وكأنهم كانوا يستمعون إلى مجلس عزاء.
في أحد الأيام قرأ الشيخ الآية الآتية من سورة "يس": ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُون﴾¹³ وبدأ الحديث عنها، عند ذلك علا صراخ وضجيج الحاضرين¹⁴...

3 - يروى أن بعض العثمانيين كانوا يشاركون في مجلس الشيخ الشوشتري في الكاظمية وكربلاء والنجف، وكانوا يتألمون كثيرا عندما يستمعون إلى الآيات القرآنية التي كان يفتتح بها مواعظه، كانوا يقولون كأننا لم نسمع هذه الآيات من قبل، وكأن جبرائيل قد أنزلها الآن.

طبعاً لم يكن هذا الوضع ليحصل لو لم يعمل الشيخ بأقواله، فقد عمل بشكل جاد على تهذيب نفسه، إن هكذا أشخاص يتمتعون بقداسة ونورانية يفتقدها الآخرون.

4 - يقول الميرزا قائم مقام الفراهاني حول المرحوم الشوشتري: كان يعتلي المنبر في الأرض المقدسة في مسجد كوهرشاد وكانت آذان وقلوب أهل خراسان مشدودة إلى مواعظه الكثيرة الفائدة. وكنت كل ليلة استفيد من مواعظه الشافية ونصائحه الكافية، في الواقع كانت مواعظه تترك أثراً مختلفاً، وكل من تشرف بلقائه فهو يدرك أنه نور مجسم..."¹⁵.

5 - وكان آية الله وجداني فخر يؤكد في دروسه الآخلاقية على هذا الأمر، أي لا ينبغي على المبلغ أن يقول ما لا يعمل. وينقل عن أستاذه: إذا أردت على سبيل المثال الحديث حول صلاة الليل، فعليك القيام للصلاة في تلك الليلة بالتأكيد وإذا أردت البحث حول الصدقة فعليك التصدق ذاك اليوم.

العلماء من دون العمل:
يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله مخاطباً أبا ذر الغفاري: "يا أبا ذر! يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار، فيقولون: ما أدخلكم النار وقد دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون: إنّا كنا نأمر بالخير ولا نفعله"¹⁶.

ويقول الإمام الصادق عليه السلام: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا".
ما من روى أدباً ولم يعمل به‏******ويكفّ عن زيغ الهوى بأديب...¹⁷

يقول العالم الرباني العلامة مهدي النراقي: "هداية الغير فرع الاهتداء، وتقديم الغير فرع الاستقامة ففيه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يكون بالوعظ وتارة بالقهر، ومن لم يكن مهتدياً مستقيماً، تسقط عنه الحسبة بالوعظ، لعلم الناس بفسقه، فلا يتضمن وعظه وكلامه فائدة..."¹⁸.

ويقول في مكان آخر: "المفترون منهم الوعاظ كثيرون: فمنهم من يتكلم في وعظه في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف، والرجاء، والتوكل، والرضا، والصبر، والشكر، ونظائرها، ويظن أنه إذا تكلم بهذه الصفات ودعا الخلق إليها صار موصوفاً بها، وهو منفك عنها في الواقع، إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين..."¹⁹.

يروى أن شقيق البلخي وهو من كبار العلماء كان يعظ في مجلسه في بغداد ويتحدث حول "التوكل" ثم طلب من الناس الاهتمام بالتوكل ثم قال قصدت البادية مسروراً ولم أمتلك أكثر من درهم واحد متكلاً في ذلك على الله، وقبل ذلك لم أمتلك حتى هذا الدرهم الواحد، لأن قلبي كان متوجهاً إلى الغيب ثم أرجعت الدرهم معي... في هذه الأثناء نهض شاب وخاطبه أين كان توكلك واعتمادك على الغيب عندما كنت تضع الدرهم في جيبك ولو كان عندك ذرة من الإيمان لم تتأمل شيئاً حتى من هذا الدرهم.سمع شقيق البلخي هذا الكلام فارتعدت فرائصه ووقع على الأرض²⁰.

رحيم كاركر

^{1-البقرة: 44.
2-الصف: 2 ـ 3.
3-المراقبات أعمال السنة، ص286.
4- تذكرة المتقين، ص‏95.
5- فاطر: 28.
6-تذكرة المتقين، ص‏95.
7-البقرة: 44.
8-الصف: 2.
9-الرسالة العلية، ص‏256 - 257.
10-المراقبات، ص‏287.
11-الصف: 2.
12-تذكرة المتقين، ص 103 - 104.
13-الفضائل المنسية، ص‏78.
14-يس: 59.
15- مجالس المواعظ المقدمة، ص‏17 و18.
16-بحار الأنوار، ج‏73.
17-أدب الدنيا والدين، ص‏69.
18-جامع السعادات، ج‏2، ص‏325.
19- لمصدر نفسه، ج‏3، ص‏28.
20-حكايت هاى شهر عشق، ص‏96 و97.}