الصفحة الرئيسية
بحـث
تواصل معنا
Rss خدمة
 
  تحريك لليسار إيقاف تحريك لليمين
كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مسؤولي البلاد وسفراء الدول الإسلاميّةكلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في خطبتَي صلاة عيد الفطركلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء جمع من الطلّاب الجامعيّينكلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في اللقاء الرمضانيّ مع مسؤولي البلادبِهذا جُمِعَ الخَيرُ

العدد 1612 07 شوال 1445 هـ - الموافق 16 نيسان 2024 م

لَا تُطَوِّلْ فِي الدُّنْيَا أَمَلَكَ

العامل الأساس للنصر مراقباتالأيّامُ كلُّها للقدسِسُلوك المؤمِن
من نحن

 
 

 

التصنيفات
البناء الفكري للإنسان
تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق

تحرير فكر الإنسان
ترتكز نظرة العقيدة الإسلامية على كون الإنسان موجودا مكرَّما: (ولقَدْ كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطَّيبات وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً)[1].
فهو خليفة اللّه في الأرض، يمتلك العوامل التي تؤهّله للسمّو والارتفاع إلى مراتب عالية: (وإذ قال ربُّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الارض خليفةً قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونُقدسُ لك قال إني أعلمُ ما لا تعلمون)[2]. كما أن بإمكان الإنسان أن ينحطّ ويتسافل حتى يصل إلى مرتبة الحيوانية: (...أخلدَ إلى الأرضِ واتَّبعَ هواه فمثلهُ كمثل الكلبِ إن تحمل عليهِ يلهث أو تتركه يلهث..)[3].
ثم يتسافل أكثر فأكثر حتى يصل إلى مرتبة الجماد: (ثمَّ قست قُلوبُكُم من بعدِ ذلك فهي كالحجارةِ أو أشدُّ قسوة..)[4].
وعليه فالعقيدة الإسلامية تراعي في الانسان عوامل القوة والضعف معا، فقد وُصف الإنسان في الكتاب الكريم بأنّه خُلِق ضعيفا هلوعا عجولاً، وأنه يطغى، وأنّه كان ظلوما جهولاً[5].
وعلى هذا الأساس لا تحاول الشريعة إرهاقه بتكاليف شاقة، تفوق طاقاته وقدراته النفسية والبدنية، قال تعالى: (لا يُكلِّفُ اللّه نفسا إلاَّ وُسعَها..)[6].
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «رُفعَ عن أُمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، ومالا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطّيرة، والتّفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة»[7]. وقال (صلى الله عليه وآله): «رُفعَ القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتّى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم»[8].
فالعقيدة الإسلامية ـ إذن ـ تعتبر عوامل الضعف في الإنسان حالة طبيعية ناتجة عن تكوينه البشري، ولم ترها معقدة بالمستوى الذي يفقد الإنسان معها قدرته على البناء والحركة، وحرية الاختيار. وفوق ذلك حاولت العقيدةـ وهي تريد بناء الإنسان وتكامله ـ أن تثير لديه شعورا عميقاً بالجانب الإيجابي من وجوده.
 
الخطيئة أمرٌ طارئ
من ناحية أُخرى فإنَّ العقيدة الإسلامية تعتبر الخطيئة أمرا طارئا على الإنسان، وليس ذاتيا أصيلاً، وعليه فحين يسقط الإنسان في مهاوي الخطيئة، فإنّه لا يتحول إلى شيطان تمنعه شيطنته من العودة إلى رحاب الإنسانية، بل يبقى إنسانا مخطئا يمكن أن يسعى إلى تصحيح خطئه، والنهوض من كبوته.
وهذا هو سر عظمة النظرة الإسلامية إلى الإنسان، فهي لا تجعله تحت رحمة الشعور بخطيئة أصيلة مفروضة عليه، كما تفعل النصرانية، بل هي تسعى إلى انتشال الإنسان من وحل الخطيئة، وإشعاره بقدرته على الارتقاء، وتذكيره الدائم بعفو اللّه ورحمته الواسعة، وعدم اليأس منها. ولا يوجد في الإسلام «كرسي للاعتراف» كما هو الحال في النصرانية، بل يسعى أئمة الدين وعلماؤه إلى ستر عيوب الناس وذنوبهم مهما أمكن ذلك، لأن اللّه تعالى يحبَّ الستر.
عن الاصبغ بن نباتة قال: أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي زنيت فطهّرني، فأعرض أمير المؤمنين (عليه السلام) بوجهه عنه، ثم قال له: «اجلس، فأقبل عليّ (عليه السلام) على القوم، فقال: أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر اللّه عليه؟!..»[9].
 
الإنسان موجود مكرَّم
ومن جانب آخر تحاول العقيدة إشعار الإنسان ـ على الدَّوام ـ بأنّه موجود مكرَّم، له موقعه المهمّ في هذا الكون، من خلال وظيفة الاستخلاف فيه وما عليه إلاّ أن يقوم بأداء وظيفة الاستخلاف هذه على أحسن وجه، وأن يشكر خالقه على هذا التكريم والتمكين والهداية إلى الدين الحق.
سأل رجلٌ أمير المؤمنين (عليه السلام) عن حبه للقاء اللّه تعالى، فقال: بماذا أحببت لقاءه؟ قال (عليه السلام): «لمَّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه، علمت أنَّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني، فأحببت لقاءه»[10].
 
معالم التحرير
ولقد أسهمت العقيدة إسهاما فعالاً في تحرير الإنسان على محاور عدّة، منها:
أولاً: ـ حرَّرت الإنسان من الاستبداد السياسي، فليس في الإسلام استبداد إنسان بآخر، أو تسخير طبقة أو قومية لاُخرى (فقد كان الدين، على امتداد التأريخ الإسلامي، من أبرز العوامل لظهور حركات التحرر. ومهما تكن نظرة الباحث تجاه الدين فلا يستطيع إبعاد العامل الديني وأثره في بناء الوعي الثوري خلال هذه الفترة من تأريخ الاسلام.
فلم تكن ثورة أبي ذر (رض) وثورة الحسين (عليه السلام) إلاّ منطلقا لاتّجاه واعٍ لتصحيح الانحراف في تأريخ الإسلام. ورغم كل الانحراف الذي تعرض له المسلمون على امتداد تأريخهم الطويل لم ينعدم في فترة من هذا التأريخ اتجاه ثوري قوي في إعادة الإسلام الى مجاري الحياة والقضاء على الظلم والاستغلال واستعادة حقوق الانسان المسلم وكرامته)[11].
كما حرَّرت العقيدة الاسلامية الانسان من عادة «تأليه البشر»، كعبادة الملوك والأُسر الحاكمة، وهي عادة كانت سائدة عند بعض الاُمم القديمة كالمصريين القدماء، وقد أبطل الإسلام نظريات التمييز بين إنسان وآخر، سواء على أساس الجنس أو اللغة أو اللّون أو المال أو القوة، ومقياس التفاضل ينحصر في أُمور معنوية هي التقوى والفضيلة، قال تعالى: (يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خَلقناكُم مِن ذكرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوبا وقَبائل لِتعارفُوا إنَّ أكرمكُم عندَ اللّه أتقاكُم إنَّ اللّه عَليمٌ خبيرٌ)[12].
إنّ الإسلام يحتل الأسبقية بإعلان مبدأ الحرية قبل الثورة الفرنسية بأكثر من عشرة قرون.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في خطبةٍ له: «أيُّها الناس إنّ آدم لم يلد عبدا ولا أمة، وإنّ النّاس كلّهم أحرار.»[13].
إلاّ أنّ الإسلام لم يجعل هذه الحرية الممنوحة للإنسان مطلقة، بحيث يُطلق العنان للإنسان ليفعل ما يشاء، بل جعل للحرية ضوابط وكوابح حتى لا تؤدي إلى فوضى.
ومن هنا يبرز الفرق الشاسع بين العقيدة الإسلامية التي تربط الحرية الإنسانية بالعبودية للّه تعالى والخضوع الواعي والطوعي لسلطته، وبين القوانين الوضعية التي تُلقي بالإنسان في تيهٍ لا يتفق مع قدرته ولا مع طبيعته.
ومن هنا لا بدَّ من توازن بين الحرية والعبودية، وليس هناك توازن في هذا السبيل يطلق قدرات الإنسان، ويحافظ على طبيعته في آن واحد، إلاّ بما نجده في الإسلام ؛ عبودية للّه، وحرية من سائر العبوديات، فلا تكتمل حرية العبد إلاّ بعبوديته للّه.. ولا تكتمل عبوديته للّه إلاّ بتحرره من عبادة سواه، فهنا توازن واتّساق واضح بين الجانب الاجتماعي والجانب الإيماني في شخصية المسلم عن طريق الحرية كما يراها الإسلام[14].
وعلى ضوء ما تقدم، فالعقيدة تُقرِّر حقيقة أساسية هي أنّ جوهر الحرية الحقيقية، هو العبودية للّه، لأنّها تعني التحرر من جميع السلطات الجائرة، وليس في العبودية للّه أي امتهان لكرامة الإنسان، بل هي على العكس من ذلك تعزّز شخصيته وتحافظ على مكانته،
فقد كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتشرف بكونه عبدا للّه، ويحب أن يطلقوا عليه صفة «العبودية» ويرفض الغلوّ الذي قد يؤدي إلى التأليه الباطل، كما حصل لأهل الكتاب على الرغم من التحذير الإلهي لهم من الغلو في أشخاص رسلهم، قال تعالى: (يأهلَ الكِتَابِ لا تَغلُوا في دينِكُم ولا تقُولُوا على اللّه إلاّ الحَقَّ إنَّما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسُولُ اللّه وكلمتُهُ ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منهُ..)[15].
إنّ مدرسة أهل البيت: تحارب فكرة تأليه البشر من خلال التركيز على صفة العبودية أحيانا.. قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): أنا عبداللّه وأخو رسوله[16]. وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «بالعبودية للّه أفتخر»[17]. على أن فكرة تأليه البشر كانت سائدة في الاُمم الاُخرى، وتسرّبت إلى أتباع الأديان السماوية فخالطت عقائد بعضهم، فالمسيحية ـ على سبيل المثال ـ تدَّعي إلوهية المسيح، واليهودية تزعم أنّ عزيرا ابن اللّه!
ومن هنا تبرز حكمة وبُعد نظر الإمام علي (عليه السلام) في تركيزه على صفة العبودية ووقوفه بالمرّصاد لكلِّ دعوات الغلوّ التي نسبته إلى الربوبية، جاء في الحديث: (أنّه أتى قوم أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسلام فقالوا: السّلام عليك يا ربّنا! فاستتابهم، فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرة، وأوقد فيها نارا وحفر حفيرة إلى جانبها اُخرى، وأفضى بينهما، فلما لم يتوبوا، ألقاهم في الحفيرة، وأوقد في الحفيرة الاُخرى حتّى ماتوا)[18].
وفي هذا الصدد قال (عليه السلام): «هلك فيَّ رجلان: محبٌّ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ»[19].
ثانيا: حرَّرت العقيدة الإسلامية الإنسان المسلم من شهوات نفسه بعدما ربطت قلبه باللّه والدار الآخرة، ولم تربطه بأهوائه ونزواته، لقد زودت العقيدة عقل المسلم وإرادته بالحصانة الواقية من الانحراف أو إيثار العاجل الفاني على الآجل الباقي، والنَّفس ـ في توجهات آل البيت: ـ هي منطقة الخطر، لذلك تصدّرت أولى اهتماماتهم.
ومن هنا نجد أنّ حديث النفس وضرورة السيطرة عليها يحتل مساحةً كبيرةً من أقوال وحكم ومواعظ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلم يترك مناسبة إلاّ واغتنمها في الحديث عن النفس لكونها قطب الرَّحى في عملية بناء الإنسان.
لقد أخبرنا الذكر الحكيم: (.. بأنَّ اللّه لم يكُ مُغَيِّرا نِعمةً أنعَمَها على قومٍ حتَّى يُغيِّرُوا ما بأنفُسِهِم)[20] ولذلك فإنَّ ما يلفت نظر الباحث أنّ الإمام عليا (عليه السلام) ـ أيام حكومته العادلة ـ كان يوصي عماله على الأقاليم وكبار قادته بالسيطرة على النفس، على الرغم من انتقائه الدَّقيق لهم، وكون أكثرهم من ذوي الفضائل العالية والسَّجايا الحميدة، فمن كتاب له (عليه السلام) للأشتر لمّا ولاّه مصر: « هذا ما أمر به عبدُ اللّه عليّ أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر... أمَرَهُ بتقوى اللّه، وإيثار طاعته... وأمَرَه أن يكسر نفسهُ من الشهوات... فإنّ النّفس أمّارة بالسوء، إلاّ ما رحم اللّه... فاملك هواك، وشحَّ بنفسك عمّا لا يحلَّ لك، فإنّ الشُّحَّ بالنفسِ الإنصافُ منها فيما أحبَّت أو كرهت وأشعر قلبك الرحمة للرعية»[21].
ومن وصية له لشريح بن هاني أحد قادته العسكريين، لمّا جعله على مقدّمة جيشه إلى الشام: «... واعلم أنَّك إنْ لم تردَعْ نفسك عن كثير ممَّا تُحبُّ، مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعا رادعا...»[22].
ومن كتاب له (عليه السلام) كان قد وجّهه إلى معاوية، كشف له فيه عن سر تمرّده على القيادة الشرعية، المتمثل في انحرافاته النفسية، فقال له: «فإنَّ نفسك قد أولجتك شرا، وأقحمتك غيّا، وأوردتك المهالك، وأوعرت عليك المسالك»[23].
فالانحراف النفسي له عواقب جسيمة، وخاصة من الذين يتصدّون لدفّة القيادة بدون شرعية وجدارة.
وكان أهل البيت: مع عصمتهم المعروفة يطلبون من اللّه تعالى العون على أنفسهم، تعليما وتهذيبا لغيرهم، وممّا جاء من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): «.. . وأوهن قوّتنا عمّا يُسخطك علينا، ولا تخلِّ في ذلك بين نفوسنا واختيارها، فإنها مختارة للباطل إلاّ ما وفّقت، أمّارة بالسوة إلاّ ما رحمت »[24].
ونستنتج من كلِّ ذلك، أنّه لا يتم بناء الإنسان إلاّ بالسيطرة على النفس وهو ما سيأتي الحديث عنه.
ثالثا: إنّ العقيدة الإسلامية حرَّرت الإنسان من عبادة الطبيعة ومن تقديس ظواهرها، ومن الخوف منها، يقول تعالى: «ومِن آياتِهِ الليلُ والنَّهارُ والشَّمسُ والقَمرُ لا تسجُدوا للشمسِ ولا للقمرِ...)[25].
لقد مرَّ الإنسان بمرحلة الحيرة والتساؤل والقلق من مظاهر الطبيعة من حوله، فهو لا يعرف شيئا من أسرارها وأسباب تقلّب أحوالها، فأخذ يقدّسها ويقدّم لها القرابين بسخاء، متصورا أنّه سوف يأمن بذلك من ثورات براكينها الملتهبة وزلازلها المدمّرة وسيولها الجارفة وصواعقها المحرقة، فعملت العقيدة على تنقية العقول من غواشيها، وفتحت الطريق أمامها واسعا لاستثمار الطبيعة والتسالم معها، عندما رفعت ما كان من حجب كثيفة بين الإنسان والطبيعة، وانكشف له بأنّ الطبيعة ومظاهرها وما فيها من مخلوقات وحوادث كلها صادرة عن اللّه تعالى، وهي مخلوقات مسخّرة لخدمته، وما عليه إلاّ أن ينتفع بها ويتفكر فيها وبأصلها حتى يصل عن طريقها إلى الخالق: (أفلا يَنظُرونَ إلى الإبلِ كيفَ خُلقت * وإلى السَّماء كيفَ رُفِعت * وإلى الجِبالِ كيف نُصِبت * وإلى الأرضِ كَيفَ سُطِحت)[26].
ولا بدَّ من الاشارة إلى أنّ منهج العقيدة في بناء الإنسان «منهج شمولي» يُنظّم علاقة الإنسان بنفسه وبربّه وبالطبيعة من حوله، وكل توثيق أو تطور في العلاقة بين الإنسان وربّه فسوف ينعكس إيجابيا على علاقته مع الطبيعة المسخّرة بيد اللّه تعالى، فتجود على الإنسان المؤمن بالخير والعطاء، لذلك طلب النبي «هود» (عليه السلام) من قومه ـ الذين ابتعدوا عن منهج السماء فحُبس عنهم المطر ثلاث سنين وكادوا يهلكون ـ أن يستغفروا ربّهم عما سلف من ذنوبهم، وأن يتوبوا إليه بتصحيح مسيرتهم وتنظيم علاقاتهم مع اللّه تعالى، وحينئذ سوف تنتظم علاقتهم مع الطبيعة فتجود بالمطر والخير، قال لهم: (يا قومِ استغفرُوا ربَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إليهِ يُرسِلِ السَّماءَ عليكُم مِدرارا ويَزِدكُم قُوَّةً إلى قوَّتِكُم ولا تَتولَّوا مُجرِمين)[27].
وعليه فالعبادة الحقة، يجب أن تكون للّه وحده، والخوف يجب أن يكون من الذنوب، التي تُثير سخط اللّه وتجلب انتقامه، فيستخدم الطبيعة أداة للعقوبة، كما أغرق اللّه فرعون باليّم، وأرسل الريح العقيم التي أهلكت قوم عاد، وهكذا نجد أنّ أكثر العقوبات التي حلّت بالكافرين قد نُفّذت بواسطة قوى الطبيعة، مما يكشف لنا العلاقة الترابطية بين الإنسان والطبيعة، وفي هذا الصدد يقول الإمام الباقر (عليه السلام): « وجدنا في كتاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).. إذا منعوا الزّكاة منعت الأرض بركتها من الزّرع والثمار والمعادن كلّها »[28]. ويقول ولده الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا فشا الزِّنا ظهرت الزلازل، وإذا أمسكت الزكاة هلكت الماشية، وإذا جار الحكام في القضاء أمسك القطر من السماء..»[29].
وجملة القول أنّ الخوف الإنساني يجب أن يتركز على الذنوب والخطايا التي تسبب تدمير المجتمعات ورفع البركات، أما الخوف من الطبيعة والاعتقاد بأنّ بعض ظواهرها شرور لا تجتمع مع النظام السائد على العالم أولاً وحكمته وعدله ثانيا، فإنّما هو ناشيء من نظراتهم الضيّقة المحدودة إلى هذه الامور، ولو نظروا الى هذه الحوادث في إطار النظام الكوني العام لأذعنوا بانها خيرٌ برمتها، فللوهلة الاولى تتجلى تلك الحوادث شرا وبلية، ولكن المتعمّق بها يرى أنّها مدعاة إلى الخير والصلاح، وأنها تكتسي لباس الحكمة والعدل والنظم، وتفصيل فلسفة البلايا والشرور في العالم موكول إلى علم الكلام، ولكن فيما يتعلق ببحثنا نعود ونؤكد بان العقيدة الإسلامية أعادت صياغة عقل الإنسان تجاه الطبيعة المحيطة به، بشكل يجعله أكثر حريةً وتفاعلاً وتسالما معها.
رابعا: تحرير الإنسان من الأساطير ومن الخرافة في الاعتقاد أو السلوك، من أجل رفع الحواجز الوهميّة التي تحول دون استخدام طاقة العقل على نحو سليم، وكان الإنسان الجاهلي على سبيل المثال يتفاءل ويتشائم بحركات الطير، فينطلق نحو العمل إذا اتجه الطير يمينا، ويتراجع عن العمل إذا اتجه الطير شمالاً، وكانت طبقة الكهّان والمنجمين تحتل موقع الصدارة في السلّم الاجتماعي وتخدع الناس بادعائها علم الغيب، وكان التطيّر يقيد الناس بحبال الوّهم عن السعي والسفر، وكذا كان الاستقسام بالازلام، إذ يأخذ من قصد عملاً ـ ثلاثة سهام ـ، يكتب على أحدها: «إفعل» وعلى الآخر: «لا تفعل» ويترك الثالث هملاً، ويمد يده ليأخذ أحدها، فإن خرج الأول أقبل على عمله، وإن أصاب الثاني توقّف، وإن خرج الثالث أعاد الكرّة! وكان السحر متفشيا بين الناس ينذر بشرّ مستطير، فعملت العقيدة على محاربة هذه المظاهر، وكانت سببا لتفتح العقول والسمو بالنفوس، وإخراج الناس من ظلمات الوهم والخرافة إلى نور العلم والحقيقة..
قال الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله): «ليس منّا من تطيّر ولا من تُطيّر له، أو تكهّن أو تكُهّن له، أو سحر أو سُحر له[30]، وقال (صلى الله عليه وآله) أيضا: من ردّته الطِيَرة عن حاجته فقد أشرك»[31].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «الطِيَرة على ما تجعلها، إن هوّنتها تهونت، وإن شددتها تشدّدت، وإن لم تجعلها شيئا لم يكن شيئا»[32].
من جانب آخر حرَّرت العقيدة عقل المسلم من استنتاجات المنجّم، فاعتبرت المنجّم كالكاهن، كلاهما يسعيان إلى تقييد حركة الإنسان في الحياة والتلبيس على عقله..
عن عبدالملك بن أعين، قال: قلتُ لأبي عبداللّه (عليه السلام): إنّي قد ابتليت بهذا العلم ـ ويقصد التنجيم ـ فإذا نظرت إلى الطالع ورأيت طالع الشرّ جلست ولم أذهب، وإذا رأيت طالع الخير ذهبت في الحاجة؟ فقال لي: «تقضي؟ قلتُ: نعم. قال (عليه السلام): أحرق كتبك»[33].
ولا بدَّ من التنويه إلى أنّ مدرسة آل البيت: الإلهية لا تعيب على النجوم كعلم طبيعي يتطلّع الإنسان من خلاله على معالم السماء التي تظلّه ليصل من خلال ذلك إلى عظمة الخالق، ولكن تعيب على البعض ادعاءه التوصل من خلالها إلى علم الغيب.
ومن الشواهد ذات الدلالة لسعي آل البيت: على تحرير الإنسان المسلم من عادة التنجيم المستحكمة التي أمتدّت إلى عصور متأخرة، ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) لبعض أصحابه لمّا عزم على المسير إلى الخوارج، وقد قيل له: إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت، خشيت ألا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم.
فقال (عليه السلام): «أتزعم أنَّك تهدي إلى السَّاعة التي من سار فيها صُرف عنه السوء؟ وتخوِّف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضرُّ؟ فمن صدَّقك بهذا فقد كذّب القرآن، واستغنى عن الاستعانة باللّه في نيل المحبوب ودفع المكروه.. ثم أقبل (عليه السلام) على الناس فقال: أيُّها الناس، إيّاكم وتعلّم النُّجوم إلاّ ما يُهتدى به في برٍّ أو بحرـ إلى أن قال لهم ـ سيروا على اسم اللّه»[34].
 
 الأستاذ عباس ذهيبات – بتصرف يسير


[1] الاسراء 17: 70.
[2] البقرة 2: 30.
[3] الاعراف 7: 176.
[4] البقرة 2: 74.
[5] راجع سورة النساء 4: 28، والمعارج 70: 19، والاحزاب 33: 72، والأنبياء 21: 37، والعلق 96: 6.
[6] البقرة 2: 286.
[7] الخصال، للصدوق: 417 باب التسعة ـ منشورات جماعة المدرسين ـ قم.
[8] كنز العمّال، للمتقي الهندي 4: 233 مؤسسة الرسالة ط 5.
[9] من لا يحضره الفقيه 4: 21 / 31 باب فيما يجب به التعزير والحد، دار صعب طبع 1401 ه.
[10] كتاب الخصال: 33 باب الاثنين ـ منشورات جماعة المدرسين ـ قم.
[11] دور الدين في حياة الانسان، للشيخ الآصفي: 50 ـ دار التعارف ط2.
[12] الحجرات 49: 13.
[13] فروع الكافي 8: 69 ـ دار صعب ط3.
[14] معالم شخصية المسلم، للدكتور يحيى فرغل: 79 ـ 80، منشورات المكتبة العصرية ـ طبعة عام 1399 ه.
[15] النساء 4: 171.
[16] كنز العمال 13: ح 36410.
[17] بحار الانوار 49: 129.
[18] وسائل الشيعة 18: 552. دار احياء التراث العربي ط 5.
[19] نهج البلاغة، ضبط صبحي الصالح، 558 / حكم 469.
[20] الانفال 8: 53.
[21] نهج البلاغة، لصبحي الصالح: 427.
[22] نهج البلاغة: 474.
[23] نهج البلاغة: 390.
[24] في ظلال الصحيفة السجادية، للشيخ مغنية: 100 ـ دار التعارف للمطبوعات ط2.
[25] فصلت 41: 37.
[26] الغاشية 88: 17 ـ 20.
[27] هود 11: 52.
[28] اُصول الكافي 2: 374 / 2 كتاب الايمان والكفر ـ دار صعب ط4.
[29] الخصال، للشيخ الصدوق 1 ـ 2: 242 / باب الاربعة ـ منشورات جماعة المدرسين عام 1403 ه.
[30] كنز العمال 10: 113.
[31] كنز العمال 10: 113.
[32] وسائل الشيعة 8: 262.
[33] وسائل الشيعة 8: 268.
[34] نهج البلاغة، صبحي الصالح: 105.

24-10-2016 | 14-10 د | 2270 قراءة


 
صفحة البحــــث
سجـــــــل الزوار
القائمة البريـدية
خدمــــــــة RSS

 
 
شبكة المنبر :: المركز الإسلامي للتبليغ - لبنان Developed by Hadeel.net