المحاضرة الثالثة: الالتزام بالحكم الشرعي لدى العاملين

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ1.

الهدف:

بيان بعض الأحكام الشرعية المرتبطة بعناوين العمل والإدارة والتي يجب على العاملين مراعاتها.


125


المقدَّمة
لا شكَّ أنَّ الأحكام الشرعيَّة المرتبطة بالعمل أشدُّ أهمية وأكثر خطورة من المسائل الفردية لما يترتَّب عليها من أثر عظيم يرتبط بشتَّى نواحي النظام العامّ، وينعكس على المجتمع سعادةً ورقياً وازدهاراً ورفاهية أو أنه يزيد من بؤس المجتمع وتخلُّفه وتقهقره وتعاسة أفراده.

إنّ أحدَ الأمور التي يجب العمل عليها في مجتمعاتنا هو بثُّ هذه الثقافة بين الناس وإيضاح المصالح العليا التي ترتبط بإيلاء الشأن العامّ والأحكام الشرعية المرتبطة به أهمية خاصَّة وذلك من خلال إنجاح المؤسَّسات العاملة وتقديمها كأسوة ونموذج يُحتذى به.


126


محاور الموضوع
ونستعرض على سبيل المثال بعض العناوين الضرورية التي يجب على العاملين مرعاتها والتقيُّد بها لأنّها تشكِّل الحكم الشرعيَّ الذي لا ينبغي تجاوزه.

١- استخدام ممتلكات العمل:
كالهاتف والسيارة والمياه والإضاءة والأوراق والأقلام وسواها، فما زالت قصَّة أمير المؤمنين عليه السلام عندما أطفأ الشمعة في بيت المال عندما أتاه طلحة والزبير في شأن شخصيّ مدوِّيةً حتى يومنا هذا لتعلِّمنا ضرورة عدم الاستخفاف بممتلكات العمل، وهذه الرواية تشير الى ما هو أبعد من براءة الذمَّة، فعليٌّ عليه السلام لم يترك الشمعة مشتعلة ثم دفع شيئاً من ماله إلى بيت المال براءةً لذمته بل عمد إلى الشمعة فأطفأها وبقي مع زوَّاره بلا إضاءة ليترك لنا درساً خالداً وهو أنّ الأصل في ممتلكات العمل عدم جواز استخدامها، وأنَّ الإنسان إذا اضطر إلى استخدامها فإنه يعمد الى تبرئة ذمته بالمقدار الذي يتيقَّن من امتثاله أمر الله بدقته.


127


٢- مراعاة أوقات الناس: أي عدم التسويف في المعاملات والتراخي في إنجازها، والقائها في الجوارير لأيّ عذر كان، فالمعاملة التي تحتاج ليومٍ واحد يجب أن تنجز في يوم واحد وأيُّ معاملة يجب ألا تتعدى الوقت المحدَّد لها؛ لأن في ذلك تضييع حقوق الناس، وهذا من أشدّ ما نُسأل عنه يوم القيامة.

ومراعاة أوقات الناس حقٌ ثابت لهم فلا يمكن تمرير أشخاص قبل غيرهم ولا تمضية بعض الوقت مع بعض الأصدقاء أو الطلب من صاحب المعاملة أن ينجز بعضها أو تركها جانباً لشكٍّ ما خالج المسؤول بل يجب عليه حسم المعاملة سلباً أو إيجاباً، وبالتالي من الخطأ الفادح إجابة صاحب العلاقة بإجابات مترددة ومبعثرة تجعله أكثر حيرة من أمره.

٣- الدقَّة في اختيار الأفراد:
أي مراعاة المعايير المناسبة في اختيار الأفراد وتولِّيهم للوظائف المناسبة وعدم التعامل بميلٍ أو هوًى لأنّ ذلك يترك انطباعاً سلبياً لدى بقية


128


العاملين ويسبب لهم إحباطاً على مستوى العمل وضعفاً في إنتاجيتهم وركوداً في حركة المؤسَّسة نحو الأمام.

فالعامل بإخلاص ينبغي أن يكون العزل والتعيين عنده سواء، فلا تتغير حاله إذا عُزل عن مقام أو عُيّن في مسؤولية، بل إذا كان هو مسؤولاً عن أمر ووجد من يَليق به أكثر منه، رشّحه لكي يحلّ مكانه.

كما يدرك تماماً حرمة الاستفادة من الموقع، فلا يستغلُّ موقعه للاستفادة منه بنحو سيِّئ، أو بنحو شخصي أو عائلي، أو بأيِّ نحوٍ مخالف للقانون.

٤- التقييم الدائم للعاملين:
فأحياناً يعمل شخص ما بكلِّ جهدٍ ونشاط من أجل الوصول إلى مركزٍ معيَّن، كما نرى بعض الأشخاص الذين أمضوا فترات طويلة في مواقعهم باتوا يعملون بشكلٍ روتيني بدون حماسٍ أو رغبة، وقد تمرُّ على العامل ظروف صعبة في أوضاعه المعيشية أو العائلية تجعله مشتَّتاً لا يركّز في عمله وغيرها من الأمور التي تضعف النشاط والانتاجيَّة في عمل العامل، وهنا


129


لا بد من إجراء تقييمات دورية للأفراد لقياس مستوى العطاء والإندفاع نحو العمل، وبالتالي معالجة أيّ خلل أو مشكلة تؤثّر في عمل العامل أو روحية العطاء عنده.

٥- قانون الثواب والعقاب:
وهو من القوانين الإلهية التي قامت عليها الشريعة فلا ترى تقصيراً أو تجاوزاً إلا وللشارع فيه حكم ثواباً أو عقاباً، وإلا للزم أن يكون المحسن والمسيء سِيَّيْنِ والمطيع والعاصي على حدّ سواء، وللزم عدم التمييز بين الناشط في عمله والمتكاسل، بل قد ينعدم هذا القانون إلى الحدّ الذي يُطمِع ضعاف النفوس إلى ارتكاب المخالفات الكبيرة والتي تشوّه صورة العمل كلِّه إذا لم يكن هناك قانون للثواب والعقاب.

نعم ركَّز الإسلام على الحصانة الذاتية والمراقبة الفردية والمحاسبة الخاصة وجعلها أساساً لنظم الأمر ولا شكّ أنها الأصل في بناء المجتمعات، لكن تبقى الحاجة إلى قانون الثواب والعقاب حاجة ماسَّة وضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها.


130


٦- عدم الإسراف والتبذير في المشتريات: والمراد هنا ترشيد الإنفاق، فهو الإنفاق الهادف المعتدل المرتبط بالحاجة. وقد عبّر عنه القرآن الكريم بالقوام: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا2.. والقوام "هو العدل والاستقامة والحد والوسط بين شيئين"3.

وعليه فترشيد الإنفاق لا يرتبط بالكثرة أو القلَّة، بل يرتبط بالحاجة لا غير.

ومن الأمور المهمَّة ألا تكون المشتريات والمقتنيات باهظة الثمن إلا في الأماكن التي تتطلَّب ذلك واعتماد الأثاث والأدوات والوسائل العادية التي لا تلفت النظر وتزرع الشكَّ في النفوس كما من المهمّ العدالة في تأثيث المراكز وعدم التمييز بين مكتب وآخر، كما من المهمّ الإنتباه إلى المال المصروف على الموائد والعزائم والإفطارات والترفيه والتكريمات وسواها من الأمور التي قد تخرج عن إطارها


131


الشرعي فيما لو غفلنا عن وضع الضوابط والمعايير سابقاً.

إنّ ملاحظة الروايات الشريفة التي تتحدّث عن الإسراف - ومنها رواية الإمام الصادق عليه السلام حين قال: "أدنى الإسراف هراقة فضل الإناء، وابتذال ثوب الصون، وإلقاء النوى"4 - تُوصلنا إلى استنتاج أبرز وجوه الإسراف، وتحديدها بثلاثة وجوه، وهي: هدر الموارد وسوء الاستفادة من الموارد واستصغار بعض التفاصيل الصغيرة.

وفي الختام أود أن أؤكِّد على أمر نحن بأمسّ الحاجة إليه وهو أنّ الشخص المعني بأمور الناس يجب أن يبقى بشوش الوجه مبتسماً في وجوه المراجعين يهوِّن عليهم بكلماته الطيبة وحسن تعامله فإنه الصورة التي تمثِّل النهج المحمديَّ الأصيل ولا يمثل نفسه في هذا الموقع.


132


هوامش

1- سورة البقرة، الآية 229.
2- سورة الفرقان، الآية:67.
3- الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ط2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2005، ج11، ص224.
4- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، م.س، ج4، ح8496.