المحاضرة السادسة: فتنة النساء  في القرآن الكريم

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ1.

الهدف:
التنبيه على بعض ما يحصِّن المجتمع من الوقوع في فتنة العلاقات غير المشروعة.


207


المقدَّمة
من المهمّ التنبيه على أن المراد من فتنة النساء هنا تسليط الضوء على الحصانة الروحية والنفسية التي يجب على كل من الرجل والمرأة التمتع بها لتعصمه من الوقوع في معصية العلاقة غير المشروعة، سواء على مستوى الكلام أو الفعل أو السلوك وصولاً إلى بعض العادات والتقاليد الشائعة والأعراف القائمة والتي لا تتناسب مع جوهر الدين، وبالتالي التقيد بالحدود التي نصَّ عليها الدين الحنيف وعدم تجاوزها لأنها الملاذ الوحيد الذي يدرأ عن الرجل والمرأة الشبهات.

كما من المهمّ الإشارة هنا إلى أن هذا الموضوع من المواضيع التي يشنّ الغرب ثقافته العمياء في أوساطنا ويحتل مكانة خاصة في الثقافة المضادة كونه لا يهدد فرداً في المجتمع بل يهدد كيان الأسرة المسلمة والتي تعتبر من أهمِّ أركان المجتمع في النظرة الاجتماعية الإسلامية.


208


محاور الموضوع
ولبيان حجم التحدِّي والفتنة في هذا الأمر نسلِّط الضوء على بعض الحيثيات المهمَّة في قصَّة يوسف عليه السلام وفتنة مراودة زوجة العزيز له واستبيان الموقف الشرعي في هكذا فتنة، وذلك من خلال أمرين:
١- قراءة في الظروف المحيطة بالفتنة.
٢- قراءة في موقف يوسف عليه السلام.

١- قراءة في الظروف المحيطة بالمراودة
أ- يوسف عليه السلام في ذروة شبابه:
وكما تعبر الآية ﴿
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ2، فهو في ذروة شبابه ونشاطه واتقاد شهواته وجموح غرائزه، وإن عصمة نفسه من ارتكاب المعصية تحتاج لجهدٍ روحي ومعونة من الله استدرها يوسف عليه السلام من الله قائلاً ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ3.


209


ب- فضل المرأة التي راودته عليه: فزليخة هي المرأة التي اشترته وربته في قصرها وسخّرت له مختلف الأساتذة والمربين وساهمت في بناء شخصيته، والله يعبر عن ذلك بقوله: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا4، وكان يوسف عليه السلام يحترمها ويوقرها ويعاملها كأمٍ له ويرى فضلها عليه واهتمامها به.

ج- مكانتها وقدرتها
: فهي ليست إمرأة عادية، بل هي شعلة من الذكاء والوعي، وصاحبة قرار وحكمة، ولها اسمها وصيتها ومكانتها الاجتماعية حتى بين نخبة المجتمع المصري، والاقتراب منها له تبعات دنيوية عالية والحصول على امتيازات يتمناها كلُّ مصري في ذلك الوقت.

د.- جمالها:
فقد كانت زليخة من أجمل نساء مصر ومعروفة بحسنها وجمالها، ومطمع سادة القوم ووجهائهم وكبار الكهنة ورجال السلطة، وفي بعض الأخبار أن جمالها كان حديث النسوة في مصر، ولعل غيرة نساء مصر دفعهنَّ


210


لنشر الشائعات عنها عند سماعهنَّ بأطراف حديث ما جرى بينها وبين فتاها.

هـ- الظروف التي سيخسرها:
فيوسف عليه السلام سيخسر بعصيانه أمر زوجة العزيز مكانته والنعيم الذي يعيش فيه، والحبوة الخاصة التي كان يحظى بها، فهو سيخسر ما يتمناه أيُّ شابّ، وليس الأمر أنه سيخسره فحسب، بل قد تتحوَّل حياته وتنقلب رأساً على عقب فيما لو استعرت نار الانتقام في قلب المرأة المفتونة.

و- القدرة على التهديد والانتقام:
فامرأة العزيز كانت ذات قوة وسلطان وأمرها نافذ وعدم إطاعتها قد يوقع العاصي في حياة شقاء وعذاب، وبالفعل فقد قررت رميه في السجن مع علمها ببراءته وفعلت ذلك، وما ذلك إلا لأنها قادرة على التهديد والانتقام، ويوسف عليه السلام ليس سوى غلام اشترته كعبد لكن حاجتها للولد جعلتها تعامله كإبن.

ز- سهولة التواصل:
فالمعصية التي عُرضت على يوسف


211


معصية في متناول اليد لا تحتاج إلى تعبٍ للوصول إليها ولا تكلّفه عناء على الإطلاق، فلعلَّ المرء يُعرض عن أمرٍ يحتاج إلى جهدٍ ويكبّده مشقة ما إلا أنه هنا ليس كذلك، فهو بيتها كما يعبِّر القرآن الكريم ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾.

وهنا من المهمّ الإشارة إلى مسألةٍ في بيت كل واحد منا وهو باب إلى المعصية كما أنه باب إلى الطاعة وهي شبكات التواصل الاجتماعي التي يستطيع المرء أن يُنشئ علاقات مختلفة منها ما هو محرم ومنها ما هو نافع، وهذا الباب يحتاج لإرادةٍ كبيرة وروحية عالية قلَّما يستطيع المرء أن يعصم نفسه منها، ولو كانت سهولة الوصول إلى المعصية أمرًا عاديًّا لقال الله مثلاً (راودته امرأة العزيز)، وإنما قال (التي في بيتها) ليؤكِّد لنا أن سهولة الوصول إلى المعصية وأنت جالسٌ في بيتك أمرٌ غاية في الخطورة ويحتاج منا إلى مراقبة دائمة وتشدُّد في مراقبة الأولاد واستخدامهم لهذه الوسائل.


212


٢- قراءة في موقف يوسف عليه السلام
أ- فراره: فقد كانت ردة الفعل العفوية هي الهروب والفرار خارج الغرفة فهرع إلى الباب كمن يفرُّ من خطر داهم، والحقيقة أنّ شعور المؤمن عند اقترابه من المعصية وردة فعله تماماً كما لو اقترب من النار لأن حقيقة المعصية وجوهرها هو النار كما عبّر تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا...5.

ب- تذكيرها بالآخرة:
وفي الروايات إشارة الى الحوار الذي جرى بينها وبينه داخل الغرفة التي جمعتهما وكانت تعرض عليه جمالها وتتغزل بجماله بينما كان يوسف يُذكِّرها بالآخرة وبعذاب الله الجبَّار ويستهزئ بجماله الذي سوف تأكله ديدان القبر، ويؤكِّد لها أن المتعة والسعادة في رضا الله ومحبته لا في اتِّباع الهوى ومعصية الله.

ج- الاستعانة بالله:
وكما أشرنا إلى قوله تعالى:
﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ


213


عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ6، فيوسف عليه السلام طلب من الله العون في الثبات أمام كيد زليخة ومن بعدها نساء المدينة واستجاب الله له كما تكمل الآية ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ7، وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ8.

هـ قول الحق:
والمراد هنا ما أشارت إليه الآية حين ألفيا سيدها عند الباب فعمدت الزوجة المفتونة إلى الكذب والخداع وكادت ليوسف من جديد وقررت مباشرةً أن تعذبه أو تسجنه، ولعلَّ كلامها هنا انتقامٌ لكبريائها واستعصامه أكثر منه تبريراً للزوج، وبكلمةٍ أصحّ إنك إن لم تقبل بما عرضت عليك فسأقوم بسجنك وتعذيبك، لكنه عليه السلام عمد إلى قول الحقيقة قائلاً
﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي9،


214


وهذا حال المؤمن لحظة الفتنة فما عليه إلا أن يكون صادقا محتسباً والله سبحانه يجعل له من أمره مخرجًا.

و- استبدالُ السجن بالقصر:
لقد كان موقف يوسف عليه السلام حاسماً وقاطعاً
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ10، فقربك داخل السجن أحب إلي من بعدك داخل قصر، ورضاك وطاعتك في الأقبية والسراديب أحب إلي من غضبك وعصيانك في نعيم الدنيا، وهذا حال الإنسان المؤمن الذي يستبدل طاعةَ الله بزخارف الدنيا الزائفة.


215


هوامش

1- سورة يوسف، الآية 33.
2- سورة يوسف، الآية 22.
3- سورة يوسف، الآية 33.
4- سورة يوسف، الآية 23.
5- سورة النساء، الآية 10.
6- يوسف 33.
7- يوسف 34.
8- يوسف 24.
9- يوسف 26.
10- يوسف 33.