المحاضرة الثانية: التفقُّه في الدين (٢)

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ1.

الهدف:

توضيح معنى التفقُّه في الدين وبركاته في دار الدنيا وأفضليته على سواه والآثار السيئة لتركه في الدار الآخرة.


255


المقدَّمة
من الواضح من خلال الآية المتقدِّمة أنّ نشر الفقه أمرٌ لازم على الفئة التي تصدَّت لطلب العلوم الدينية والتفقه في الدين، والنفر بمعنى الاستنفار والخروج وبذل الجهد، وهذا يعني بالضرورة التفرغ لطلب العلم والسعي لتحصيله والصبر على نيله المعارف واكتساب العلوم، ومن لطائف الآية أنّها لم تعبر بتفقيه الآخرين بل بإنذارهم في إشارة إلى كونهم لا يعرفون الحكم الشرعي ويتصرَّفون وفق أهوائهم أو ما تملي عليهم عقولهم، فردعتهم الآية المباركة بضرورة التقيد بالحكم الشرعي الوارد في الفقه وبكلمةٍ أوضح أنها حذرتهم من عدم التقيد بذلك.

والتفقُّه ليس خاصّاً بجانبٍ دون آخر في ظاهر الآية بل بعموم جوانب الدين، فلا ينبغي التفقُّه في العقائد وإهمال الفقه مثلاً أو الإلمام بالتفسير على حساب السيرة المباركة للنبي وأهل بيته، بل ينبغي أن يكون مصداقاً للآية المباركة ﴿
لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ2.


256


محاور الموضوع
الآثار السيِّئة لعدم التفقُّه

إنّ أعظم ما نشاهده اليوم من معارك ومجازر وانتهاكات كبرى باسم الدين ليست سوى بعض الآثار السيئة لعدم التفقه في الدين، ولفهم الدين بشكلٍ سطحي يقتصر على الشكل دون العمق والمضمون، إننا نشاهد اليوم تدمير القيم الإسلامية بل الدينية باسم الدين كما نشاهد ردّة عن الدين سببها ممارسة الدين بطريقة لا فقاهة ولا وعي فيها، فقدَّمت الإسلام بصورة يخجل الإنسان من الانتماء إليها، وهل بعد هذه الآثار السيئة نحتاج لدليل يدلُّ على حجم المشاكل التي يُسبِّبها عدم الفقاهة؟

إنّ المتأمل بدقةٍ اليومَ يرى بما لا يرقى إليه الشكُّ أن هذا الفكر الديني المنحرف والخاطىء إنما ينمو في البيئة الجاهلة التي لا تملك الوعي والبصيرة ولا تدرك أخطار ما يفعلون، ويسعى هذا الفكر لتجنيد ملايين


257


الناس تحت شعارات دينية زائفة وتمارس الطقوس الدينية بأبشع صورها وترتكب المجازر التي يندى لها جبين الإنسانية باسم الدين والقيم الإلهية، وكلّ ذلك إنما يتمُّ وسط الجماعات الجاهلة التي لم يكن لها حظٌّ من التعليم والتربية ففقدت أغلى ما يمكن أن تتسلَّح به وهو الوعي والبصيرة لتغرق في ظلمات الحيرة والضلال وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

وهذا النمط من الناس شاهدناه في كربلاء الحسين عليه السلام، ومستوى الجهل والتردِّي الخلقي والديني والإنساني الذي واجهه الإمام، وقد ورد هذا المعنى في زيارة الأربعين حيث نقرأ: "وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة"3.

واستنكرت الشريعة على أي إنسان عدم تفقهه في الدين معتبرةً أن ذلك سبيل للتيه والضلال والإبتعاد عن الله.

عن أبي عبد الله عليه السلام: "قال له رجل: جُعلت فداك رجل


258


عرف هذا الأمر، لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد من إخوانه؟ قال: فقال: كيف يتفقه هذا في دينه؟!"4.

١- عدم توسُّم الخير:
عن أبي عبد الله عليه السلام: "لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا يا بشير ! إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم"5.

عن أبي عبد الله عليه السلام، عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا خير في العيش إلا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع"6.

عن عليّ عليه السلام: "ألا وإنَّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم، وضمنه وسيَفي لكم"7.

٢- الارتطام بالحرام:
وهذا لازمٌ طبيعيٌّ لعدم التفقه في الدين، فموارد الإبتلاء كثيرة وهي تزداد يوماً بعد يوم،


259


ويجب على المتفقه أن يبقى بحالة من المتابعة الدائمة والدقيقة لكافَّة مستجدَّات الأحكام الشرعية، لأنّ التقصير في تعلُّمها لن تكون عاقبته إلا الوقوع في المعصية، فقد ورد عن عليّ عليه السلام قوله: "من اتجر بغير علم فقد ارتطم في الربا، ثم ارتطم"8.

٣- التورُّط في الشبهات:
لأنّ المرء ما لم يعرف الحكم الشرعيَّ بشكلٍ دقيق سيبني أمره على الظنّ إن لم يكن الوهم، وقد يصيب مرة ويُخطئ مرات عديدة، وبالتالي سيكون مصيره الوقوع في الشبهات، وقد يتحوَّل هذا السلوك عنده شيئاً فشيئاً إلى سلوكٍ دائم، بل قد يتحوَّل إلى تصرُّفٍ يسلكه الكثير من الناس، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أراد التجارة فليتفقه في دينه، ليعلم بذلك ما يحلُّ له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر، تورَّط في الشبهات"9.


260


٤- بقاؤه على الجاهلية: ففي رواية علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "تفقهوا في الدين، فإنه من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي، إن الله يقول في كتابه: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"10.

ورد في الحديث: "... ولا تكونوا كجفاة الجاهلية لا في الدين يتفقهون ولا عن الله يعقلون"11.

فعدم الفقاهة ليست بقاءً على الجاهلية فحسب بل هو تشبه بجفاة الجاهلية، وهم أجلف أهل الجاهلية الذين يجسدون الجهل تجسيداً واقعياً.

٥- عدم قبول عمله يوم القيامة:
وهذه من أفدح الخسائر التي تواجه الذين حملوا الدين دون تفقه ودراية، فيلقى الله مهانًا لا ينظر إليه ولا يُقام لعمله وزنٌ، فعن الإمام علي عليه السلام: "من لم يتفقه في دين الله، لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يُزَكِّ له عملا"12.


261


٦- باب للدخول في الضلالة: فعن الإمام الصادق عليه السلام "...يا بشير ! إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم"13.


262


هوامش

1- سورة التوبة، الآية 122.
2- سورة التوبة، الآية 122.
3- مصباح المتهجد، ص 788.
4- الكافي، الكليني، ج1،ص31.
5- الكافي، الكليني، ج1،ص33.
6- المصدر نفسه، ص33.
7- م.ن، ص30.
8- م.ن، ج5، ص154.
9- م.ن، ج1، ص325.
10- م.ن، ص31.
11- نهج البلاغة، ص 77.
12- الكافي، الكليني، ج1، ص31.
13- المصدر نفسه، ص33.