المحاضرة الأولى: الدعاء في ساحات الجهاد

الهدف:
بيان أهمّيّة المناجاة في ميادين الجهاد سواء من المجاهدين أنفسهم لأنفسهم أو من غيرهم لهم.

عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم، ويدرّ أرزاقكم؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تدعون ربّكم بالليل والنهار فإنّ سلاح المؤمن الدعاء"1.


217


مقدّمة:
الدعاء سلاح الأنبياء وما من مواجهة بينهم وبين أعدائهم إلّا وكانوا يعتمدون على هذا السلاح، والذي يعتبر في حالة الصدّ لأعدائهم أو في حالة الدّفاع عن أنفسهم وعن متعلّقاتهم كالتّرس بالنسبة للمجاهد كما جاء في الحديث عن أمير المؤمنين: "الدعاء ترس المؤمن"2، وكذلك فإنّه "أنفذ من السنان الحديد"3 في حالة الهجوم كما هو مروي عن الإمام الصادق عليه السلام، وبالتالي فإنّه يُحتاج إلى الدعاء في كلّ الأحوال والأزمنة والأمكنة، أي في حالات الرخاء والشدّة والسلم والحرب وفي الليل والنهار، ويعتبر الدعاء أفضل العبادة، "ولو أذن الله للعبد في الدعاء لفتح له باب الرحمة"4 ولهذا لم يتخلّ عنه أحد من الأنبياء والأولياء ولا سيّما في ساحات الحرب، وكلّما كانت المخاطر تشكّل تهديداً أكبر كلّما كانت الحاجة إلى الدعاء أكثر، وهذا ما نقرأه في واقعة كربلاء ولذا نجد أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد أكثر من الدعاء عند كلّ واقعة بل ربّما لم نجد ساحة شهدت قتلاً وقتالاً قد اعتمدت على الدعاء كما في ساحة كربلاء، وهو من الوسائل المهمّة ومن نقاط القوّة على مستوى الشحن الروحيّ لأجل الثبات في الميدان، فإنّهم في أمكنةٍ الدعاءُ فيها مستجاب والقلوب تنتابها الرّقّة وهي من شرائط استجابة الدعاء ولربّما يحصل بالدعاء مالم يحصل بأسلوب آخر وطريقة أخرى.


218


عليكم بسلاح الأنبياء:
كان بامكان الأنبياء عليهم السلام أن يستعملوا الدعاء كسلاح للقضاء على خصومهم المعاندين للحقّ حيث لا تردّ لهم دعوة، إلّا أنّهم أرادوا للأمور أن تجري ضمن المخطّط الإلهيّ المرسوم لها والتي تقوم على قاعدة ربط المسبّبات بأسبابها ومن جهة أخرى فإنّ أبواب المفاضلة تقفل بين العباد إن لم يكن هناك جهاد أصغر ولهدمت الصوامع والبِيَع والمساجد لو لم يكن دفع إلهيّ بين النّاس، ولأجل تلك ولأسباب غيرها قلّما وجدنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو أمير المؤمنين عليه السلام وبحسب المصادر التاريخيّة أنّهما اعتمدا أسلوب الدعاء للقضاء على أعدائهما في ساحات المعركة، نعم ففي المواطن المفصليّة والحسّاسة جدّاً ركن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء وكأنّه سلاح يتمّ اعتماده في حالتين، الأولى إذا لم يوجد سلاح آخر بموازاته والثانية في القضايا المصيريّة. ومن الموارد التي اعتمد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الدعاء كسلاح في الميدان:
1- الجوشن: بحسب ما أورده الشيخ عبّاس القمّي عن كتابي البلد الأمين ومصباح الكفعميّ عن الإمام السجّاد عليه السلام عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقد هبط جبرائيل به على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بعض غزواته وعليه جوشن ثقيل آلمه فقال: "يا محمّد ربّك يقرئك السلام ويقول لك إخلع هذا الجوشن واقرأ هذا الدعاء فهو أمان لك


219


ولأهلك"، ثمّ أطال في ذكر فضله، وقد نقل عن العلّامة المجلسيّ من كتابه زاد المعاد أن يتضمّن مئة فصل وفي كلّ فصل يتضمّن عشرة أسماء من أسماء الله الحسنى وأنّ فيه الاسم الأعظم5، وبالفعل فقد اعتمده وقرأه.

2- في معركة الخندق:
لحظة توجّه الإمام عليّ عليه السلام إلى منازلة عمرو بن عبد ودٍّ العامريّ.
والجدير ذكره أنّ عليّاً شارك في كلّ الغزوات والحروب والمهمّات العسكريّة التي كُلِّف بها من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدا غزوة تبوك لأنّه لم يحصل فيها حرب ومجموعها نيِّف وثمانون مهمّة جهاديّة فلا تخلو واقعة إلّا كان يصدر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما يبيّن واحدة من مناقب الإمام عليّ عليه السلام، وأمّا أنّه كان يدعو بصورة علنيّة له كلّما توجّه إلى الميدان فهذا غير واضح بالرّغم من كون بعضها مصدراً للقلق ومثيرة للخوف على شخصيته المباركة كما في معركة خيبر. نعم في واقعة واحدة وجدنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد استعمل هذا السلاح بصورة لافتة وكان كما ذكرنا في معركة الخندق حينما وقف عمرو بن عبد ودٍّ العامريّ والذي يعدّ بألف فارس عربيّ وهو يتحدّى المسلمين جميعاً ممثِّلاً الشرك كلّ الشرك، إذن التحدّي كبير والمعركة فاصلة وجاء في بعض تفاصيلها: وبعد استعراضه لجيش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتبختر أمامهم ويدعوهم إلى المبارزة بلغة الاستهزاء


220


والاستصغار والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يخاطبهم قائلاً لهم هل يبارزه أحد؟ فالأنفاس حبست وعيونهم تدور كالمغشيّ عليه، فلم يجبه أحد إلّا عليّ عليه السلام فأجابه إلى ذلك فأجّله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ عاود مخاطبة المسلمين ويدعوهم إلى مبارزة عمرو ولم يجبه أحد إلّا عليّ ثلاث مرّات، وفي كلّ مرّة كان يجلسه وأمّا في الثالثة فقال له: "اجلس يا عليّ، فإنّه عمرو"، فقال عليّ عليه السلام: "وأنا عليّ يا رسول الله"، فأذن له بعد أن عمّمه بعمامته وقلّده بسيفه وألبسه درعه، ولمّا توجّه إلى الميدان رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه وقال: "اللهمّ إنّك أخذت عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد وهذا عليّ أخي وابن عمّي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين"6.

وهذا المورد مصداق لقول الإمام الرضا عليه السلام: "عليكم بسلاح الأنبياء" قيل وما سلاح الأنبياء؟؟ فقال: "الدعاء"7.

الدعاء لأهل الثغور:

الذين يتوجّهون إلى الله بالدّعاء للمجاهدين إمّا أن يكونوا معهم في الميدان وإمّا أن يكونوا خارجه، فمن النماذج التاريخيّة التي كانت ولا زال صوتها يتردّد مع جريان الأيّام والليالي ما نقرأه في أدعية الإمام السجّاد عليه السلام للمرابطين على الثغور قبال الأعداء حتّى اشتهر من بين أدعيته بدعاء أهل الثغور، والمتأمّل في هذا الدعاء يلاحظ أنّ الإمام بدأ


221


بالدعاء للمجاهدين المرابطين مستخدماً صفة العزّة كاسم من أسماءالله الحسنى، ثمّ تحوّل إلى أعدائهم يدعو عليهم مستعملاً أبلغ العبارات سواء تتعلّق ببعدهم النفسيّ من التحيّر والرعب، أو بما له علاقة بالبعد الماديّ كقطع المدد ونقص العدد، ثمّ يتوجّه ثانية بالدعاء للمرابطين، ومن يتأمّل في شكل الدعاء يتخيّل صورة كأنّهم يحيطون بالأعداء من كلّ جانب.

في محراب كربلاء:

روي عن أمير المؤمنين أنّه قال: "إنّ لله سبحانه وتعالى سطوات ونقمات فإذا أنزلت بكم فادفعوها بالدعاء فإنّه لا يدفع البلاء إلّا الدعاء"8.

فأيّ قلب كان أرقّ من قلب الإمام الحسين وهو في ساحة الميدان في كربلاء، ومن يقرأ أدعيته الشريفة ويتدبّر في مضامينها بعد إحصائها عدداً يخال نفسه أمام عابد منقطع إلى مولاه في محراب عبادته وربّما يعدّ واحدة من الأبعاد في كربلاء أنّها كانت محراباً للمتعبّدين والمتهجّدين في ليلهم ونهارهم، وكأنّهم ليسوا في مكان قد حاصرهم الأعداء من كلّ جانب وبالامكان أن نصنف أدعية الإمام الحسين عليه السلام ضمن طائفتين، الأولى والتي كان يدعو فيها لأهل بيته وأصحابه، والطائفة الثانية كان يدعو بها على جيش بني أميّة وهي على صنفين منها أدعية عامّة جامعة لكلّ التفصيلات المذكورة منها، حينما برز ولده الشابّ عليّ الأكبر عليه السلام وهو ينظر إليه وقد رفع بشيبته الطاهرة نحو السماء وقال: "اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم،


222


فقد برز إليهم غلام أشبه النّاس خَلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً برسولك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، كنّا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه، اللهمّ فامنعهم بركات الأرض، وإن منعتهم ففرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلون".

ثمّ صاح بعمر بن سعد: "ما لك قطع الله رحمك ولا بارك الله في أمرك وسلّط عليك من يذبحك على فراشك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"9، والمروي أيضاً أنّه دعا عليهم بعد استشهاده وبعد شهادة ابن أخيه القاسم بن الحسن وهكذا بعد شهادة أخيه أبي الفضل العبّاس وبعد ذبح الطفل الرضيع وفي مواطن أخرى ولكن من أهمّ المواطن التي دعا فيها حينما خلت الساحة من كلّ أحد ولم يبق إلّا هو قبال أعدائه فلقد أكثر فيها من الدعاء والمناجاة، وكأنّه وهو على هذه الحالة في دعاء عرفات أو غيرها...

وأمّا في اللحظات الأخيرة وكان به رمق وهو مشغول بالمناجاة لربّه مستهيناً بأعدائه يناجي قائلاً: "اللهمّ متعالي المكان عظيم الجبروت شديد المحال... قريبٌ إذا دعيت ومحيطٌ بما خلقت... أدعوك محتاجاً وأرغب إليك كافياً اللهمّ احكم بيننا وبين قومنا فإنّهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا ... فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين"10.


223


الحسين بين دعائي عرفة وكربلاء:
من يتأمّل جيّداً ويقارن بين دعاء الإمام الحسين عليه السلام في الموطنين يستخلص الأمور التالية: ما انتهى إليه في دعائه في كربلاء قد بدأ به في عرفات بعد التسليم بقضائه حيث قال في دعائه في كربلاء: "صبراً على قضائك يا ربّ"، وأمّا ما شرع به في دعائه في عرفات بقوله: "الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع"، والجدير ذكره أنّ الإمام الحسين من لحظة خروجه من المدينة إلى لحظة الشهادة، كثيراً ما كان تردّد على لسانه الشريف لفظ القضاء الإلهيّ وعن التسليم المطلق لهذا القضاء.

ومن الأمور الظاهرة في الموطنين الرغبة والشوق الكبيران اللذان يغمرانه نحو خالقه، ففي دعاء عرفة يقول: "اللهمّ إنّي أرغب إليك"، وهي في بداية الدعاء، وتكرّرت منه في آخر الدعاء في كربلاء حيث قال: "وأرغب إليك كافياً"، وأيضاً يتجلّى في نفسه المقدّسة التوحيد الربوبيّ الخالص في نفسه حيث قال في دعاء عرفة : "وأشهد بالربوبيّة لك مقرّاً بأنّك ربّي"، وفي دعاء كربلاء لا زال على اعتقاده الجازم بقوله: "ما لي ربّ سواك ولا معبودٌ غيرك"، إلى غير ذلك، وهذا ما جعلنا نقول: إنّ من يسمعه من دعائه ومناجاته في كربلاء يخال الإمامَ وكأنّه في مكان آمن وهو منقطع إلى الله للدعاء والابتهال.


224


هوامش

1- بحار الأنوار، ج 93، ص 294.
2- الكافي، ج2، ص 468.
3- الكافي، ج2، ص469.
4- تنبيه الخواطر، ص463.
5- مفاتيح الجنان، ص 129.
6- شرخ نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج19، ص61؛ المناقب، الخوارزمي، ص 144 .
7- الكافي، ج2، ص 468.
8- غرر الحكم.
9- كامل الزيارات، ص253، باب 79، رقم 21.
10- مصباح المتهجّد.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي