مقدمة المجلس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للَّهِ ربِّ
العالمينَ، وأفضَلُ
الصلاةِ والسلامِ على نبيِّ
الرحمةِ والهدى محمَّدٍ
المصطفى وآلِهِ المعصومين،
أعلامِ الدينِ وقواعدِ
العلمِ، الذينَ قالَ
اللَّهُ عزَّ وجلَّ فيهِمْ:
﴿إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً﴾
2.
وجعلَ أجرَ نبيِّهِ محمدٍ
صلواتُهُ عليهِ وعليهمْ
مودَّتَهُمْ في كتابِهِ،
فقال:
﴿قُلْ
لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً إِلاَ المَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى﴾
3.
وقال محذّراً من انقلابِ
أمّتِهِ عليهِ وعليهم:
﴿وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ
أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى
عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ
اللَّهَ شَيْئاً
وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ﴾
4.
والحمدُ للَّهِ الذي مَنَّ
علينا من بينِهِمْ بسفينةِ
النجاة، ومِصباحِ
الهدى، الإمامِ الحسينِ
بْنِ عليٍّ عليهُما
السلام الذي أجمعَ
المسلمون على أنَّ رسولَ
اللَّهِ صلى اللهُ عليهِ
وآلهِ وسلم، قالَ فيه:
"حسينٌ مني وأنا من
حسين".
"حسينٌ سِبْطٌ من
الأسباط".
"أحبَّ اللَّه من أحبَّ
حسينا".
أعظمَ اللَّهُ أجورَنا
بمُصابِنا بالحسينِ عليهِ
السلام، وجعَلَنا
وإيَّاكُمْ من الطالبيَن
بثارِهِ معَ الإمامِ
المهديِّ من آلِ محمَّدٍ5
صلواتُ اللَّهِ عليهِ
وعليهِمْ.
أعظمَ اللَّهُ لكُمُ
الأجرَ سادتي يا رسولَ
اللَّهِ، ويا أميرَ
المؤمنينَ، ويا أبا
محمَّدٍ الحسنَ المُجتبى
وأهلَ البيتِ جميعاً،
وأعظمَ اللَّهُ لكَ الأجرَ
سيِّدي با بقيَّةَ اللَّهِ
في الأرضِينَ صاحبَ العصرِ
والزمانِ، بمُصابِ المولى
أبي عبدِ اللَّهِ الحسينِ
صلواتُ اللَّهِ عليهْ.
من قصيدةٍ لابن حماد عليه
الرحمة:
ويكِ يا عينُ سِحِّي دمعاً
سَكوبا
وَيكَ يا قلبُ كُن
حزيناً كئيبا
إنّ يومَ الطُفوفِ لم
يُبقِ لي مِنْ
لَذَّةِ العيشِ
والرُقادِ نَصيبا
يومَ سارت إلى الحسينِ
بنو حربٍ
بجيشٍ فنازَلُوهُ
الحروبا
وحَمَوْهُ عَنِ الفُراتِ
فَمَا ذَاقَ
سِوى المَوتِ
دُونَهُ مَشروبا
في رجالٍ باعوا النفوس
إلى اللَّهِ
فنالوا ببيعها
المَرغوبا
لستُ أنساهُ حينَ أَيقنَ
بالمَوتِ
دَعَاهُمْ فقامَ
فيهِمْ خَطيبا
ثمَّ قالَ الحقوا
بأهليكُمُ إذْ
ليسَ غيري أنا
لهُمْ مَطلوبا
فأجابوهُ ما وَفَيْناك إنْ
نحنُ
تركناكَ بالطفوفِ
غَريبا
فبكى ثم قالَ جُوزِيتُمُ
الخيرَ
فما كانَ
سَعْيُكُم أن يخيبا
وغَدا للقتالِ في يومِ
عَاشورا
فابتدا طَعناً
وضَرباً مُصيبا
فَكأنّي بصحبِهِ حولَهُ
صرْعَى
لدى كربلا شباباً
وشيبا
فكَأني أراهُ فَرداً
وَحيداً
ظامياً بينَهُمْ
يُلاقي الكُروبا
وكأني أراهُ إذْ خرَّ
مطعوناً
على حُرِّ وجهِهِ
مَكبُوبا
وكأني بمُهْرهِ قاصدَ
الفُسطا
طِ يُبدي
تَحَمْحُماً ونحيبا
وبرَزْنَ النِساءُ حتى
إذا
أبصَرنَ ظَهرَ
الجوادِ مِنهُ سَليبا
صِحْنَ بالويلِ والعَويلِ
ويندُبن
حَيارى قد شَققْنَ
الجُيوبا
وسبَّلْنَ الدُموعَ لمّا
تأمَّلْن
حُسيناً مِنَ
الثِيابِ سَليبا
فكأنّي بزينبَ إذْ رأتْهُ
عَارياً داميَ
الجَبينِ تَريبا
أقبَلَتْ نحوْ أُختِها
ثُمَّ قالتْ
ودِّعيهِ
وَدَاعَ مَنْ لَنْ يَؤوبا
أُختُ يا أُختُ كيفَ
صبرُكِ عَنهُ
وهوَ كانَ
المؤَمَّلَ المَحبوبا
ثُمَّ خرّتْ عليهِ تَلثُمُ
خَدَّيه
وقد صَارَ دمعُها
مَسكوبا
وتُناديهِ يا أخي لو رأت
عينَاكَ
حالي رأيتَ أَمراً
عجيبا
يا هِلالاً لمّا استَتَمَّ
كمالاً
غالَهُ
خسفُهُ فأبدى غُروبَا
ما توَهَّمْتُ يَا شَقيقَ
فُؤادي
كانَ هَذا مُقدّراً
مَكتوبا
يوم عاشوراء
لمّا أصبحَ الحسينُ عليهِ
السلام يومَ عاشوراءَ
وصلَّى بأصحابهِ صلاةَ
الصُبحِ، قامَ خطيباً
فيهِمْ، فحَمِدَ اللَّهَ
وأَثْنى عليهِ، ثُمَّ قالْ:
"إنَّ اللَّهَ تعالى
قد أذِنَ في قتلِكُمْ
وقتلي في هذا اليوم،
فعليكُمْ بالصبَّرِ
والقتالْ".
ثُمَّ صفَّهُمْ للحرب
وكانوا ـ على روايةٍ ـ
اثنينِ وثلاثينَ فارساً
وأربعين راجلاً.
فجعلَ زهيرَ بنَ القَيْنِ
في الميمنةْ، وحبيبَ بنَ
مُظاهِرٍ في الميسرةْ،
وَثَبتَ هوَ عليهِ السلام
في القلبْ، وأعطَى رايتَهُ
العُظمى أخاهُ العباسَ
عليهِ السلام، وجعَلُوا
البيوتَ في ظُهورِهِمْ،
وأمرَ الحسينُ عليهِ
السلام بحطَبٍ وقصَبٍ أنْ
يُجْعَلَ في خندَقٍ كانوا
حَفَروهْ، وأنْ تُضْرَمَ
بهِ النارُ فلا يأتيهِمُ
العدوُّ من ورائِهِمْ6.
وعبَّأَ عمرُ بنُ سعدٍ
أصحابَهُ، وكانوا على بعضِ
الرِواياتِ ثلاثينَ ألفاً،
فجعَلَ عمرَو بنَ
الحَجّاجِ في المَيْمَنةِ،
وشِمْرَ بنَ ذي الجوشَنِ
في الميسَرةْ، وعلى
الخَيْلِ عَزْرَةَ بنَ
قيسْ، وعلى الرَجَّالةِ
شَبَثَ بنَ رِبعيّ،
وأعطَى رايتَهُ ذُويداً
مولاه7.
ولمّا نظرَ الحسينُ عليهِ
السلام إلى جمعِهِمْ
كأنَّهُمُ السيلُ
المنحَدِرُ، رفَعَ يديهِ
بالدعاءِ قائلاً:
"أللَّهُمَ أنتَ ثِقتي
في كلِّ كَرْبْ، ورَجائي
في كلِّ شدَّةْ، وأنتَ لي
في كلِّ أمرٍ نزَلَ بي
ثِقةٌ وعُدَّةْ، كمْ منْ
همٍّ يَضْعُفُ فيهِ
الفؤادُ، وتقِلُّ فيهِ
الحِيلةُ، ويَخْذُلُ فيهِ
الصديقْ، ويَشْمَتُ فيهِ
العدُوْ، أنزلْتُهُ بكَ،
وشكَوْتُهُ إليكْ، رَغْبةً
مِنّي إليكَ عمَّنْ سِواكْ،
ففرَّجْتَهُ وكشفتَهْ،
فأنتَ وَلِيُّ كلِّ نِعمةْ،
وصاحبُ كلِّ حسنةْ،
ومنتهَى كلِّ رغبةْ"8.
وأقْبلَ القومُ يَجُولُونَ
حولَ مُعَسْكرِ الحسينِ
عليهِ السلام وينظُرونَ
إلى النّارِ تضطرِمُ في
الخندَقْ، فنادى شمرُ بنُ
ذي الجَوشنِ بأعلى صوتِهْ:
يا حسينْ، تعجَّلْتَ
بالنارِ في الدنيا قبلَ
يومِ القِيامةْ.
فرفعَ الحسينُ عليهِ
السلام رأسَهُ قائلاً:
"مَنْ هذا؟ كأنّه شِمرُ
بنُ ذي الجَوْشَنْ؟".
فقالوا: نعم.
فقالَ عليهِ السلام:
".. أنتَ أَوْلى بها
صَلِيّاً".
فقالَ لهُ مسلمُ بنُ
عَوْسَجةْ: يا ابنَ
رسولِ اللَّهْ، جُعِلْتُ
فِداكْ، وقالَ له: ألا
أرميه بسهم؟، فمنعه
الحسين عليهِ السلام:
"لا تَرْمِهِ، فإنّي
أكرَهُ أنْ
أبدأَهُمْ بقِتالْ".
وجاءَ رجلٌ منْ بَني تميمٍ
يُقالُ لهُ عبدُ اللَّهِ
بنَ حَوْزةْ، حتَّى وقَفَ
حِيالَ الحسينِ عليهِ
السلام، فقالَ لهْ:
أبشِرْ يا حسينُ بالنار!
فقال عليهِ السلام:
"بل أُقدِمُ على ربٍّ
رحيمٍ وشفيعٍ مُطاعْ".
ثُمَّ قالَ: مَنْ هذا؟
قالوا: إبِنُ حوزةْ.
قالَ عليهِ السلام:
"حازَهُ اللَّهُ إلى
النارْ".
فاضطربَتْ فرَسُهُ في
جَدْوَلٍ، فعلقَتْ
رِجْلُهُ بالرِّكابِ،
ووقَعَ رأسُهُ في الأرْضِ،
ونفَرتْ بهِ الفرَسْ9،
وعجَّلَ اللَّهُ بروحِهِ
إلى النارْ.
خطبة الحسين عليهِ
السلام الأولى
ثّم دعا الحسينُ عليهِ
السلام براحلتِهِ
فركِبَها، وتقدَّمَ نحوَ
القومِ ونادى بأعلى صوتٍ
يُسمِعُ جلَّهم:
"أيُّها الناسْ،
إسمعوا قولي ولا تعجَلُوا
حتى أعِظَكُمْ بما يحِقُّ
لكُمْ عليّ، وحتّى
أُعْذَرَ إليكُمْ، فإنْ
أعطيتُموني النَّصفَ
كنتُمْ بذلكَ أسعدْ، وإنْ
لم تُعطوني النَّصفَ من
أنفسِكُمْ فأجمعِوا
رأْيَكُمْ ثمّ لا يكُنْ
أمرُكُمْ عليكُمْ غُمّةً.
ثُمَّ اقضُوا إليَّ ولا
تُنْظِرونْ، إنَّ وليِّيَ
اللَّهُ الذي نزَّلَ
الكتابَ وهو يتولَّى
الصالحين".
ثم حمِدَ اللَّهَ وأثنى
عليه وذكَرَهُ بما هو
أهلُهُ وصلَّى على النبيِّ
وآلهِ وعلى الملائكةِ
والأنبياء عليهِم السلام.
ثم قال عليهِ السلام:
"أيها الناسْ:
فانسِبوُني فانظُروا مَنْ
أنا؟ ثُّمَ ارْجِعوا إلى
أنفسِكُمْ وعاتِبوها،
فانظُروا هلْ يصلُحُ لكُمْ
قتلي وانتهاكُ حرمتي؟!
ألستُ ابنَ بنتِ نبيِّكُمْ،
وابنَ وصيِّهِ وابنِ
عمِّهِ وأوَّلِ المؤمنِينَ
المصدِّقِ لرسولِ اللَّهِ
بما جاءَ بهِ من عندِ
ربِّهْ؟ أوليسَ حمزةُ
سيّدُ الشهداءِ عمّي؟
أوليسَ جعفرٌ الطيّارُ في
الجنَّةِ بجناحَيْنِ عمّي؟
أولَمْ يبلُغْكُمْ ما قالَ
رسولُ اللَّهِ لي ولأخي:
هذانِ سيِّدا شبابِ أهلِ
الجنَّةْ؟
فإن صدَّقتموني بما
أقولُ وهوَ الحَقُّ،
فواللَّهِ ما تعمَّدْتُ
كَذِباً منذُ علمْتُ أنَّ
اللَّهَ يمقُتُ عليْهِ
أهلَهْ، وإنْ
كذَّبتُمُوني فإنَّ فيكُمْ
منْ إنْ سأَلتُموهُ عن
ذلكَ أخبرَكُمْ. سلُوا
جابرَ بنَ عبدِ اللَّهِ
الأنصاريْ، وأبا سعيدٍ
الخِدْريّ، وسهلَ بنَ سعدٍ
الساعدي، وزيدَ بنَ أرقَمْ،
وأَنَسَ بنَ مالكْ،
يُخْبِرُوكُمْ أنّهم
سمعُوا هذهِ المقالةَ من
رسولِ اللَّهِ الي ولأخي،
أما في هذا حاجزٌ لكُمْ
عن سفكِ دمي؟!".
فقالَ لهُ شمرُ بنُ ذي
الجوشن: أنا أعبُدُ
اللَّهَ على حرفٍ إن كنت
أدري ما تقول!
فقالَ لهُ حبيبُ بنُ
مُظاهِرْ:
"واللَّهِ، إنّي
لأَراكَ تعبُدُ اللَّهَ
على سبعينَ حرْفاً! وأنا
أشهَدُ أنَّكَ صادقٌ، ما
تدري ما يقولْ، قد طبَعَ
اللَّهُ على قلبِكْ".
ثمّ قال لهم الحسين عليهِ
السلام:
"فإن كنتم في شكٍّ من
هذا! أفتشُكُّونَ أنّي
ابنُ بنتِ نبيِّكم!
فواللَّهِ ما بينَ المشرقِ
والمغربِ ابنُ بنتِ نبيٍّ
غيري فيكُمْ ولا في
غيرِكُمْ. ويحَكُمْ!
أتطلبونني بقتيلٍ منكم
قتلتُهْ! أو مالٍ لكمُ
استهلكتُهُ! أو بقِصاصِ
جراحة!؟".
فأخذوا لا يكلِّمونه.
فنادى عليهِ السلام:
"يا شَبَثَ بن ربعي،
يا حجّارَ بنَ أبجَرْ، يا
قيسَ بنَ الأشعث، يا يزيدَ
بنَ الحارث، ألم تكتُبوا
إليَّ أنْ قد أينعَتِ
الثِّمارُ واخْضَرَّ
الجَنابْ، وإنّما
تُقْدِمُ على جندٍ لك
مُجنَّدة؟!".
فقال له قيسُ بنُ الأشعث:
ما ندري ما تقول! ولكن
إِنَزِلْ على حُكْمِ بني
عمِّك، فإنّهم لا يُرونَكَ
إلا ما تحب!10.
فقال له الحسينُ عليهِ
السلام:
"أنت أخو أخيك، أتريدُ
أن يطلبَكَ بنو هاشمٍ
بأكثرَ من دمِ مسلمِ بنِ
عقيلْ، لا واللَّهِ، لا
أُعطيهِمْ بيدي إعطاءَ
الذليلِ ولا أُقِرُّ
إقرارَ العبيد. عبادَ
اللَّهِ، إنيّ عُذْتُ
بربّي وربِّكُمْ أنْ
ترجُمونْ، أعوذُ بربِّي
وربِّكُمْ من كلِّ
متكبِّرٍ لا يؤمنُ بيومِ
الحساب".
ثُمَّ إنَّهُ أناخَ
راحلتَهُ وأمرَ عُقبةَ بنَ
سَمعانَ فعَقلَها،
وأقبلوا يزحفونَ نحوَه11.
خطبة زهير بن القين12
ثم أقبل بعض أصحاب الحسين
عليه السلام وخطبوا في
القوم ومنهم زهير بن
القين فسبوه واثنوا على
عبيد الله بن زياد ورماه
شمر بسهم فقال له أبو
قالَ الراوي: فخرَجَ
إلينا زهيرُ بنُ القَيْنِ
على فرَسٍ له ذُنوبْ، شاكٍ
في السلاحِ فقالْ:
"يا أهلَ الكوفةِ،
نَذارِ لكُمْ من عذابِ
اللَّهِ نَذارِ، إنَّ حقاً
على المسلمِ نصيحةُ أخيهِ
المسلِمْ، ونحنُ حتَّى
الآنَ إخوةٌ وعلى دينٍ
واحدٍ وملَّةٍ واحدةٍ ما
لمْ يقَعْ بينَنا
وبينَكُمُ السيفُ، وأنتُمْ
للنصيحةِ مِنَّا أهلْ،
فإذا وقعَ السيفُ انقطعَتِ
العِصمةُ وكنَّا أمّةً
وأنتُمْ أمّةْ. إنَّ
اللَّهَ قدِ ابتلانا
وإيَّاكُمْ بذُريَّةِ
نبيِّهِ محمّدٍ لينظُرَ
ما نحنُ وأنتُمْ عاملونْ،
إنَّا ندْعُوكُمْ إلى
نصرِهِمْ وخِذْلانِ
الطاغيةِ عُبَيدِ اللَّهِ
بْنِ زيادْ، فإنَّكُمْ لا
تُدْرِكُونَ مِنْهما إلاَّ
سُوءَ عُمْرِ سُلطانِهما
كلِّهْ، لَيُسَمِّلانِ
أعينَكُمْ، ويُقطِّعانِ
أيديَكُمْ وأرجُلَكُمْ،
ويُمثِّلانِ بكُمْ،
ويَرْفَعانِكُمْ على
جُذوعِ النَّخْلِ،
ويقْتُلانِ أماثِلَكُمْ
وقُرَّاءَكُمْ أمثالَ
حُجْرٍ بنِ عَدِيٍّ
وأصحابِهِ وهانِئ بنِ
عُرْوةَ وأشباهِهْ".
فَسبُّوهُ، وأثْنَوْا على
عُبيدِ اللَّهِ بنِ زيادٍ
ودعَوْا لهُ، وقالُوا:
واللَّهِ، لا نَبْرَحُ
حتَّى نقتلَ صاحبَكَ ومَنْ
معَهُ أوْ نَبْعَثَ بهِ
وبأصحابِهِ إلى الأميرِ
عُبيدِ اللَّهِ سِلْماً.
فقالَ لهُمْ زهيرْ:
"عِبادَ اللَّهِ إنَّ
وُلْدَ فاطمةَ رضوانُ
اللَّهِ علَيْها أحقُّ
بالوُدِّ والنَّصْرِ
منِ ابْنِ سُميَّةْ،
فإنْ لم تنْصُروهُمْ
فأُعيذُكُمْ باللَّهِ أنْ
تقتُلُوهُمْ، فخَلُّوا
بينَ هذا الرجُلِ وبينَ
ابْنِ عمِّهِ يزيدَ بنِ
مُعاوِيةْ، فَلَعَمْري إنَّ
يزيدَ لَيَرْضى مِنْ
طاعتِكُمْ بدونِ قَتْلِ
الحسينِ عليهِ السلام".
قالَ الراوي:
فَرَماهُ شِمرُ بنُ ذي
الجوشَنِ بسهمٍ وقالْ:
اُسْكُتْ، أسْكَتَ اللَّهُ
نَأمَتَكَ، أَبْرَمْتَنا
بكَثرةِ كلامِكْ.
فقالَ لَهُ زهيرْ:
"ما إيَّاكَ أخاطِبُ،
إنَّما أنتَ بَهيمةٌ
واللَّهِ، ما أظنُّكَ
تُحْكِمُ منْ كتابِ
اللَّهِ آيتَيْنِ، فأبشِرْ
بالخِزْيِ يومَ القيامةِ
والعذابِ الأليمْ".
فقالَ لهُ شِمرْ: إنَّ
اللَّهَ قاتلُكَ وصاحِبَكَ
عنْ ساعةْ.
قال:
"أفَبِالموتِ تخوِّفني؟
فواللَّهِ، لَلْموتُ معَهُ
أحَبُّ إليَّ مِنَ
الخُلْدِ معكُمْ".
ثُمَّ أقبلَ زهيرٌ على
الناسِ رافِعاً صوتَهُ
فقالْ:
"عبادَ اللَّهِ، لا
يَغُرَّنَّكُمْ عنْ
دِينِكُمْ هذا الجَلِفُ
الجَافي وأشباهُهُ
فواللَّهِ، لا تَنالُ
شفاعةُ محمَّدِا صلى الله
عليه وآله وسلم قوماً
أراقُوا دِماءَ ذرَّيتِهِ
وأهلِ بيتِهِ وقتَلُوا
مَنْ نصَرَهُمْ وذبَّ عنْ
حريمِهِمْ".
فناداهُ رجلٌ فقالَ لَهْ:
إنَّ أبا عبدِ اللَّهِ
عليهِ السلام يقولُ لكْ:
"أقبِلْ، فلَعَمْري
لئنْ كانَ مؤمِنُ آلِ
فِرْعَوْنَ نصَحَ لقومِهِ
وأبلَغَ في الدُعاءِ،
لقَدْ نصحْتَ لهؤلاءِ
وأبلغْتَ لو نَفَعَ
النُّصْحُ والإبلاغْ"13.
خطبة بُرَير بن خُضَير
وروِيَ أنَّ الحسينَ عليهِ
السلام قالَ لبُريْرِ بنِ
خُضيرٍ الهمداني14:
"كلِّمِ القومَ يا
بُريرُ وعِظْهُمْ".
فتقدَّمَ بُرَيرٌ حتَّى
وقَفَ قريباً منَ القومِ،
والقومُ قَدْ زحَفُوا
إليهِ عنْ بِكرةِ أبيهِمْ،
فقالَ لهُمْ بريرْ:
"يا هؤلاءْ! إتَّقُوا
اللَّهَ، فإنّ ثِقْلَ
محمّدٍ قدْ أصبحَ بينَ
أظْهُرِكُمْ، هؤلاءِ
ذرْيتُهُ وعِتْرَتُهُ
وبناتُهُ وحُرَمُهْ!
فهاتُوا ما عندَكُمْ! وما
الذي تريدُونَ أنْ
تَصْنَعُوا بهِمْ؟!".
فقالوا: نُرِيدُ أنْ
نمكِّنَ منهُمُ الأميرَ
عُبيدَ اللَّهِ بنَ زيادٍ
فيرَى رأيَهُ فيهِمْ
فقالَ بريرْ:
"أفلا ترْضَوْنَ
منْهُمْ أنْ يَرْجِعُوا
إلى المكانِ الذي
أقبَلُوا منهْ؟ ويلَكُمْ
يا أهلَ الكوفةْ! أنسيتُمْ
كُتُبَكُمْ إليهِ
وعُهُودَكُمُ التي
أعطيتُمُوها منْ أنفسِكُمْ
وأشهَدْتُمُ اللَّهَ
علَيْها؟ وكفَى باللَّهِ
شهيداً! وَيْلَكُم،
دعَوْتُمْ أهلَ بيتِ
نبيِّكُمْ وزعَمْتُمْ
أنَّكُمْ تقتُلُونَ
أنفسَكُمْ منْ دونِهِمْ،
حتَّى إذا أتَوْكُمْ
أسْلَمْتُمُوهُمْ
لعُبَيْدِ اللَّهْ!
وحلَأْتمُوهُمْ عن ماءُ
الفُراتِ الجاري!
بْئِسَما
خلَفْتُمْ محمّداً في
ذرِّيَّتِهْ! ما لكُمْ!
لا سَقاكُمُ اللَّهُ يومَ
القيامةْ! فبئِسَ القومُ
أنتُمْ!".
فقالَ لهُ نفَرٌ منهم:
يا هذا ما نَدْرِي ما
تقولْ؟
فقالَ بريرْ:
"الحمدُ للَّهِ الذي
زادَني فيكُمْ بصيرةْ،
أللَّهُمَّ إنّي أبرأُ
إليكَ منْ فِعالِ هؤلاءِ
القومْ! أللّهُمَّ أَلْقِ
بأسَهُمْ بينَهُمْ حتى
يَلْقُوْكَ وأنتَ عليهِمْ
غَضْبانْ!".
فجعَلَ القومُ يَرْمُونَهُ
بالسِّهامِ، فَرجَعَ بريرٌ
إلى وَرائِهْ15.
خطبة الحسين عليه السلام
الثانية
وتقدَّمَ الحسينُ عليهِ
السلام ورأَى صفوفَهُمْ
كالسَّيْلِ فخطَبَ فقالْ:
"الحمدُ للَّهِ الذي خلَقَ
الدنيا فجعَلَها دارَ
فَناءٍ وزَوالْ،
مُتصرِّفةً بأهلِها حالاً
بعدَ حالْ، فالمغرورُ مَنْ
غرَّتْهُ، والشقيُّ من
فتَنَتْهُ، فلا
تغرَّنَّكُمُ الحياةُ
الدنيا ولا يَغُرَّنَّكُمْ
باللَّهِ الغَرورْ".
وممَّا قالْ:
فنِعْمَ الربُّ ربُّنَا
وبئِسَ العِبادُ أنتُمْ،
أقرَرْتُمْ بالطاعةِ
وآمنتُمْ بالرَّسولِ
محمَّدٍ، ثُمَّ أنتُمْ
رجَعْتُمْ إلى ذُرّيَّتِهِ
وعِتْرتِهِ تريدُونَ
قتلَهُمْ، لقدِ استحْوَذَ
عليكُمُ الشيطانُ
فأنساكُمْ ذِكْرَ اللَّهِ
العظيمْ، فتَبّاً لكُمْ
ولمِا تُرِيدُونْ، إنَّا
للَّهِ وإنَّا إليهِ
راجعونْ، هؤلاءِ قومٌ
كفَرُوا بعدَ إيمانِهِمْ
فبُعْداً للقَوْمِ
الظالمين16.
تبَّاً لكم أيَّتُها
الجَماعةُ وتَرْحاً،
إسْتَصْرَخْتُمونا
والِهينْ، فأصرَخْناكُمْ
مُوجِفينْ، سَلَلْتُمْ
علَيْنا سيفاً لنا في
أيمانِكُم، وحَشَشْتُمْ
علينا ناراً اقْتدَحْناها
على عَدُوِّنا وعدوِّكُم،
فأصبحتُمْ إلْباً
لأعدائِكُمْ على
أوليائِكُمْ، بغيرِ عَدْلٍ
أفشَوْهُ فيكُمْ، ولا أملٍ
أصبحَ لكُمْ فيهِمْ. فهلا
لكُمُ الويلاتْ،
تركْتُمُونا والسيفُ
مَشِيمٌ، والجأْشُ طامِنٌ،
والرأيُ لمَا يُستحْصَفْ،
ولكنْ أسرعْتُمْ إلَيْها
كطَيْرةِ الدُبى،
وتداعيتُمْ
إلَيْها كتهافُتِ الفَراشْ،
فَسُحْقاً يا عبيدَ
الأمّةِ وشُذَّاذَ
الأحزابْ، ونَبَذَةَ
الكِتابْ، ومُحرِّفي
الكَلِم، وعصبةَ الآثامِ
ونفثَةَ الشَيطانْ،
ومُطْفئِي السُّنَنْ،
أهؤلاءِ تَعْضُدُونَ
وعنَّا تتخاذَلُونْ؟ أجلْ
واللَّهْ، ألغَدْرُ فيكُمْ
قديمْ، وشَجَتْ إليهِ
أصولُكُمْ وتأزَّرَتْ
عليهِ فُروعُكُمْ،
فكُنتُم أخبثَ ثَمَرٍ،
شجّاً للناظرِ وأُكْلةً
للغاصِبْ، ألاَ وإنَّ
الدَعِيَّ ابنَ الدعيِّ
قدْ رَكَزَ بينَ اثنتينْ،
بينَ السَّلَّةِ
والذِلَّةْ، وهيهاتَ
مِنَّا الذِّلَّةُ، يأبى
اللَّهُ ذلكَ لنا ورسولُهُ
والمؤمنونْ، وحُجورٌ
طابَتْ وطهُرَتْ، وأنوفٌ
حَميةٌ ونفوسٌ أبيَّةٌ،
مِنْ أنْ نُؤْثِرَ طاعةَ
اللئامِ على مَصارِعِ
الكرامْ، ألا وإني زاحفٌ
بهذهِ الأُسرةِ معَ
قِلَّةِ العددِ وخُذلةِ
الناصرْ.
فـــإنْ نــــــَهزِمْ
فــهزَّامُونَ قِدْمَاً
وإن نُغلَبْ فغيرُ
مُغلَّبينا
وما إنْ طِبُّنَا جُبنٌ
ولَكِنْ
منَايانا ودولةُ
آخرينا
إذا ما الموتُ رَفَّعَ عن
أُناسٍ
كَلاكِلَهُ أناخَ
بآخرينا
فَأفنى ذلِكُم سَرواتِ
قَومي
كما أفنَى القُرونَ
الأوَّلينا
فلو خَلَدَ المُلوكُ إذاً
خَلَدْنَا
ولو بقيَ الكِرامُ
إذاً بقينا
فقُل للشامتينَ بنا
أَفِيقُوا
سيَلقَى الشامِتونَ
كما لَقينا
ثمَّ أيْمُ اللَّهِ، لا
تَلْبَثُونَ بعدَها إلاَّ
كرَيْثِما يُركَبُ الفرَسْ،
حتَّى تدورَ بكُمْ دَوْرَ
الرَّحى وتقلقَ بكُمْ
قلَقَ المِحْوَرْ، عَهْدٌ
عَهِدَهُ إليَّ أبي عنْ
جدِّي. فأَجْمِعُوا
أمرَكُمْ وشُركاءَكُم، ثمَّ
لا يكُنْ أمرُكُمْ عليكُمْ
غُمَّةً ثُمَّ اقضُوا إليَّ
ولا تُنْظِرونْ، إنّي
توكَّلْتُ على اللَّهِ
ربِّي وربِّكُمْ، ما منْ
دابَّةٍ إلاّ هوَ آخذٌ
بناصِيتِها، إنَّ ربّي
على صراطٍ مستقيْم.
أللَّهمَّ احبِسْ عنْهُمْ
قَطْرَ السماءِ وابعَثْ
عليهِمْ سِنينَ كسِنِي
يُوسُفْ، وسلِّطْ عليهِمْ
غُلامَ ثَقيفٍ
فيَسُومَهُمْ كأساً
مُصَبَّرةً، فإنَّهُمْ
كذَبُونا وخذَلُونا، وأنتَ
ربُّنا عليكَ توكَّلْنا
وإليكَ أنَبْنا وإليكَ
المصير"17.
ثُمَّ نزَلَ عليهِ السلام
ودعا بفَرَسِهِ، فركِبَهُ
وعَبَّأ أصحابَهُ للقِتالِ،
واستدعَى عُمَرَ بنَ سعدٍ
ـ وكانَ كارِهاً لا يُحِبُّ
أنْ يأتيَهُ ـ فلمَّا
حَضَرَ قالَ لهُ عليهِ
السلام:
"أيْ عُمَرْ، أتزْعُمُ
أنَّكَ تقتُلُني
ويُولِّيكَ الدَعِيُّ ابنُ
الدَعِيِّ بلادَ الريِّ
وجَرْجانْ؟ واللَّهِ لا
تَهْنَأُ بذلكَ أبداً،
عهدٌ معهودْ، فاصنَعْ ما
أنتَ صانعْ، فإنَّكَ لا
تفرَحُ بعدي بدُنيا ولا
آخرةْ، وكأنّي برأسِكَ
على قَصَبةٍ قدْ نُصِبَ
بالكوفْة، يترامَاهُ
الصِبيانُ ويتَّخِذُونَهُ
غرَضَاً بينَهُمْ"18.
فغصِبَ ابنُ سعدٍ منْ
كلامِهِ، وصَرَفَ وَجْهَهُ
عنهُ، ثُمَّ نادى
بأصحابِهْ:
ما تنتظِرُونْ، إحمِلُوا
بأجمَعِكُمْ، إنَّما هيَ
أكْلةٌ واحدةْ19.
موقف الحر الرياحي
وجاءَ الحرُّ بنُ يزيدَ
الرياحيُّ، إلى عُمرَ بنِ
سعدٍ، فقالَ لهْ: "أمقاتلٌ
أنتَ هذا الرجلْ؟".
قالَ: إيْ واللَّهِ
قتالاً أيْسَرُهُ أنْ
تسقُطَ الرؤوسُ وتَطِيحَ
الأيدي.
قالَ الحرّ:
"أفما لكُمْ في واحدةٍ
منَ الخصالِ التي عرَضَ
عليكُمْ رضىً؟".
قالَ عمرُ بنُ سعدْ:
أما واللَّهِ، لو كانَ
الأمرُ إلَيَّ لفعَلْتُ،
ولكنَّ أميرَكَ قد أبى
ذلكْ.
فأقْبلَ الحُرُّ حتَّى
وقَفَ منَ الناسِ موقِفاً،
ومعَهُ رجلٌ منْ قومِهِ
يُقالُ له قُرَّةُ بنُ
قيسْ، فقال:
يا قرةُ، هل سقَيْتَ
فرسَكَ اليومْ؟
قالَ: لا.
قالْ: أما تُرِيدُ أنْ
تَسْقِيَهْ؟
قالْ: فظنَنْتُ - واللَّهِ
- أنَّهُ يريدُ أنْ
يتنحَّى فلا يشهدَ القتالَ،
وكرِهَ أنْ أراهُ حينَ
يصنَعُ ذلكْ.
فقلتُ لهْ: لمْ أسقِهِ
وأنا منطلِقٌ فأَسقِيهْ.
قالْ: فاعتزلْتُ ذلكَ
المكانَ الذي كانَ فيهِ،
فأخَذَ يدنُو منْ حسينٍ
قليلاً قليلاً.
فقالَ لهُ رجُلٌ من قومِهِ
يُقالُ لهُ المهاجرُ بنُ
أوْسْ: ما تريدُ يا ابنَ
يزيدْ؟ أتريدُ أنْ
تَحْمِلْ؟
فسكَتَ وأخذَتْهُ رَعْدةْ.
فقالَ لهُ صاحبُهْ: يا
ابنَ يزيدْ، واللَّهِ، إنَّ
أمْرَكَ لمَريبٌ، واللَّهِ،
ما رأيتُ منكَ في موقِفٍ
قطُّ مثلَ شيءٍ أراهُ
الآنْ، ولو قِيلَ لي من
أشجَعُ أهلِ الكوفةِ رجلاً
ما عدَوْتُكْ، فما هذا
الذي أرَى منكْ؟
قالَ الحرّ:
"إنّي - واللَّهِ -
أخيِّرُ نفسي بينَ
الجنَّةِ والنارْ،
وواللَّهِ لا أَختارُ على
الجنَّةِ شيئاً ولو
قطِّعْتُ وحرِّقْتْ".
ثُمَّ ضرَبَ فرسَهُ فلحقَ
بالحسينِ عليهِ السلام
وقالَ لهْ:
"جَعَلنِيَ اللَّهُ فِداكَ
يا ابنَ رسولِ اللَّهْ،
أنا صاحِبُكَ الذي
حبَسْتُكَ عنِ الرجوعِ
وسايَرْتُكَ في الطريقْ،
وجعْجَعْتُ بكَ في هذا
المكانْ. واللَّهِ الذي
لا إلهَ إلاَّ هوَ، ما
ظننْتُ أنَّ القومَ
يَرُدُّونَ عليكَ ما
عرَضْتَ عليهِمْ أبداً
ولا يبلُغُونَ منكَ هذهِ
المَنْزِلةْ. فقلْتُ في
نفسي: لا أبالي أنْ
أُطِيعَ القومَ في بعضِ
أمرِهِمْ ولا يرَوْنَ
أنّي خرَجْتُ من طاعتِهِمْ.
وأمَّا هُمْ فسيَقْبَلُونَ
منْ حسينٍ هذهِ الخِصالَ
التي يَعْرِضُ عليهِمْ،
وواللَّهِ، لو ظنَنْتُ
أنَّهُمْ لا يقبَلُونَها
منكَ ما رَكِبْتُها منكْ،
وإني قدْ جئتُكَ تائباً
ممَّا كانَ منّي إلى ربّي،
ومُواسِياً لكَ بنفسي
حتَّى أموتَ بينَ يديْكْ،
أفترَى ذلكَ لي توبةْ؟".
قال عليهِ السلام:
"نعَمْ يَتُوبُ اللَّهُ
عليكَ ويغَفِرُ لكْ. ما
اسمُكْ؟".
قالْ:
"أنا الحرُّ بنُ يزيدْ".
قالَ عليهِ السلام:
"أنتَ الحرُّ كما
سمَّتْكَ أمُّكْ، أنتَ
الحرُّ إنْ شاءَ اللَّهُ
في الدنيا والآخرةْ،
إنزِلْ".
قالْ:
"أنا لكَ فارِساً خيرٌ
مِنّي راجلاً، أقاتِلُهُمْ
على فرَسي ساعةً وإلى
النُزولِ ما يَصِيرُ آخرُ
أمري".
قالَ الحسينُ عليهِ
السلام:
"فاصنَعْ - يرْحَمُكَ
اللَّهُ - ما بدا لكْ"20.
فاستقدمَ أمامَ أصحابِهِ
ثُمَّ قالْ:
أيُّها القومْ، ألا
تقبَلُونَ منَ الحسينِ
خَصْلةً منْ هذهِ الخِصالِ
التي عرَضَ عليكُمْ
فُيعافِيَكُمُ اللَّهُ منْ
حرْبِهِ وقِتالهْ؟
قالوا: هذا الأميرُ عمرُ
بنُ سعدٍ فكلِّمْهْ،
فكلَّمَهُ بمثلِ ما
كلَّمَهُ بهِ من قَبْلُ
وبمثلِ ما كلَّمَ بهِ
أصحابَهْ.
قالَ عُمَرْ: قد
حرَصْتُ، لو وجَدْتُ إلى
ذلكَ سبيلاً فعَلْتْ.
فقالْ:
"يا أهلَ الكوفةْ،
لأُمِّكُمُ الهَبَلُ
والعِبرُ إذْ دعَوْتُموهُ
حتَّى إذا أتاكُمْ
أسْلَمتُمُوهْ، وزعَمْتُمْ
أنَّكُمْ قاتلُو أنفسِكُمْ
دونَهُ ثُمَّ عَدَوْتُمْ
عليهِ لِتَقْتلُوهْ.
أمسكتُمْ بنفسِهِ،
وأخذْتُمْ بكَظْمِهِ،
وأحطْتُمْ بهِ منْ كلِّ
جانبْ فمنَعْتُمُوهُ
التوجُّهَ في بلادِ
اللَّهِ العريضةِ حتَّى
يأْمَنَ ويأمنَ أهَلُ
بيتِهِ، وأصبحَ في
أيديكُمْ كالأسيرِ لا
يَمْلِكُ لنفسِهِ نَفْعاً
ولا يَدْفَعُ عنْها
ضَرَّاً، وحَلأْتُموهُ
ونساءَهُ وصِبْيَتَهُ
وأصحابَهُ عنْ ماءِ
الفراتِ الجاري (...)،
وها هُمْ قد صَرَعَهُمُ
العطَشْ، بِئْسَما
خَلفْتُمْ مُحمَّداً في
ذريَّتِهْ، لا أسْقاكُمُ
اللَّهُ يومَ الظَمَأِ إنْ
لم تتُوبوا وتَنْزِعُوا
عمَّا أنتُمْ عليهِ منْ
يومِكُمْ هذا في ساعتِكُمْ
هذِهْ".
فحمَلَتْ عليهِ رَجَّالةٌ
لهُمْ ترميهِ بالنَّبْلِ،
فأقبلَ حتَّى وقَفَ أمامَ
الحسينِ عليهِ السلام21.
بداية الحرب
وتقدَّمَ عمرُ بنُ سعدٍ
فرمَى نحوَ عسكَرِ الحسينِ
عليهِ السلام بسهمٍ وقالْ:
إشهَدُوا لي عندَ
الأميرِ أنّي أوَّلُ مَنْ
رمى. وأقْبلَتِ
السِّهامُ مَن القومِ
كأنَّها المطَرْ.
فقالَ عليهِ السلام
لأصحابِهْ:
"قومُوا رحِمَكُمُ
اللَّهُ إلى الموتِ الذي
لا بدَّ منهْ، فإنَّ هذهِ
السهامَ رُسُلُ القومِ
إليكم"22.
فلَمَّا ارْتَمَوْا
بالسهامِ خرَجَ يَسارٌ
مولَى زيادِ بنِ أبي
سفيانْ، وسالِمٌ مولى
عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ
زيادْ، فقالا: مَنْ
يُبارِزْ؟ لِيخْرُجْ
إلينا بعضُكُمْ!
فوثَبَ حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ
وبريرُ بنُ خُضَيرٍ، فقالَ
لهما الحسينُ عليهِ
السلام:
"إِجلسا...".
فقامَ عبدُ اللَّهِ بنُ
عُمَيرٍ الكلبيُّ، فقالْ:
"أبا عبدِ اللَّهْ!
رَحِمَكَ اللَّهْ، إِئذَنْ
لي فأَخْرُجَ إلَيْهِما".
فأذِنَ لهُ فشدَّ عليهِما
وقتلَهما.
فأخذَتْ أمُّ وهبٍ
امرأتُهُ عمُوداً ثُمَّ
أقبلَتْ نحوَ زوجِها تقولُ
لهْ:
"فِدَاكَ أبي وأمي!
قاتِلْ دونَ الطيِّبينَ
ذريَّةِ مُحمَّدْ".
فأقبلَ إليها يردُّها نحوَ
النساءْ، فأخذَتْ
تُجَاذِبُ ثوبَهُ، وهي
تقول:
"لن أدعَكَ دونَ أن
أموتَ معَكْ".
فناداها الحسينُ عليهِ
السلام:
"جُزِيتُمْ منْ أهلِ
بيتٍ خيراً، إِرجِعِي
رحِمَكِ اللَّهُ إلى
النساءْ، فإنَّهُ ليسَ
على النساءِ قتالْ"23.
الحملة الأولى
وكانتِ الحملةُ الأُولى
على مُعَسكرِ الإمامِ
الحسينِ عليهِ السلام،
فحمَلَ عمرُو بنُ
الحَجَّاجِ في مَيْمَنةِ
جيشِ عُمَرَ بنِ سعدٍ من
نَحْوِ الفُراتِ
فاضطربُوا ساعةْ، وما
ارتفعَتِ الغَبَرَةُ إلا
ومُسلِمُ بنُ عوسجةَ
الأسدِيُّ صريعْ، فمشَى
إليهِ الحسينُ عليهِ
السلام فإذا بهِ رَمَقٌ،
فقالَ لهْ:
"رحِمَكَ اللَّهُ يا
مُسلِمْ،
﴿فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا﴾".
ودَنا منهُ حبيبُ بنُ
مظاهرٍ، فقالْ:
"عزَّ عليَّ مصرَعُكَ
يا مُسلِمْ! أبشِرْ
بالجنَّةْ!".
فقالَ لهُ مسلمٌ قولاً
ضعيفاً:
"بشَّرَكَ اللَّهُ
بخيرْ".
فقالَ لهُ حبيبْ:
"لولا أنّي أعلَمُ أني
في أثَرِكَ لاحِقٌ بكَ منْ
ساعتي لأحببْتُ أنْ
تُوصِيَني بكلِّ ما
أهمَّكْ"24.
فقالَ لهُ مسلمْ:
"فإنّي أُوصِيكَ بهذا
ـ وأشارَ إلى الحسينِ
عليهِ السلام ـ فقاتِلْ
دونَهُ حتَّى تموتْ".
فقالَ لهُ حبيبْ:
"لأُنعِمَنَّكَ عيناً".
ثُمَّ فاضَتْ روحُهُ
الطاهرةُ، رِضوانُ اللَّهِ
عليهْ25.
وهجَمَ شمرُ بنُ ذي
الجوشَنِ في أصحابِهِ،
على خِيَمِ الحسينِ عليهِ
السلام، فحمَلَ عليهِمْ
زهيرُ بنُ القينِ رحمه
اللَّه في عشَرَةٍ منْ
أصحابِ الحسينِ عليهِ
السلام فكشَفَهُمْ عنِ
الخِيَمْ، وقُتِلَ
بعضُهُمْ وتفرَّقَ
الباقون26.
وخَرَجَ يزيدُ بنُ معْقِلٍ
منْ جيشِ ابْنِ سعدٍ،
فقالْ: يا بريرَ بنَ
خضيرْ كيفَ ترَى اللَّهَ
صنَعَ بكْ؟
قالْ:
"صنَعَ اللَّهُ -
واللَّهِ - بي خيراً
وصنَعَ اللَّهُ بكَ شرّاً".
قالَ: كذَبْتَ وقبلَ
اليومِ ما كنتَ كذّاباً.
فقالَ لهُ بُرَيرْ:
".. لِنَدْعُ اللَّهَ
أنْ يلعنَ الكاذبَ وأنْ
يقْتُلَ المُبْطِلَ ثُمَّ
اخرُجْ فلأُبارِزْكْ".
قالْ: فخَرَجا فرفَعا
أيديَهُما إلى اللَّهِ
يَدْعُوانِهِ أنْ يلعنَ
الكاذبَ وأنْ يَقْتُلَ
المُحِقُّ المُبطِلَ. ثُمَّ
برَزَ كلُّ واحدٍ منْهُما
لصاحبِهِ فاختلَفا
ضرْبتَيْنِ فضرَبَ يزيدُ
بنُ مَعْقِلٍ بريرَ بنَ
خضيرٍ ضربةً خفيفةً لمْ
تَضُرَّهُ شيئاً، وضرَبَهُ
بريرُ بنُ خضيرٍ ضربةٍ
قدَّتِ المِغْفَرَ
وبلَغَتِ الدِماغْ، فخَرَّ
كأنَّما هوَى من حالِقٍ،
وسيفُ ابْنِ خضيرٍ لَثابتٌ
في رأسه27.
ثُمَّ تراجَعَ القومُ إلى
الحسينِ عليهِ السلام،
فحمَلَ شمرُ بنُ ذي
الجوشَنِ –
لعَنَهُ اللَّهُ - على
أهلِ المَيْسَرةِ
فَثَبتُوا لَهُ فطاعَنُوهُ،
وأُحِيطُ بالحسينِ عليهِ
السلام وأصحابِهِ من كلِّ
جانِب، وكانَ أصحابُ
الحسين عليهِ السلام
أطوادَ بصيرةٍ وهدىً
وثَباتٍ، يقتُلونَ كلَّ
مَنْ يَبْرُزُ إليهِمْ.
فقالَ عمرُو بنُ الحجَّاجِ
ـ وكانَ على الميمنةْ ـ
ويلَكُمْ، يا حُمَقاءْ.
مهلاً! أتدْرُونَ مَنْ
تُقاتِلونْ؟ إنَّما
تقاتلُونَ فرسانَ المِصرِ،
وأهلَ البصائرِ وقوماً
مستمِيتينَ، لا يبرُزُ
لهُمْ منكُمْ أحدٌ إلاَّ
قتلُوهُ على قِلَّتِهِمْ،
واللَّهِ، لو لم
ترْمُوهُمْ إلاَّ
بالحجارةِ لقتَلْتُمُوهُمْ.
فقالَ ابنُ سعدٍ: صدَقْتْ.
الرَّأيُ ما رأيْتْ،
فأرْسَلَ في العسكَرِ
يعزُمُ عليهمْ أنْ لا
يبارِزَ رجلٌ منْكُمْ،
فلو خرجْتُمْ وُحْداناً
لأَتَوْا عليكُمْ
مُبارزَةْ28.
فأخذَتِ الخيلُ تحمِلُ،
وأصحابُ الحسينِ
يَثْبُتُونَ، وإنَّما هُمُ
اثنانِ وثلاثونَ فارساً29،
ولم يكونُوا يحمِلونَ على
جانبٍ من هذا الجيشِ إلا
كَشفُوهْ.
فلمّا رأى عَزْرةُ بنُ
قيسٍ - وهُوَ على خيلِ
أهلِ الكوفةِ - أنَّ
خيلَهُ تنكشِفُ منْ كلِّ
جانبٍ، بعَثَ إلى عُمَرَ
بنِ سعدٍ فقالْ: أما ترَى
ما تلقَى خيلي مُذِ اليومَ
منْ هذهِ العِدَّةِ
اليسيرةْ؟، إِبعَثْ
إليهِمُ الرِّجالَ
والرُّماةْ (..)، فبَعَثَ
المجَفِّفةَ ـ وهيَ قوةٌ
كانَتْ تحتمِي معَ
خُيولِها بالدُروعِ
وخمسَمِئةٍ منَ الرُّماةِ،
فأقبَلُوا حتى إذا دنَوْا
من الحسين عليهِ السلام
وأصحابِهِ رشقُوهُمْ
بالنَّبْلِ، فلم
يَلْبَثُوا أنْ عَقَرُوا
خيولَهُمْ وصاروا
رَجَّالةً كلُّهُمْ30.
صلاة الظهيرة
وبقيَ القِتالُ على
أَشُدِّهِ حتَّى انتصفَ
النهارْ، فكانَ إذا قُتِلَ
الرجُلُ والرجلانِ من
أصحابِ الحسينِ عليهِ
السلام يَبِينُ ذلكَ
فيهِمْ لِقلَّتِهِمْ، ولا
يَبينُ القتْلُ في جيشِ
عُمَرَ بْنِ سعدٍ معَ
كَثْرةِ مَنْ يُقتَلُ
منْهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ31.
وكان قد قُتلَ منْ أنصارِ
الإمامِ عليهِ السلام
أكثرُ منْ أربعينْ32.
واقتربَ وقتُ زَوالِ
الشمسِ، فقالَ أبو ثُمامةَ
الصائدِيّ:
"يا أبا عبدِ اللَّهْ!
نفسِي لكَ الفِداءْ، إنّي
أرَى هؤلاءِ قدِ اقتربوا
منكْ، لا واللَّهِ، لا
تُقْتَلُ حتَّى أُقتلَ
دونَكَ إنْ شاءَ اللَّهْ،
وأُحِبُّ أنْ ألقَى ربِّيَ
وقد صلَّيْتُ هذهِ الصلاةَ
التي قد دَنا وقتُها".
فرفَعَ الحسينُ عليهِ
السلام رأسَهَ ثم قالْ:
"ذَكرْتَ الصلاةَ،
جعلَكَ اللَّهُ من
المُصلِّينَ الذاكرين،
نعَمْ هذا أوَّلُ وقتِها".
ثُمَّ قالَ عليهِ السلام:
"سَلُوهُمْ أنْ
يَكُفُّوا عنَّا حتّى
نصلّي".
ففعلوا33.
فقالَ لهُمُ الحُصَينُ بنُ
تميمْ: إنَّها لا
تُقْبَلْ.
فردَّ عليهِ حبيبُ بنُ
مُظاهِرْ:
"زعمْتَ الصلاةَ منْ
آلِ الرسولِ صلَّى اللَّهُ
عليهِمْ وسلم لا تُقْبَلُ،
وتُقْبَلُ منكَ يا
خَمَّار!"34.
فحمَلَ عليهِ الحصينُ بنُ
تميمٍ فخرَجَ إليهِ حبيبُ
بنُ مُظاهِرٍ فضرَبَ وجْهَ
فرسِهِ بالسيفِ، فشَبَّ
ووقَعَ عنهْ، وحمَلَهُ
أصحابُهُ فاستنقذُوهْ.
وأخذَ حبيبٌ يقولْ:
أُقسِمُ لو كنا لكم
أعدادا
أو شَطْرَكُمْ
ولَّيْتُمُ أكتادا
يا شرَّ قومٍ
حسَبَاً وآداً
وجعَلَ يقولُ يومَئذٍ:
أنتُمْ أعدُّ عُدَّةً
وأكثرُ
ونحنُ أوفَى منكُمُ
وأصْبَر
ونحنُ أعلى حُجَّةً
وأظهَرُ
حقاً وأتقَى منكُمُ
وأعْذَرُ
وقاتلَ قتالاً شديداً
حتّى استُشْهِدَ، فهدَّ
ذلكَ الحسينَ عليهِ
السلام، وقال:
"عندَ اللَّهِ أَحتسِبُ
نفسي وحُماةَ أصحابي"35.
وكانَ حبيبٌ منْ خواصِّ
أميرِ المؤمنِينَ عليهِ
السلام، ومنَ السبعينَ
الذين نصَرُوا الحسينَ
عليهِ السلام ولَقُوا
جبالَ الحديدِ
واستقبَلُوا الرِماحَ
بصُدورِهِمْ والسيوفَ
بوُجوهِهِمْ، وهمْ
يُعْرَضُ عليهِمُ الأمانُ
والأموالُ فيأبَوْنَ
ويقولُونَ لا عُذْرَ لنا
عندَ رسولِ اللَّهِِ إنْ
قُتِلَ الحسينُ وفينا
عَيْنٌ تَطْرِفُ حتَّى
قُتلوا حولَهْ..
ولما قُتِلَ حبيبٌ أخَذَ
الحرُّ يقاتِلُ راجلاً،
فحمَلَ على القومِ معَ
زهيرِ بنِ القَيْنْ، فكانَ
إذا شَدَّ أحدُهُما
فاستلْحَمَ شدَّ الآخرُ
واستنقذَهْ، ففعَلا ذلكَ
ساعةْ.
فبَيْنا الناسُ
يتجاوَلُونَ ويقْتتِلُونَ
والحُرُّ يَحْمِلُ على
القومِ مُقْدِماً، فبرَزَ
لهُ يزيدُ بنُ سُفيانْ،
فما لَبِثَ الحرُّ أنْ
قتلَهُ(..)36.
واستبسَلَ يضربُهُمْ
بسيفِهِ وتكاثَرُوا عليهِ
حتَّى استُشهِدَ رِضوانُ
اللَّهِ عليهْ، فحمَلَهُ
أصحابُهُ ووضعُوهُ بينْ
يدَيْ الإمامِ الحسينِ
عليهِ السلام وبهِ رَمَقٌ،
فجعَلَ الحسينُ عليهِ
السلام يمسَحُ وجهَهُ
ويقولْ:
"أنتَ الحرُّ كما
سمَّتْكَ أمُّكْ، وأنتَ
الحرُّ في الدنيا وأنتَ
الحرُّ في الآخرةْ"37.
وصلَّى الحسينُ عليهِ
السلام بأصحابِهِ صلاةَ
الظُّهرْ.
فوصَلَ إلى الحسينِ عليهِ
السلام سهمٌ فتقدَّمَ
سعيدُ بنُ عبدِ اللَّهِ
الحنَفِيُّ ووقَاه بنفسِهِ
ما زالَ ولا تخَطَّى
حتَّى سقَطَ إلى الأرضِ
وهُوَ يقولْ:
"أللَّهُمَّ العنْهُمْ
لعنَ عادٍ وثمودْ، اللهمَ
أَبْلِغْ نبيَّكَ عنّي
السلامَ وأبْلِغْهُ ما
لَقِيتُ من ألَمِ الجِراحِ
فإنّي أردْتُ ثوابَكَ في
نَصْرِ ذريَّةِ نبيِّكْ".
ثُمَّ التفتَ إلى الحسينِ
عليهِ السلام، فقالَ لهْ:
"أَوفَّيْتُ يا ابنَ
رسولِ اللَّهْ؟".
فقالَ الإمامُ عليهِ
السلام:
"نعمْ، أنتَ أمامي في
الجنَّة".
ثُمَّ قَضى نحبَهُ رِضوانُ
اللَّهِ عليهِ، فوُجِدَ
بهِ ثلاثَةَ عشَرَ سَهْماً
سوَى ما بهِ منْ ضَرْبِ
السيوفِ وطَعْنِ الرِماحْ38.
الحملة الثانية
ثمَّ قالَ عليهِ السلام
لبقيَّةِ أصحابِهْ:
"يا كِرامْ، هذهِ
الجنَّةُ فُتحَتْ
أبوابُها واتَّصلَتْ
أنهارُها وأينعَتْ
ثِمارُها، وهذا رسولُ
اللَّه صلى الله عليه
وآله وسلم والشهداءُ
الذينَ قُتلِوا في سبيلِ
اللَّهِ يتوقَّعُونَ
قدومَكُمْ، ويتباشَرُونَ
بكُمْ، فحامُوا عن دينِ
اللَّهِ ودينِ نبيِّهِ،
وذُبُّوا عن حُرَمِ رسولِ
اللَّه".
وجعلَ أصحابُ الحسينِ
عليهِ السلام يسارِعونَ
إلى القِتالِ بينَ يديهِ39،
وكانوا كما قِيلَ فيهِمْ:
قومٌ إذا نُودُوا لدفع
مُلِمَّةٍ
والخيلُ بينَ
مُدعَّسٍ ومُكَرْدَسِ40
لبِسُوا القلوبَ على
الدروعِ كأنَّهُمْ
يتهافتُونَ إلى
ذَهابِ الأنفُسِ41
وكانَ كلُّ مَنْ أرادَ
القِتالَ يأتي إلى الحسينِ
عليهِ السلام يودِّعُهُ،
ويقولْ:
"السلامُ عليكَ با ابنَ
رسولِ اللَّهْ".
فيجيبُهُ الحسينُ عليهِ
السلام:
"وعليكَ السلامُ، ونحنُ
خلفَكْ، ويقرأْ:
﴿فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا﴾"42.
أَفْدِي قرابينَ الإلهِ
مجزَّرينَ كالأضاحي على
الفُراتِ
خيرُ الهدايةِ أنْ يكونَ
الهَدْيُ مِنَ الهُداةِ
من بعدِ ما قَضَوُا
الصلاةَ قضَوْا فِداءً
للصلاةِ43
واستأذنَ الصحابيُّ
الجليلُ أَنَسُ بنُ
الحارِثِ الكاهليُّ
الإمامَ الحسينَ عليهِ
السلام بالمبارَزةِ فأذِنَ
لهُ، فنزَلَ إلى الميدانِ
شادّاً وسَطَهُ بالعِمامةِ،
رافعاً حاجبَيْهِ
بالعِصَابةِ لِكِبَرِ
سِنِّه، فلمّا رآهُ
الحسينُ عليهِ السلام
بهذهِ الهيئةِ، بكى، وقالَ
لهْ:
"شكَرَ اللَّهُ لكَ يا
شيخْ".
وكانَ هذا الصحابيُّ
ممَّنْ سمعَ حديثَ رسولِ
اللَّهِِ صلى الله عليهِ
وآلهِ وسلم، عن شهادةِ
الحسينِ عليهِ السلام،
والحثِّ على نصرتِهْ، وقد
قاتَلَ رضوانُ اللَّهِ
عليهِ قتالَ الأبطالِ
حتَّى نالَ الفوزَ
بالشهادة44.
ثُمَّ تقدَّمَ زهيرُ بنُ
القَيْنِ ـ وكانَ سبَبُ
التحاقِهِ بالحسينِ عليهِ
السلام، ما سمِعَهُ منَ
الصحابيِّ الجليلِ سلمانَ
الفارسيِّ45
عن كربلاءْ ـ واستأذنَ
بالقِتالِ، ووضَعَ يدَهُ
على مَنْكِبِ الحسينِ
عليهِ السلام وهوَ يقولْ:
أقدِمْ فُدِيتَ هادياً
مَهْديَّاً
فاليومَ تَلْقَى
جدَّكَ النبيّا
وحَسَناً والمرُتضَى
عليَّا
وذا الجناحيْنِ
الفتى الكَمِيّا
وأسَدَ اللَّهِ
الشهيدَ الحيّا46
ثُمَّ برَزَ وهوَ يرتجِزُ
ويقولْ:
أنا زهيرٌ وأنا ابْنُ
القَيْنِ
أَذُودُهُمْ
بالسيفِ عنْ حسين
وانبرَى يقاتِلُ لم يُرَ
مثلُهُ ولم يُسمَعْ
بشِبْهِهْ، وكانَ يحمِلُ
على القومُ وهوَ يقولْ:
إنَّ حسيناً أحدُ
السبطَيْنِ
من عِترةِ البرِّ
التقيِّ الزَّيْنِ
أضرِبُكُمْ ولا أرى من
شَيْنِ
يا ليتَ نفسي
قُسِمَتْ نصفَيْنِ
وقاتلَ قتالاً شديداً حتى
استُشْهِدْ.
فقالَ الحسينُ عليهِ
السلام:
"لا يُبْعِدَنَّكَ
اللَّهُ يا زهيرْ، ولعَنَ
اللَّهُ قاتلِيك!"47.
وكانَ بُريرُ بنُ خضيرٍ
الهَمَدانيُّ منْ خواصِّ
أميرِ المؤمنين عليهِ
السلام، ناسِكاً، من
شُيوخِ القُرّاءِ، ولهُ
كتابٌ يَرْويهِ عن عليٍّ
عليهِ السلام48،
وقدْ
توجَّهَ منَ الكوفةِ إلى
مكَّةَ والتحقَ فيها
بالحسينِ عليهِ السلام
فبرَزَ إلى الميدانِ وهوَ
يقولْ:
"إِقترِبوا منِّي يا
قتَلَةَ المؤمنينْ،
إِقترِبُوا منِّي يا
قتلَةَ أولادِ البدْريّين،
اقتربُوا منّي يا قتلَةَ
أولادِ رسولِ ربِّ
العالمينَ وذُرّيَّتِهِ
الباقينْ".
فقاتلَ حتّى استُشْهِدَ
رضوانُ اللَّهِ عليهْ49.
واشتدَّ القتالُ والتحمَ
وكثُرَ القتلُ والجراحُ
في أصحابِ أبي عبدِ
اللَّهِ الحسينِ عليهِ
السلام.
وتقدَّمَ حنظلةُ بنُ أسعدَ
الشَّبامِيُّ بينَ يدَيْ
الحسينِ عليهِ السلام
فنادى أهلَ الكوفةْ:
"يا قومُ، إنّي أخافُ
عليكُمْ مثلَ يومِ
الأحزابْ، يا قومُ، إنّي
أخافُ عليكُمْ يومَ
التنادْ، يا قومُ، لا
تقتلُوا حُسَيْناً
فيُسْحِتَكُمُ اللَّهُ
بعذابٍ وقد خابَ منِ
افترَى".
ثمَّ تقدَّمَ فقاتلَ
حتَّى قُتِلَ رحمه اللَّه50.
وتقدَّمَ بعدَهُ شَوْذَبٌ
مولى شاكرٍ فقالْ:
"السلامُ عليكَ يا أبا
عبدِ اللَّهِ ورحمةُ
اللَّهِ وبركاتُهْ،
أستودِعُكَ اللَّهَ
وأسترْعِيكْ".
ثمَّ قاتلَ حتى قُتِلَ
رحمه اللَّه51.
ثُمَّ برَزَ إلى الميدانِ
عابِسُ بنُ أبي شَبيبٍ
الشاكريُّ فسلَّمَ على
الحسينِ عليهِ السلام
وقالْ:
"يا أبا عبدِ اللَّهْ:
واللَّهِ، ما أمسَى على
وَجْهِ الأرضِ قريبٌ ولا
بعيدٌ أعزُّ عليَّ ولا
أحبُّ إليَّ منكْ، ولو
قدِرْتُ على أنْ أدفعَ
عنكَ الضَّيْمَ أو القتلَ
بشيءٍ أعزَّ علَيَّ منْ
نفسي ودمِي لَفعَلْتْ،
السلامُ عليكَ يا أبا عبدِ
اللَّهْ، أشهدُ أنّي على
هَداكَ وهدى أبيكْ".
ثمَّ مضى بالسيفِ نحوَهُمْ،
فقاتلَ حتّى استُشهِدْ52.
بأبي من شَرُوا لقاءَ
حسينٍ
بفراقِ النفوسِ
والأرواحِ
وقفُوا يَدْرأونَ سُمْرَ
العوالي
عنهُ والنَّبْلَ
وَقْفَةَ الأشباحِ
فَوَقوْهُ بيضَ الظُّبا
بالنحورِ الـ
ـبيضِ والنَّبْلَ
بالوجوهِ الصبِّاحِ
أدركوا بالحسينِ أكبرَ
عيدٍ
فغدَوْا في مِنى
الطفوفِ أضاحي53
مصرع علي الأكبر عليهِ
السلام
ولما لمْ يبقَ معَ الحسينِ
عليهِ السلام إلاَّ أهلُ
بيتِهِ خاصَّةً، تقدَّمَ
عليٌّ الأكبرُ بنُ الحسينِ
عليهِما السلام وكانَ منْ
أصْبَحِ الناسِ وَجْهاً
وأحسنِهِمْ خُلُقاً
فاستأذنَ أباهُ في
القِتالِ فأذِنَ لَهْ،
ثُمَّ نظَرَ إليهِ نظْرةَ
آيِسٍ منهُ وأرخى عليهِ
السلام عينَيْهِ وبكَى54،
محترِقاً قلبُهُ،
مُظْهِراً حزنَهُ إلى
اللَّهِ تعالَى، (ورفَعَ
سبَّابتَيْهِ نحوَ السماءِ
وقال)55:
"اللهمَّ اشهَدْ على
هؤلاءِ، فقَدْ برَزَ
إليهِمْ أشْبَهُ الناسِ
خَلْقاً وخُلُقاً
ومَنْطِقاً برسولِكَ
محمَّدِا، وكنا إذا
اشتقْنا إلى رؤيةِ نبيِّكَ
نظَرْنا إليهْ، اللهمَّ
امنعْ عنهم بركاتِ الأرضِ،
وفرِّقْهُمْ تفريقاً،
ومزِّقْهُمْ تمزيقاً،
واجعَلْهُمْ طرائقَ
قِدَداً ولا تُرْضِ
الولاةَ عنْهُمْ أبداً،
فإنَّهُمْ دعَوْنا
لِيَنْصُرُونا فعَدَوْا
علينا يُقاتِلُوننا".
وصاحَ عليهِ السلام بعُمرَ
بنِ سعدْ:
"ما لكَ يا ابنَ سعدْ،
قطَعَ اللَّهُ رحِمَكَ
كما قطَعْتَ رَحِمي56،
ولم تحفَظْ قرابتي من
رسولِ اللَّهْ".
ثمَّ رفَعَ الحسينُ عليهِ
السلام صوتَهُ وتلا قولَهُ
تعالى:
﴿إِنَّ
اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ
وَنُوحًا وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِين
َذُرِّيَّةً
بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ
وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
57.
ثُمَّ حمَلَ عليُّ بنُ
الحسينِ عليهِما السلام
على القومِ، وهو يقولْ:
أنا عليُّ بْنُ الحسينِ
بْنِ علي
نحنُ وبيتُ اللَّهِ أوْلى
بالنبي
تاللَّهِ لا يحكُمُ فينا
ابنُ الدَّعي
أطعنُكُمْ بالرُّمحِ حتى
ينثني
أضرِبُكُمْ بالسيفِ أحمي
عن أبي
ضرْبَ غُلامٍ هاشميٍّ
علوي
فلَمْ يزَلْ يقاتلُ حتَّى
ضجَّ الناسُ منْ كَثْرةِ
مَنْ قتَلَ منهُمْ (...).
ثُمَّ رَجَعَ إلى أبيهِ
وقدْ أصابتْهُ جراحاتٌ
كثيرةٌ فقالْ:
"يا أبهْ! ألْعطشُ قد
قتَلني وثِقْلُ الحديدِ
أجْهَدَني، فهلْ إلى
شُربةٍ ماء منْ سبيلٌ
أتقوَّى بها على الأعداءْ؟".
فبكَى الحسينُ عليهِ
السلام ودفَعَ إليهِ
خاتَمَهُ وقالْ:
"خُذْ هذا الخاتَمَ في
فيكَ وارجِعْ إلى قِتالِ
عدوِّكَ، فإنّي أرجُو
أنَّكَ لا تُمْسي حتَّى
يَسْقِيَكَ جدُّكَ بكأسِهِ
الأوفى شَرْبةً لا تظمأُ
بعدَها أبداً"58.
فرجَعَ إلى موقِفِ
النِّزالِ وقاتلَ أعظمَ
القِتالِ59،
فاعترضَهُ مُرَّةُ بْنُ
منقِذٍ فطَعَنهُ فصُرِعَ،
واحتواهُ القومُ
فأثخَنُوهُ طَعْنَا،
فنادى بأعلى صوتِهْ:
"يا أبتاه! هذا جدِّي
رسولُ اللَّهِ قد سقاني
بكأسِهِ الأوفَى شَرْبةً
لا أظمأُ بعدَها أبداً،
وهوَ يقولُ لكْ: ألعَجَلَ!
فإنَّ لكَ كأساً
مَذْخورْة"60.
فصاحَ الحسينُ عليهِ
السلام:
"وا ولداه...".
وأقبل عليهِ السلام إلى
ولدِهِ، وكانَ في طريقِهِ
يلهَجُ بذِكْرِهِ
ويُكْثِرُ من قولِهْ:
"ولدي علِيّ.. ولدي
علي".
حتَّى وصَلَ إليهِ،
فأرخَى رِجلَيْهِ معاً منَ
الرِّكابِ، ورمَى بنفسِهِ
على جسَدِ ولدِهِ، وأخَذَ
رأسَهُ فوضَعَهُ في
حِجْرِهِ، وجعَلَ يمسَحُ
الدَّمَ والترابَ عن
وجهِهْ، وانكَبَّ عليهِ
واضِعاً خدَّهُ على خدِّهِ،
وجعَلَ يقولْ:
"قتَلَ اللَّهُ قوماً
قتلُوكَ يا بُنَيّ! ما
أجرأَهُمْ على اللَّهِ
وعلى انتهاكِ حُرمةِ رسولِ
اللَّه صلى الله عليه
وآله وسلم".
وانهملَتْ عيناهُ بالدموعِ
ثُمَّ قالْ:
"على الدنيا بعدَكَ
العفا"61.
فخرجَتْ زينبُ بنتُ عليٍّ
عليهِ السلام مُسْرِعةً
وخلفَها النساءُ والأطفالُ،
وهِيَ تُنادِي:
"وا حبيباهْ، يا
ثَمَرةَ فؤاداهْ، وا
ولداهْ، وا مُهْجةَ قلباهْ".
فجاءَتْ وانكبَّتْ عليهِ،
فبكَى الحسينُ عليهِ
السلام رَحْمةً لبكائِها،
وقالَ:
"إنَّا للَّهِ وإنَّا
إليهِ راجعون...".
وقامَ وأخذَ بيَدِها
وردَّها إلى الفُسطاطِ،
وطلَبَ إلى فتيانِهِ منْ
بني
هاشمٍ وقالَ لهُمْ:
"إِحْمِلُوا أخاكُمْ".
فحملُوهُ منْ مَصْرَعِهِ،
وجاؤوا بهِ إلى الفُسطاطِ
الذي يُقاتِلُونَ أمامَهْ62.
مقاتل آل عقيل عليهم
السلام
ثُمَّ برَزَ أبناءُ عقيلِ
بنِ أبي طالِبٍ، وأبناءُ
مُسْلمٍ وأبناءُ جعفرِ بنِ
عقيلٍ وجعَلُوا يقاتلونَ
قتالاً شديداً والحسينُ
عليهِ السلام يقولُ لهُمْ:
"صَبْراً على الموتِ
يا بَنِي عمومتي، لا
رأيتُمْ هواناً بعدَ هذا
اليومْ".
فجعلُوا يَسْتَبْسلِونَ
في الدِّفاعِ عنِ ابنِ
رسولِ اللَّهِ حتى
استُشْهِدُوا رحِمَهُمُ
اللَّه63.
القاسم بن الحسن عليهِ
السلام
وتقدَّمَ القاسمُ بنُ
الإمامِ الحسنِ عليهِما
السلام، يستأذُنِ عمَّهُ
للقتالْ وكأنَّ الإمامَ
الحسَنَ عليهِ السلام أبى
إلاَّ أنْ يكونَ حاضراً
في كربلاءَ بخمسةٍ من
أولادِهِ، وهوَ القائلْ:
"لا يومَ كيومِكَ يا
أبا عبدِ اللَّه"
فخرَجَ القاسمُ وهُوَ
يرتجُزِ ويقولْ:
إنْ تُنْكِروني فأنا
فَرْعُ الحسَنْ
سِبْطِ النبيِّ
المصطفى والمؤتمَن
هذا حسينٌ كالأسيرِ
المُرْتهَنْ
بينَ أناسٍ لا
سُقُوا صَوْبَ المزُنْ64
وفيما كانَ يجُولُ في
المَيْدانِ ويصُولُ،
انقطعَ شِسْعُ نعلِهِ،
فانحنى ليُصْلِحَهْ.
قالَ من شهِدَ الواقعةْ:
فقالَ لي عمرُو بنُ سعدٍ
بنِ نفيلٍ الأزْدِيّ:
واللَّهِ، لأَشُدَّنَّ
عليهْ. فقْلُت لهُ: سبحانَ
اللَّهِ، وما تُرِيدُ إلى
ذلكْ؟ يكفيكَ قتلَهُ
هؤلاءِ الذينَ تَراهُمْ
قدِ احتَوَشُوهْ، فقالَ:
واللَّهِ، لأشُدَّنَّ
علَيْهْ. فما ولَّى حتَّى
ضرَبَ رأسَهُ بالسيفِ،
فوقَعَ الغلامُ لوجهِهِ،
فصاحْ:
"يا عمَّاه!".
فجَلّى الحسينُ عليهِ
السلام كما يجلِّي الصقرُ،
وانجلَتِ الغَبَرَةُ،
فإذا بالحسينِ عليهِ
السلام قائمٌ على رأسِ
الغُلامِ والغلامُ يفْحَصُ
برجلَيْهِ، والحسينُ عليهِ
السلام يقولْ:
"بُعْداً لقومٍ قتلوكَ
ومَنْ خصْمُهُمْ يومَ
القيامةِ فيكَ جدُّكْ".
ثُمَّ قالَ:
"عزَّ - واللَّهِ -
على عمِّكَ أنْ تَدْعُوَهُ
فلا يُجيبَكْ، أو يُجيبَكَ
ثُمَّ لا يَنْفعَكَ، صوتٌ
واللَّهِ كثُرَ واترُهُ
وقلَّ ناصرُهُ"65.
قالَ الراوي: ثُمَّ
احتملَهُ، فكأنّي أنظُرُ
إلى رِجلَيْ الغلامِ
يخُطّانِ في الأرضِ وقدْ
وضَعَ الحسينُ عليهِ
السلام صدرَهُ على صدرِهِ،
قالَ: فقلتُ في نفسي: ما
يصنَعُ بهِ؟ فجاءَ بهِ
حتَّى ألقاهُ معَ ابنِهِ
عليِّ بنِ الحسينِ
وقَتْلى قدْ قُتِلَتْ
حولَهُ منْ أهلِ بيتِهِ،
فسألْتُ عنِ الغُلامِ،
فقِيلَ: هوَ القاسِمُ بنُ
الحسَنِ بنِ عليِّ بنِ
أبي طالبٍ عليهِم السلام66.
وقدْ رُوِيَ أنَّ الشهداءَ
في كربلاءَ منْ أولادِ
الإمامِ الحسنِ بنِ عليٍّ
عليهِما السلام، ثلاثةٌ
غيرُ القاسِمِ، وقد جُرِحَ
منْهُمْ خامِسٌ، وقُطِعَتْ
يدُهُ، وهُوَ الحسَنُ
المثنَّى رِضوانُ اللَّهِ
عليهِمْ أجمعِينْ.
ما ذنبُ أهلِ البيتِ
حتَّى منْهُمُ أفنَوْا
ربوعَه
تَركُوهُمُ شتَّى
مَصارِعُهُمْ وأجْمعُها
فظيعه67.
مقاتل إخوة العباس
عليهِ السلام
ثُمَّ إنَّ أبا الفضلِ
العبَّاسَ عليهِ السلام،
قالَ لإخوتِهِ منْ أبيهِ
وأمِّهِ أمِّ البنينَ ـ
وهُمْ عبدُ اللَّهِ وجعفرٌ
وعُثمانُ68
ـ سَمِيُّ الصحابيِّ
الجليلِ عُثْمانَ بنِ
مظعون69:
"تقدَّمُوا حتَّى
أراكُمْ قد نصحْتُمْ
للَّهِ ولرسولِهْ70،
تقدَّموا، بنفسي أنتُمْ،
فحامُوا عن سيِّدِكُمْ
حتى (تُقْتَلُوا) دونَهْ".
فتقدَّمُوا جميعاً.
فصارُوا أمامَ الحسينِ
عليهِ السلام، يَقُونَهُ
بوُجوهِهِمْ ونُحُورِهِمْ71.
فكانَ أوَّلَ مَنْ برَزَ
منهُمْ عبدُ اللَّهِ بنُ
أميرِ المؤمنينْ عليهِ
السلام، وقاتَلَ قِتالاً
شديداً72،
حتّى استُشْهِدَ، ثُمَّ
برَزَ بعدَهُ جعفرٌ، ثُمَّ
عثمانُ (وجدُّوا في
القتالِ حتَّى قُتِلوا)73
رضِيَ اللَّهُ عنْهُمْ
أجمعِينْ.
شهادة العباس عليهِ
السلام
كانَ أبو الفضلِ العبَّاسُ
عليهِ السلام لأخيهِ
الحسينِ عليهِ السلام كما
كانَ جدُّه أبو طالبٍ
وأبوهُ عليٌّ عليهِ
السلام للنبيِّ صلى الله
عليه وآله وسلم. وكما
عَرضَتْ قريشٌ الأمانَ
على المولى أبي طالبٍ،
ليُسْلِمَ محمّداً
المصطفَى صلى الله عليه
وآله وسلم، فقدْ عَرَضَ
الشِّمرُ موفَداً منِ ابنِ
زيادٍ الأمانَ في اليومِ
التاسعِ منْ محرَّمٍ على
العبّاسِ وإخوتِهِ،
ليَتْرُكُوا الحسينَ عليهِ
السلام، فكانَ جوابُهُمْ
جميعاً:
"لعنَكَ اللَّهُ ولعَنَ
أمانَكْ، أتُؤْمِنُنا،
وابنُ رسولِ اللَّهِ لا
أمانَ لهْ؟"74.
وقد عُرِفَ العبّاسُ عليهِ
السلام في كربلاءَ
بالسقَّاءِ، لِكَثْرةِ
تردُّدِهِ إلى الماءِ
ليُوصِلَهُ إلى مخيَّمِ
سيِّدِ الشهداءِ عليهِ
السلام، وفي اليومِ
العاشرِ منَ المحرَّمِ،
بقِيَ العباسُ بنُ عليٍّ
قائماً أمامَ الحسينِ
عليهِ السلام يقاتِلُ
دونَهُ، ويَمِيلُ معَهُ
حيثُ مالْ75.
ولمّا استُشْهِدَ إِخوةُ
العبَّاسِ عليهِم السلام،
ورآهُمْ صرعَى على وجهِ
الصعيدِ، لم يستطِعْ صبراً،
فجاءَ إلى أخيهِ الحسينِ
عليهِ السلام يستأذِنُهُ
القِتالَ، فبكَى الحسينُ
عليهِ السلام بكاءً شديداً،
وقال:
"يا أخي، أنتَ صاحبُ
لوائي، وإذا مضيتَ تفرَّقَ
عسكري".
فلم يأذَنْ له.
فقالَ العباسُ عليهِ
السلام:
"قد ضاقَ صَدْري
وسئِمْتُ منَ الحياةِ،
وأريدُ أنْ أطلُبَ ثأري
من هؤلاءِ المُنافقِينْ".
فقالَ الحسينُ عليهِ
السلام:
"فاطلُبْ لهؤلاءِ
الأطفالِ قليلاً منَ
الماء".
فذهَبَ العباسُ عليهِ
السلام إلى عسكَرِ عُمَرَ
بنِ سعدٍ ووعَظَهُمْ
وحذَّرَهُمْ فلم ينفعْهُمْ،
فرجَعَ إلى أخيهِ فأخبرَهْ،
(وسمعَ أبو الفضلِ عليهِ
السلام الأطفالَ ينادُون:
"العطَشَ العطشَ".
فخرَجَ يطلُبُ الماءَ
ليوصِلَهُ إليهِمْ)76.
وركِبَ فرَسَهُ وأخذَ
رمحَهُ وسيفَهُ والقِربةَ،
فأحاطَ بهِ الذينَ كانوا
مُوكَلِينَ بالفُراتِ،
وأخَذُوا يرْمُونَهُ
بالنَّبالِ، فلَمْ يعبَأْ
بجَمْعِهِمْ، ولا راعتْهُ
كثْرَتُهُمْ. فكشَفَهُمْ
عن وجهِهِ، ودخَلَ الفراتَ
مطمئنّاً غيرَ هيَّاب
لذلكَ الجَمْعِ الغفيرْ.
ثُمَّ اغتَرفَ منَ الماءِ
غُرْفةً وأدناها من فمِهِ
ليشرَبَ، فتذكَّرَ عطَشَ
أخيهِ الحسينِ عليهِ
السلام وعَطاشى أهلِ
بيتِهِ وأطفالِهِ عليهِم
السلام، فرمى الماءَ منْ
يدِهِ وقالْ:
يا نفسُ من بعدِ
الحسينِ هوني
وبعدَهُ لا كنتِ
أن تكوني
هذا حسينٌ وارِدُ
المَنُونِ
وتشربينَ بارِدَ
المعِينِ
تاللَّهِ ما هذا
فِعَالُ ديني
ولا فِعَالُ صادقِ
اليقين
ثُمَّ ملأَ القِرْبةَ
وحمَلَها على كتِفِهِ
اليُمنى، وركِبَ جوادَهُ،
وتوجَّهَ نحوَ الخِيامِ
مُسْرِعاً ليوصِلَ الماءَ
إلى عَطاشى أهلِ البْيْتْ
عليهِم السلام، فأخذُوا
عليهِ الطريقَ،
وتكاثَرُوا عليهِ
وأحاطُوا بهِ من كلِّ
جانبْ.
فجَعَلَ يَصُولُ في
أوساطِهِمْ ويضرِبُ فيهِمْ
بسيفِهِ، فحمَلُوا عليهِ
وحمَلَ هوَ عليهِمْ
(ففرَّقَهُمْ)77
وأخذُوا يَهْرُبونَ من
بينِ يدَيْهِ، فكَمَنَ لهُ
زيدُ بنُ الرقَّادِ
الجهينيُّ مِنْ وَراءِ
نخلةٍ فضرَبَهُ على
يمينِهِ بالسيفِ فبَراها.
فأخذَ العبّاسُ السيفَ
بشِمالِهِ، وضَمَّ
اللّواءَ إلى صدرِهِ،
وحمَلَ القِربةَ على
كتِفِهِ اليُسرى، وحمَلَ
عليهِمْ وهُوَ يرتجِزْ:
واللَّهِ إنْ قطعْتُمُ
يميني
إني أحامي أبداً
عن ديني
وعن إمامٍ صادقِ اليقين
نجلِ النبيِّ
الطاهرِ الأمين
وقاتَلَ حتّى ضعُفَ عنِ
القِتالِ، فضرَبَهُ حكيمُ
بنُ الطُفَيْلِ على
شِمالِهِ فقطَعَها منَ
الزَّندْ، فوقَعَ السيفُ
منْ يدِ العبّاسِ عليهِ
السلام، وأخذَ القِربَة
بأسنانِهِ، (عظَّمَ
اللَّهُ لكَ الأجرَ سيّدي
يا رسولَ اللَّه، هذا أبو
الفضلِ قادمٌ إليكَ مخضباً
بدمِهِ، مَقْطوعَ اليدين)
ولما رأى أبو الفضلِ أنَّ
ساعةَ اللّقاءِ بالمصطفى
الحبيبِ قد حانَتْ، قالَ
عليهِ السلام:
يا نفسُ لا تخشَيْ منَ
الكفّارِ
وأبْشِرِي برحمةِ
الجبار
مــعَ النبيِّ السيِّدِ
المختار
قد قطعوا
ببَغْيِهِمْ يساري
فأصــْلِهـِمْ
يــا ربِّ حــرَّ
النـــار
وجعَلَ يسرِعُ لعلَّهُ
يوصِلُ الماءَ إلى
المخيَّمْ. فلمّا نظرَ
ابْنُ سعدٍ إلى شدّةِ
اهتمامِ العباسِ عليهِ
السلام بالقِربةِ صاحَ
بالقومِ: ويلَكُمْ،
أُرْشُقُوا القِربةَ
بالنَّبْلِ، فواللَّهِ،
إنْ شرِبَ الحسينُ من هذا
الماءِ أفناكُمْ عنْ
آخرِكُمْ.
فقطَعُوا عليهِ طريقَهُ،
وازدحَمُوا عليهِ، وأتتْهُ
السِّهامُ كالمطرِ من كلِّ
جانِبٍ، فأصابَ القِرْبةَ
سهمٌ فأُريقَ ماؤُها،
وجاءَ سهْمٌ فأصابَ صدرَهُ،
وسهمٌ آخرُ أصابَ إحدى
عينيْهِ، فأطْفَأها،
وجمَدَتِ الدِّماءُ على
عينِهِ الأخرى، فلم
يُبْصِرْ بها (فضرَبَهُ
ملعونٌ بعَمُودٍ من
حديدْ)78.
عظَّمَ اللَّهُ لكَ الأجرَ
سيِّدي يا أميرَ المؤمنين،
عظَّمَ اللَّهُ لكِ الأجرَ
سيِّدتي يا زهراء، عظَّمَ
اللَّهُ لكَ الأجرَ
سيِّدي يا أبا محمَّدٍ
الإمامَ الحسنَ المُجتبَى.
عظَّمَ اللَّهُ لكَ الأجرَ
سيِّدي يا حسين...!
أيُّها الموالونْ: أيُّها
المحمّديُّونَ
الحسينيُّونَ: باللَّهِ
عليكُمْ، كيفَ هو سُقوطُ
الفارِسِ عن ظهرِ جوادِهْ؟
إنَّ الفارِسَ عندَما
يسقُطُ إلى الأرضِ
يتَّقي الأرضَ بيديْهِ،
يَحْمِي بهِما جسمَهُ،
يحمِي بهِما رأسَهْ، فكيفَ
كيفَ ـ باللَّهِ عليكُمْ
ـ، يكونُ سقوطُ الفارسِ
إلى الأرضِ؟، وماذا يصنَعُ
عندَما تكونُ يداهُ
مقطوعتَيْنِ..؟! والرأسُ
مضروباً بعَمُودٍ من حديدْ..؟!
والعينانِ تُغطِّيهِما
الدِماءْ؟ لا. لا تقُلْ
غيرَ ذلكَ باللَّهِ عليكْ.
لا يُطِيقُ القلبُ حديثَ
السَّهْمِ في العَيْن!
كيفَ ـ وفي مثلِ هذهِ
الحالِ يكونُ سقوطُ
الفارِسِ عن ظهرِ جوادِهْ؟
كأنّي بأبي الفضلِ
العبَّاسِ يردِّدُ في هذهِ
اللَّحظاتْ:
يا نفسُ مِنْ بعدِ
الحسينِ هوني
وبعدَهُ لا كُنْتِ
أنْ تكوني
فانقلَبَ عن ظَهْرِ فرسِهِ
وخرَّ إلى الأرضِ صريعاً،
فقطَّعَهُ القومُ
بأسيافِهِمْ، فنادَى
برفيعِ الصوتْ:
"أخي أبا عبدِ اللَّهِ،
عليكَ منِّي السلام"79.
فأدركَهُ الحسينُ عليهِ
السلام وبهِ رمَقٌ منَ
الحياةِ، فلما رآهُ
الحسينُ عليهِ السلام (صريعاً)
على شطِّ الفراتِ بكى (بكاءً
شديداً)80،
فأخذَ رأسَهُ الشريفَ
ووضَعَهُ في حِجْرِهِ،
وجعَلَ يمسَحُ الدَّمَ
والتّرابَ عنهُ، ثُمَّ
بكى بكاءً عالياً، قائلاً:
"ألآنَ انكسَرَ ظَهْري،
وقلَّتْ حيلتي، وشَمِتَ
بي عدوِّي"81.
ثُمَّ انحنى عليهِ
واعتنَقَهُ، وجَعَل
يُقبِّلُ مَوْضِعَ
السُيوفِ من وجهِهِ
ونَحْرِهِ وصَدْرِهْ. وقد
ترَكَ الحسينُ عليهِ
السلام أخاهُ العبَّاسَ
في مَكانِهِ، وقامَ عنْهُ
بعدَ أنْ فاضَتْ نفسُهُ
الزكيَّةُ، ولمْ يحمِلْهُ
إلى الفُسطاطِ الذي كانَ
يَحْمِلُ القَتْلى من أهلِ
بيتِهِ وأصحابِهِ إليهْ.
وعادَ إلى المخيَّمِ
فاجتمعَتِ النِّساءُ
حولَهُ وجعلْنَ يَبْكِينَ
العباسَ عليهِ السلام
ويندُبْنَهُ، والحسينُ
عليهِ السلام يبكي مَعهُنّ..
شهادة الإمام الحسين
عليهِ السلام
82
ولما رأى الحسينُ عليهِ
السلام مَصارِعَ
فِتْيانِهِ وأحبَّتِهِ،
عَزَمَ على لقاءِ القومِ
بمُهجتِهِ ونادى:
"هل منْ ذابٍّ يذُبُّ
عن حُرَمِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وآله وسلم؟
هل من مُوحِّدٍ يخافُ
اللَّهَ فينا؟ هل منْ
مُغيثٍ يرجُو اللَّهَ
بإغاثتِنا؟ هل من مُعينٍ
يرجُو ما عندَ اللَّهِ في
إعانتِنا؟".
فارتفعَتْ أصواتُ
النِّساءِ بالعَويلِ،
فتقدَّمَ إلى بابِ الخيمةِ
وقالَ لزينب عليها السلام:
"ناولِيني ولدِي
الصغيرَ حتَّى أُودِّعَهْ".
فأخذَهُ وأومأَ إليهِ
ليقبِّلَهُ فرماهُ
حَرْملةُ بْنُ الكاهِلِ
الأسديُّ بسهمٍ فوقَعَ في
نَحْرِهِ فذبَحَهْ.
فقالَ لزينبَ عليها
السلام:
"خُذيهْ".
ثُمَّ تلقَّى الدمَ
بكفَّيهِ فلمّا امتلأتا،
رمَى بالدّمِ نحوَ السماءِ
ثُمَّ قالْ:
"هوَّنَ عليَّ ما
نَزَلَ بي أنَّهُ بعينِ
اللَّهْ".
قالَ الباقرُ عليهِ
السلام:
"فلَمْ يسقُطْ منْ ذلكَ
الدَّمِ قَطْرةٌ إلى
الأرضْ".
قالَ الراوي: ثُمَّ إنَّ
الحسينَ دعا الناسَ إلى
البِرازِ، فلَمْ يزَلْ
يقتُلُ كلَّ مَنْ برَزَ
إليهِ حتَّى قتَلَ
مَقْتلةً عظيمةً، وهُوَ
في ذلكَ يقولْ:
القَتْلُ أَوْلى منْ
رُكوبِ العارِ
والعارُ أوْلى منْ
دُخولِ النار
قالَ بعضُ الرواةِ:
فواللَّهِ، ما رأيتُ (مكثوراً)
قطُّ قد قُتلَ وُلْدُهُ
وأهلُ بيتِهِ وأصحابُهُ
أرْبطَ جأشاً منه، وإنْ
كانتْ الرجالُ لَتَشُدُّ
عليهِ فيَشُدُّ علَيْها
بسيفِهِ، فتنكشِفُ عنهُ
انكشافَ المِعْزى إذا شدَّ
فيهِ الذئبُ، ولقدْ كانَ
يَحْمِلُ فيهِمْ ولقدْ
تكمَّلُوا ثلاثينَ ألفاً،
فيُهْزَمُونَ بينَ يدَيْهِ
كأنَّهُمُ الجَرادُ
المنتشِرُ، ثُمَّ يرجِعُ
إلى مَرْكَزِهِ وهوَ يقولْ:
"لا حَوْلَ ولاقُوّةَ
إلاَّ باللَّه".
فلمّا رأى ذلكَ شمرُ بنُ
ذي الجوشَنِ، استدعى
الفُرْسانَ فصارُوا في
ظُهُورِ الرَجَّالةِ،
وأمَرَ الرُّماةَ أنْ
يرْمُوهُ، فرَشَقُوهُ
بالسِّهامِ حتّى صارَ
جسمُهُ كالقُنْفُذِ مِنْ
كَثْرةِ السِّهامِ
النابتةِ فيهْ، فأحْجَمَ
عنْهُمْ، فوقَفُوا
بإزائِهْ83.
قالَ الراوي: ولم يزَلْ
عليهِ السلام يقاتِلُهُمْ
حتّى حالُوا بينَهُ وبينَ
رحْلِهِ فصاحَ عليهِ
السلام:
"ويلَكُمْ يا شيعةَ آلِ
أبي سفيانْ، إنْ لم يكُنْ
لكُمْ دينٌ وكنتُمْ لا
تَخافُونَ المَعادَ،
فكونُوا أحراراً في
دُنياكُمْ هذِهِ
وارْجِعوا إلى أحسابِكُمْ
إنْ كنتُمْ عُرباً كما
تَزْعُمُونْ".
قالَ: فناداهُ شِمْرٌ:
ما تقولُ يا ابنَ فاطمةْ؟
فقالَ عليهِ السلام إنّي
أقولْ:
"أُقاتِلُكُمْ
وتُقاتِلُونَني،
والنِّساءُ ليسَ عليهِنَّ
جُناحٌ، فامنَعُوا
عُتَاتَكُمْ وجُهَّالَكُمْ
وطُغَاتَكُمْ منَ
التعرُّضِ لِحُرَمِي ما
دُمْتُ حيّاً".
فقالَ شِمرٌ: لكَ ذلكَ
يا ابنَ فاطمةْ.
فقَصَدُوهُ بالحربِ،
فجعَلَ يحمِلُ عليهِمْ
ويحمِلُونَ عليهِ، وهُوَ
في ذلك يطلُبُ شَرْبةً منْ
ماءٍ فلا يَجِدُ، حتّى
أصابَهُ اثنانِ وسبعُونَ
جُرحاً، فوقَفَ يستريحُ
ساعةً، وقد ضعُفَ عنِ
القِتالْ، فبَيْنا هوَ
واقِفٌ، إذْ أتاهُ حَجرٌ
فوقَعَ على جبهتِهِ،
فأخَذَ الثوبَ ليمْسَحَ
الدَّمَ عن جبهتِهِ،
فأتاهُ سهْمٌ مَسْمومٌ لهُ
ثلاثُ شُعبٍ فوقَعَ على
قلبِهْ.
فقالَ عليهِ السلام:
"بسم اللَّهِ وباللَّهِ
وعلى مِلَّةِ رسولِ
اللَّه صلى الله عليه
وآله وسلم".
ثمَّ رفَعَ رأسَهُ إلى
السماءِ وقالْ:
"إلهي أنتَ تعلَمُ
أنَّهُمْ يقْتُلُونَ رجلاً
ليسَ على وجهِ الأرضِ
ابْنُ بنتِ نبيٍّ غيرُهْ".
ثُمَّ أخَذَ السّهْمَ
فأخْرَجَهُ منْ وَراءِ
ظَهْرِهِ، فانبعَثَ
الدَّمُ كأنَّهُ ميزابٌ،
فضعُفَ عنِ القِتالِ
ووقَفَ، فكُلَّما أتاهُ
رجلٌ انصرَفَ عنهُ كَراهةَ
أنْ يَلْقَى اللَّهَ
بدمِهْ.
حتَّى جاءَهُ رجلٌ من
كِندةَ يقالُ لهُ مَالِكُ
بنُ النَّسْرِ، فشتَمَ
الحسينَ عليهِ السلام
وضربَهُ على رأسِهِ
الشريفِ بالسَّيفِ فقطَعَ
البُرْنُسَ، ووصَلَ السيفُ
إلى رأسِهِ فامتلأ
البرنُسُ دماً...
فلبثُوا هُنَيْهةً ثمَّ
عادوا إليهِ وأحاطُوا بهِ،
فخرَجَ عبدُ اللَّهِ بنُ
الحسنِ بنِ عليٍّ عليهِ
السلام، وهوَ غلامٌ لمْ
يراهِقْ منْ عندِ النّساءِ،
يَشْتدُّ حتَّى وقَفَ
إلى جنبِ الحسينِ عليهِ
السلام فلحقَتْهُ زينب
عليها السلام لتَحْبِسَهُ
فأبى وامتنعَ امتناعاً
شديداً وقالْ:
"لا واللَّهِ، لا
أفارِقُ عمّي".
فأَهْوى بحرُ بنُ كعب -
وقِيلَ حَرْملةُ بنُ
الكاهِلِ ـ على الحسينِ
عليهِ السلام بالسيفِ.
فقالَ لَهُ الغلامْ:
"ويلَكَ يا ابنَ
الخبيثةِ، أتْقتُلُ عمّي؟".
فضربَهُ بالسَّيفِ
فاتَّقى الغلامُ بيدِهِ
فأَطنَّها إلى الجلدِ،
فإذا هِيَ مُعلَّقةٌ
فنادى الغلامُ:
"يا أمّاه...".
فأخذَهُ الحسينُ عليهِ
السلام وضمَّهُ إليهِ
وقالْ:
"يا ابنَ أخي، إصبِرْ
على ما نَزَلَ بكَ
واحتسِبْ في ذلكَ الخيرَ،
فإنَّ اللَّهَ يُلحِقُكَ
بآبائِكَ الصالحين".
قالَ فرَماهُ حرملةُ بنُ
الكاهِلِ بسهمٍ فذَبَحَهُ
وهوَ في حِجْرِ عمِّهِ
الحسينِ عليهِ السلام.
ثُمَّ إنَّ شمرَ بنَ ذي
الجوشَنِ حمَلَ على
فُسطاطِ الحسينِ عليهِ
السلام فطعنَهُ بالرُّمحِ
ثُمَّ قالَ: علَيَّ
بالنارِ أُحرِقُهُ على
مَنْ فيهْ.
فقالَ الحسينُ عليهِ
السلام:
"يا ابنَ ذي الجوشَنْ،
أنتَ الداعي بالنارِ
لِتُحْرِقَ على أهلي،
أحْرَقَكَ اللَّهُ بالنار".
قالَ: ولما أُثْخِنَ
الحسينُ عليهِ السلام
بالجراحِ (...) طعَنَهُ
صالحُ بنُ وَهَبٍ
المُرِّيُّ على خاصرتِهِ
طَعْنةً، فسقَطَ الحسينُ
عليهِ السلام إلى الأرضِ
على خدِّهِ الأيمنِ وهوَ
يقولْ:
"بسمِ اللَّهِ
وباللَّهِ وعلى مِلَّةِ
رسولِ اللَّه".
ثمَّ قامَ عليهِ السلام
وحمَلُوا عليهِ من كلِّ
جانِبْ، فضرَبَهُ زُرعَةُ
بنُ شريكٍ على كتِفِهِ
اليُسرى، وضرَبَ الحسينُ
عليهِ السلام زُرْعَةَ
فصرَعَهْ، وضرَبَهُ آخرُ
على عاتِقِهِ المقدَّسِ
بالسَّيفِ ضربةً كبا عليهِ
السلام بها لوجهِهْ، وكانَ
قدْ أعيا وجعَلَ ينوءُ
ويَكُبُّ، فطعَنَهُ سِنانُ
بنُ أَنَسٍ النخعيُّ في
تُرْقُوَتِهِ، ثُمَّ
انتزَعَ الرُّمحَ فطَعَنهُ
في بواني صَدْرِهِ، ثُمَّ
رماهُ سِنانٌ أيضاً بسهمٍ
فوقَعَ السهمُ في نحرِهِ
فسقَطَ عليهِ السلام
وجلَسَ قاعداً.
فنزَعَ السَّهْمَ من
نحرِهِ وقرَنَ كفَّيْهِ
جميعاً، فكلَّما امتلأتا
منْ دِمائِهِ خضَّبَ
بهِما رأسَهُ ولِحيَتُهُ
وهو يقولْ:
"هكذا ألقَى اللَّهَ
مُخَضَّباً بدمِي
مَغْصُوباً علَيَّ حقّي".
ورُوِيَ عنهُ عليهِ
السلام أنَّهُ قالْ:
"اللَّهُمَّ أنتَ
متعالي المكانِ، عظيمُ
الجبَرُوتِ، شديدُ
المِحالِ، غنيٌّ عنِ
الخلائِقِ، عريضُ
الكِبرياءِ، قادرٌ على ما
تشاءُ، قريبُ الرحمةِ،
صادقُ الوعدِ، سابغُ
النّعمةِ، حَسَنُ البلاءِ،
قريبٌ إذا دُعِيتَ،
مُحِيطٌ بما خلَقْتَ،
قابلُ التوبةِ لمن تابَ
إليكَ، قادرٌ على ما أردتَ،
تُدْرِكُ ما طلَبْتَ،
شَكورٌ إذا شُكِرْتَ،
ذَكُورٌ إذا ذُكِرْت،
أدعوكَ محتاجاً وأرغَبُ
إليكَ فقيراً، وأفزَعُ
إليك خائفاً، وأبكِي
مَكْروباً، وأستعينُ بكَ
ضعيفاً وأتوكّلُ عليكَ
كافياً.
أللّهُمَّ احكُمْ بينَنا
وبينَ قومِنا، فإنَّهُمْ
غرُّونا وخذَلونا،
وغدرُوا بنا وقتَلُونا،
ونحنُ عِترةُ نبيِّك،
ووُلْدُ حبيبِكَ محمَّدٍ
الذي اصطفيتَهُ
بالرِّسالةِ وائتمَنْتَهُ
على الوحْيِ، فاجعلْ لنا
من أمرِنا فرَجاً
ومَخْرَجاً يا أرحمَ
الراحمينْ... صَبْراً على
قضائِكَ يا ربّ، لا إلهَ
سواكْ، يا غِياثَ
المستغيثينْ، ما لي ربٌّ
سِواكَ ولا معبودٌ غيرُكَ،
صبراً على حُكْمِكَ، يا
غِياثَ مَنْ لا غِياثَ له،
يا دائماً لا نَفادَ لهْ،
يا مُحْيِيَ الموتى، يا
قائِماً على كلِّ نفسٍ
بما كَسَبَتْ، أُحكُمْ
بيني وبينَهُمْ وأنتَ خيرُ
الحاكمين".
قالَ الراوي: كنتُ واقفاً
معَ أصحابِ عُمَرَ بنِ
سعدٍ إذْ صرَخَ صارخٌ:
أبشِرْ أيُّها الأميرُ
فهذا شمرٌ قتَلَ الحسينْ،
قالَ فخرَجْتُ بينَ
الصفَّيْنِ فوقَفْتُ عليهِ
وإنَّهُ لَيجُودُ بنفسِهْ،
فواللَّهِ، ما رأيتُ قَطُّ
قتيلاً مُضَمَّخاً بدمِهِ
أحسنَ منهُ ولا أنوَرَ
وجهاً، ولقَدْ شغَلَني
نورُ وجهِهِ وجَمالُ
هيئتِهِ عنِ الفكرةِ في
قتلِهْ، فاستسقى في تلك
الحالِ ماءً فسمِعْتُ
رجلاً يقولْ: واللَّهِ لا
تذوقُ الماءَ حتَّى ترِدَ
الحاميةَ فتشرَبَ من
حميمِها.
فسمِعْتُهُ يقولْ:
"يا ويلَكَ أنا لا
أرِدُ الحاميةَ ولا أشرَبُ
مِنْ حميمِها، بلْ أرِدُ
على جدِّي رسولِ اللَّه
صلى الله عليه وآله وسلم
وأسكُنُ معَهُ في دارِهِ
في مَقْعَدِ صِدْقٍ عندَ
مليكٍ مُقْتدرٍ، وأشرَبُ
من ماءٍ غيرِ آسِنٍ،
وأشكُو إليهِ ما
ارتكبْتُمْ منّي وفعلتُمْ
بي".
قالَ: فغضِبُوا
بأجمَعِهِمْ، حتّى كأنّ
اللَّهَ لمْ يجعَلْ في
قلبِ واحدٍ منهُمْ منَ
الرحمةِ شيئاً.
وجلَسَ شمرٌ على صدرِ
الحسينِ عليهِ السلام
وقبَضَ على لحيتِهِ
وضرَبَهُ بسيفِهِ اثنتَيْ
عشْرةَ ضربةً ثمَّ حزَّ
رأسَهُ84
المقدَّسَ المعظَّمْ.
قالَ الشيخُ الصَدوقْ:
"... ولم يُرْفَعْ ببيتِ
المقدِسِ85
- في ذلك اليوم
-
حجرٌ عنْ وجهِ الأرضِ
إلاّ وُجِدَ تحتَهُ دمٌ
عبيطٌ، وأبصَرَ الناسُ
الشمسَ على الحِيطانِ
كأنَّها الملاحِفُ
المُعَصْفَرَةْ"86.
وقالَ عبدُ الملِكِ بنُ
مَرْوانَ للزَّهْرِيِّ:
أيُّ رجلٍ أنتَ إنْ
أخبرْتَني أيُّ علامةٍ
كانتْ يومَ قُتِلَ الحسينُ
بنُ عليٍّ عليهما السلام؟
قالَ: لم يُرفَعْ ذلكَ
اليومَ حَصاةٌ ببيتِ
المقدِسِ، إلاّ وُجِدَ
تحتَها دمٌ عبيط87.
وأمّا ما جرَى بعدَ شهادةِ
السِبْطِ الغريبْ؟
فلم تكتفِ الأحقادُ
البدريَّةُ والخيبريَّةُ
والحُنَيْنيَّةُ وغيرُها
بكلِّ ما تقدَّم.
قالَ الراوي: ثمَّ نادى
عمرُ بنُ سعدٍ في أصحابِهِ
مَنْ ينتدِبُ للحسينِ
عليهِ السلام فيُواطِئُ
الخيلَ ظهرَهُ وصدرَهُ،
فانتدَبَ منْهُمْ عشَرَةْ.
فداسُوا الحسينَ عليهِ
السلام بحوافِرِ خيلِهِمْ
حتّى رضُّوا صدْرَهُ
وظهرَهْ.
وأيُّ شهيدٍ أصْلَتِ
الشمسُ جسمَهُ
ومَشْهَدُها من
أصلِهِ متولِّدُ
وأيُّ ذبيحٍ داسَتِ الخيلُ
صدرَهُ
وفرسانُها من
ذِكْرِهِ تتمجَّد
ألمْ تكُ تدري أنَّ روحَ
محمَّدٍ
كقرآنِهِ في
سِبْطِهِ متجسِّد
فلو عَلِمَتْ تلكَ الخيولُ
كأهلِها
بأنَّ الذي تحتَ
السنابكِ أحمدُ
سيدي يا صاحبَ الزَّمانِ:
عظَّمَ اللَّهُ سيِّدي لكَ
الأجرْ.
ونردِّدُ معَ عمَّتِكَ
مولاتِنا زينبَ عليها
السلام (عندَ الوَداعِ)،
لما نظَرَتِ النِّسوةُ
إلى مصرَعِهِ الشريفِ،
تندُبُ الحسينَ عليهِ
السلام وتنادي بصوتٍ حزين
وقلبٍ كئيب:
"يا محمَّداه، صلّى عليكَ
ملائكةُ السماء، هذا حسينٌ
مرمَّلٌ بالدّماء، مقطَّعُ
الأعضاء، وبناتُكَ سبايا،
إلى اللَّهِ المشتكَى
وإلى محمَّدٍ المصطفى
وإلى عليٍّ المرتضى وإلى
فاطمةَ الزهراءِ وإلى
حمزةَ سيِّدِ الشهداءْ،
يا محمَّداه، هذا حسينٌ
بالعراءِ، تَسْفِي عليهِ
الصَّبا، قتيلُ أولادِ
البغايا، وا حزناه، وا
كرْباه، اليومَ ماتَ
جدِّي رسولُ اللَّه صلى
الله عليه وآله وسلم، يا
أصحابَ محمَّداه، هؤلاءِ
ذريَّةُ المصطفى يُساقُونَ
سَوْقَ السبايا".
وفي رواية:
"يا محمَّداه، بناتُكَ
سبايا وذريَّتُكَ مقتَّلةٌ
تَسْفِي عليهِمْ ريحُ
الصَّبا، وهذا حسينٌ
مَحْزوزُ الرأسِ مِنَ
القفا مسلوبُ العِمامةِ
والرِّداءْ، بأبي مَنْ
أضحَى عسكرُهُ في يومَ
الاثنيْنِ نَهْبا، بأبي
مَنْ فُسطاطُهُ مقطَّعُ
العُرى، بأبي مَنْ لا
غائبٌ فيُرتجَى ولا جريحٌ
فيُداوى، بأبي مَنْ نفسي
لهُ الفِداءْ، بأبي
المهمومُ حتّى قضَى، بأبي
العطشانُ حتّى مضى، بأبي
مَنْ شيبتُهُ تقطُرُ
بالدِّماء، بأبي مَنْ
جدُّهُ محمّدٌ المصطفى،
بأبي مَنْ جدُّهُ رسولُ
إلهِ السماء، بأبي مَنْ
هو سِبْطُ نبيِّ الهدى،
بأبي محمَّدٌ المصطفى،
بأبي خديجةُ الكبرى،
بأبي عليٌّ المرتضى،
بأبي فاطمةُ الزهراءُ
سيدةُ نساءِ العالمين،
بأبي مَنْ رُدَّتْ لَهُ
الشمْسُ وصلّى".
قالَ الراوي: فأبكَتْ
واللَّهِ كلَّ عدوٍّ
وصديق. ثُمَّ إنَّ
سُكَينةَ اعتنقَتْ جسَدَ
أبيها الحسينِ عليهِ
السلام فاجتمعَتْ عِدَّةٌ
منَ الأعرابِ حتَّى
جَرُّوها عنهْ.
يا صاحبَ الأمرِ
أدرِكْنا فليسَ لنا
وردٌ هنيٌّ
ولا عيشٌ لنا رغَدُ
فانهَضْ فَدَتْكَ بقايا
أنفُسٍ ظَفِرَتْ
بها النوائبُ حتّى
خانَها الجَلَدُ
طالَتْ علَيْنا ليالي
الانتظارِ فهَلْ
يا ابنَ الزكيِّ
لليلِ الانتظارِ غَدُ؟!
|