مقدمة
المجلس
الحمدُ لله ربِّ العالمين،
وأفضَلُ الصلاةِ والسلامِ
على نبيِّ الرحمةِ والهدى
محمَّدٍ المصطفَى وآلِهِ
المعصومين، أعلامِ الدينِ
وقواعدِ العلمِ، الّذينَ
قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ
فيهِمْ:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً﴾1.
وجعلَ أجرَ نبيِّهِ
محمَّدٍ صلواتُهُ عليهِ
وعليهمْ مودَّتَهُمْ في
كتابِهِ، فقال تعالى:
﴿قُلْ
لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرَاً إِلَّا
المَوَدَّةَ فِي
القُرْبَى﴾2.
وقال تعالى محذّّراً من
انقلابِ أمّتِهِ عليهِ
وعليهم:﴿وَمَا مُحَمّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ
أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ،
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى
عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ
اللهَ
شَيْئَاً،
وسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ﴾3.
والحمدُ لله
الّذي مَنَّ
علينا من بينِهِم
بسفينةِ النجاة،
ومصباحِ الهدَى
الإمامِ الحسينِ
بْنِ عليٍّ
عليهما السلام
الذي أجمع
المسلمون على أنّ
رسولَ الله
صلى الله عليه
وآله وسلم
قالَ فيه:
"حسينٌ منّي
وأنا مِنْ حسين,
أحبَّ الله مَنْ
أحبَّ حسيناً،
حسينٌ سِبْطٌ مِنَ
الأسباط"4.
أعظمَ اللهُ
أجورَنا
بمُصابِنا
بالحسين ِعليه
السلام، وجعَلَنا
وإيَّاكُمْ من
الطالبينَ بثارِهِ
معَ الإمامِ
المهديِّ من آلِ
محمَّدٍ صلواتُ
اللهِ عليهِ
وعليهِمْ.
أحسنَ اللهُ لكُم
العَزاءَ يا أهلَ
العزاءِ...
سيّدي يا رسولَ
اللهِ... عظَّمَ
اللهُ أجرَكَ في
ولدِكَ الحُسينِ...
سيّدي يا أميرَ
المؤمنينَ...
عظَّمَ اللهُ
أجرَكَ في وَلدِكَ
الحُسينِ...
سيّدتي يا فاطمةُ
الزهراءُ...
عظَّمَ اللهُ
أجرَكِ في وَلدِكِ
الحُسينِ...
سيّدي يا صاحبَ
الزمانِ... عظَّمَ
اللهُ أجرَكَ في
جَدِّكَ الحُسينِ...
وانبَرَى
لِلوَداعِ
والقَلْبُ مِنهُ
ثُمَّ نادَى عَقَائِلَ
الوَحْيِ فَانْثَالَتْ
وَتَعَالَى الصُراخُ
فالأَرْضُ تُرْوَى
فَيَتِيمٌ إِنْ يَبْكِ
فَقْدَ أَبِيهِ
وَأَتَتْ زَيْنَبٌ
وَلِلْحُزْنِ مِنْها
عَانَقَتْهُ فَقَبَّلَتْ
صَدْرَهُ الدَامِي
مَنْ لِهَذِي الصِغَارِ
يَحْنُو عَليْها
مَنْ لِرَهْطِ النَبِيِّ
يَحْمِي حِمَاهُ
وَمَضَى رَاجِعَاً إلى
الحَرْبِ صَقْراً
خَرَّ لِلأَرْضِ لَهْفَ
نَفْسِي صَرِيعاً
وَعَلا رَأسُهُ عَلى
الرُمْحِ قُطْباً
وَعَدَتْ نَحْوَ رَهْطِهِ
آلُ حَرْبٍ |
يَتَلَظَّى من
الأَوَامِ ضَرَاما
لِتَقْضِي مِنَ
الوَداعِ مَرَامَا
مِنْ دَمِ اللطْمِ
وَالدُمُوعِ غَمَامَا
جَاوَبَتْهُ
أَرَامِلٌ وَيَتامَى
نَفَثَاتٌ تُوْرِي
الفُؤَادَ اضْطِرَامَا
وأَرْخَتْ دَمْعَ
العُيونِ انسِجَامَا
يَوْمَ تَبْكِي
الآبَاءَ والأَعْمَامَا؟
إِذْ يُلاقِي
أَرَاذِلاً وَلِئَامَا؟
ليسَ يَخْشَى مِنَ
الزُحُوفِ نَعَامَا
فَهَوَى العَرْشُ
للثَرَى إِعْظَامَا
حَوْلَهُ عَالَمُ
الوُجُودِ استَقَامَا
فَأَشَبَّتْ عَلى
العِيَالِ الخِيَامَا5 |
يوم
عاشوراء
لمّا
أَصبحَ الُحسينُ عليه
السلام يومَ عاشوراءَ
وصلَّى بأصحابهِ صلاةَ
الصُبحِ، قامَ خطيباً
فيهِم، فحَمِدَ الله
وأَثْنى عليهِ، ثُمَّ قالَ:
"إنَّ اللهَ تعالى قد
أذِنَ في قتلِكُم
وقَتْلِي في هذا اليومِ،
فَعليكُمْ بالصبرِ
والقِتالِ".
ثمَّ صَفَّهُم للحربِ
وكانوا اثنينِ وسَبعينَ
ما بين فارسٍ وراجلٍ.
فجعلَ زُهيرَ بنَ القَيْنِ
في المَيْمَنةِ وحبيبَ بنَ
مُظاهِرٍ في الميسَرةِ،
وثَبَتَ هوَعليه السلام
مع أهل بيته في القلبِ،
وأعطَى رايتَهُ أخاهُ
العبَّاس عليه السلام.
وجعَلُوا البيوتَ في
ظُهُورِهِم. وكان
أَمَرَعليه السلام
بِحَطَبٍ وَقَصَبٍ أَنْ
يُجعلَ في خندَقٍ كانُوا
حَفَرُوْهُ في ساعةٍ منَ
الليل، وَأَنْ تُضْرَمَ
بِهِ النَّارُ إذا
قاتَلَهُمُ العدوُّ,
كَيْلا تُقحمَهُ الخيلُ
فيكونَ القتالُ من وجهٍ
واحد.
وأقبل عُمَرُ بْنُ سعدٍ
نحو الحسينِ في ثلاثينَ
ألفاً, فجعلَ
عَمْرَو بْنَ
الحجَّاجِ على المَيْمَنةِ،
وشِمرَ بنَ ذِي الجوشَنِ
على الميسَرةِ، وعلى
الخَيلِ عَزْرَةَ بنَ قيسٍ،
وعلى الرَجَّالةِ شِبثَ
بنَرِبْعي، وأَعطَى رايتَه
ذُويداً مولاهُ.
وأقبلَ القَومُ يجولونَ
حولَ مُعسكرِ الحسينِ عليه
السلام وينظرونَ إلى
النارِ تَضْطَرِمُ في
الخندَقِ... فنادَى شمرُ
بأعلى صوتِهِ: يا حسينُ:
تَعَجَّلْتَ بالنَّارِ
قَبلَ يومِ القِيامةِ,
فقال الحسينُ عليه السلام:
"مَنْ
هذا؟ كَأَنَّهُ شِمرُ بنُ
ذي الجَوْشَنِ"؟ قيلَ:
نَعم. فقال:
"أنتَ أوْلَى
بِهَا صِلِيّاً".
ورامَ مُسلمُ بنُ عوسجةَ
أنْ يَرميهِ بِسهم,
فَمَنعهُ الحُسين ُعليه السلام وقال:
"أكرهُ أنْ أبدَأَهُم
بِقتال".
ولمَّا نظرَ الحسينُ عليه
السلام إلى جَمعِهِم
كأنَّه السيلُ
المُنْحَدِر، رَفَعَ
يَديهِ بالدُّعاءِ فقالَ:
"اللهمَّ أنتَ ثِقتي في
كلِّ كَرْبٍ، ورَجَائِي
في كُلِّ شِدَّةٍ، وأنتَ
لي في كُلِّ أَمرٍ نَزَلَ
بي ثِقةٌ وعُدَّةٌ، كَمْ
منْ هَمٍّ يَضعُفُ فيهِ
الفؤادُ، وتَقِلُّ فيهِ
الحِيلةُ، ويَخذُلُ فيهِ
الصديقُ، ويَشمَتُ فيهِ
العدوُّ، أنزلتُهُ بِكَ،
وشكوتُهُ إليكَ، رَغبةً
منِّي إليكَ عمّن سِواكَ،
ففرَّجتَهُ وكَشفتَهُ،
فأنتَ وليُّ كُلِّ نِعمةٍ،
وصاحبُ كُلِّ حَسَنةٍ،
ومُنتهَى كلِّ رَغبةٍ".
خطبة الإمام الحسين
عليه السلام الأولى
ثمَّ
دعا الحسينُ عليه السلام
براحلتِهِ فركِبَها،
وتقدَّمَ نحوَ القومِ
ونادَى بصوتٍ يسمعُهُ
جُلُّهم:
"أيُّها الناسُ،
اسمعوا قَولي، ولا
تعجَلُوا حتَّى أعِظَكُم
بما هو حقٌّ لكمْ عليَّ،
وحتَّى أعتذرَ إليكُم مِن
مَقدَمي عليكُم، فإنْ
قَبِلتُم عُذري وصدَّقتُم
قَولي وأَعطيتموني
النَّصَفَ6 من أنفسِكُم
كُنتمْ بِذلكَ أسْعدَ،
ولَم يكنْ لكمْ عليَّ
سبيلٌ، وإنْ لمْ تَقبَلوا
مِنِّي العُذرَ، ولمْ
تُعطوني النَّصَفَ منْ
أنفسِكم
﴿فَأجمِعوا
أمْرَكُم وشُركاءَكُم ثمَّ
لا يكُنْ أمْرُكُم
علَيْكم غُمَّةً7 ثمَّ
اقْضُوا إِليَّ ولا
تُنْظِرونِ﴾8
،
﴿إنَّ وَليِّيَ اللهُ
الَّذي نزَّلَ الكِتابَ
وهُوَ يتولَّى الصَّالحينَ﴾"9.
فلمّا سمعْنَ النساءُ هذا
منهُ صِحنَ وبَكَيْنَ
وارتفعَتْ أَصْواتُهُنَّ,
فأرسلَ إليهنَّ أخاهُ
العبَّاس وابنَهُ عليَّ
الأكبرَ وقال:
"سكِّتَاهُنَّ،
فلعَمْري ليكثرُ بُكاؤهُنَّ".
ثُمّ حَمِدَ اللهَ
وأَثنَى عليهِ، وصلَّى
على النبيِّ محمّدٍ وآلهِ،
وعلى
الملائكةِ والأنبياءِ،
فَذَكَرَ مِن ذلكَ ما لا
يُحصى ذِكْرُهُ، ولَم
يُسمَعْ متكلِّمٌ قبلَه
ولا بعدَه أبلغُ منهُ في
مَنطِقِهِ، ثمَّ قالَ:
"عبادَ
الله, اتّقوا اللهَ
وكونُوا من الدُنيا على
حذر, فإنَّ الدُنيا لَو
بَقيَتْ على أحدٍ أو بقيَ
عليها أحدٌ لَكَانَ
الأنبياءُ أحقَّ بالبقاءِ
وأوْلَى بالرِضا, غيرَ أنَّ
اللهَ خلقَ الدُنيا
للفَنَاء, فَجدِيدُها
بَالٍ, ونعيمُها
مُضْمَحِلٌ10، وسُرورُها
مكفَهْرٌّ...11"
وقال: "أيّها الناسُ، إنَّ
اللهَ تعالى خَلقَ
الدّنيا فَجعَلَها دارَ
فَناءٍ وزوالٍ، متصرِّفةً
بأهلِهَا حالاً بعدَ حالٍ.
فالمغرورُ مَن غَرَّتْهُ،
والشقيُّ مَن فَتَنَتْهُ،
فَلا تَغرَّنكُمْ هذهِ
الحياةُ الدنيا، وأراكُم
قدِ اجتمعتُم على أمرٍ قد
أَسخَطتُمُ اللهَ فيه
عَليكُم، وأعرَضَ بوجهِهِ
الكريمِ عنكُم، وأحلَّ
بِكُم نِقْمتَهُ،
وجَنَّبَكُم رحمَتَهُ،
فنِعْمَ الربُّ ربُّنا،
وبئَسَ العَبيدُ أنتُم،
أَقْررتُم بالطاعةِ،
وآمنتم بالرسولِ محمّدٍ
صلى الله عليه وآله وسلم
ثمَّ إنَّكُم زَحَفتُم
إلى ذرِّيَّتِهِ وعِترتِهِ
تريدونَ قَتْلَهُم، لقدِ
استَحوذَ عَليكُمُ
الشَّيطانُ فأنْساكُم ذكرَ
اللهِ العَظيمِ. فتبّاً
لكُم ولما تُريدونَ. إنّا
للهِ وإنّا إليهِ راجعونَ،
هؤلاءِ قومٌ كَفَروا بعدَ
إيمانِهِم فبُعداً للقومِ
الظالمينَ".
فقالَ عُمَرُ بْنُ سعدٍ:
ويلَكم! كلِّموهُ، فإنَّهُ
اْبنُ أبيهِ,
واللهِ، لَو
وَقَفَ
فيكُم هكذا يوماً جَديداً
لَمَا انقطَعَ ولَمَا
حُصِرَ..
فتَقَدَّمَ إليهِ شِمْرُ
فقالَ: يا حُسينُ! مَا
هذا الذي تقولُ؟
أَفْهِمْنَا حتَّى
نَفْهَم. فلم يَلتفتْ
إليهِ.
ثمَّ قالَ عليه السلام:
"أمَّا بعدُ، فانسِبُوني
وانظُروا مَنْ أنَا، ثمَّ
ارجِعُوا إلى أنفسِكُم
فعاتِبُوها، وانظُروا هلْ
يحِلُّ لكُم قَتلي
وانتهاكُ حُرْمتي؟ أَلَستُ
ابْنَ بنتِ نبيِّكُم
وابْنَ وصيِّهِ وابنِ
عمِّهِ وأوَّلِ المؤمنينَ
باللهِ والمصدِّقِ
لرسولِهِ بِما جاءَ بِهِ
مِن عندِ رَبِّه؟
أَوَلَيسَ حَمزةُ سيّدُ
الشهداءِ عَمَّ أَبي؟!
أَوَليسَ جَعفرٌ الشهيدُ
الطيَّارُ ذو الجَناحَينِ
عمِّي؟!
"أَوَلَم يبلُغْكُم قولُ
رَسولِ اللهِ
صلى الله
عليه وآله وسلم لي
ولأَخِي:
"هَذانِ سَيِّدا
شَبابِ أهلِ الجنَّةِ؟!
فَإِنْ صَدَّقْتُموني
بِما أَقولُ، وَهُوَ الحقُّ،
فَوَاللهِ ما تَعمّدْتُ
كَذِباً منذُ علِمتُ أنَّ
اللهَ يَمقُتُ علَيهِ
أَهلَهُ، ويضُرُّ بهِ مَنِ
اختلقَهُ. وإنْ
كَذَّبْتُموني، فإنَّ
فيكُم مَن إنْ سألْتُموهُ
عَن ذلكَ أَخبرَكُم،
سَلُوا جَابرَ بْنَ عبدِ
اللهِ الأَنصاريَّ، وأَبا
سعيدٍ الخِدْريَّ، وسَهلَ
بْنَ سعدٍ الساعِدِيَّ،
وزَيْدَ بْنَ أرقمَ،
وأنَسَ بنَ مالكٍ
يُخْبرُوكُم أنَّهم
سَمِعُوا هذهِ المقالةَ
مِنْ رَسولِ الله صلى الله
عليه وآله وسلم لي
ولأَخِي. أَمَا في هذا
حاجزٌ لكم عن سَفكِ دَمي؟!".
فقالَ له شِمْرُ: أنا
أعبُدُ الله على حَرفٍ
إِنْ كُنتُ أَدري مَا
تقولُ.
فقالَ لَه حبيبٌ بنُ
مظاهرٍ: واللهِ، إنِّي
لَأراكَ تعبُدُ الله على
سبعينَ حَرفاً! وأشهدُ
أنَّكَ صادقٌ: ما تدري
مَا يقولُ، قد طَبعَ اللهُ
على قلبِك.
ثمَّ
قالَ الحسينُ عليه السلام:
"فِإنْ كنتُم فِي شكٍّ
مِن ذلكَ، أفَتَشُكُّونَ
أنّي ابنُ بنتِ نبيّكُم؟!
فواللهِ، مَا بينَ المشرقِ
والمغربِ ابنُ بنتِ نبيٍّ
غَيري فيكُم ولا في
غَيرِكُم، أَنَا ابنُ بنتِ
نبيّكُم خاصّةً.
وَيْحَكُم! أفتطلِبُونني
بقتيلٍ منكُم قَتلْتُهُ،
أَو مالٍ لكُمُ
اسْتَهلكْتُهُ، أو بقِصاصٍ
من جِراحةٍ؟ فأخذُوا لا
يكلِّمونَه، فنَادَى: يا
شِبثَ بْنَ رِبعي، ويا
حَجَّارَ بْنَ أبْجَرَ،
ويا قَيسَ بْنَ الأشْعَثِ،
ويا زيدَ بنَ الحَرثِ،
أَلَم تكتُبُوا إليَّ: أنْ
قَدْ أينعتِ الثِمارُ،
واخضَرَّ الجَنَابُ12،
وإنَّما تُقدِمُ على جُندٍ
لكَ مُجنَّدَةٍ؟".
فقالوا: لَمْ نَفْعَلْ
ذلكَ.
قالَ عليه السلام: "سبحانَ
اللهِ، بَلى واللهِ،
لَقَدْ فَعلتُمْ".
ثمَّ قالَ:
"أيُّها
النَّاسُ، إذا
كرِهْتُمُوني فَدَعُوني
أنصرِفْ عَنكُم إِلى
مأْمَنٍ منَ الأرضِ".
فقالَ له قَيسُ بنُ
الأَشْعثِ: ما نَدرِي ما
تقولُ، ولكن انزِلْ
عَلَى
حُكمِ بني عَمِّكَ فإنّهم
لَن يُرُوْكَ إلَّا مَا
تُحِبُّ، ولن يصِلَ إليكَ
منهم مَكروهٌ.
فقالَ له الحسينُ عليه
السلام: "أنتَ أخُو أخِيكَ،
أَتريدُ أَنْ يطلِبَكَ
بنُو هاشمٍ بأكثَرَ مِنْ
دمِ مُسلمِ بنِ عقيلٍ، لا
واللهِ، لا أُعطيكُمْ
بيدي إعطاءَ الذَّليلِ،
ولا أفرُّ فرارَ العَبيدِ.
"عبادَ الله, إنّي عُذْتُ
بِربّي وربّكُم أنْ
تَرجُمُونِ، أعوذُ
بِرَبّيوربّكُم من كلِّ متكبّرٍ
لا يؤمنُ بِيومِ الحِسابِ".
ثمَّ أَنَاخَ راحِلَتَه،
وَأَمَرَ عُقبَةَ بنَ
سَمعانَ فَعَقلَها13.
وَأَقْبَلَ القومُ
يَزحَفونَ نَحوَ مخيَّمِ
الحسينِ عليه السلام وكانَ
فيهم عبدُ اللهِ بنُ
حَوزةَ التميميُّ فَصَاحَ:
أَفِيكُم حُسينٌ؟ فلم
يُجِبهُ أَحدٌ، فَأَعادَ
القولَ ثانيةً وثالثةً.
فقالَ له بعضُ أصحابِ
الحسينِ عليه السلام: هذا
الحسينُ، فما تريدُ مِنهُ؟
فقالَ: يا حسينُ، أَبشِرْ
بِالنّارِ!.
فقالَ الحسين ُعليه السلام:
"كَذِبتَ،
بَلْ أُقْدِمُ عَلى رَبٍٍّ
غَفورٍ كَريمٍ مُطاعٍ
شفيعٍ، فمَنْ أنتَ؟".
قال: أنا ابْنُ حَوزةَ.
فرفعَ الحسينُ عليه السلام يدَيهِ
نحوَ السماءِ، حتَّى بانَ
بَياضُ إبطَيه وقالَ:
"اللهمَّ
حُزْهُ إلى النّارِ".
فغَضِبَ ابنُ حَوزةَ،
وأَقحمَ الفرسَ في
الخندَقِ، فتعلّقتْ قدمُه
بالرِّكابِ وجالَت به
الفرسُ، فسقطَ عنها،
فانقطعت ساقُه وفخذُه،
وبقيَ جانبُه الآخرُ
معلَّقاً بالرِّكابِ،
يضرِبُ به الفرسُ كلَّ
حَجَرٍ وشَجرٍ، وأَلقته
في النّارِ المشتعلةِ في
الخندقِ، فاحترقَ بها
وماتَ لَعَنَه اللهُ.
قال مسروقُ بنُ وَائِلٍ
الحَضْرَمِي: كُنتُ في
أوّلِ الخيلِ الّتي
تَقَدّمَتْ لحربِ الحُسين
لَعَلِّي أُصيبُ رَأسَ
الحسينِ فَأَحظَى بهِ
عندَ
ابنِ زِياد, فَلَمَّا
رَأيتُ ما صنعَ بابنِ
حَوْزَةَ عرفتُ أنَّ
لِأَهلِ هذا البيتِ حُرمةً
ومنزلةً عندَ الله,
وتَرَكْتُ الناسَ وقلتُ:
لا أُقَاتِلُهُمْ فأكونَ
في النَّار.
خطبة
زهير بن القين
وخرجَ
إليهِم زُهيرٌ بنُ القَينِ
على فرسٍ ذَنوبٍ شاكٍّ في
السِّلاحِ، فَجَعَلَ
يُكَلِّمُ الناسَ، فقال:
يا أهلَ الكوفةِ نَذارِ
لَكُمْ مِن عذابِ الله,
إنَّ حقَّاً على المسلمِ
نصيحةُ أخيهِ المسلمِ,
ونحنُ حتَّى الآنَ إخوةٌ
على دينٍ واحدٍ ما لم يقعْ
بينَنا وبينَكمُ السيفُ,
وأنتُم للنصيحةِ منَّا
أهلٌ فإذا وقعَ السيفُ
انقطَعَتْ العِصْمَةُ
وكُنَّا أمَّةً وأنتُم
أمَّة, إنَّ اللهَ قدِ
ابتلانا وإيَّاكُمْ
بذُريَّةِ نبيِّهِ محمّدٍ
لينظُرَ ما نحنُ وأنتُمْ
عاملونَ، إنَّا ندْعُوكُمْ
إلى نصرِهِم وخِذْلانِ
يَزيدَ وَالطاغيةِ عُبَيدِ
اللهِ بْنِ زيادٍ،
فإنَّكُمْ لا تُدْرِكُونَ
مِنْهما إلَّا سُوءَ
عُمْرِ سُلطانِهما كلِّهِ.
فَسبُّوهُ، وأثْنَوْا على
عُبيدِ اللهِ بنِ زيادٍ
ودعَوْا لهُ، وقالُوا:
واللهِ، لا نَبْرَحُ
حتَّى نقتُلَ صاحبَكَ
ومَنْ مَعَهُ أوْ نَبْعَثَ
بهِ وبأصحابِهِ إلى
الأميرِ عُبيدِ اللهِ
سِلْمَاً.
فقالَ لهُمْ زهيرٌ: عِبادَ
اللهِ إنَّ وُلْدَ فاطمةَ
سلام اللهِ علَيْها أحقُّ
بالوُدِّ والنَّصْرِ منِ
ابْنِ سُميَّةَ، فإنْ لم
تنْصُروهُمْ فأُعيذُكُم
باللهِ أنْ تقتُلُوهُم.
قالَ الراوي: فَرَماهُ
شِمرٌ بسهمٍ وقالَ:
اُسْكُتْ، أسْكَتَ اللهُ
نَأمَتَكَ، أَبْرَمْتَنا
بكَثرةِ كلامِكَ. فقالَ
لَهُ زُهيرٌ: ما إيَّاكَ
أخاطِبُ... واللهِ، ما
أظُنُّكَ تُحْكِمُ منْ
كتابِ اللهِ آيتَيْنِ،
فأبشِرْ بالخِزْيِ يومَ
القيامةِ والعذابِ الأليمِ.
فقالَ لهُ شِمرٌ: إنَّ
اللهَ قاتِلُكَ وصاحِبَكَ
عنْ ساعةٍ. قالَ:
أفَبِالموتِ تُخوِّفُني؟
فواللهِ، لَلْموتُ معَهُ
أحَبُّ إليَّ مِنَ
الخُلْدِ مَعَكُم. ثُمَّ
أقبلَ زهيرٌ على القوم
رافِعاً صوتَهُ فقالَ:
عبادَ اللهِ، لا
يَغُرَّنَّكُمْ عنْ
دِينِكُم هذا الجَلِفُ14 الجَافي وأشباهُهُ،
فواللهِ، لا تَنالُ شفاعةُ
محمَّد
ٍصلى الله عليه
وآله وسلم قوماً أراقُوا
دِماءَ ذرِّيَتِهِ وأهلِ
بيتِهِ وقتَلُوا مَنْ
نصَرَهُمْ وذبَّ عنْ
حريمِهِم. فناداهُ رَجلٌ
فقالَ لَه: إنَّ أبا عبدِ
اللهِ عليه السلام يقولُ
لكَ:
"أقبِلْ، فلَعَمْري لئنْ
كانَ مؤمِنُ آلِ
فِرْعَوْنَ نصَحَ لقومِهِ
وأبلَغَ في الدُعاءِ،
لقَدْ نصحْتَ لهؤلاءِ
وأبلغْتَ لو نَفَعَ
النُّصْحُ والإبلاغُ".
خطبة
الإمام الحسين عليه
السلام الثانية
ثمَّ
رَكِبَ عليه السلام
فَرَسَهُ وخرجَ إلى الناسِ
فاستنصَتَهم فأَبَوا أنْ
ينصُتوا حتَّى قال لهم:
"ويْلكُم
ما عليكُم أنْ تُنْصِتُوا
لِي فَتَسْمَعُوا قَوْلي،
وَإنَّما أَدعُوكُم إلى
سبيلِ الرشَادِ. فَمَنْ
أَطَاعَنِي كانَ من
المرشَدينَ، ومَن
عَصَانِي كانَ من
المُهْلَكِين. وكُلُّكُم
عَاصٍ لأَمرِي غيرَ
مُسْتَمِعٍ قَوْلي, فَقَدْ
مُلِئَتْ بُطُونُكُم مِنَ
الحَرَامِ وطُبِعَ عَلى
قُلُوبِكُم. وَيْلَكُم،
أَلَا تَنصِتُون؟ أَلَا
تَسْمَعُون؟"
فَتَلاوَمَ
أصحابُ عُمَرَ بنِ سَعْدٍ
بَيْنَهم وقالوا:
أَنْصِتُوا لَه. فَحَمَدَ
اللهَ وأثْنَى عَليهِ
وَذَكَرَهُ بِما هُوَ
أَهْلُهُ وصلَّى على
محمَّدٍ وعلى الملائِكةِ
والأنبياءِ والرسلِ
وأَبْلَغَ في المَقَالِ،
ثمَّ قال: "تَبّاً15 لَكُم
أيّتُها الجماعةُ وتَرَحا ً،16 أَحِينَ
اسْتَصْرَختُمُونا17
والِهينَ18 فأَصْرَخناكُم
مَوْجِفين19، سَللتُم20
عَلينا سَيفاً لنا في
أَيْمانِكم، وحَشَشْتُم21
علينا
ناراً قْدَحْناها22
على عدوِّنا وعدوِّكُم،
فأصبحتُم إلْباً23 لأعدائِكُم على
أوليائِكُم، ويَداً عليهم
لأعدائِكم، بغيرِ عَدلٍ
أفشَوْهُ فيكُم، ولا أمَلٍ
أصبحَ لكُم فيهم، إلَّا
الحرامَ من الدّنيا
أَنَالُوْكُم وخَسِيسَ
عَيْشٍ طَمِعْتُم فيهِ،
من غيرِ حَدَثٍ كانَ منّا،
ولا رأيٍ تَفيَّل24 لَكُم،
فهَلاَّ
-
لكُمُ الوَيلاتُ
- إذْ
كَرِهتُمونا، تركْتُمونا،
والسيفُ مَشِيْمٌ25، والجأشُ26 طامِنٌ،27 والرأيُ لَمَّا
يُستَحْصَفْ،28 ولكنْ
أسرعتُم إليها كَطَيْرَةِ
الدَّبَا29، وتهافتُّم
عليها كتَهافُتِ الفَرَاشِ،
ثمَّ نَقَضْتُموها،
فسُحقاً لكُم يا عَبيدَ
الأُمَّةِ، وشُذَّاذَ
الأحزابِ، ونَبَذَةَ
الكِتابِ، ومُحرِّفي
الكَلِمِ، ونَفْثَةَ
الشيطانِ، وعُصْبَةَ
الآثامِ، ومُطفِئي
السُّننِ، وقَتَلةَ أولادِ
الأنبياءِ، ومُبيدي عِترةِ
الأوصياءِ، ومُلحِقي
العُهَّارِ30 بالنَّسَبِ،
ومؤذِي المؤمنينَ،
وصُرَّاخَ أئمةِ
المستهزئينَ،﴿الَّذينَ
جَعَلوا القرآنَ عِضِينَ﴾31
﴿وَلَبِئْسَ
ما قدَّمتْ لَهم أنفسُهُم
أن
سخط الله عليهم وفي
العذابِ هُم خالدُونَ﴾
32أنتُمُ ابنَ حَربٍ
وأشياعَهُ تَعْضدون،
وعنّا تخاذَلُونَ. أجَلْ
-وَاللهِ- غَدْرٌ فيكُم
قَديمٌ، وَشَجَتْ
33عَليهِ
أصولُكُم، وتأزَّرَتْ
عليه فروعُكم، وثبتَتْ
عليهِ قُلوبُكُم،
وغَشِيَتْ صدورُكُم،
فكنتُم أخبَثَ ثَمَرٍ،
شَجىً34 للناظرِ، وأُكْلَةً35 للغاصِبِ. ألَا لعنةُ
اللهِ على الناكِثينَ،
الذينَ ينقضُونَ
الأَيْمانَ بعدَ
توكيدِهَا، وقد جعلتُمُ
اللهَ عَليكُم كَفيلاً،
فأنتم -وَاللهِ- هُمْ.
ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ
الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ36 بينَ
اثنَتَينِ: بينَ
السِّلَّةِ37 والذِّلَّةِ،
وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ،
يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ
ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ،
وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ،
وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ
ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ38
مِنْ
أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ
اللِّئامِ على مصارِعِ
الكِرَامِ. ألَا وَقَدْ
أُعْذِرتُ وأَنْذَرْتُ،
ألَا وإنِّي زاحِفٌ بهذِهِ
الأُسرةِ على قلَّةِ
العَدَدِ، وكَثرةِ العدُوِّ،
وخِذلانِ الناصرِ".
ثمَّ وَصَلَ كَلامَهُ
بِأَبْيَاتِ فَرْوَةَ بنِ
مسيكٍ المُرَادِيّ فقالّ:
فَإِنْ نُهْزَمْ
فَهَزَّامُونَ قِدماً
وَإِنْ نُغْلَبْ
فَغَيرُ مُغَلَّبِينا
فَقُلْ لِلْشَامِتينَ
بِنا أَفِيقُوا
سَيَلْقَى
الشَامِتُونَ كَمَا
لَقِينا
ثمَّ قال عليه السلام: "أمَا
واللهِ، لا تلبَثونَ
بعدَها إلَّا كَرَيثِ39 ما
يُركَبُ الفَرَسُ، حتَّى
تدورَ بِكُم دَوَرانَ
الرَّحى40، وتقلقَ بِكم
قَلقَ المِحْوَرِ41، عهدٌ
عَهِدَهُ إليَّ أبي عن
جدّي رسولِ اللهِ صلى الله
عليه وآله وسلم
﴿فأَجْمِعُوا
أمرَكُمْ وشركاءَكُمْ ثمَّ
لا يكُنْ أمرُكُمْ عليكم
غُمَّةً ثمَّ اقْضوا إليَّ
ولا تُنْظِرُونِ﴾42
،
﴿إنّي توكَّلْتُ على
اللهِ ربِّي ورَبِّكُمْ
ما من دابةٍ إلَّا هو آخذٌ
بناصيتِها إنَّ رَبِّي
على صراطٍ مستقيمٍ﴾43.
ثمَّ رفعَ يدَيهِ نحو
السماءِ وقالَ:
"اللهمَّ
احبِسْ عنهم قَطْرَ
السماءِ، وابعثْ عليهم
سنينَ كسِنيِّ يوسُفَ،
وسلِّطْ عليهم غُلامَ
ثقيفٍ يسقيهم كأساً
مُصَبّرةً،44
فإنَّهم
كذَّبونا وخَذَلونا، وأنت
ربُّنا عليكَ توكَّلنا
وإليكَ أَنَبْنَا وإليك
المصيرُ".
واستدعى الحسينُ عليه
السلام عُمرُ بنَ سَعدٍ
وكانَ كارِهاً لا يُحبُّ
أنْ يأتيَهُ. فلمّا حضرَ،
قالَ لهُ:
"يا عُمَرُ،
أتزعَمُ أنّكَ تقتُلُنِي
ويُوَلِّيكَ الدعيُُّ45
ابنُ الدعيِّ بلادَ
الرَّيِّ وجُرجانَ؟ واللهِ،
لا تهنأُ بذلكَ
أبَداً،
عَهدٌ مَعهودٌ، فاصنعْ ما
أنتَ صانعٌ، فإنَّكَ لا
تَفرحُ بَعدِي بِدُنيا
ولا آخرةٍ، وكأنِّي
برأسِكَ على قَصَبةٍ قد
نُصِبَ بالكوفةِ، يتراماه
الصِّبيانُ ويتّخذونَهُ
غَرَضاً
46بينهم". فغضِبَ
ابنُ سعدٍ من كلامهِ، ثمَّ
صَرفَ وجهَهُ عنهُ، ونادى
بأصحابِهِ: ما تنتظرونَ
بِه؟! اِحمِلُوا
بِأَجمَعِكُم، إنَّما هيَ
أَكلةٌ واحدة.
موقف
الحرّ الرياحي
ولَمَّا رأى الحرُّ بْنُ
يزيدَ الرياحيُ أنَّ
القومَ قد صمَّمُوا على
قتالِ الحسينِ عليه السلام
قالَ لعمرَ بنِ سعدٍ:
أَمُقاتِلٌ أنتَ هذا
الرجل؟
قالَ: إي واللهِ، قِتالاً
أيْسَرُهُ أنْ تَسقُطَ
فيهِ الرؤوسُ وتَطيحَ
الأيدي.
قالَ الحرُّ: فما لَكُمْ
فيما عَرَضَهُ عليكم رِضىً؟
قالَ ابنُ سعدٍ: لو كانَ
الأمرُ إليَّ لَفَعلتُ،
ولكنَّ أميرَكَ قَدْ
أَبَى ذلك. فتَرَكَهُ
الحُرُّ، وأقبلَ حتَّى
وقفَ معَ الناس, ومعهُ
رجلٌ مِن قَومِهِ يُقالُ
له قُرَّةُ بنُ قيسٍ,
فقال له: يا قُرَّةُ، هلْ
سَقَيْتَ فَرَسَكَ اليوم؟
قال: لا, قال: فما تريدُ
أنْ تَسْقِيَه؟ قال
قُرَّةُ: فَظَنَنتُ -وَاللهِ-
أنَّه يريدُ أنْ
يَتَنَحَّى فلا يشهدُ
القِتالَ فكرِهَ أنْ أراهُ
حِينَ يَصنَعُ ذلك, فقلتُ
لهُ: لمْ أسقِهِ وَأَنا
مُنْطَلِقٌ فأسقِيَه.
وأخذَ الحرُّ يدنو منِ
الحسينِ عليه السلام قليلاً
قليلاً، فقالَ له المهاجرُ
بنُ أوسٍ: أتريدُ أن
تحمِلَ؟ فسكتَ، وأخذَتْه
الرَّعْدة47!
فقالَ له المهاجرُ: إنّ
أمرَك لَمُريبٌ، واللهِ
ما رأيتُ منكَ في
موقفٍ
قَطُّ مثلَ هذا، وَلَو
قيلَ لي: مَن أشجعُ أهلِ
الكوفةِ لَمَا
عَدَوْتُكَ، فمَا هذا
الذي أرَى مِنك؟
فقالَ الحرُّ: إنّي -وَاللهِ-
أُخيّرُ نفسي بينَ الجنّةِ
والنّارِ، ولا أختارُ على
الجنَّة شيئاً، وَلَو
قُطِّعتُ وحُرِّقت.
ثمَّ ضربَ فَرَسَهُ،
قاصِداً إلى الحسينِ عليه
السلام ويدُه على رأسهِ،
وهو يقول: اللهُمَّ إليك
أُنيبُ، فتُبْ عليَّ، فقد
أرعبْتُ قلوبَ أوليائكَ
وأولادِ بنتِ نبيِّك.
ثمَّ قالَ: جَعَلنِيَ
اللهُ فِداكَ يا ابنَ
رسولِ اللهِ...أنا
صاحِبُكَ الذي حبَسْتُكَ
عنِ الرجوعِ وسايَرْتُكَ
في الطريقِ، وجعْجَعْتُ48 بكَ في هذا المكانِ.
واللهِ الذي لا إلهَ
إلَّا هوَ، ما ظننْتُ أنَّ
القومَ يَرُدُّونَ عليكَ
ما عرَضْتَ عليهِمْ أبداً
ولا يبلُغُونَ منكَ هذهِ
المَنْزِلةَ. فقلْتُ في
نفسي: لا أبالي أنْ
أُطِيعَ القومَ في بعضِ
أمرِهِم ولا يَرَوْنَ
أنِّي خرَجْتُ منْ
طاعتِهِم. وأمَّا هُمْ
فسيَقْبَلُونَ منْ حُسينٍ
هذهِ الخِصالَ التي
يَعْرِضُ عليهِم،
وَوَاللهِ، لوْ ظنَنْتُ
أنَّهُمْ لا يقبَلُونَها
مِنكَ ما رَكِبْتُ مثل
الذي ركبت، وإنّي قدْ
جئتُكَ تائباً ممَّا كانَ
منِّي إلى ربّي،
ومُواسِياً لكَ بنفسي
حتَّى أموتَ بينَ يديْكَ،
فهل لي من توبة؟.
قال عليه السلام: "نعَمْ
يَتُوبُ اللهُ عليكَ
ويغَفِرُ لكَ..إِنزِلْ".
قالَ: أنا لكَ فارِساً
خيرٌ مِنِّي راجلاً،
أقاتِلُهُمْ على فرَسي
ساعةً وإلى النُزولِ
يَصِيرُ آخرُ أمري. قالَ
الحسين ُعليه السلام:
"فاصنَعْ-
يرْحَمُكَ
الله
- ما بَدا لكَ".
فاستقدَمَ أمامَ أصحابِهِ
ثُمَّ قالَ: يا أهلَ
الكوفةِ، لأُمِّكُمُ
الهَبَلُ49 والعَبَرُ
50إذْ
دعَوْتُموهُ وأخذْتُم
بِكَظْمِه51, وأَحَطَتُم بهِ
من كُلِّ جَانِبٍ
فَمَنَعتُمُوهُ
التَوَجُّهَ إلى بلادِ
اللهِ العريضةِ حتَّى
يأمَنَ وأهْلَ بيتِهِ
وأصبحَ كالأسيرِ في
أيديكُم لا يَمْلِكُ
لنفسِهِ نَفْعاً ولا
يَدْفَعُ عنْها ضَرَّاً،
وحَلأْتُموهُ52ونساءَهُ
وصِبْيَتَهُ وأصحابَهُ عنْ
ماءِ الفُراتِ الجاري...،
وها هُم قد صَرَعَهُمُ
العطَشُ، بِئْسَما
خَلَّفْتُمْ مُحمَّداً في
ذريَّتِهِ، لا سَقاكُمُ
اللهُ يومَ الظَمَأ إنْ
لم تتُوبوا وتَنْزِعُوا
عمَّا أنتُمْ عليهِ مِنْ
يومِكُم هذا في ساعتِكُمْ
هذِهِ.
فحمَلَتْ عليهِ رَجَّالةٌ
لهُم ترميهِ بالنَّبْلِ،
فتقهقرَ حتَّى وقَفَ بين
يدي الحسين ِعليه السلام.
شهادة
أصحاب الحسين عليه السلام
وتقدّمَ عُمَرُ بنُ سعدٍ
نحو عسكرِ الحسينِ عليه
السلام، فوضعَ سَهماً في
كَبِدِ قَوسِه ورمى وقالَ:
اشهدوا لي عندَ الأميرِ
أنِّي أوَّلُ مَن رمى، ثمَّ
رمى الناسُ، وأقبلتِ
السهامُ منَ القومِ
كأنَّها المطرُ. فلم يبقَ
من أصحابِ الحسينِ عليه السلام أحدٌ
إلَّا أصابَهُ منْ
سهامِهِم.
فقالُ الحسينُ عليه السلام
لأصحابِه: "قوموا -رحِمَكُم
اللهُ- إلى الموتِ الذي
لا بدَّ منه، فإنّ هذه
السهامَ رُسُلُ القومِ
إليكم".
فحمَلَ أصحابُه حَملةً
واحدةً، واقتتلوا ساعةً
منَ النهارِ، فما انجلَتِ
الغَبَرةُ إلَّا عنْ
خمسينَ صَريعاً.
ولَمَّا قُتلَ من أصحابِ
الحسينِ عليه السلام في
هذهِ الحَملةِ مَن قُتلَ
صارَ يبرُزُ الرجُلُ
والرجلانِ، ويستأذنونَ
الحسين َعليه السلام
ويقاتلونَ ثمَّ يُقتلونَ،
فخَرجَ منْ عسكرِ ابْنِ
سعدٍ يَسارٌ مولى زيادٍ،
وسالمٌ مولى ابْن زيادٍ،
فَطَلبا المبارزةَ،
فوَثَبَ حبيبٌ وبُرَيرٌ،
فلمْ يأذنْ لهما الحسينُ عليه السلام.
فقامَ عبدُ اللهِ بنُ
عُمَيرٍ واستأذنَ الحسينَ عليه السلام في
البِرازِ،
فنظرَ
إليهِ الحسين ُعليه السلام،
وقالَ:
"إنّي أحسَبُهُ
لِلأَقرانَ53
قتَّالاً".
فبرزَ إليهِما، وقاتلَهما
حتَّى قتَلَهُما مَعاً،
ثمَّ أقبلَ إلى الحسينِ عليه السلام فأخذتِ
امْرأتُه أمُّ وَهَبٍ
عَموداً وأقبلتْ نحوَه،
وهِيَ تقولُ: فداكَ أبي
وأمِّي، قاتِلْ دونَ
الطيّبينَ ذرَّيةِ
محمّد ٍصلى الله عليه وآله
وسلم، فأرادَ أنْ
يرُدَّها إلى النساءِ,
فأخذتْ تجاذِبُه ثوبَهُ،
وتقولُ: لنْ أدَعَكَ دونَ
أنْ أموتَ مَعَكَ.
فناداها الحسين ُعليه السلام: "جُزِيتُم
منْ أهلِ بيتِ نبيِّكُم
خَيراً، ارجِعي رحِمَكِ
اللهُ فإنَّه ليسَ على
النساءِ قِتالٌ". فرجَعَتْ
إلى النساء.
ولَمّا حمَلَ الشمرُ
اللعينُ في جماعةٍ منْ
أصحابِه على مَيسَرةِ
أصحابِ الحسين ِعليه السلام،
فثَبتوا لهم وكشفوهم،
قاتَلَ عبدُ اللهِ بْنُ
عُمَيرٍ، فقتلَ رِجالاً،
وصَرعَ آخرينَ، وقاتَلَ
قِتالاً شَديداً، حتَّى
قُطِعَت يدُهُ اليُمنى
وساقُه, ثمَّ قُتلَ، وقيلَ:
أُخِذَ أسيراً إلى ابْنِ
سَعدٍ، فقتَله صَبراً.
وبرزَ وَهَبُ بنُ عبدِ
اللهِ، فأَحسَنَ في
الجِلادِ، وبالغَ في
الجهادِ، وكان معَه أمُّه
وزوجتُه، فقالَتْ لهُ
أمُّهُ: قُمْ يا بُنَيَّ،
وانصُرْ ابنَ بنتِ رسولِ
اللهِ صلى الله عليه
وآله وسلم فقالَ: أفعلُ
يا أمّاهُ ولا أُقصِّرُ،
إنْ شاءَ الله.
ثمَّ برزَ فلم يزَلْ
يقاتلُ حتَّى قتلَ منهم
جماعةً، ثمَّ رجَعَ إلى
أمِّهِ وامرأتِه, وقالَ:
يا أمّاهُ، أرَضيتِ أمْ
لا؟
فقالتْ
أمُّهُ: ما رضِيتُ حتَّى
تُقتلَ بينَ يَدي الحسين ِعليه السلام.
وقالتِ امرأتُه: بالله
عليكَ، لا تفجَعْني
بنفسِكَ.
فقالتْ أمُّهُ: يا بُنَيَّ،
أعْزِبْ
54عن قَولِها،
وارجِعْ فقاتلْ بين يدَي
ابنِ بنتِ رسولِ اللهِ،
تنَلْ شفاعةَ جدِّهِ يومَ
القيامةِ.
فتقدَّمَ إلى الحربِ، ولم
يزَلْ يقاتلُ حتَّى قُطعتْ
يَداه، فأخذتِ امرأتُه
عَموداً، وأقبلتْ نحوَه
وهِيَ تقولُ: فداكَ أبي
وأمّي، قاتلْ دونَ
الطيّبينَ حُرَمِ رسولِ
الله ِصلى الله عليه وآله
وسلم.
فقالَ لها: الآنَ كنتِ
تَنْهَينَني عنِ القتالِ،
فكيفَ جئتِ تقاتلينَ
مَعِي؟!
فقالتْ: يا وهَبُ، لا
تلُمْني إنَّ واعيةَ55 الحسينِ كسرَتْ قلبي.
فقالَ: ما الذي سمعتِ منهُ؟
قالتْ: رأيتُه جالساً
ببابِ الخيمةِ، وهُوَ
ينادي:
"واقِلَّةَ
ناصِراه!!".
فبكى وهَبُ كثيراً، وقالَ
لها: ارجِعي إلى النساءِ
رَحِمَكِ اللهُ، فأبَتْ،
فصاحَ وهبٌ: سيّدي أبا
عبدِ اللهِ! رُدَّها إلى
الخيمةِ، فردَّها الإمام ُعليه السلام،
فانصرفَتْ إليها.
ولمّا قُتِلَ (رِضوانُ
اللهِ علَيهِ)، مَشتْ
زوجته إليهِ وجلستْ عندَ
رأسِه، تمسَحُ الدمَ
والترابَ عنه، وتقولُ:
هنيئاً لكَ الجنّةُ،
أَسألُ اللهَ الذي رزقَكَ
الجنَّةَ أنْ يَصحَبَني
مَعَكَ.
فقالَ
الشمرُ لغلامِه (رُستُمَ):
اضرِبْ رأسَها بالعَمودِ،
فَضَرَبَ رأسَها بالعَمودِ
فشدَخَهُ، فماتتْ في
مكانِها، وهِيَ أوَّلُ
امْرأةٍ قتلت من أصحاب
الحسين.
ولَمّا حمَلَ عَمرُو بنُ
الحَجّاجِ فيمَن معَهُ
مِن أصحابِه على مَيمنةِ
أصحابِ الحسين ِعليه السلام،
ثَبتوا له وجَثَوْا على
الرُّكَب، وأشرَعوا
الرماح، فلم تُقدِمِ
الخيلُ، فلمَّا ذهبتِ
الخيلُ لترجعَ، رشَقَهم
أصحابُ الحسينِ عليه
السلام بالنَّبْلِ،
فصَرعوا منهم رجالاً،
وجَرحوا آخرينَ.
ثمَّ حمَلَ عَمرُو بنُ
الحَجّاجَ مرّةً أخرى منْ
نحوِ الفُراتِ على أصحابِ
الحسينِ عليه السلام، بعدَ
أنْ حرَّضَ الناسَ على
قِتالهِم، وفي هذه الحملة
قاتلَ مسلمُ بْنُ عوسجةَ
فبالَغَ في قتالِ الأعداءِ،
وصَبَرَ على أهوالِ
البلاءِ، حتَّى سقَطَ إلى
الأرضِ وبهِ رَمَقٌ،
فمَشى إليه الحسينُعليه
السلام، ومَعَهُ حبيبُ بنُ
مُظاهِرٍ، فقالَ لهُ
الحسينُ عليه السلام:
"رَحِمَكَ اللهُ يا مُسلمُ"،
وتلا قولَه تعالى:﴿فمنهم
مَن قَضى نحبَهُ، ومنهم
مَن ينتظرُ وما بدَّلوا
تبديلا﴾56.
ودنا منه حبيبٌ وقالَ:
عَزَّ عليَّ مصرَعُك يا
مسلمُ، أَبْشِرْ بالجنَّةِ.
فقالَ
له مسلمٌ بصوتٍ ضعيفٍ:
بشَّرَكَ الله بخيرٍ.
فقالَ له حبيبٌ: لولا
أنّني أعلمُ أنِّي في
الأثَرِ لاحقٌ بكَ،
لأَحببْتُ أنْ تُوصيَني
بكلِّ ما أَهَمَّكَ.
قالَ مسلمٌ: أُوصيكَ بهذا،
وأشارَ إلى الحسين ِعليه
السلام، أنْ تموتَ دونَهُ.
گربت يبن ظاهر منيتي
ما اوصّيك بعيالي
وبيتي
انكان نيتك مثل نيتي
بالحسين واعياله
وصيتي
قالَ حبيبٌ: أَفعلُ وربِّ
الكعبةِ، ولأُنْعِمَنَّكَ
عَيناً.
فَما أَسرعَ مِنْ أنْ
فاضَتْ نَفْسُه بينهما،
وقَضَى نحبَه (رِضوانُ
اللهِ علَيهِ).
ولَمّا نظرَ مَن بَقيَ من
أصحابِ الحسين ِعليه السلام إلى
كَثرةِ مَن قُتِلَ منهم،
أخذَ الرجُلانِ والثلاثةُ
والأربعةُ، يستأذنونَ
الحسينَ عليه السلام في
الذبِّ عنهُ، والدَّفعِ
عن حُرَمِه، وكلٌّ يحمي
الآخَرَ من كيدِ عدوِّهِ.
فخَرَجَ الجابريّانِ
باكيَيْنِ، فقالَ لهما
الحسينُ عليه السلام: "ما
يُبكيكُما؟! فواللهِ،
إنّي لَأرجو أنْ تكونا عنْ
ساعةٍ قَريرَي العَينِ".
قالا: جَعَلنا اللهُ فداكَ،
واللهِ ما على أنفُسنا
نبكي، ولكنّا نبكي
ليكَ، نَراكَ قد أُحيطَ
بكَ، ولا نقدِرُ أنْ
ندفعَ عنك ونمنَعَكَ.
فقالَ الحسين ُعليه السلام:
"جَزاكُما اللهُ
يا ابنَي أَخي
بِوَجْدِكُما
منْ ذلكْ،
ومُواساتِكُما إيّايَ
بأنفُسِكما، أَحسَنَ
جزاءِ المتَّقين".
ثمَّ استَقْدَما أمامَ
الحسينِ عليه السلام،
فقاتَلا جميعاً قتالاً
شديداً، حتَّى قُتلا في
مكانٍ واحدٍ.
وجاءَ الغفاريَّانِ
وسلَّما على الحسين ِعليه
السلام وقالا: قدْ
حَازَنا العدوُّ إليكَ،
فأحببنا أنْ نُقتَلَ بين
يدَيك فنَمنَعَك ونَدفعَ
عنك، قالَ: "مرحباً بكما،
أُدْنُوَا منِّي"،
فدَنَوَا منه، فجعلا
يقاتلانِ قريباً منه
حتَّى قُتلا.
وكانَ أبو الشعثاءِ
الكنديُّ معَ ابنِ سعدٍ،
فلمّا رَدُّوا الشروطَ
على الحسينِ عليه السلام
صارَ مَعَه، وكانَ رامياً
مُهَدِّفاً، فجَثا على
رُكبتَيهِ بين يدَي
الحسينِ عليه السلام،
ورمَى بمَايةِ سهمٍ ما
أخطأ منها بخمسة أسهم،
والحسينُ عليه السلام
يدعو له قائلاً:
"اللهُمَّ سدِّدْ رَميتَه
واجعلْ ثوابَه الجنّةَ".
ثمَّ حمَلَ على القومِ،
فلم يزَلْ يُقاتلُ حتَّى
قَتَلَ منهم تسعةَ
نَفَرٍ، ثمَّ قُتلَ
(رِضوانُ اللهِ علَيهِ).
وحمَلَ الشمرُ على
فُسطاطِ57
الحسينِ
عليه
السلام وطعَنَهُ
بالرُّمحِ، وقالَ:
عَليَّ بالنّارِ
لِأُحرِقَهُ على أهلِه.
فتَصايَحَتِ النساءُ،
وخرَجْنَ منَ الفُسطاطِ،
وناداهُ الحسينُ عليه
السلام:
"يا بْن ذي الجَوْشَنِ، أنتَ
تدعو
بالنّارِ لتُحرِقَ بيتي
على أهلي؟ أحرَقَك اللهُ
بالنَّارِ".
ثمَّ جاءَ إليهِ شبثُ بنُ
رِبْعي، وقالَ لهُ:
أَمُرعِباً للنساءِ صِرْتَ؟!
ما رأيتُ مَقالاً أَسوأَ
منْ مَقالَتِكَ، ولا
مَوقِفاً أقبحَ من
مَوقِفِكَ.
فاسْتَحَى الشمْرُ وهَمَّ
بالانصِرافِ فَحَمَلَ
عليهِ وعلى جماعتِهِ
زُهيرُ بْنُ القَينِ في
عَشَرةٍ من أصحابِه
فكَشفُوهم عنِ الخِيامِ،
وقُتِلَ أبو عَزرةَ
الضِبابيُّ من أصحابِ
الشمرِ. وكانَ يُقتَلُ منْ
أصحابِ ابْنِ سعدٍ
العشَرةُ وأكثرُ، فلا
يَظهَرُ عليهم
لِكَثرَتهِم.
وكانَ إذا قُتلَ منْ
أصحابِ الحسينِ الرجُلُ
والرجُلانِ يَبِينُ النقصُ
فيهِم لِقِلَّتِهم.
ولَمّا كَثُرَ القتلُ في
أهلِ الكوفةِ، صاحَ
عَمْرُو بْنُ الحَجّاجِ
بأصحابِه: وَيحَكُم يا
حُمَقاءُ، أتَدرونَ مَنْ
تقاتلونَ؟ تقاتلونَ
فُرسانَ المِصرِ، وأهلَ
البصائِرِ، وقوماً
مُستميتينَ، لا يبرُزُ
إليهم أحدٌ منكم إلَّا
قَتلوهُ على قِلّتهم.
واللهِ لَو لَم تَرموهُم
إلَّا بالحِجارةِ
لَقَتلْتموهُم.
فقالَ ابنُ سعدٍ: صَدَقْتَ،
الرأيُ ما رأيتَ، أرسِلْ
في الناسِ مَن يَعزِمُ
عليهم أنْ لا يبارزَهم
رَجُلٌ منهم، ولَوْ
خَرَجتم إليهم وُحْداناً
لَأَتَوا عليكم مبارَزةً.
وقاتلَ أصحابُ
الحسينِعليه السلام
قِتالاً شَديداً، وأخذَتْ
خَيلُهم تحمِلُ، وما
حمَلتْ على جانبٍ من خَيلِ
أهلِ الكوفةِ إلَّا
كَشَفتْهُ.
صلاة
الظهيرة
واشتدَّ
القتالُ بين الفريقَينِ
حتَّى الزوالِ، فالتفَتَ
أبو ثَمامةَ الصائديُّ
إلى الشمسِ قد زالتْ،
فقالَ للحسينِ عليه السلام:
نَفسي لكَ الفداءُ، إنِّي
أرى هؤلاءِ قد اقتربوا
منكَ، لا واللهِ لا
تُقتَلُ حتَّى أُقتلَ
دونَك إنْ شاءَ اللهُ،
وأُخضَّبَ بدمي، وأُحِبُّ
أنْ ألقَى ربِّي وقد
صلّيتُ معَكَ هذه الصلاةَ
التي دَنَا وقتُها.
فرفَعَ الحسين ُعليه السلام
رأسَه إلى السماءِ، وقالَ:
"ذكرتَ الصلاةَ، جَعَلَكَ
اللهُ من المصلّينَ
الذاكرينَ، نعم هذا أوّلُ
وقتِها، سَلُوا القومَ أنْ
يَكُفُّوا عنّا حتَّى
نصلّي".
فَفَعَلُوا.
فقالَ الحُصينُ بنُ
نُمَيرٍ: إنَّها لا
تُقبَلُ.
فقالَ له حبيبُ بنُ
مُظاهِرٍ: زَعَمتَ أنّها
لا تُقبَلُ من آلِ الرسولِ
وتُقْبَلُ منك..؟!
فحمَلَ عليهِ الحُصَينُ،
فضربَ حبيبٌ وجهَ فرسِه
بالسيفِ، فشبَّت به
الفرسُ، ووقَعَ عنها،
وحمَلهُ أصحابُه
واستنقذوهُ.
ثمَّ خَرَجَ حَبيبُ بنُ
مَظَاهِرٍ وَعُمْرُهُ
يَنوفُ على الخامسةِ
والسبعينَ وقَاتَلَ
قِتالاً شَديداً, فقَتلَ
منهم عدداً كبيراً.
وبينما
هو يقاتلُ حمَلَ
عليه بَديلُ بنُ صُرَيمٍ،
فضرَبهُ حبيبٌ بالسيفِ
على رأسِه فقَتَلَهُ،
وحمَلَ على حبيبٍ رجلٌ
آخرُ من تميمٍ، فطَعَنه
بالرُّمحِ، فسقطَ حبيب
إلى الأرضِ فذَهَبَ
لِيقومَ، وإذا الحُصَينُ
يضرِبهُ بالسيفِ على رأسهِ،
فسقطَ لِوجهِه يخورُ
مضرجاً بدمهِ، ونزِلَ
التميميُّ فاحْتَزَّ
رأسَه، فهدَّ مقتلُهُ
الحسينَ عليه السلام
واسترجعَ كثيراً، وقالَ:
"عِندَ اللهِ أَحتَسِبُ
نفسي وحُماةَ أصحابي".
ولمّا قُتِلَ حبيبٌ أخَذَ
الحرُّ يقاتِلُ راجلاً،
فحمَلَ على القومِ معَ
زهيرِ بنِ القَيْنِ، فكانَ
إذا شَدَّ أحدُهُما
فاستلْحَمَ شدَّ الآخَرُ
واستنقذَهُ، ففعَلا ذلكَ
ساعةً.
فبَيْنا الناسُ
يتجاوَلُونَ ويقْتتِلُونَ
والحُرُّ يَحْمِلُ على
القومِ
مُقْدِماً..يضرِبُهُمْ
بسيفِهِ، إذ تكاثَرَ عليهِ
الرجَّالة حتَّى أردوهُ
صَريعاً، فحمَلَهُ
الأصحابُ ووضعُوهُ بينْ
يَدَي الإمامِ
الحسينِعليه السلام وبهِ
رَمَقٌ، فجعَلَ
الحسينُعليه السلام يمسَحُ
وجهَهُ ويقولُ: "أنتَ
الحرُّ كما سمَّتْكَ
أمُّكَ، وأنتَ الحرُّ في
الدنيا وأنتَ الحرُّ في
الآخرةِ".
لَنِعْمَ الحُرُّ حُرُّ
بَنِي رِيَاحِ
صَبُورٌ عِنْدَ
مُشْتَبَكِ الرِمَاحِ
ونِعْمَ الحُرُّ إِذْ
وَاسَى حُسَيْناً
وجَادَ بِنَفْسِهِ
عِنْدَ الصَبَاحِ
ثمَّ إنَّ الحسينَ
عليه السلام قالَ لزُهيرِ
بْنِ القَينِ وسعيدِ بنِ
عبد
ِ اللهِ: "تَقدّما
أمامي حتَّى أُصلِّيَ
الظُّهرَ".
فتقدَّما أمامَه بنِصْفِ
مَنْ بقيَ معَه منْ
أصحابِه، فصلّى
الحسينُ عليه السلام
بالنِّصفِ الآخَرِ،
فكلّما جاءتِ السهامُ نحوَ
الحسينِ عليه السلام يميناً
وشِمالاً قامَ سعيدٌ بينَ
يَدَيهِ، فما زالَ يتلقّى
النَّبلَ بنَحْرِهِ
وصَدرهِ، حتَّى أُثخِنَ
بالجِراحِ، وسقطَ إلى
الأرضِ، وهُوَ يقولُ:
اللهُمَّ العَنْهُم لَعنَ
عادٍ وثمودَ، اللهُمَّ
أَبلِغْ نبيَّك عنّي
السلامَ، وأَبلِغْه ما
لَقِيتُ من ألمِ الجِراحِ،
فإنّي أردتُ بذلكَ ثوابَكَ
في نُصْرَةِ ذُرِّيةِ
نبيِّكَ محمّد ٍصلى الله
عليه وآله وسلم. ثمَّ
التَفَتْ إلى الحسينِ عليه
السلام (وكانَ قد فَرَغَ
من صَلاته) وقالَ:
أَوَفَيتُ يا بْنَ رسولِ
الله؟
قالَ الحسينُعليه السلام:
"نعمْ، أنتَ أمامي في
الجنَّةِ".
ثمَّ قضَى نَحبَه فوُجِدَ
بهِ ثلاثةَ عَشَرَ سَهماً،
سِوى ما به من ضَربِ
السيوفِ وطَعْنِ الرِّماحِ.
بِأَبِي مَنْ شَرَوْا
لِقَاءَ حُسَيْنٍ
بِفِرَاقِ
النُفُوسِ وَالأَرْوَاحِ
وَقَفُوا يَدْرَؤُونَ
سُمْرَ العَوَالِي
عَنْهُ وَالنَبْلَ
وَقَفْةَ الأَشْبَاحِ
فَوَقَوْهُ بِيضَ الظُبَا
بِالنُحُورِ الـ
ـبيضِ وَالنَبْلَ
بِالوُجُوهِ الصِّبَاحِ
الحملة
الثانية
ثمَّ قالَ الحسينُ عليه السلام
لبَقيَّةِ أصحابِه:
"يا
كِرامُ، هذهِ الجنَّةُ
فُتِحَتْ أبوابُها،
واتَّصلَتْ أنهارُها،
وأينَعتْ ثِمارُها، وهذا
رسولُ اللهِ صلى الله عليه
وآله وسلم والشهداءُ
الذينَ قُتلوا في سبيلِ
اللهِ، يَتوقَّعونَ
قُدومَكُم ويتباشرونَ بكم،
فحامُوا عن دينِ اللهِ
ودينِ نبيّهِصلى الله
عليه وآله وسلم، وذُبُّوا
عن حُرَمِ الرسولِ صلى الله عليه
وآله وسلم".
وخرجتْ حرائرُ الرسالةِ
وبناتُ الزهراءِ عليها
السلام من الخيمةِ، وصِحنَ:
يا مَعشرَ المسلمينَ، ويا
عُصبةَ المؤمنينَ،
إدفَعوا عن حُرَمِ
الرسولِ صلى الله عليه
وآله وسلم وعن إمامِكُم
المنافقينَ، لتكونوا
معَنا في جِوارِ جَدِّنا
رسولِ الله صلى الله عليه
وآله وسلم.
فعندَ ذلكَ بكى أصحابُ
الحسينِ عليه السلام،
وقالوا: نفوسُنا دونَ
أنفسِكُم، ودماؤنا دونَ
دمائِكم، وأرواحُنا لكم
الفداءُ، فواللهِ لا يصِلُ
إليكم أحَدٌ بمكروهٍ
وفينا عِرقٌ يَضرِبُ. ثمَّ
خرجَ زهيرُ بنُ القَينِ،
فوَضَعَ يدَه على مَنكِبِ
الحسينِ عليه السلام وقالَ
مستأذناً:
أَقـدِمْ فُدِيــتَ
هــادياً مَهدِيّا
فاليومَ ألقَى
جَدَّك النبيّا
وحَسَــناً والمرتضَــى
علـــيّا
وذا الجَــناحَينِ
الفـتى الكَمِيّا58
وأسَدَ اللهِ
الشهيدَ الحَيّا
فقالَ الحسينُ عليه السلام: "وأنا
ألْقاهم على إِثْرِكَ".
فقاتلَ زُهيرٌ حتَّى قتلَ
مَقتلةً عظيمةً، ثمَّ
عَطفَ عليه رَجُلانِ
فقتلاهُ.
فوقفَ عنده الحسينُ عليه السلام وقالَ:
"لا يُبْعِدَنَّكَ اللهُ
يا زهيرُ، ولَعَنَ
قاتلِيكَ.. لَعْنَ الذين
مُسِخُوا قِرَدَةً
وخنازيرَ".
ووقفَ عابسُ بنُ أبي شبيبٍ
الشاكريُّ أمامَ
الحسين ِعليه السلام وقالَ:
يا أبا عبدِ اللهِ، واللهِ
ما أمسَى على ظهرِ الأرضِ
قريبٌ ولا بعيدٌ أعزَّ
عليَّ ولا أحبَّ إليَّ
منك، ولوْ قَدِرتُ على أنْ
أدفعَ عنك الضَّيْمَ
والقتلَ بشيءٍ أعزَّ عليَّ
من نفسي ودمي لَفعلتُ.
السلامُ عليكَ يا أبا عبدِ
اللهِ، أُشْهِدُ اللهَ
أَنِّي على هُداكَ وهُدى
أبيكَ. ثمَّ مَشى بالسيف
نحوهم، فأخذَ ينادي:
أَلَا رَجلٌ لرجلٍ؟
فأحْجَموا عنه، ونادى
أحدُهم: أيّها الناسُ،
هذا أسَدُ الأُسودِ، هذا
أشجعُ الناسِ، هذا ابنُ
أبي شبيبٍ، لا يخرُجَنَّ
إليه أحدٌ منكمْ.
فصاحَ عُمَرُ بنُ سعدٍ:
أرضخُوه59 بالحجارةِ. فرموه
بالحجارةِ مِن كلِّ جانبٍ.
فلمّا رأى ذلكَ، ألقَى
دِرعَه ومِغْفَرَهُ وشدَّ
على الناسِ،
فهَزَمَهم بينَ يدَيهِ.
ثمَّ إنَّهم تَعَطَّفوا
عليهِ من كلِّ جانبٍ،
فقُتِلَ واحتُزَّ رأسُهُ،
وتخاصَموا فيهِ كلٌّ يقولُ:
أنا قتلتُه، فقالَ ابنُ
سعدٍ: لا تختصموا، هذا لم
يَقتلْه رجلٌ واحدٌ.
وجَعَلَ نافعُ بنُ هِلالٍ
يرميهِم بالسهامِ. ولمّا
نَفدَتْ سِهامُهُ، جرَّدَ
سيفَه، فحَمَلَ على القومِ،
فأحاطُوا بهِ يَرمُونَه
بالحِجارةِ والنِّصالِ،
حتَّى كَسَرُوا عَضُدَيهِ،
وأخذوهُ أسيراً،
فأمْسَكَهُ شِمرُ
وأصحابُه يسوقونَه إلى
ابنِ سعدٍ، فقالَ: الحمدُ
لله الذي جعلَ مَنايانا
على يدِ شِرارِ خَلْقِهِ.
وبَرَزَ بعدَ ذلكَ أَنَسُ
بنُ الحَرْثِ الكاهِلي،
وكان شيخاً كبيراً
صَحابياً رأى النبي َّصلى
الله عليه وآله وسلم
وسمِعَ حديثَه، وشَهِدَ
معه بَدْراً وحُنيناً،
فاستأذن الحسين عليه
السلام, وبرز شادّاً
وَسَطَه بالعِمامةِ رافعاً
حاجِبَيْهِ بالعِصابةِ عن
عينَيهِ. فلمّا نَظَرَ
إليهِ الحسينُ عليه
السلام بهذهِ الهَيئةِ
بَكى، وقالَ:
"شَكَرَ
اللهُ سَعيَكَ يا شيخ".
فقتَلَ جَمعاً منهم وقُتلَ
(رضوان الله عليه).
وأقبلَتْ أمُّ عَمْروٍ
إلى وَلَدِها عَمْرِو بنِ
جُنادةَ الأنصاريُّ الذي
لم يبلُغِ الحُلُمَ وقد
قُتِلَ أبوهُ جُنادةُ في
الحَملةِ الأولى،
فأَلْبَسَتْهُ
لامَةَ
الحربِ، وقالتْ له: بُنَيَّ
عَمْرو، اخْرُجْ وقاتِلْ
بينَ يَدَي ابنِ رسولِ
الله ِصلى الله عليه وآله
وسلم، فخرجَ الغُلامُ
واستأذنَ الحسينَ عليه
السلام في القتالِ، فأبى
الحسينُ عليه السلام أنْ
يأذَنَ له، وقالَ:
"هذا
غلامٌ قُتلَ أبوهُ في
المعركةِ، ولَعلَّ أمَّه
تَكرَهُ خروجَه". فقالَ
الغلامُ: إنَّ أُمِّي هيَ
التي أمرَتني بذلكَ.
فأَذِنَ له الحسينُ عليه
السلام، فبرزَ إلى الحربَ
وهُوَ يقولُ:
أميري حُسـينٌ ونِعْـــمَ
الأميرْ
سُرورُ فؤادِ البشـيرِ
النذيرْ
علــــيٌّ وفـاطـــــمةٌ
والــداهُ
فهلْ تَعْلَمُونَ لَهُ
مـِنْ نَظيرْ
لهُ طلعةٌ مثلُ شمـسِ
الضُّحى
لهُ غُـرَّةٌ مثــلُ
بـــدرٍ منيرْ
وقاتلَ فمَا أسرَعَ أنْ
قُتلَ، فاحتُزَّ رأسُه
ورُميَ بهِ إلى جِهةِ
مُعَسْكَرِ الحسينِ عليه
السلام، فأَخَذَتْ أُمُّهُ
الرأسَ، ومَسَحَتِ الدمَ
عنهُ، وهِيَ تقولُ:
أحْسَنتَ يا بُنَيَّ، يا
سرورَ قلبي ويا قُرَّةَ
عَيني.
ربيت يبني وبالربى ما خاب
ظني
ونلت الشهادة عنك وعني
لكن فراقك نزع والله
الروح مني
والله تكسرون القلب يقصار
الاعمار
وعادَتْ إلى المخيّمِ،
فأخذتْ عَمودَ خَيمةٍ
وحمَلَتْ على القومِ وهِيَ
تقولُ:
أنا عَجوزٌ في النسا
ضعيفةْ
خاويـــــةٌ بالــيةٌ
نحيــفةْ
أضرِبُكُم بضربةٍ
عنــــيفةْ
دونَ بني فاطمةَ
الشريــفةْ
شحال
العجوز التنتظر مصرع
ولدها للموت فارقها وخلاها
وحدها
تناديه يبني الوجد قطَّع
كبدها
لا هي بديره ولا أهل عدها
ولا دار
وضرَبَتْ رَجُلَينِ
بالعمودِ فدعا لها الحسينُ
عليه السلام وأمرَ
بِرَدِّها إلى المخيَّمِ
فرَجَعَتْ.
وكانَ للحسينِ عليه
السلام غُلامٌ تُرْكِيٌّ
اسْمُه سُليمانُ،
فاستأذَنَه في القتالِ
فأذِنَ له، فحَمَلَ على
القومِ وقتلَ جماعةً
كثيرةً، ثمَّ وقعَ صَريعاً،
فاستغاثَ بالحسينِ عليه
السلام فأتاهُ واعتنَقَهُ،
ففتحَ الغلامُ عينَه ورأى
الحسينَ عليه السلام
فتبسَّمَ، وأخذَ يفتَخِرُ
ويقولُ: مَنْ مِثلي وابنُ
رسولِ اللهِ واضعٌ خَدَّه
على خَدِّي؟ ثمَّ فاضَتْ
نفْسُه بين يَدَي الحسين
عليه السلام.
ثمَّ جاءَ حَنظَلةُ بنُ
أسعدَ الشِّبامِيُّ فوقف
بينَ يدَي الحسينِ عليه
السلام يَقِيهِ السهامَ
والرماحَ والسيوفَ
بوَجْههِ ونَحْرهِ، وأخذَ
ينادي:
﴿يا قَومِ إنِّي
أخافُ عليكم مثلَ يومِ
الأحزابِ، مِثلَ دَأْبِ
قومِ نوحٍ وعادٍ وثمَّودَ
والذينَ من بَعدهم وما
اللهُ يريدُ ظلماً
للعِبادِ، ويا قومِ إنِّي
أخافُ عليكم يومَ التناد،
يومَ تُوَلُّونَ مدْبِرينَ
ما لكم منَ اللهِ منْ
عاصمٍ، ومَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فما له منْ
هاد﴾60,
يا قومِ لا تقتلوا حسينَاً
فَيُسْحِتَكُمُ61 اللهُ
بعذابٍ وقدْ خابَ
مَنِ افترَى. فقالَ لهُ
الحسينُ عليه السلام:
"يا
بنَ أسعدَ، رَحِمَكَ اللهُ
إنَّهُم استَوجَبُوا
العذابَ حينَ رَدُّوا
عليكَ ما دَعَوتَهم إليهِ
منَ الحقِّ ونَهَضوا إليكَ
يشتمونَكَ وأصحابَك، فكيفَ
بهمُ الآنَ وقدْ قتلوا
إخوانَك الصالحين؟" قالَ:
صَدَقْتَ جُعِلْتُ فِداك.
أَفَلا نروحُ إلى
الآخِرَةِ ونَلحَقُ
بإخوانِنا؟ فقالَ: "بلى،
رُحْ إلى ما هو خَيرٌ لكَ
منَ الدنيا وما فيها وإلى
مُلْكٍ لا يَبلَى". فقالَ:
السلامُ عليكَ يا بن رسول
الله، صلّى اللهُ عليكَ
وعلى أهلِ بيتِك وعَرَّفَ
بَيْنَنا وبينَك في
الجنَّة، فقالَ: "آمينَ،
آمينَ"، ثمَّ تَقدَّمَ
وقاتلَ قتالَ الأبطالِ
وصَبَرَ على احتمالِ
الأهوالِ حتَّى قُتِلَ
رَحِمَهُ اللهُ.
ولم يزَلْ أصحابُ الحسينِ
عليه السلام يُسارعونَ
إلى القتلِ بين يدَيهِ،
وكانَ الرجلُ بعدَ الرجلِ
يَأتِي إلى الحسينِ عليه
السلام ويقولُ: السلامُ
عليكَ يا بنَ رسولِ اللهِ،
فيُجيبُه الحسينُ عليه
السلام:
"وعليكَ السلامُ ونحنُ
خَلفَكَ". ويقرأُ:
﴿فمنهم
مَنْ قضَى نحبَهُ ومنهُمْ
مَنْ ينتظرُ وما بَدَّلوا
تبديلاً﴾62.
حتَّى قُتلوا بأجمعِهم (رضوان
الله عليهم).
شهادة
أهل بيت الحسين عليهم
السلام
ولَمّا لم يبقَ معَ
الحسينِ عليه السلام
إلَّا أهلُ بيتِه، وهم
وُلْدُ عليٍّ عليه السلام،
ووُلْدُ جعفرٍ وعقيلٍ
ووُلْدُ الحسنِ عليه
السلام، ووُلْدُ الحسينِ
عليه السلام، اجتمعوا
وجَعلَ يُوَدِّعُ بعضُهم
بعضاً، وعَزَموا على
ملاقاةِ الحُتوفِ ببأسٍ
شديدٍ ونُفوسٍ أبيّةٍ.
مصرع
علي الأكبر
وأوّلُ
مَنْ تقدَّمَ عليُّ بنُ
الحسينِ الأكبرُ عليه
السلام. ولمّا عزَمَ على
القتالِ، وأقبلَ مستأذِناً
من أبيهِ، نظرَ إليه
الحسينُ عليه السلام
نَظَرَ آيِسٍ منه، وأرخَى
عينَيْهِ بالدموعِ، ورفعَ
سبابتيه نحوَ السماءِ
وقالَ:
"اللهمَّ اشهَدْ على
هؤلاءِ، فقد بَرزَ إليهِم
أشْبهُ الناسِ خَلْقاً
وخُلُقاً ومَنْطقاً
برسولِك محمَّد ٍصلى الله
عليه وآله وسلم، وكنَّا
إذا اشتقْنَا إلى رؤيةِ
نبيِّكَ نظرْنَا إليه،
اللهمَّ امنعْهُمْ بركاتِ
الأرضِ، وفرِّقهُمْ
تفريقاً، ومزِّقْهُم
تمزيقاً، واجعلْهُم طرائقَ
قِدَداً63، ولا تُرْضِ
الوُلاةَ عنهم أَبَداً،
فإنَّهم دَعَوْنا
ليَنْصُرونا، فعدَوْا
علينا يُقاتِلُونَنَا".
وصاحَ عليه السلام بعُمرَ
بنِ سعدٍ:
"ما لكَ يابنَ
سعدٍ، قطَعَ اللهُ
رَحِمَك كما قطعْتَ
رَحمِي ولم تحفَظْ قرابتي
من رسولِ الله ِصلى الله
عليه وآله وسلم".
ثمَّ تلا قولَه تعالى:
﴿إنّ
اللهَ اصطفَى آدمَ ونوحاً
وآلَ إبراهيمَ وآلَ
عِمرانَ على العالَمينَ
ذُرّيةً بعضُها من بعضٍ
واللهُ سميعٌ عليمٌ﴾64.
ولَمّا عَزَمَ على الحربَ،
عزَّ فِراقُه على
مُخَدَّراتِ الإمامةِ،
فأَحَطْنَ بهِ، وتعلَّقنَ
بأطرافِه، وقُلنَ له:
ارحَمْ غُربتَنا، فَلَا
طاقةَ لنا على فِراقِكَ.
فلمْ يَعبأْ بِهِنَّ. ثمَّ
تَوَجَّهَ نحوَ القومِ،
وشدَّ عليهم شَدّةَ الليثِ
الغَضبانِ، وهو يقولُ:
أنا عليُّ بنُ الحســينِ
بـــنِ علــي نحنُ وبيـتِ اللهِ أوْلـى
بالنبي
تاللهِ لا يَحْكُمُ فينا
ابـــنُ الدَّعِــي
أَطـعنُكم بالرُمـحِ
حتَّى يَنْثَـني
أَضرِبُكُمْ بالسيفِ
أَحْمي عن أبي ضَـرْبَ غُـلامٍ هاشــميٍّ
عَلَـوي
ولَمْ يَزَلْ يحمِلُ على
المَيمنةِ ويُعيدُها على
المَيسَرةِ، ويغوصُ في
الأوساطِ حتَّى قتلَ
مِنهُم مَقتلةً عظيمةً،
وضجَّ الناسُ منْ كَثرةِ
مَن قُتِلَ مِنْهم.
ولَمّا اشتدَّ به العطشُ،
رَجَعَ إلى أبيهِ الحسينِ
عليه السلام قائلاً: يا
أبَهْ، العطشُ قدْ
قَتَلَني، وثِقلُ الحديدِ
قدْ أجْهدَني، فَهَلْ إلى
شُربةِ ماءٍ من سبيلٍ
أتقوَّى بها على الأعداءِ؟
يبــويه شــربة امــيّه
الكبدي
اتقوى ورد للميـــدان
وحــدي
يبويه انفطر قلبي وحق جدي العطش والشمس والميدان
والحر
فأجَابَه الحسينُ عليه
السلام:
"قاتِلْ قليلاً،
فما أسرَعَ ما تلقى
جَدَّك رسولَ اللهِصلى
الله عليه وآله وسلم،
فيَسقيكَ بكأسِهِ الأوفى
شُربةً لا تَظمأُ بعدَها
أبداً".
فرَجَعَ عليٌّ الأكبرُ
إلى المَيدانِ وجعلَ
يقاتلُ أعظمَ القتالِ
فأكثرَ القَتلَ في صفوفِ
الأعداء.
فقالَ مُرّةُ بنُ مُنقِذٍ
العَبْديُّ: عَليَّ آثامُ
العربِ إنْ لم أُثكِلْ به
أباهُ، فطعنَه بالرمحِ في
ظهرهِ، وضربَه بالسيفِ
على رأسِه ففَلَقَ
هامَتَهُ، وضربَه الناسُ
بأسيافهِم، فاعتنقَ فرسَه،
فاحتمَلهُ الفرسُ إلى
مُعسكَرِ الأعداءِ،
فجعلوا يضرِبونهُ
بأسيافهِم، فهَوَى إلى
الأرضِ منادياً:
عليكَ
منِّي السلامُ أبا عبدِ
اللهِ، هذا جَدِّي رسولُ
اللهِ قد سَقاني بكأسِهِ
الأَوفى شُربةً لا أظمأُ
بعدَها أبداً، وهوَ يقولُ
لكَ: العجلَ، العجلَ، فإنّ
لك كأساً مَذْخورةً.
ثمَّ شَهِقَ شَهقةً كانت
فيها نفْسُه وفارقتْ
روحُه الدنيا.
فجعلَ الحسينُ عليه
السلام يتنفّسُ
الصُّعَداءَ، وصاحَ بأعلى
صوتهِ: و"اوَلداه"، فتصارختِ النساءُ،
فسَكَّتَهنَّ الحسينُ
عليه السلام، وقالَ:
"إنّ البُكاءَ أمامَكُنّ".
وحمَلَ على القومِ
ففرَّقَهم، وأقبلَ إلى
ولدهِ مسرعاً، وهو يقولُ:
"ولدي عليّ، ولدي عليّ"
حتَّى وصلَ إليهِ، ورمى
بنفسهِ عليهِ، وأخذَ
رأسَه فوضعَه في حِجرِهِ،
وجعلَ يمسَحُ الدمَ
والتراب عن وَجههِ،
واعتنقَهُ واضعاً خَدَّهُ
على خَدِّهِ، وهو يقولُ:
"قَتَلَ اللهُ قوماً
قتلوكَ يا بُنيَّ، ما
أَجرَأَهُمْ على الرحمنِ،
وعلى انتهاكِ حُرْمةِ
الرسولِ صلى الله عليه
وآله وسلم! على الدّنيا
بعدَكَ العَفا يا بُنيّ!
أمَّا أنتَ
فقدِ
استرحْتَ من كُرَبِ
الدُّنيا ومِحَنِها، وقد
صِرْتَ إلى رَوْحٍ
ورَيحانٍ، وبَقِيَ أبوكَ،
وما أسرَعَ لُحوقَهُ بكَ".
وانهملَتْ عيناهُ بالدموعِ.
قعد عنده وشافه مغمّض
العين
متواصل ضرب والراس نصّين
يبويه گول منهو الضرب
راسك
يبويه من نهب درعك اوطاسك
يبويه من عدل راسك ورجليك
ينور العين كل سيف الوصل
ليك
|
ابدمه سابح مترّب الخدين
حنه ظهره على بنيّه وتحسر
ينور العين من خمّد
انفاسك
يروحي اشلون أشوفك معفّر
ومن غمّض عيونك
واسبل ايديك
قطع قلبي ولعند
حشاي سدّر |
ثمَّ قالَ لفِتيانِهِ منْ
بني هاشمٍ:
"احْمِلُوا
أخاكُم".
فحملُوهُ منْ مَصْرَعِهِ،
وجاؤوا بهِ إلى الفُسطاطِ
الذي يُقاتِلُونَ أمامَه،
فخرجَتْ زينبُ بِنْتُ عليٍّ
عليه السلام مُسْرِعةً
وخلفَها النساءُ والأطفالُ،
وهِيَ تُنادِي: يا حبيباه،
يابن أُخَيَّاه.
وانكبَّتْ عليهِ، فبكَى
الحسينُ عليه السلام
رَحْمةً لِبُكَائِها،
وقالَ:
"إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ
راجعونَ"...
وقامَ وأخذَ بيَدِها
وردَّها إلى الفُسطاط.
مقاتل
آل عقيل
وخرجَ
مِنْ بَعْدهِ عبدُ اللهِ
بنُ مسلمِ بنِ عقيلٍ،
وأمُّهُ رُقَيَّةُ الكبرى
بنتُ أميرِ المؤمنينَ
عليه السلام وهو يقول:
اليومَ ألقَى مُسلِماً
وهُوَ أبي
وعُصبةً بادوا على دينِ
النبي
فَقَتَلَ جماعةً بثلاثِ
حَملاتٍ، ورماهُ لَعينٌ
منَ القومِ بسهمٍ،
فاتّقاهُ بيدِه فسَمّرَها
إلى جَبهتهِ، فما استطاعَ
أنْ يُحَرِكَها، فقالَ:
اللهُمَّ إنَّهُم
اسْتَقَلُّونا
واستَذَلُّونا، فاقتُلْهم
كما قَتَلونا.
وبينما هوَ على هذا إذْ
حمَلَ عليه رجلٌ برُمْحِهِ
فَطَعَنهُ في قلبِه فماتَ
(رضوان الله عليه).
ولمّا قُتِلَ عبدُ اللهِ
بنُ مسلمٍ حَملَ آلُ أبي
طالبٍ حَملةً واحدةً،
فاعتوَرَهم الناسُ
وأَحَاطُوا بِهِم، فصاحَ
الحسينُ عليه السلام:
"صَبراً
على الموتِ يا بني
عُمومَتي، لا رَأَيتُم
هَوَاناً بعدَ هذا اليومِ".
فَجَعلوا يقاتلونَ أشَدَّ
القِتالِ، فوَقَعَ فيهم
عَونُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ
جعفرٍ وأمُّه العَقيلةُ
زينبُ
عليها السلام
وأخوهُ محمّدٌ وأمُّهُ
العقيلةُ زينب,
وقيل:
الخَوْصاءُ, وعبدُ الرحمنِ
بنُ عقيلٍ وأخوه جعفرُ بنُ
عقيلٍ ومحمّدُ
بنُ مسلمِ بنِ عقيلٍ
ومحمّدُ ابنُ أميرِ
المؤمنينَ عليه السلام
وعبدُ اللهِ الأكبرُ ابنُ
عقيلٍ وكانَ آخرَهم محمّدُ
ابنُ أبي سعيدٍ ابنِ عقيلٍ.
أولاد
الإمام الحسين عليه
السلام
ومَا
زالَ آلُ أبي طالِبٍ
يَتَسَابقونَ إلى القتالِ
حتَّى وصَلَتْ النوبةُ
إلى أولادِ الإمامِ الحسنِ
عليه السلام وخرجَ عبدُ
اللهِ الأكبرُ ابنُ الحسنِ
عليه السلام وأمُّهُ
رَمْلةُ، فقاتلَ حتَّى
قُتِل. وخرج القاسمِ بنِ
الحسنِ عليه السلام وهوَ
غلامٌ لم يَبلُغِ الحُلُمَ،
وأمُّهُ رَملةُ أيضاً،
فأقبلَ إلى عمِّه الحسينِ
عليه السلام يستأذنُهُ في
القتالِ، فنظرَ إليهِ
الحسينُ عليه السلام ولم
يمْلِكْ نفسَه دونَ أنْ
تَقدَّمَ إليه واعتنقَهُ،
وجَعلا يبكيانِ، وأَبى أنْ
يأذَنَ له، فلمْ يزَلِ
القاسمُ يتوَسَّلُ إليهِ
ويُقبِّلُ يدَيهِ حتَّى
أذِنَ له، فبرزَ إلى
الميَدانِ راجلاً وهو
يقولُ:
إنْ تُنْكِرُوني فأنا نجلُ
الحسَنْ
سِبطِ النبيِّ
المصطـفى والمؤتمَنْ
هذا حسينٌ كالأسيرِ
المرتهَنْ
بينَ أناسٍ لا
سُقُوا صَوبَ المُزُنْ
فقاتَلَ مُقاتَلةَ الرجالِ
والأبطالِ وقَتَلَ عدداً
منَ الأعداءِ. وبَيْنَما
هو يُقاتِلُ انقطَعَ
شِسْعُ نَعلهِ اليُسرى،
فوَقَفَ يُصْلِحُهُ غَيرَ
مُكْتَرثٍ بالقومِ مِن
حَولِهِ، فقالَ عَمْرُو
بنُ سعدِ بنُ نُفَيلٍ
الأَزْديّ: واللهِ،
لأَشُدَّنَّ عليهِ، فمَا
ولّى حتَّى ضربَ رأسَ
القاسمِ بالسيفِ
فَفَلَقَهُ، فوقعَ لوجههِ
وصاحَ: يا عَمّاه!!
فأتاهُ الحسينُ عليه
السلام مُسرِعاً، وقَتَلَ
قاتلَه، ثمَّ وقفَ عندَ
رأسِ القاسمِ وهُوَ
يَفْحَصُ بِرِجْلَيْهِ
فقالَ:
"يعِزُّ واللهِ
على عمِّكَ أنْ تدعُوَهُ
فلا يجيبُكَ، أو يجيبُكَ
فلا يُعينُكَ، أو يعينُكَ
فلا يُغني عنكَ، بُعْداً
لقومٍ قتلوكَ، هذا يَومٌ
كَثُرَ واتِرُهُ وقلَّ
ناصِرُه".
بكى وناداه يجاسم شبيدي
يريت السيف قبلك
حز وريدي
هان الكم تخلوني وحيدي
وعلى خيامي يعمّي
الخيل تفتر
ثمَّ حَمَلَهُ وكانَ
صدرُهُ على صَدرِ الحسينِ
عليه السلام ورِجلاهُ
يخُطَّانِ في الأرضِ،
فجاءَ بهِ إلى الخيمةِ
ومدَّدَهُ معَ وَلدهِ عليٍّ
الأكبرِ والقَتْلَى منْ
أهلِ بيتهِ.
جابه ومدده ما بين اخوته
بكى عدهم يويلي
وهم موتى
بس ما سمعن النسوان صوته
إجت أمّه تصيح
الله اكبر
أنا ردتك ما ردت دنيا ولا
مال
تساعدني لو وقع
حملي ولا مال
يجاسم خابت ظنوني والامال
وقت الضيق يبني
قطعت بيّه
إخوة العباس عليه
السلام
ولمّا
رأى العبَّاس بنُ عليٍّ
عليه السلام كَثرةَ
القتلى في أهلِ بيتهِ،
قالَ لإخْوَتهِ الثلاثةِ
من أمِّهِ (أمِّ البنينَ)
وأبيهِ أميرِ المؤمنينَ
عليه السلام وَهُم عبدُ
اللهِ وعُثمَانُ وجعفرٌ:
تقدَّمُوا يا بَني أمِّي
حتَّى أراكم قدْ نَصَحتم
للهِ ولرسولهِ، فإنَّه لا
وُلْدَ لكم.
فقاتَلوا بينَ يَدَي أبي
الفَضلِ وأَبلَوْا بلاءً
حَسناً حتَّى قُتلوا
بأجمعِهم.
شهادة
العباس عليه السلام
ولمْ
يَستطعِ العبَّاسُ عليه
السلام صَبراً على البقاءِ،
بعدَ مَقتلِ إخوتِه
وعُمومِ أهلِ بيتِ الحسينِ
عليه السلام وأصحابِهِ،
فجاءَ إلى أخيهِ الحسينِ
عليه السلام، يستأذِنُهُ
في القتالِ، ويَطْلُبُ
الرُّخصةَ منه، فما كانَ
جوابُ الحسينِ عليه
السلام إلَّا أنْ قالَ: "يا
أَخِي، أنتَ صاحبُ لِوائي،
وإذا مضَيتَ تفرَّقَ
عَسْكرِي".
فقالَ العبَّاس عليه
السلام: يا أخي قدْ ضاقَ
صَدري.. وأريدُ أنْ آخُذَ
ثأري منْ هؤلاء المنافقينَ.
فقالَ الحسينُ عليه
السلام:
"إذاً، فاطلُبْ
لهؤلاءِ الأطفالِ قليلاً
منَ الماءِ".
فذَهَبَ العبَّاس عليه
السلام إلى القَومِ،
ووَعَظَهم، وحذَّرَهم
غَضَبَ الجبَّارِ وطلَب
منهم شيئاً منَ الماءِ
للأطفالِ.
فأَجابَهُ الشمرُ اللعينُ
قائلاً: يابنَ أبي تُرابٍ،
لو كانَ وَجهُ الأرضِ
كُلُّهُ ماءً، وهو تَحتَ
أيدينا، لمَا سَقَيناكم
منهُ قَطرةً، إلَّا أنْ
تدخُلوا في بَيعةِ يزيدَ.
فرَجَعَ العبَّاس إلى
أخيهِ عليه السلام
وأخبَرَه بمَقالةِ القومِ،
فسَمِعَ الأطفالَ ومعَهم
سُكينةُ بنتُ الحسينِ
عليه السلام ينادُونَ:
العطشَ العطشَ.
فلمْ
يتحمَّلْ ذلكَ فرَكِبَ
جوادَه، وأخذَ سيفَهُ
والقِربةَ، وقَصدَ
الفُراتَ، فأحاطَ
بالعبَّاس الموكَلُونَ
بالفراتِ، ورَمَوْهُ
بالنّبالِ، فلَمْ يَعْبَأْ
بجَمعِهِم ولا رَاعَتْهُ
كَثرَتُهُم، فكَشَفَهم عن
وجههِ وقتلَ عدداً منهم،
ودخلَ الفراتَ مطمَئِنّاً.
ثمَّ اغترفَ منَ الماءِ
غَرفةً، وأدناها منْ فَمهِ
ليشرب، فتذكَّرَ عَطشَ
أخيهِ الحسينِ عليه
السلام وعِيالهِ وأطفالهِ،
فرمَى الماءَ منْ يَدهِ
وقالَ:
يا نَفْسُ من بعدِ الحسينِ
هُوني
وبعدَهُ لاَ كُنْتِ
أنْ تَكوني
هذا حسينٌ واردُ المَنونِ وتَشْربينَ بارِدَ
المَعينِ
تاللهِ ما هذا فِعالُ
دِيني
ولا فِعَالُ
صَادِقِ اليقينِ
شلون اشرب وخوي حسين
عطشان وسكنة والحرم
واطفال رضعان
وظن گلب العليل التهب
نيران
يريت الماي بعده
لا حله اومر
ثمَّ مَلأَ القِربةَ،
ورَكِبَ جوادَه وتوجَّهَ
نحوَ المُخَيَّمِ مسرعاً،
فقطعَ الأعداءُ عليهِ
الطريقَ، فجعلَ يصولُ في
أوْساطِهم، ويضرِبُ فيهِمْ
بسيفِهِ حتَّى أَكثرَ
القتلَ فيهِم وكَشَفَهم
عنِ الطريقِ وهُوَ يقولُ:
لا أرهبُ الموتَ إذا
المـوتُ زَقَا65
حتَّى أُوارى في
المَصاليتِ
66لِقَى
نفسي لِسِبطِ المُصْطَفى
الطُّهرِ وِقا
إنّي أنا العبَّاس
أغْدُو بالسِقَا
ولا أخافُ الشرَّ
يومَ المُلتقى
فكَمَنَ له لعينٌ من وراء
نخلةٍ، وعاوَنهُ آخرُ،
فضرَبهُ على يمينهِ
بالسيفِ فبَرَاها.
فقالَ عليه السلام:
واللهِ إن قَطعتُمُ
يمينــــي
إنّي أُحامِي
أَبَداً عن دِيني
وعنْ إمامٍ صَادِقِ
اليَقِينِ
نَجْلِ النّبيِّ
الطــاهِرِ الأَمينِ
وحَمَلَ على القومِ
كالأسدِ الغضبانِ، فكمَنَ
له حكيمُ بنَ الطُّفَيْلِ
منْ وراءِ نخلةٍ أخرى
وضربَهُ على شِمالهِ،
فقطَعَها من الزَّندِ،
فقالَ عليه السلام:
يا نفسُ لا تَخشَيْ منَ
الكُفّارِ
وأبشـِري برحــمةِ
الجبّارِ
معَ النّبيِّ المصْطَـفى
المخْــتارِ
قدْ قَطَعُوا
بِبَغْيِهم يَساري
فأَصْلِهِم يا ربِّ
حَرَّ النّارِ
وجَعَلَ يُسرِعُ ليوصِلَ
الماءَ إلى المخيمِ،
فلمّا نظرَ ابنُ سعدٍ إلى
شِدّةِ اهتمامِ العبَّاس
عليه السلام بالقِربةِ،
صاحَ بالقومِ: ويلَكُم،
ارْشُقوا القِربةَ بالنبلِ،
فواللهِ إنْ شَرِبَ
الحسينُ منْ هذا الماءِ
أفناكُم عن آخرِكُم.
فأتتهُ السهامُ كالمطرِ
وأصابتْهُ في صَدرهِ،
وسهمٌ أصابَ إحدى عينيهِ
فأطفأَها، وجَمَدَ الدمُ
على عينهِ الأخرى فلم
يُبْصِرْبها،
وأصابَ القِرْبةَ سهمٌ
فأُريقَ ماؤُها. وضَرَبهُ
لَعينٌ بالعمودِ على رأسهِ
فَفَلَقَ هَامتَهُ وسقطَ
على الأرضِ منادياً: "عليكَ
منّي السلامُ أبا عبدِ
اللهِ".
عَظّمَ اللهُ لكَ الأجْرَ
سيّدي أبا عبدِ اللهِ!..
الفارسُ عندَما يقعُ إلى
الأرضِ يتلقّى الأرضَ
بيدَيهِ، لكنْ إذا كانتْ
يداهُ مقطوعتَينِ،
والسهامُ في صدرهِ، فبأيِّ
حَالٍ يَقعُ إلى الأرضِ!!.
فأتاهُ الحسينُ عليه
السلام مُسرعاً، ففرَّقَ
القومَ عنه، وقتلَ منهم
رجالاً وجَندلَ فُرساناً،
حتَّى إذا وصلَ إليهِ رآهُ
مقطوعَ اليَدينِ، مَفْضوخَ
الهامةِ، مُطفأَ العينِ،
مُثخناً بالجراحِ، فأخذَ
رأسَه الشريفَ ووَضَعَهُ
في حِجْرِه، وجعلَ
يَمْسَحُ الدمَ والترابَ
عنهُ، وقالَ بَاكياً: "الآنَ
انكسَرَ ظَهري، وقلَّتْ
حِيلَتي، وَشمِتَ بي
عَدُوِّي".
يخويه انكسر ظهري ولا
اگدر اگوم
صرت مركز يخويه
الكل الهموم
يخويه استـوحــدوني بعدك
القــوم
ولا واحـــد
عليّــه بـعـــد ينـغـــر
ثمَّ انْحَنَى عليهِ
واعتَنَقَه وجعلَ يُقبِّلُ
مَواضعَ السيوفِ من وَجههِ
ونَحرهِ وصَدرهِ، ثمَّ
فاضَتْ نَفْسُ العبَّاس
المقدَّسةُ ورأسُهُ في
حِجْرِ أخيهِ الحسينِ
عليه السلام..
وتَركَ
الحسينُ عليهِ السلامُ
أخاهُ العبَّاس في مَكانهِ،
وقامَ عنه، ولمْ يحمِلْهُ
إلى الفُسطاطِ الذي كانَ
يحمِلُ القَتلَى من أهلِ
بيتهِ وأصحابِهِ إليهِ.
يخويه حسين خليني ابمكاني
يگــله ليــش يا
زهــرة زماني
يگله واعـدت سكــنة
ترانــي
بماي واستحي منها
من اسدر
ورَجَعَ إلى المخيّمِ..
فأَتتْهُ سُكَينةُ
وسألَتْه عنْ عمِّها،
فأخبرَها بمَقتلِهِ،
وسمِعَتْهُ زينبُ عليها
السلام فصاحَتْ:
واأخاه واعبَّاساه
واضَعَيتنا بعدَك
شهادة
الإمام الحسين عليه
السلام
ولمّا
قُتِلَ العبَّاسُ التَفَتَ
الحسينُ عليه السلام
فَلَمْ يَرَ أَحداً
يَنْصُرَه, وَنَظَرَ إلى
أهْلِهِ وصَحْبِهِ
مُجَزَّرِينَ كالأَضَاحِي,
وَهوَ إِذْ ذَاك يَسمعُ
عَويلَ الأَيَامَى وصُراخَ
الأطفَال.
عندَ ذلك نَادَى بِأعلَى
صَوتِه: "هَل مِنْ ذَابٍّ
عَن حُرَمِ رَسُولِ اللهِ؟!
هَل مِن مُوَحّدٍ يَخافُ
اللهَ فِينا؟! هَل مِن
مُغيثٍ يَرجُو اللهَ في
إِغَاثَتِنا؟!".
فارتَفعتْ أَصواتُ
النِّساء بِالبُكاءِ
وَالعَويْلِ.
الوداع
ولمَّا عَزمَ الحُسينُ
عليه السلام عَلَى
مُلاقاةِ الحُتُوف، جَاءَ
وَوَقَفَ بِبَابِ خَيمةِ
النّساءِ مُوَدِّعاً
لِحُرَمهِ مُخَدَّراتِ
الرِّسَالةِ وَعَقائِلِ
النُّبُوَّةِ، وَنَادَى: "يَا زَينبُ، ويَا أُمَّ
كُلثوم، ويَا فَاطِمةُ،
ويَا سُكينةُ، عَليكُنّ
مِنِّي السَّلامُ".
فَنَادته سُكينةُ: يَا
أَبَه، استسلَمتَ للِموتِ؟
فَقَال عليه السلام: "كيفَ
لا يستسلمُ لِلموتِ مَن
لا نَاصرَ لَه ولا مُعينَ؟!"
فَقَالت
عليهما السلام: رُدَّنا إِلى
حَرمِ جَدِّنَا رَسُولِ
اللهِ.
فَقَال عليه السلام: "هَيهَاتَ!!
لَو تُرِكَ القَطا67
لَغَفَا وَنَامَ.."
فَرفَعتْ سُكينةُ صَوتَها
باِلبُكاءِ وَالنّحِيبِ،
فَضَمَّها الحُسَينُ عليه
السلام إِلى صَدرِه،
وَمَسَحَ دُمُوعَها
بِكُمِّهِ، وَكَانَ
يُحبُّها حُبَّاً
شَدِيدَاً، وَجَعَلَ يقولُ:
سَيطولُ بَعدي يَا سُكينةُ
فَاعلَمِي
مِنكِ البُكاءُ
إِذَا الحِمَامُ
68دَهَانِي
لا
تُحرقِي قَلـبِي
بِدَمـعِكِ حَسرَةً
مَا دَامَ مِنِّي
الرُّوحُ فِي جُثمانِي
فَإِذَا قُتِلـتُ فَأَنـتِ
أَولَى بِالَّــذِي
تَبْكِيــنَه يَا
خِـــيرةَ النسـوانِ
مصرع
عبد الله الرضيع
ثمَّ
تَقَدَّمَ الإمامُ الحسينُ
عليه السلام إِلى بَابِ
الخَيمةِ، وَدَعَا
بِابنِه عَبدِ اللهِ
الرَّضيعِ لِيُوَدِّعَه،
فأَجلَسَه فِي حِجرِهِ،
وَأَخذَ يقبِّلُهُ
وَيقُولُ:
"وَيلٌ لِهَؤُلاءِ القَومِ
إِذَا كَانَ جَدُّكَ
المُصطَفَى خَصمَهُم".
وفي بَعضِ المَقَاتِلِ:
ثُمَّ أَتَى بِهِ نحوَ
القومِ يطلُبُ لهُ المَاءَ،
وقالَ:
"يا قومُ،
قَتَلْتُم شِيعَتي وأهلَ
بَيْتِي, وقَدْ بَقِيَ
هَذا الطِفلُ يَتَلَظَّى69
عَطَشاً, فاسقُوه شَربةً
مِنَ المَاء".
فَرَمَاه حَرملَةُ بنُ
كاهلِ الأَسَديّ بِسَهْمٍ
فَذَبَحَهُ- وَهُوَ فِي
حِجرِ أَبيه- فَتَلقَّى
الحُسَينُ عليه السلام
الدَّمَ بِكَفِّه،
وَرَمَى بِهِ نَحوَ
السَّماءِ.
فَعَنِ الإِمَامِ
البَاقِرِ عليه السلام
أَنَّه:
"لَمْ يَسقُطْ
مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ
قَطرةٌ إِلى الأَرضِ".
وجاء فِي زّيارةِ
النّاحيةِ المقدَّسَةِ:
"السَّلامُ
عَلَى عبدِ اللهِ بنِ
الحُسَينِ الطّفلِ
الرَّضيعِ، المَرمِيِّ
الصَّريعِ، المتُشحِّطِ
دَمَاً،70
المُصعَّدِ دَمُهُ
فِي السَّماءِ، المَذبوحِ
بِالسّهمِ فِي حِجرِ
أَبيهِ"...
ثمَّ قَالَ الحُسَينُ
عليه السلام:
"هَوَّنَ
مَا نَزَلَ بِي أَنَّه
بِعينِ اللهِ، اللهمَّ
لا
يَكُن
أَهونَ عَلَيكَ مِن فَصيلِ
(ناقَةِ صَالحٍ)، اللهمَّ
إِنْ كُنتَ حَبَستَ
عَنَّا النَّصرَ
فاجْعَلْهُ لِمَا هُوَ
خيرٌ مِنه، وَانتقِمْ
لَنَا مِنَ الظَّالِمين"...
ثمَّ وَضَعَه مَعَ
القَتلَى مِن أَهلِ
بَيتِهِ.
يا ناس حتَّى الطفل مذبوح
دمّه على زند
حسـين مسفوح
وين اليساعدني ويجي ينـوح
قلبي علـى فرگاه
مجروح
ثمَّ إِنَّه عليه السلام
أَمَرَ عِيَالَهُ
بِالسُّكوتِ، وَوَدَّعَهم..
ثمَّ تَقَدَّمَ عليه
السلام نَحوَ القَومِ
مُصْلِتاً سَيفَه71،
عَازِمَاً عَلَى
الشَّهادَةِ، فَدَعَا
النَّاسَ إِلَى البِرَازِ،
فَلَم يَزَلْ يَقْتُلُ كلَّ
مَن بَرَزَ إِليه حتَّى
قَتَلَ جَمعاً كَثيرَاً.
ثمَّ حَمَلَ عَلَى
المَيمَنَةِ، وَهَوَ يقولُ:
المَوتُ أَولَى مِنْ
رُكُوبِ العَارِ
وَالعَارُ أَولَى
مِنْ دُخُولِ النَّارِ
ثمَّ حَمَلَ عَلَى
المَيسَرةِ، وَهَوَ يَقولُ:
أَنَا الحُسَينُ بنُ
عَلـي
آليــــتُ أَنْ لا
أنْثـــني
أَحمِي عِيالاتِ أَبِـي
أَمضِي عَلَى
دِيـنِ النَّبِي
قَالَ بعضُ مَنْ حَضَرَ
المعرَكَةَ: فَوَاللهِ،
مَا رأيتُ مَكثورَاً-
يَعْنِي تَكَاثَرَ عَليهِ
النَاسُ- قَطُّ، قَد قُتلَ
وِلْدُه وَأهلُ بيتِهِ
وَصَحبُهُ أَرْبَطَ
جَأْشَاً مِنه، وَلا
أَمضَى جِنانَاً وَلا
أَجْرأَ مَقدَمَاً، وَلَم
أَرَ قَبْلَهُ وَلا
بَعدَهُ مِثْلَه، وَلقد كَانتِ
الرِّجالُ لَتَشُدُّ
عَلَيه، فَيشُدُّ عَلَيها،
فَتَنكشفُ بينَ يَدَيْه...
ولَقَد كَانَ يَحمِلُ
فِيهِم، وَقَد تَكامَلَوا
ثَلاثِينَ أَلفَاً،
فَينهزِمونَ بينَ يَديهِ
كَأنَّهم الجَرَادُ
المنتشرُ، وَلَم يَثْبُتْ
لَه أَحَدٌ، ثمَّ يَرجِعُ
إِلى مَركَزِه وَهَوَ
يقولُ: "لا حولَ وَلا
قوّةَ إِلَّا بِاللهِ
العَلِيِّ العَظيمِ"، حتَّى قَتَل مِنهُم
مَقْتلةً عَظِيمَةً، فعندَ
ذلك صاحَ عُمرُ بنُ سَعدٍ
بقومهِ: الويلُ لكُم،
أَتَدْرونَ مَنْ
تُقاتِلُون؟..هذا ابنُ
الأَنْزَعِ
البَطِينِ..احْملُوا
عَليهِ مِنْ كُلِّ جَانِب.
واستدعَى شِمْرُ
الفُرْسَانَ, فَصَارُوا
في ظُهُورِ الرجَّالَة,
وأَمَرَ الرُمَاةَ أَنْ
يَرْمُوه, فَرَشَقُوهُ
بِالسِهَام..
وجَاءَ الشِمْرُ في
جَمَاعةٍ مِنْ أَصْحَابِه,
فَحَالُوا بَيْنَ الحسينِ
عليه السلام وبَيْنَ
رَحْلِهِ وَعِيَالِه.
فَصَاحَ بِهِم الحسينُ
عليه السلام:
"وَيْحَكُمْ
يا شِيعَةَ آلِ أَبِي
سُفْيَان, إنْ لَمْ يَكُنْ
لَكُمْ دِينٌ وَكُنْتُم
لا تَخَافُونَ المَعَاد,
فَكونُوا أَحْرَاراً في
دُنْياكُم وارجِعوا إلى
أَحسَابِكُم إنْ كُنتُم
عُرُباً كما تزعُمُون".
فناداه شِمرٌ: ما تقولُ
يا ابنَ فَاطمة؟
فقال عليه السلام: "أقولُ:
أنَا الذِي أُقَاتِلُكُم
وَتُقَاتِلُونَنِي
والنِّساءُ ليسَ
عَلِيْهِنَّ جُناح72,
فَامنَعُوا عُتَاتَكُم
وَجُهَّالَكُم عنِ
التَعَرَّضِ لحَرَمِي مَا
دُمْتُ حَيّاً".
فقالَ
شِمٌر: لكَ ذَلِك.
ثمَّ صَاحَ بالقومِ:
إِليْكُم عَنْ حَرَمِ
الرجُل, فَاقصُدُوهُ
بِنَفسِهِ فَلَعمْري
لَهُوَ كُفْوءٌ كريم.
فَقَصَدَهُ القومُ واشتدَّ
القِتَالُ، وجَعَلَ
يَحْمِلُ عليهِم
ويَحْمِلونَ عليهِ، وقَدْ
اشتدَّ بهِ العطَشُ،
وكلَّمَا حمَلَ بفرسِهِ
على الفُراتِ حمَلوا عليهِ
حتَّى أَجْلَوْهُ عنهُ.
ودنَا من الفُراتِ ثانياً
فرمَاهُ الحُصينُ بنُ
نُمَيرٍ بسهمٍ وقعَ في
فمِهِ الشريفِ، فجعَلَ
يَتَلقَّى الدمَ مِن فمِهِ،
ويَرمِي بهِ نحوَ السماءِ.
وقال:
"اللهمَّ إِنِّي
أَشكُو إليكَ ما يُفْعَلُ
بابنِ بِنتِ نَبِيِّك,
أللهمَّ أَحْصِهِم عَدَداً,
واقْتُلْهُم بَدَداً,73 ولا
تُبْقِ مِنهُم أَحَداً".
وداع
آخر
ثمَّ
إنَّه عليه السلام عادَ
إلى الخَيمَةِ، وودَّعَ
عِيالَهُ وأهلَ بيتِهِ
مرَّةً أخرى وأمرَهمْ
بالصبرِ، وقالَ لهُم: "اِستعدّوا
للبلاءِ، واعلمُوا أنَّ
اللهَ تعالَى حاميكُمْ
وحافِظُكُمْ، وسيُنجيْكُم
مِنْ شرِّ الأعداءِ،
ويَجْعلُ عاقِبةَ أمرِكُم
إلى خَيرٍ، ويعذِّبُ
عَدوَّكُم بأنواعِ العذابِ،
ويعوّضُكُم عن البَليَّةِ
بأنواعِ النِّعمِ
والكرامةِ، فلا تَشُكُّوا،
ولا تقولُوا بأَلسنَتِكُم
ما يُنقِصُ مِنْ قَدرِكُم".
فصاحَ عُمرُ بنُ سعدٍ
بقومِهِ: ويحكُم، اهجمُوا
عليهِ ما دامَ مَشغولاً
بنفسهِ وحرَمِهِ، واللهِ،
إنْ فَرَغَ لكُمْ لا
تمتازُ مَيمَنَتُكُم عنْ
مَيْسَرَتِكُم.
فَحَمَلوا عليهِ
يَرْمونَه بالسِّهامِ،
حتَّى تخالَفَتِ
السِّهَامُ بينَ أطنابِ
المخيَّمِ، وشكَّ سَهمٌ
بعضَ أُزُرِ74 النساءِ،
فدُهِشنَ وأُرعِبنَ
وصِحْنَ ودَخلْنَ الخيمةَ،
وهنَّ ينظُرْنَ إلى
الحسينَ عليه السلام كيفَ
يصنعُ.
فحَمَلَ على القومِ
كاللَّيثِ الغضبانِ، فلا
يلحَقُ أَحداً إلَّا ضربه
بسيفِهِ فقتلَهُ، أو
طعنَهُ برمحِهِ فصَرَعَهُ،
والسِهامُ تأخذُهُ منْ
كُلِّ جَانِبٍ وهو يتَّقيْهَا
بصدرِهِ ونحرِهِ، ويقولُ:
"يا أُمَّةَ السُوءِ،
بئسَمَا خلّفتُمْ
محمّداً
في عِترتِهِ، أمَا
إنَّكُم لنْ تَقتلُوا
بَعديْ عَبداً مِنْ عبادَ
اللهِ فتهابُوا قتلَهُ،
بلْ يهونُ عليكُم ذلكَ
عندَ قتلِكُم إيَّايَ،
وأيمُ الله إنّي لأَرجو
أَن يُكرمَني الله
بالشَّهادةِ ثمَّ ينتقِمُ
ليْ منكُم مِنْ حيثُ لا
تَشعُرونَ".
فنادَاهُ الحُصَيْنُ بنُ
مَالِكٍ: وبماذا
يَنْتَقِمُ لكَ منَّا يا
ابنَ فَاطِمَة؟
فقال الحسين عليه السلام:
"يُلقِي بَأْسَكُم
بَيْنَكُم, ويَسْفِكُ
دِمَاءَكُم, ثُمَّ يَصبُّ
عَليْكُم العَذابَ
الألِيم".
ورَجَعَ عليه السلام إلى
مركزِهِ، وهو يُكثِرُ مِنْ
قَولِ:
"لا حَولَ ولا
قوَّةَ إلَّا باللهِ
العليِّ العظيمِ".
ورماهُ أبو الحتوفِ
الجُعفيُّ بسَهمٍ وقَعَ
في جبهتِهِ المقدّسةِ
فنَزَعَهُ، وسالَتِ
الدماءُ على وجهِهِ
وكريمتِهِ، فقالَ:
"اللهُمَّ
إنَّكَ تَرى مَا أَنَا
فيهِ مِن عبادِكَ هؤلاءِ
العُصَاةِ، اللهمَّ
أحصِهمْ عَدَداً،
واقتُلْهمْ بَدَدَاً، ولا
تذَرْ على وجهِ الأرضِ
منهمْ أحَداً، ولا تغفرْ
لهُم أبَداً".
ثمَّ لمْ يَزَلْ يُقاتِلُ
حتَّى أصابتْهُ جِراحاتٌ
كثيرةٌ... ولمَّا ضعُفَ
عن القتالِ وقفَ ليستريحَ
هُنَيْهَة، فبينمَا هو
واقفٌ إذ أتاهُ حَجَرٌ
فوقعَ في جبهتِهِ الشريفةِ،
فسَالتْ الدماءُ على
وجهِهِ، فأخذَ الثوبَ
ليمسحَ
الدمَ عنْ وجهِهِ وعينَيهِ،
إذ أتاه سهمٌ محدَّدٌ
مسمومٌ لهُ ثَلاثُ شُعَبٍ
فوقعَ على صدرِهِ...
شال الثوب يمسح دم جبينه
او شابح للخيم
والحرب عينه
اتـــاري احســـين
امعــينينه
رموه ابسهم لكن
ناجع ابْسَمْ
فقالَ الحسينُ عليه
السلام:
"باسمِ اللهِ
وباللهِ وعلى ملَّةِ رسولِ
اللهِ".
ورفَعَ رأسَهُ إلى السماءِ
وقالَ:
"إلهي، إنَّكَ
تعلمُ أنّهمْ يَقْتُلونَ
رَجُلاً ليسَ على وجهِ
الأرضِ ابنُ (بنت) نبيٍّ
غيرَه".
ثمَّ أخذَ السَّهمَ
فأخرجَهُ... فانبعثَ الدمُ
كالميزابِ..
فوضَعَ يدَهُ تحتَ الجرحِ،
فلمَّا امتلأَتْ دَماً
رمَى بهِ نحوَ السماءِ
وقالَ: "هوَّنَ عليَّ مَا
نَزَلَ بي أنَّهُ بعينِ
اللهِ".. فلَمْ تَسقُطْ
من ذلكَ الدمِ قطرةٌ إلى
الأرضِ.
ثمَّ وضعَ يدَهُ ثانياً،
فلمَّا امتلأَتْ لطَّخَ
بهِ رأسَهُ ووجهَهُ، وقالَ:
"هكَذَا أكونُ حتَّى
ألقَى اللهَ وجَدِّي رسولَ
اللهِ وأنَا مخضوبٌ
بدَمِي، وأقولُ: يَا
جدِّي، قتَلَنِي فلانٌ
وفلانٌ".
ولمَّا أُثخِنَ بالجراح
طَعَنَه صَالحُ بنُ وَهَب
في خَاصرتهِ طَعنةً
فَسَقَطَ عن فَرَسِه إِلى
الأَرضِ على خدِّهِ
الأَيمن وهوَ يقول:
"بِسمِ
اللهِ وبالله وعَلَى
مِلَّةِ رسولِ الله"...ثمَّ
قامّ صلوات الله عليه
فَقَاتَلَ راجِلاً
قِتَالَ الفَارِسِ الشجاعِ
وَقَدْ أُثْخِنَ بالجِراح,
وهو يَشُدُّ على الخيلِ
ويقول:
"ويْحَكُم أَعَلَى
قَتْلي تَجْتَمِعُون؟!".
وأَعياهُ نزفُ الدمِ،
فجلسَ على الأرضِ...فانتهَى
إليهِ مالكُ بنُ النِّسْرِ
الكِنْدِيُّ في تلكَ
الحالِ، وضربَهُ على
رأسِهِ الشريف بالسيفِ،
فامتَلأَ البُرنُسُ75 دَماً..
مصرع
عبد الله بن الحسن عليه
السلام
ثمَّ
إنَّهُم لبِثوا هُنَيْئَةً
وعادوا إلى الحسينِ عليه
السلام وأحاطوا بهِ وهوَ
جالسٌ على الأرضِ لا
يستطيعُ النهوضَ، فنظرَ
عبدُ اللهِ الأصغرِ بنُ
الحسَنِ السِّبْطِ عليه
السلام وله إحدى عَشرةَ
سنةً إلى عمِّهِ وقد أحدقَ
بهِ القومُ، فأقبلَ
يَشْتَدُّ نحوَ عمِّهِ
الحسينِ عليه السلام،
فصاحَ الحسينُ بأختِهِ
العقيلةِ زينبَ: "إحبسيهِ
يا أختاهُ"، فلحِقتْهُ
زينبُ
عليها السلام
وأرادتْ حبسَهُ فَأَفْلَتَ
من بينِ يدَيها، وأَبَى
عليها، وقالَ: لا- واللهِ -
لا أُفارقُ عَمِّي، وجاءَ
حتَّى وقفَ إلى جنبِ
عمِّهِ الحسينِ عليه
السلام.
وبينمَا هوَ كذلِكَ إذْ
جاءَ أبجرُ بنُ كَعبٍ
وأَهوَى إلى الحسينِ عليه
السلام بالسيفِ ليضربَهُ،
فصاحَ الغلامُ: ويلَكَ يا
ابنَ الخبيثةِ، أتقتلُ
عمِّي؟. فضربَهُ أبجرُ
بالسيفِ، فاتّقاها الغلامُ
بيدِهِ، فأطنَّها76 إلى
الجلدِ، فإذا هيَ
مُعَلَّقةٌ، فصاحَ الغلامُ:
يا عمَّاهُ!! فأخذَهُ
الحسينُ عليه السلام
وضمَّهُ إلى صدرِهِ، وقالَ: "يا بنَ أخي، اِصبرْ على
ما نزَلَ بِكَ، واحتسِبْ
في ذلكَ الخيرَ،
فإنَّ
اللهَ تعالى يُلحِقُكَ
بآبائكَ الصالحينَ".
فرماهُ
حَرْمَلةُ بنُ كَاهِلٍ
الأسديُّ بسَهمٍ فذبحَهُ،
وهوَ في حِجْرِ عمِّهِ.
آه يشبان بالله لا
تــونّون
تصدعون قلبي من
تلوجون
بعيونكم ليــه تديـــرون
مدري يبعد اهلي
اشتردون
فرفعَ الحسينُ عليه
السلام يدَيهِ إلى السماءِ
قائلاً:
"اللّهمَّ، إنْ
متَّعتَهُم إلى حينٍ،
ففرِّقهُم فِرَقاً،
واجعلْهُم طرائقَ قِدَداً،
ولا تُرضِ الوُلاةَ عنهُم
أبَداً، فإنَّهُم
دَعَوْنَا ليَنصُرُونَا
فعَدَوا علَينا
يُقاتِلونَنا".
الحسين
عليه السلام على وجه
الثرى
قالوا:
ومكَثَ الحسينُ عليه
السلام طَويلاً من
النَّهارِ مَطروحَاً
عَلَى وَجهِ الأرضِ وهوَ
مغشيٌّ عليهِ، ولو شَاؤوا
أنْ يقتلوهُ لَفعلُوا،
إلَّا أنَّ كلَّ قبيلةٍ
تتَّكِلُ على الأُخرى
وتكرَهُ الإقدامَ.
فعندَها صاحَ شِمرُ
بالناسِ: ويحَكُمْ، مَا
وقوفُكُمْ؟! ومَا تنتظرونَ
بالرجلِ؟! وقدْ أثخنَتْهُ
السهامُ والرماحُ،
احملُوا عليهِ، اقتلوهُ،
ثكلتْكُمْ أمُّهاتُكُمْ.
فحَمَلُوا عليهِ مِنْ كلِّ
جانبٍ:
فضَربَهُ لعينٌ على
كتِفِهِ الأيْسرِ...
وضربَهُ آخرُ على عاتقِهِ
المُقَدَّسِ...
وطعنَهُ سِنانٌ بالرمحِ
على تُرقُوَتِهِ،77 ثمَّ
انتزعَ الرمحَ وطعنَهُ في
بواني صدرِهِ، ثمَّ رماهُ
بسهمٍ وَقَعَ في نحرِهِ..
فَنزعَ السهمَ مِن نَحرهِ
وَقَرَنَ كفّيهِ جَميعَاً
فلمَّا امتلأتَا مِن
دِمائِه خَضَّبَ بِهمَا
رأسَهُ ولِحيتَهُ وهوَ
يقولُ:
"هكَذَا ألقَى
اللهَ مُخَضَّباً بِدَمي
مَغصُوباً عَليَّ حَقِّي"...
يقولُ هِلالُ بنُ نافعٍ:
كنتُ واقفاً نحوَ الحسينِ
وهوَ يجودُ بنفسِهِ،
فواللهِ، ما رأيتُ قتيلاً
قطُّ مضمَّخاً بدمِهِ
أحسنَ وجهاً ولاأنوَرَ،
ولقدْ شَغلَنِي نورُ
وجهِهِ عن الفِكرةِ في
قتلِهِ..
ولمّا اشتدَّ بهِ الحالُ
رفعَ طَرْفَهُ إلى السماءِ
وقالَ: "اللهُمَّ أنتَ
مُتَعالي المكانِ، عظيمُ
الجبروتِ، شديدُ المِحالِ،78 غنيٌّ عَنِ الخلائقِ،
عريضُ الكِبْرياءِ، قادرٌ
علَى مَا تشاءُ، قريبُ
الرَّحمةِ، صادِقُ
الوَعْدِ، سَابِغُ
النِّعمةِ، حَسَنُ البلاءِ،
قريبٌ إذا دُعِيتَ، مُحيطٌ
بما خَلَقْتَ، قابِلُ
التوبةِ لمن تابَ إليكَ،
قادرٌ على ما أَرَدْتَ،
مُدرِكٌ ما طَلَبتَ،
شَكورٌ إذا شُكِرتَ،
ذَكورٌ إذا ذُكِرتَ،
أدعوكَ مُحتَاجاً وأرغبُ
إليك فَقيراً، وأفزَعُ
إليك خائِفاً، وأَبكِي
مَكروباً، وأستعينُ بكَ
ضَعِيفاً، وأتَوَكَّلُ
عَليكَ كَافِياً".
"اللهُمَّ احكُمْ
بَينَنَا وبينَ قومِنَا،
فإنَّهم غرُّونَا
وخَذَلُونَا، وغدَرُوا
بِنَا وقتلونا، ونحنُ
عِترةُ نبيِّكَ، وَوِلدُ
حبيبِكَ محمَّدٍ الذي
اصطفيتَه بالرسالةِ،
وائتمنتَهُ على الوحيِ،
فاجعَل لنَا من أمرِنا
فرَجاً ومخرَجاً يا أَرحم
الراحمينَ".
"صَبراً على قضائِكَ يا
ربِّ، لا إلهَ سِواكَ يا
غياثَ المُستَغيثينَ، ما
لي ربٌّ سِواكَ ولا معبودٌ
غيرُكَ، صبراً على
حُكْمِك، يا غِياثَ من لا
غِيَاثَ له، يا دائماً لا
نَفَادَ له، يا مُحييَ
المَوتى، يا قائِماً على
كلِّ نَفسٍ بما كَسبَت،
أُحكُم بَيني وبيَنهم
وأنتَ خيرُ الحاكِمينَ".
فرس
الحسين عليه السلام
وأقبَلَ فرسُ الحسينِ
عليه السلام يدورُ حولَهُ،
ويُلطِّخُ عُرْفَهُ
وناصيَتَهُ
79بدمِهِ،
ويشَمُّهُ ويصهَلُ صهيلاً
عالياً، وأقبلَ نحوَ
المخيَّمِ بذلكَ الصهيلِ..
"فلمَّا رَأَيْنَ النساءُ
جوادَك مَخزِيَّاً، ونظرنَ
سَرجَهُ عليهِ مَلوِيّاً،
برزْنَ منَ الخدورِ...على
الخدودِ لاطمَاتٍ...
وبالعويلِ دَاعياتٍ، وبعدَ
العزِّ مُذلَّلاتٍ، وإلى
مصرعِ الحسينِ مبادِراتٍ".
فخرجَتْ زينبُ
عليها السلام ومِنْ
خَلفِها النساءُ
والأرامِلُ واليتامَى مِنَ
الفُسطاطِ إلى أرضِ
المعركةِ، وهيَ تنادِي:
وامحمَّداهُ، واعليّاهُ،
واجعفراهُ، واحمزتاهُ،
واسيِّداهُ، هذا حسينٌ
بالعراءِ، صريعُ كربلاءِ،
ليْتَ السماءَ أَطبقَتْ
على الأرضِ، وليتَ الجبالَ
تدَكدَكَتْ
80على السهلِ.
فواحــدةٌ تحــنُوْ
علـــيهِ تضـــمُّهُ
وأُخـــرى علــيهِ
بالرِّداءِ تُظَلِّــلُ
وأُخرى بفيضِ النَّحرِ
تَصْبَغُ وَجْهَهَا
وأُخــرى تُفَدّيهِ
وأُخــرى تقبِّلُ
وأُخرى على خَوفٍ تلوذُ
بجنبِه
وأُخــرى لِمَا
قَدْ نالَهَا ليسَ تعقِلُ
وانتهَتْ زينبُ ابنةُ عليٍّ
نحوَ الحسينِ، وهو يجودُ
بنفسِهِ فَوَضَعَتْ
يَدَيْها تحتَ الجسدِ
الشريفِ وَرَمَقَتْ
بِطَرفِها نحوَ السماءِ
وقالت: اللهمَّ تقبَّل
منَّا هذا القُربان.
ثمَّ صاحَتْ بِعُمَرَ بنِ
سَعدٍ -وكانَ قدْ دَنا
مِنَ الحسينِ عليه السلام-:
أيْ عُمَرُ! وَيحَكَ،
أيُقتَلُ أبو عبدِ اللهِ
وأنتَ تنظرُ إليهِ؟ فصرَفَ
بوجهِهِ عنْها...
فعندَ ذلكَ صاحَتْ زينبُ
عليها السلام
بالقومِ: وَيحكُمْ، أَمَا
فيكُمْ مسلمٌ؟!، فلمْ
يُجِبْهَا أحدٌ.
الفاجعة
الكبرى
ثمَّ
صاحَ ابنُ سعدٍ بالناسِ:
ويحَكُمْ، انزِلُوا إليهِ
فأريحُوهُ..
فنزَلَ إليهِ شمرُ بنُ ذي
الجوشنِ...
وجَلَسَ عَلَى صَدرهِ..
ثمَّ أخذَ بكريمتِهِ
المقدَّسةِ..
فَرَمَقَهُ الحُسينُ عليه
السلام ببصرِهِ وقالَ لَهُ:
"أتقتُلُني، أوَلا تعلمُ
منْ أنا؟!"
فقال الشمرُ: أعرِفُكَ حقَّ
المعرِفَةِ:
أُمُّكَ فاطمةُ الزَّهراء..
وأبوكَ عليُّ المرتضى..
وجدُّكَ محمَّدُ المصطَفى..
وخصمُكَ العليُّ الأعلى..
وأقتُلُكَ ولا أُبالي..
عن إِمَامِنا الحُجَّةِ |
في زيارةِ الناحيةِ وهوَ
يَصفُ هذا المشهد:
"وَالشمرُ جَالسٌ على
صَدرِكَ..
ومُولِغٌ سَيفَهُ على
نَحرِكَ..
قَابِضٌ على شَيْبَتِكَ
بِيَدِهِ..
ذَابِحٌ لكَ
بِمُهَنَّدِهِ..
قدْ سَكَنَتْ حَواسُكَ..
وَخَفِيَتْ أَنْفَاسُكَ..
ورُفِعَ على القَناةِ
رَأْسُكَ.."
وا إماماهُ، وا
سيّداهُ، وا غريباهُ،
وا مذبوحاهُ، وا
عطشاناهُ، وا مظلوماهُ،
وا حسيناهُ
|