ثمَّ رَكِبَ عليه السلام
فَرَسَهُ وخرجَ إلى
الناسِ فاستنصَتَهم
فأَبَوا أنْ يَنصِتوا
حتَّى قال لهم: "ويْلكُم
ما عليكُم أنْ تُنْصِتُوا
لِي فَتَسْمَعُوا قَوْلي،
وَإنَّما أَدعُوكُم إلى
سبيلِ الرشَادِ. فَمَنْ
أَطَاعَنِي كانَ من
المرشَدينَ، ومَن
عَصَانِي كانَ من
المُهْلَكِين.
وكُلُّكُم عَاصٍ لأَمرِي
غيرُ مُسْتَمِعٍ قَوْلي،
فَقَدْ مُلِئَتْ
بُطُونُكُم مِنَ
الحَرَامِ وطُبِعَ عَلى
قُلُوبِكُم. وَيْلَكُم،
أَلَا تَنصِتُون؟ أَلَا
تَسْمَعُون؟"
فَتَلاوَمَ أصحابُ عُمَرَ
بنِ سَعْدٍ بَيْنَهم
وقالوا: أَنْصِتُوا لَه.
فَحَمَدَ اللهَ وأثْنَى
عَليهِ وَذَكَرَهُ بِما
هُوَ أَهْلُهُ وصلَّى على
محمَّدٍ وعلى الملائِكةِ
والأنبياءِ والرسلِ
وأَبْلَغَ في المَقَالِ،
ثمَّ قال: "تَبّاً1
لَكُم أيّتُها الجماعةُ
وتَرَحاً2،
أَحِينَ
اسْتَصْرَختُمُونا3
والِهينَ4
فأَصْرَخناكُم مَوْجِفين5،
سَللتُم6
عَلينا سَيفاً لنا في
أَيْمانِكم،
وحَشَشْتُم7
علينا ناراً قْدَحْناها8
على عدوِّنا وعدوِّكُم،
فأصبحتُم إلْباً9
لأعدائِكُم على
أوليائِكُم، ويَداً عليهم
لأعدائِكم، بغيرِ عَدلٍ
أفشَوْهُ فيكُم، ولا
أمَلٍ أصبحَ لكُم فيهم،
إلَّا الحرامَ من الدّنيا
أَنَالُوْكُم وخَسِيسَ
عَيْشٍ طَمِعْتُم فيهِ،
من غيرِ حَدَثٍ كانَ
منّا، ولا رأيٍ تَفيَّل10
لَكُم، فهَلاَّ -لكُمُ
الوَيلاتُ- إذْ
كَرِهتُمونا، تركْتُمونا،
والسيفُ مَشِيْمٌ11،
والجأشُ12
طامِنٌ13،
والرأيُ لَمَّا
يُستَحْصَفْ14،
ولكنْ أسرعتُم إليها
كَطَيْرَةِ الدَّبَا15،
وتهافتُّم عليها
كتَهافُتِ الفَرَاشِ،
ثمَّ نَقَضْتُموها،
فسُحقاً لكُم يا عَبيدَ
الأُمَّةِ، وشُذَّاذَ
الأحزابِ، ونَبَذَةَ
الكِتابِ، ومُحرِّفي
الكَلِمِ، ونَفْثَةَ
الشيطانِ، وعُصْبَةَ
الآثامِ، ومُطفِئي
السُّننِ، وقَتَلةَ
أولادِ الأنبياءِ،
ومُبيدي عِترةِ
الأوصياءِ، ومُلحِقي
العُهَّارِ16
بالنَّسَبِ، ومؤذِي
المؤمنينَ، وصُرَّاخَ
أئمّةِ المستهزئينَ،
﴿
الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ
عِضِينَ﴾17
﴿لَبِئْسَ
مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ
اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي
الْعَذَابِ هُمْ
خَالِدُونَ﴾18
أنتُمُ ابنَ حَربٍ
وأشياعَهُ تَعْضُدون،
وعنّا تخاذَلُونَ.
أجَلْ -وَاللهِ- غَدْرٌ
فيكُم قَديمٌ، وَشَجَتْ19
عَليهِ أصولُكُم،
وتأزَّرَتْ عليه فروعُكم،
وثبتَتْ عليهِ قُلوبُكُم،
وغَشِيَتْ صدورُكُم،
فكنتُم أخبَثَ ثَمَرٍ،
شَجىً20
للناظرِ، وأُكْلَةً21
للغاصِبِ. ألَا لعنةُ
اللهِ على الناكِثينَ،
الذينَ ينقضُونَ
الأَيْمانَ بعدَ
توكيدِهَا، وقد جعلتُمُ
اللهَ عَليكُم كَفيلاً،
فأنتم -وَاللهِ- هُمْ.
ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ
الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ22
بينَ اثنَتَينِ: بينَ
السِّلَّةِ23
والذِّلَّةِ، وهيهاتَ
منّا الذِّلَّةُ، يأبَى
اللهُ لَنَا ذلكَ
ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ،
وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ،
وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ
ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ24
مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ
اللِّئامِ على مصارِعِ
الكِرَامِ. ألَا وَقَدْ
أَعْذَرْتُ وأَنْذَرْتُ،
ألَا وإنِّي زاحِفٌ
بهذِهِ الأُسرةِ على
قلَّةِ العَدَدِ، وكَثرةِ
العدُوِّ، وخِذلانِ
الناصرِ".
ثمَّ وَصَلَ كَلامَهُ
بِأَبْيَاتِ فَرْوَةَ بنِ
مسيكٍ المُرَادِيّ فقالَ:
فَإِنْ نُهْزَمْ
فَهَزَّامُونَ
قِدْماً |
وَإِنْ نُغْلَبْ
فَغَيرُ
مُغَلَّبِينا |
فَقُلْ
لِلْشَامِتينَ
بِنا أَفِيقُوا |
سَيَلْقَى
الشَامِتُونَ
كَمَا لَقِينا |
ثمَّ قال عليه
السلام: "أمَا واللهِ، لا
تلبَثونَ بعدَها إلَّا
كَرَيثِ25
ما يُركَبُ الفَرَسُ،
حتَّى تدورَ بِكُم
دَوَرانَ الرَّحى26،
وتقلقَ بِكم قَلقَ
المِحْوَرِ27،
عهدٌ عَهِدَهُ إليَّ أبي
عن جدّي رسولِ اللهِ صلى
الله عليه واله
﴿فَأَجْمِعُواْ
أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ
يَكُنْ أَمْرُكُمْ
عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ
اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ
تُنظِرُونِ﴾28،
﴿إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ
رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا
مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ
آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا
إِنَّ رَبِّي عَلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾29.
ثمَّ رفعَ يدَيهِ نحو
السماءِ وقالَ: "اللهمَّ
احبِسْ عنهم قَطْرَ
السماءِ، وابعثْ عليهم
سنينَ كسِنِي يوسُفَ،
وسلِّطْ عليهم غُلامَ
ثقيفٍ يسقيهم كأساً
مُصَبّرةً30،
فإنَّهم كذَّبونا
وخَذَلونا، وأنت ربُّنا
عليكَ توكَّلنا وإليكَ
أَنَبْنَا وإليك المصيرُ".
واستدعى الحسينُ عليه
السلام عُمرَ بنَ سَعدٍ
وكانَ كارِهاً لا يُحبُّ
أنْ يأتيَهُ. فلمّا حضرَ،
قالَ لهُ: "يا عُمَرُ،
أتزعَمُ أنّكَ تقتُلُنِي
ويُوَلِّيكَ
الدعيُُّ31
ابنُ الدعيِّ بلادَ
الرَّيِّ وجُرجانَ؟
واللهِ، لا تهنأُ بذلكَ
أبَداً، عَهدٌ مَعهودٌ،
فاصنعْ ما أنتَ صانعٌ،
فإنَّكَ لا تَفرحُ بَعدِي
بِدُنيا ولا آخرةٍ،
وكأنِّي برأسِكَ على
قَصَبةٍ قد نُصِبَ
بالكوفةِ، يتراماه
الصِّبيانُ ويتّخذونَهُ
غَرَضاً32
بينهم". فغضِبَ ابنُ
سعدٍ من كلامهِ، ثمَّ
صَرفَ وجهَهُ عنهُ، ونادى
بأصحابِهِ: ما تنتظرونَ
بِه؟! اِحمِلُوا
بِأَجمَعِكُم، إنَّما هيَ
أَكلةٌ واحدة.
|