المجلس الثالث

لَوْ كَانَ يَنْفَعُ لِلعليْلِ غَليلُ                      
كَيفَ السُّلُوُّ ولَيسَ بَعدَ مُصيْبَةِ                         
حَكَمَ الإِلَهُ بِمَا جَرَى فِي مُسْلِمٍ                         
خَطْبٌ أَصَابَ مُحَمّداً وَوَصِيَّهُ                             
خَذَلُوْهُ وانقَلَبُوْا إلى ابْنِ سُمَيَّةٍ                                
سَلْ مَا جَرَى جُمَلاً ودَعْ تَفْصِيْلَهُ                    
قَتَلُوْهُ ثُمَّ رَمَوْهُ مِنْ أَعَلَى البِنَا                               
رَبَطُوْا بِرِجْلَيْهِ الحِبَالَ ومَثَّلُوْا                      
ولَهُ ابْنَةٌ مَسَحَ الحُسَينُ بِرَأسِهَا                                    
لَمَّا أحَسَّتْ يُتْمَهَا صَرَخَتْ ألَا                              
فَاضَ الفُرَاتُ بِمَدْمَعِي والنِّيْلُ‏
ابْنِ عَقِيْل لي جَلَدٌ وَلَا مَعْقُوْلُ؟‏
والله لَيْسَ لِحُكْمِهِ تَبدِيْلُ‏
للهِ خَطْبٌ قَدْ أَطَلَّ جَلِيْلُ‏
وَعَنِ ابْنِ فَاطِمةٍ يَزيدُ بَديْلُ‏
فَقَلِيْلُهُ لَمْ يُحْصِه التَّفصِيْلُ‏
وَعَلَى الثَّرَى سَحَبُوهُ وَهْوَ قَتِيْلُ‏
فِيْهِ فَلَيْتَ أَصَابَنِي التَّمْثِيْلُ‏
واليُتْمُ مَسْحُ الرَّأسِ فِيْهِ دَلِيْلُ‏
يَا وَالِدِي حُزْنِي عَلَيْكَ طَوِيْلُ

115


شعبيّ:

حميدة من تشوف احسين
تذكر بيها وتسيل
يعمي والدي غايب
وشو تمسح على راسي
يعمي والدي مقتول
البقا براسك يعمي حسين
ما أنصف وياي البين
إلي هاي الدهر ضمها
تهون امصيبتي بس كون
ابو اليمه يجي يمها
دمعتها بوجه عمها
وشوفنك يهل دمعك
وعلى حالي انحنى ضلعك
عرفته من شفت وضعك
ابوي انت يماي العين
عقب ذاك الصبر كله
وبعدني خايفه من البين
يسلم راس عمي احسين

116


هاذي طلبتي من الله
حميده كان رجواها
تالي الدهر خلاها
وعمها حسين يتمها
لاكن هاي تحصل وين
عمها حسين يرعاها
يتيمة بيها مسلم


أبوذيّة:

بنت مسلم قضى بوها ومالها
ذبها الدهر يا عمها وما لهـا
غيرك وانت رادتها واملهـا
ولا والي العليها ايدوم فيـه

وكان ما كان مع مسلم بن عقيل في الكوفة حيث انقلبوا عليه، حتىّ بقي وحيداً غريباً يسير في أزقّة الكوفة وشوارعها، ولا يدري أين يذهب، إلى أن وصل إلى دار امرأة يقال لها طوعة، كانت جالسة على باب دارها، تنتظر عودة ولدها المشؤوم، فرآها مسلم وسلّم عليها، ردّت عليها السلام، فقال لها: أمة


117


الله، اسقيني شربة من الماء، دخلت تلك المرأة وجاءته بالماء، ودخلت، وما لبثت أن خرجت فرأت مسلما جالساً على باب دارها، قالت: يا عبد الله ألم تشرب الماء؟! قال: بلى، فقالت له: فاذهب إلى أهلك، أنا لا أحلّ لك الجلوس على باب داري، فقال لها: أمة الله، ما لي في هذا المصر من أهلٍ ولا عشيرة، فهل لك إلى أجر ومعروف، أن تضيفيني سوادَ هذه الليلة، ولعلّي مكافئك بعد هذا اليوم؟ (استفزّت هذه الكلمات تلك المرأة)، فسألته: ومن تكون؟ فقال لها: أنا مسلم بن عقيل، خذل بي أهل مصركم هذا. فقالت: أنت مسلم؟! أدخل على الرحبة والسّعة - فداك أبي وأمّي -، أدخلته داراً غير الدار التي كانت تسكن فيها، وقدّمت له الطعام، فلم يأكل منه شيئاً، وأمضى تلك الليلة قائماً وقاعداً يصلّي، إلى أن أصبحَ الصباح، فسمع بوقع حوافر الخيل، وأصوات الرجال، فعرف أنّهم قد جاؤوا لطلبه، بسبب وشاية ذلك الولد، فلبس لامة حربه بعد أن اقتحموا عليه الدار، فخرج مسلم وشدّ عليهم حتى أخرجهم من الدار، وهو يقول:

هُوَ المَوْتُ فَاصْنَعْ مَا أَنتَ صَانِعُ
فَصَبْراً لِأَمرِ الله جَلَّ جَلَالُهُ
فَأَنْتَ بِكَأسِ المَوْتِ لَا شَكَّ جَارِعُ
فَحُكْمُ قَضَاءِ الله فِي الخَلْقِ ذَائِعُ

118


وحمل عليهم يقاتلهم حتى قتل منهم مقتلة عظيمة، وكان من قوّته أن يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت، وبعدما أكثر فيهم القتل، طلب محمّد بن الأشعث النجدة من عبيد الله بن زياد، قائلاً: أدركني بالخيل والرجال، فأنفذ ابن زياد إليه قائلا: ثكلتك أمّك، وعدِمَكَ قومُك، رجل واحد يقتل هذه المقتلة العظيمة! فكيف لو أرسلناك إلى من هو أشدّ بأسا؟!(يعني الحسين عليه السلام)، فأرسل ابن الأشعث يقول: أتظن أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، أو إلى جرمقان من جرامقة الحِيرة؟! وإنّما وجّهتني إلى بطل هُمام وشجاع ضرغام من آل خير الأنام. فأرسل إليه بالعساكر، وقال: أعطه الأمان، فإنّك لا تقدر عليه إلّا به. وفعلاً جاؤوا إليه من كلّ حدب وصوب، فحمل عليهم فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من أعلى السطوح، وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطناب القصب ثمّ يرمونه بها، حتى أثخن بالجراح وعجز عن القتال، فأسند ظهره إلى جدار بيت فضربوه بالسّهام والأحجار.

فقال: ما لكم ترمونني بالأحجار كما تُرمى الكفّار، وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار؟! ألا ترعون رسول الله في عترته؟!
(قال السيد في لهوفه: عند ذلك طعنه رجل من خلفه فخرّ إلى


119


 الأرض فتكاثروا عليه) وانتزعوا سيفه وأخذوه إلى ابن زيادٍ مكتوفاً، ولمّا انتزعوا سيفه جعل يبكي، فقال له عبيد الله بن العبّاس: إنّ من يطلب مثل الذي طلبت، إذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ، قال: والله ما لنفسي بكيت وإن كنت لم أحبّ لها طرفة عين تَلَفاً، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليَّ، أبكي للحسين عليه السلام وآل الحسين عليه السلام.

وجاءوا بمسلم إلى ابن زياد، وعندما وصل إلى باب القصر، وكان قد أعياه نزف الدم، فطلب الماء، فلم يعطوه، فجلس مسلم متسانداً إلى الحائط، فبعث عمرو بن حريث غلاماً، فجاءه بقلّة من الماء، أراد مسلم أن يشرب فامتلأ القدح دماً، فأراقه مسلم، ولمّا أراد أن يشرب مرّة أخرى سقطت ثناياه في القدح، فقال: لو كان من الرزق المقسوم لشربت.

أدخلوه على ابن زياد، والناس مجتمعة حول القصر، منهم من يقول بأنّ مسلماً مقتول لا محالة، ومنهم من يقول: بأنّه يُساق إلى الشام، ومنهم من يقول بأنّه يُحبس حتى يأتي الخبر من يزيد، فبينما هم كذلك إذا بمسلم قد صعدوا به إلى أعلى القصر، وهو مثخن بالجراح، قد نزف دمه والعطش قد أضرّ به، وبكر بن حِمران شاهرا سيفه يريد أن يحتزّ رقبته، لمّا رأى مسلم ذلك طلب منه أن يصلّي ركعتين، فقال له بكر: صلّ ما شئت،


120


صلّى مسلم رَكعَتين، ثمّ توجّه نحو المدينة وصاح: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا بن رسول الله..

شعبيّ:

يحسين انا مگتول ردّوا ولا تجوني
وللفاجر ابن زياد كلّهم سلّموني
خانوا اهل كوفان عگب ما بايعوني
مفرد وانتو يا هلي عني بعيدين

عظّم الله لك الأجر يا أبا عبد الله، وإذا باللعين قد رفع سيفه، واحتزّ رأسه الشريف، ثمّ رموا بجسده من أعلى القصر.

ثمّ جاءوا بهاني بن عروة وفعلوا به كما فعلوا بمسلم، ثمّ ربطوا رجليهما بالحبال وجعلوا يجرونهما في الأسواق.

أبوذيّة

عمل كوفان هد حيلي وهاني
يا وسفه رِجل مسلم وهاني
ولا شربي صفه طيِّب وهاني‏
بحبل بالسوگ شدّوهن سويّة

121


هذا والحسين أضحى قريباً من الكوفة في منطقة يقال لها زَرُود، لمّا وصل إليه خبر شهادة مسلم، إختنق بعبرته، وأقام في ذلك المكان مأتماً، سمعت زينب عليها السلام بكاء إخوتها وبني عمومتها، وقفت قليلاً على باب الخيمة لترى ما الخبر...! بينا هي كذلك، وإذا بأخيها الحسين عليه السلام أقبل إليها يمسح دموعه بطرف ردائه، قالت: ما يبكيك أخي أبا عبد الله؟ قال لها: "أُخيّه، عظّم الله لك الأجر بابن عمّك مسلم فلقد قَتَلَهُ أهل الكوفة وغدروا به..."!

عندها صاحت: وا بن عمّاه.... وامسلماه...

شعبيّ:

والمقدّر جره وشاعت اخباره
وهاني انگتل بعده وبگت داره
رموه القوم من قصر الامارة
مظلمة ولا بعد واحد يصلها

قال عليه السلام: "أخيّه زينب أين يتيمة مسلم" (حميدة طفلة مسلم لا يتجاوز عمرها الخمس سنوات) جاءت بها دفعتها إلى سيّد شباب أهل الجنّة، أخذها وأجلسها في حجره، جعل يمسح


122


على رأسها يطيّب قلبها، وهو مختنق بعبرته، شعرت هذه الطفلة باليتم، جعلت تتفحّص في وجه عمّها الحسين عليه السلام تقول: عمّاه أبا عبد الله، ما لي أراك تصنع معي كما تصنع مع اليتامى؟! هل أصاب والدي مكروه...

لعل والدي قد قتل...؟!
قال: "بنيّة أنا أبوك وبناتي أخواتك"، لمّا سمعت من الحسين هذه الكلمات صاحت واأبتاه... وامسلماه...‏

شعبيّ:

يعمّي گلّي بويه وينه
واخبار منّه ما تجينه
امن ازمان ما بيّن علينه‏
يمكن يعمّي لبييّ گاتلينه‏

تبكي عليه... هذا وسكينه واقفة تنظر إليها، حابسة لدمعتها تحاول ملاطفتها. ولكن كيف كان حال سكينة عندما استشهد الحسين عليه السلام يوم عاشوراء. جاءت إلى أبيها الحسين، وقد رأته بتلك الحالة، (مقطوع الرأس، مقطّع الأوصال)، رمت بنفسها عليه، صاحت: أبه، من الذي خضّب شيبك، أبه، من الذي قطع رأسك، من الذي حزّ وريدك، أبه، من الذي أيتمني


123


بعدك؟! بينا هي محتمية بأبيها الحسين عليه السلام جاء جمع من الأعداء، وأرادوا أن ينحّوها عن جسد أبيها، ما تمكنوا، فجعلوا يضربونها بالسِّياط، وهي تلوذ بأبيها...

شعبيّ:

تگله من گطع راسك ابسيفه
يبويه الجيش سلبنه اعله كيفه
اومن هشّم اعظامك واخذ حيفه
اومتني ابسوط عدوانك تورّم

 

وَيَتِيمَةٌ فَزِعَتْ لِجِسمِ كِفِيْلِهَا                        
وَقَعَتْ عَلَيْهِ تُقَبِّلُ مَوْضِعَ نَحرِهِ                     
حَسْرَى القِنَاعِ تِضِجُّ فِي أصوَاتِهَا
وَعُيُوْنُـها تَنْهَـلُّ فِي عَبَرَاتِـهَا

يا الله


124