المجلس الثاني

سَلْ كَرْبَلَا كَمْ مِنْ حَشَى لِمُحَمَّدٍ                     
وَلَكَمْ دَمٍ زَاكٍ أُرِيْقَ بِهَا                                   
وَبِهَا عَلَى صَدْرِ الحُسَيْنِ تَرَقْرَقَتْ                                 
وَعَلِيُّ قَدْرٍ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ                           
أَفْدِيْهِ مِنْ رَيْحَانَةٍ رَيَّانَةٍ                                        
للهِ بَدْرٌ مِنْ مُرَاقِ نَجِيْعِهِ                                      
مَاءُ الصِّبَا وَدَمُ الوَريْدِ تَجارَيَا                                  
جَمَعَ الصِّفَاتِ الغُّرَّ وَهْيَ تُرَاثُهُ                                   
فِيْ بَأسِ حَمْزَةَ فِي شَجَاعَةِ حَيْدَرٍ                                      
وَتَرَاهُ فِي خُلُقٍ وَطِيْبِ خَلائِقٍ                                           
وَيَؤُوْبُ لَلتَّودِيْعِ وَهْوَ مُكَابِدٌ                                         
يَشْكُوْ لِخَيْرِ أَبٍ ظَمَاهُ وَما اشْتَكَىْ                                             
فانْصَاعْ يُؤثِرُهُ عَلَيْهِ بِرِيقِهِ                                                               
نُهِبَتْ بِهَا وَكَمِ اسْتُجِذَّتْ مِنْ يَدِ
وَكَمْ جُثْمَانِ قُدْسٍ بِالسُّيُوْفِ مُبَدَّدِ
عَبَرْاتُهُ حُزْناً لِأَكْرَمِ سَيِّدِ
عَبَقَتْ شَمائِلُهُ بِطِيْبِ المَحْتِد
جَفَّتْ بِحَرِّ ظَماً وَحَرِّ مُهَنَّدِ
مَزَجَ الحُسَامُ لُجَيْنَهُ بِالعَسْجَدِ
فِيْهِ وَلَاهِبُ قَلْبِهِ لَمْ يَخْمُدِ
مِنْ كُلِّ غِطْرِيْفٍ وَشَهْمٍ أَصْيَدِ
بِإِبَا الحُسَيْنِ وَفِي مَهابَةِ أَحْمَدِ
وَبَلِيْغِ نُطْقٍ كَالنَّبِيِّ مَحَمَّدِ
لِظَمَا الفُؤَادِ وَلِلْحَدِيدِ المُجْهِدِ
ظَمَأَ الحَشَىْ إلَّا إلَى الظَّامِي الصَّدِي
لَوْ كانَ ثَمَّةَ رِيقُهُ لَمْ يَجْمُدِ

193


شعبي:

يبويه واج قلبي امن العطش نار
بكا اوگله يبويه اوداعة الله
لروح الجدي الهادي وگله
سگاني جدي ابكاسه
والزهره او علي الكرار
يبويه او بكوا عد راسي
اوكاسك من تِجي مذخور
شمس اوحديد تدري والوگت حار
اشو الساني على السانك تگلّه
شبع ريحانتك من أمتك جور
يبويه او هل حضر يَمّي
وياه الحسن عمّي
او تحنُّوا كلهم ابدمي
يحسين او بذل جهده

أبوذية:

علي الأكبر صمت يحسين ونصار
بعدك ما ظل لبوك أعوان وانصار
شباب ابني وعليه بالقلب ونصار
وبيه اگطَعت يوم الغاضريه

194


ورد عن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الناحية عند السلام على عليّ بن الحسين عليهما السلام: "السلام عليك يا أوّل قتيلٍ من نسل خير سليل من سلالة إبراهيم الخليل".

أوّل الشهداء في كربلاء من شهداء بني هاشم، وأوّل فداء قدّمه الحسين عليه السلامفي ميدان الشهادة بعد شهادة أصحابه، ولده وقرّة عينه وشبيه جدّه عليّ الأكبر رضوان الله عليه... وإذا كان النبيّ إبراهيم عليه السلامقد ابتلاه الله بأن يقدّم ابنه للذبح، ثمّ فداه بكبشٍ عظيم، وقال الله عزَّ وجلَّ:
﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ فما حال الإمام الحسين عليه السلام وكيف يكون ابتلاؤه حيث لم يقدّم نفسه فقط، ولم يرضَ بدمه الشريف وحده أن يُراقَ على ميدان القربان الإلهيّ، حتّى قدّم أصحابه جميعاً وأولاده وأفلاذ أكباده, الصغير منهم والكبير. الصغير يُذبح بين يديه عطشانَ ويعلم ما سيجري له، ولكنّه يقدّم القربان إلى الله ويقول: "اللهم تقبّل منّا هذا القربان". والكبير يقتل مقطّعاً بالسيوف ظامئاً عطشانَ، ويعلم أنّه سيجري ما سيجري عليه، ولكن يتقرّب إلى الله بهذا القربان. فأيّ بلاء هذا، وماذا استحق الحسين به، بل هو البلاء الأعظم وهو الفداء الأكبر الذي فدى الله به دينه عن أنبيائه وأوليائه، ولذا ليس غريباً أن يسكن دم الحسين الذي اختلط بدماء أهل بيته


195


وأصحابه، أن يسكن في الخلد وتقشعرّ له أظلّة العرش ويبكي له جميع الخلائق, كما في زيارة الإمام الصادق عليه السلام.

الحسين عليه السلام قدّم ولده شهيداً ورَضي به فداءً قبل أن يستشهد في كربلاء، وأيّ فداء يقاس بفداء الحسين بعليّ الأكبر أشبه النّاس خَلْقاً وخُلُقاً ومنطِقاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بحيث إنّ أهل المدينة كانوا إذا اشتاقوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نظروا إلى هذا الشاب، وكأنّهم ينظرون إلى رسول الله ويسمعونه، وكان يوصف عليه السلامبأنَّه شاب حسن الصورة، صبيح المنظر على وجه لا نظير له، وشجاعته مشهورة، وكذلك سائر صفات الكمال من الجلالة والعظمة والسخاء وحُسن الأخلاق، وغير ذلك...

صحيح أنّ الحسين عليه السلام قدّم ولده راضياً مطمئنّاً، ولكن يحقّ للحسين أن تكون مصيبته بشبيه جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصيبة تهدّ قواه، ويكون حزنه معها حزناً يشرف فيه على الهلاك والموت، كما قال المرحوم الشيخ جعفر التستريّ قدّس سرّه، يقول إنّ الحسين عليه السلامفي مصيبة ولده قد احتضر وأشرف على الموت ثلاث مرّات.

المرّة الأولى لمّا برز عليّ الأكبر واستأذن أباه فأذن له وألبسه الدرع والسلاح وأركبه على العقاب (من أجياد خيل رسول


196


الله صلى الله عليه وآله وسلم). فلمّا تجلّى وجه طلعته من أفق "العقاب" واستولت يده وقدمه على العنان والركاب، خرجتِ النساء وأحدقن به فأخذت عمّاته وأخواته بعنانه وركابه ومنعنه من العزيمة، فعند ذلك تغيّر حال الحسين عليه السلامبحيث أشرف على الموت، وصاح بنسائه وعياله: "دعنه فإنّه...مقتول في سبيل الله". ثمّ أخذ بيده وأخرجه من بينهن فنظر إليه عليه السلام نظر آيس منه وأرخى عينيه بالدموع

يگله والدمع بالعين دفاگ ابعبره
يبويه اداعة الله هذا الفراك
امكسره وبگلب خفاگ
يبويه اشبيدي هذا المگدر

ثمّ رفع شيبته الكريمة إلى السماء وقال:
"اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم, فقد برز إليهم غلامٌ, أشبهُ الناس برسولك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً, وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك صلى الله عليه وآله وسلم نظرنا إليه، ثمّ صاح بعمر بن سعد قائلاً: "مَا لَكَ قطع الله رحمك ولا بارك لك في أمرك, وسلّط عليك من يذبحك على فراشك, كما قطعت رحمي, ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم


197


وبينما الحسين يودّع ولده بالدّعاء، فهم عليّ أنّها الرخصة له بالبراز، فحمل على القوم كالأسد الغضبان يقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة (فجندل الأبطال وهزم الفرسان) وتعجّبوا من صولته وشجاعته وفروسته، وكيف لا يكون كذلك وهو ابن الحسين وجدّه أمير المؤمنين, حتّى إنَّ البعض صاح بأصحابه: ويحكم هذا عليّ بن أبي طالب خرج من قبره يقاتلكم، فجعل عليّ الأكبر يعرّف عن نفسه قائلاً:

أَنَا عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِي
وَالله لَاْ يَحْكُمُ فِيْنَا ابْنُ الدَّعِي
أَضْرِبُكُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَلْتَوِي
نَحْنُ وَبَيْتِ الله أَوْلَىْ بِالنَّبِي
أَطْعَنُكُمْ بِالرُّمْحِ حَتَّى يَنْثَنِي
ضَرْبَ غُلامٍ هَاشِمِيٍّ عَلَوِي

فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ الأعداء من كثرة من قتل منهم:

فَتىً جُمِعَتْ فِيْهِ شَمائِلُ أَحْمَدٍ
فَوَالله لا أَنْسَاهُ يَوْمَ الوَغَى وَقَدْ
يَكِرُّ عَلَيْهِمْ كَرَّةَ الَّليْثِ وَالظَّمَا
وَبَأْسُ عَلِيِّ المُرتَضَى وَثَبَاتُهُ
حَكَتْ حَمَلَاتُ المُرْتَضَى حَمَلاتُهُ
بِأَحْشائِهِ قَدْ أُضْرِمَتْ جَذَوَاتُهُ

ثمّ رجع إلى أبيه الحسين عليه السلام وقد أصابته جراحات كثيرة والدّم يجري من حلق درعه، وقد أخذ العطش منه مأخذاً بليغاً،


198


شاكياً إلى أبيه ظمأه، وما أصعبها من ساعة، عندها - كما يقول العلّامة التستريّ - كانت المرّة الثانية التي أشرف فيها الحسين على الموت في مصيبته بولده عليّ الأكبر.

ساعد الله قلب الحسين حينما استقبل ولده راجعاً من الميدان مع ما به من الجراحات والظمأ ولم يقدر أن يقدّم له ما يبلّ غليله، نعم أقبل عليّ الأكبر إلى أبيه قائلاً: يا أبه العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماءٍ من سبيل اتقوّى بها على الأعداء؟

يبويه شربة أميّه الكبدي
يبويه انفطر كبدي وحق جدّي
اتگوى ورد للميدان وحدي
العطش والشمس والميدان والحر

ضمّه الحسين إلى صدره وبكى وقال: "يعزّ على محمّد وعليّ وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبوك، وتستغيث بهم فلا يغيثوك. يقول الراوي: فمدّ الحسين لسانه ليمصّ منه ولده عليّ، فبكى عليّ الأكبر وقال: أبه لسانك أيبس من لساني. (أي وا سيّداه, وا حسيناه, وا عليّاه وا مظلوماه). ويقولون دفع الحسين خاتمه إلى ولده عليّ الأكبر وقال: خذ هذا الخاتم في فيك وارجع


199


إلى قتال عدوّك فإنّي أرجو أن لا تمسي حتّى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً..."، فرجع عليّ الأكبر إلى القتال وحمل على القوم بكلّ شجاعة وصلابة مع ما فيه من الجراحات والعطش وهو يقول:

أَلحَرْبُ قَدْ بَانَتْ لَهَا حَقَائِقُ
وَالله رَبِّ العَرْشِ لا نُفَارِقُ
وَظَهَرَتْ مِنْ بَعْدِهَا مَصَادِقُ
جَمْعَكُمْ أَوْ تُغْمَدَ البَوَارِقُ

فبعد أن أكثر فيهم القتل (يا مؤمنون) - عظّم الله لكم الأجر- شدّ عليه مرّة ابن منقذ التميميّ (لع) فطعنه برمحه (وضربه لعين على مفرق رأسه) فانقلب على قربوس سرج فرسه واعتنق الفرس، وقد نزلت الدماء على وجه الفرس، فبدل أن يأخذه إلى معسكر الحسين، حمله إلى معسكر الأعداء، فاحتوشوه وقطّعوه بأسيافهم إرباً إرباً - رحم الله من نادى وا عليّاه وا أكبراه وا شهيداه - نادى وقد بلغت روحه التراقي: "أبتاه عليك منّي السلام، هذا جدّي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول لك العجل العجل فإنّ لك كأساً مذخورةً". - ساعد الله قلب الحسين عليه السلام - تقول سكينة: لمّا سمِع أبي صوت عليّ، أخذ تارة يقوم وأخرى يجلس وهو يقول: وا ولداه, وجعل يتنفّس


200


الصعداء، وارتفع صوت النّساء بالبكاء والنحيب فسكّتهنّ الحسين قائلاً: إنّ البكاء أمامكنّ، ثمّ انحدر إلى مصرع ولده ومعه شباب من بني هاشم، حمل على القوم حتّى فرّقهم عن مصرع ولده. وقف عليه، رآه مقطّعاً بالسيوف إرباً إرباً، جلس عنده، أخذ رأسه وضعه في حجره وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه (لعلّ من أفجع الصور هذا المشهد، الحسين عند ولده عليّ، وهذه هي الحالة الثالثة التي كان فيها الحسين كحالة المحتضر عند مصرع الأكبر) يقول المؤرّخون: لمّا وصل الحسين إلى ولده عليّ، نزل عنده تمدّد إلى جنبه، ألصق صدره على صدره، وخدّه على خدّه، ثمّ قال: "بني، قتل الله قوماً قتلوك، ما أجرأهم على الرّحمن، وعلى انتهاك حرمة الرسول"، ثمّ هملت عيناه بالدموع ونادى: ولدي عليّ، على الدنيا بعدك العفا، أمّا أنت يا بني فقد استرحت من همّ الدنيا وغمِّها، وبقي أبوك لهمّها وكربها.

يبويه اشلون گلي داروا اعليك
وحاكيني يروحي ماني أحاكيك
اظن من الضرب ما ظل نفس بيك
وحك جدّك امصاب البيك بيّه

201


گعد يمَّه اوبكا او ناداه يبني
يبويه امصابكم والله گتلني
عفتوني وحيد اورحتوا عني
او ضرباتك شفت بيها المنيه

 

(آه) بُنَيَّ اقْتَطَعْتُكَ مِنْ مُهْجَتِي
تُقَطَّعُ بِالسُّيُوفِ وَأَنْتَ قَلْبِي
عَلامَ قَطَعْتَ جَميلَ الوِصالِ
فَهَلْ أَبْقَوا لِقَلْبِي فِيكَ بَاقِ

يا الله


202