المجلس الثاني

كَمْ لِلمُتيَّمِ مِنْ دُمُوعٍ جَارِيَه                                  
يا دَارُ غَيَّرَكِ الزَّمانُ بِصَرْفِه                             
وَأَبَادَ أَهْلَكِ بِالصُّروفِ فَأَصْبَحُوا                                
مِثْلُ الحُسَيْنِ عَلَى الصَّعيدِ مُجَرَّدٌ                              
لَمْ أَنْسَهُ ثَاوٍ عَلَى حَرِّ الثَّرى                                   
فَوْقَ الرِّماحِ رُؤوسُهُمْ مَشْهُورَةٌ                                 
قَدْ غُسِّلُوا بِدَمِ الرِّقابِ وَكُفِّنُوا                                 
وَالقَاسِمُ بنُ المُجْتَبَى مَا بَيْنَهُم                                       
لَمْ أَنْسَهُ بَيْنَ الرِّجالِ وَعُمْرُهُ                                      
يُرْدِي الكُمَاةَ بِسَيْفِهِ فَتَخالُهُم                                       
حَتَّى إذا أَرْدَوْهُ مُلْقَىً لِلْثَرى                                            
نَادَى أَلَا يا عَمُّ أدرِكنِي فَقَدْ                                     
فَأَتاهُ يُسْرِعُ بَالخُطَى وَدُمُوعُهُ                                      
حُزْناً عَلَى تِلْكَ الطُّلولِ الخَاوِيَه
وَمَحَتْ مَحَاسِنَكِ الخُطوبُ العَادِيَه
كُلٌّ يَؤُمُّ مِنَ النَّواحِي نَاحِيَه
وَيَزيدُ يَرْفُلُ بِالبُرودِ الضَّافِيَه
وَبَنُو أَبِيهِ كَالأَضاحِي ثَاوِيَه
وَجُسُومُهُمْ تَحْتَ السَنابِكِ عَارِيَه
مِنْ نَسْجِ هَاتِيكَ الرِّياحِ السَّافِيَه
وَجَبِينُهُ يَزْهُو كَشَمْسٍ ضَاحِيَه
يا لِلْبَرِيَّةِ خَمْسَةٌ وَثَمانِيَه
فَوْقَ الثَّرَى "أَعْجازَ نَخْلٍ خَاوِيَه"
بِدِماءِ وَجْنَتِهِ المُضيئَةِ قانِيَه
وَزَّعْنَ أَعْضائِي السُّيوفُ الماضِيَه
لِلأَرْضِ مِنْ عَيْنَيْهِ تُهْمَى جَارِيَه

225


شعبيّ:

يعمي من ضرب هامتك نصين
يعمي اشلون أشيلك للصواوين
شاله او للمخيم بيه سدّر
گعد ما بينهم والدّمع فجّر
يم جاسم غدت للحرم
أمه اتصيح يا جاسم امهنّه
يبعد اهلي اصواب اليوجعك وين
وانته من الضرب جسمك مخذم
وحط جاسم يويلي الصف الأكبر
تشب ناره او عليه اتراكم الهم
حنّه لمن شافته ابدمّه تحنّه
ابهلزّفه يبعد الخال والعم

أبوذيّة:

أنا ردتك ما ردت دنيا ولا مال
يبني يا جاسم خابت اظنوني ولا مال
تحضرني لو وقع حملي ولا مال
وبوقت الضيق يبني اگطعت بيّه

226


ورد عن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الناحية عند ذكر القاسم ابن الحسن المجتبى: "السلام على القاسم ابن الحسن المضروب على هامته، المسلوب لامته، الذي نادى عمّه الحسين فجلّى عليه كالصقر فرآه يفحص بيديه ورجليه، فقال: يعزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يُجيبك أو يجيبك فلا يعينك أو يعينك فلا يغني عنك, بعداً لقومٍ قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدّك و أبوك، هذا والله يومٌ كثر واتره وقلّ ناصره".

القاسم رضوان الله عليه على صغر سنِّه بحيث عُبِّر عنه أنَّه لم يبلغ الحُلُم ، كان متهيّئاً لنصرة عمّه الحسين ومتدرّباً على القتال كالفرسان والشجعان، وليس عجيباً أمره إذ أنَّه ابن الحسن وجدّه أمير المؤمنين وتربّى في حجر الحسين فغدا كاملاً في أخلاقه وإيمانه وثباته, وقدوة للعارفين والسالكين إلى الله في عشقه للشهادة، يسأله الحسين عليه السلامعندما أراد القاسم أن يعرف هل هو في جملة من يرزقون الشهادة - كما بشّر بها الإمام الحسين أصحابه ليلة عاشوراء -، فقال له الحسين: ولدي قاسم كيف تجد طعم الموت؟ قال: يا عمّاه، والله الموت بين يديك عندي أحلى من العسل, فبشَّره الحسين بالشهادة وأنّه في جملة من يكون لهم هذا الفوز وهذه السعادة معه من الشهداء....


227


ولذلك بعد أن قتل أصحاب الحسين عليهم السلام يوم عاشوراء وبرز للقتال أبطال بني هاشم الذي ارتضعوا من ثدي الفتوّة ولبان الشجاعة، وقتل عليّ الأكبر وجملة من شباب بني هاشم، وسمع القاسم نداء عمّه الحسين واغربتاه، واقلّة ناصراه، أما من معين يعيننا؟! أما من ناصر ينصرنا؟! أما من ذابٍّ يذبّ عنّا؟! خرج القاسم إلى عمّه الحسين قائلاً: لبّيك سيّدي يا عمّ يا أبا عبد الله، فلمّا نظر إليه الحسين عليه السلاموكان أشبه بأبيه الحسن عليه السلاماعتنقه وجعلا يبكيان حتّى غشي عليهما (ولعلّ هذا الوداع لم يحصل إلّا مع القاسم)..فلمّا أفاقا طلب القاسم المبارزة فأتى الحسين عليه السلامفقال: يا عمّاه لا طاقة لي على البقاء وأرى بني عمومتي وأخوتي مجزّرين، وأراك وحيداً فريداً، فقال له الحسين عليه السلام: يا ابن أخي أنت الوديعة من أخي، أنت العلامة... فلم يزل القاسم يقبّل قدمي عمّه ويديه، فقال له الحسين: بني قاسم أراك تمشي إلى الموت برجليك، قال وكيف لا يكون ذلك وأنت بقيت بين الأعداء وحيداً فريداً لا تجد ناصراً ومعيناً روحي لروحك الفداء ونفسي لنفسك الوقاء، عندها قال له الحسين: بني قاسم إليّ إليّ، فدنا منه القاسم، فجاء به الحسين إلى الخيمة وأتى بصندوق الإمام الحسن المسموم الذي فيه ودائعه وملابسه ولامة حربه، فأخرج


228


الحسين ملابس الحسن وعمامته وسيفه وقلّد القاسم السيف، وشقّ أزياقه، وقطع العمامة نصفين وأدلاها على وجهه، ثمّ ألبسه ثيابه على صورة الكفن، ثمّ قال ولدي قاسم أبرز (ولكن قبل ذلك ودّع أمّك وأخواتك) وما أصعبها من ساعة، رحم الله الشاعر يصوّر هذا المشهد:

لزمت ركابه سكينة
ومن الخيم مدهوشة
يبني يا جاسم هالوقت
لها اليوم أنا ذاخرتك
(قالها) أوصيك يمه وصيه
شبان لو شفتيهم
محروم من شمّ الهوا
وعمته بحلقه تشمه
طلعت تنادي أمه
حالك لعمك ضمه
مالك تخيب ظنوني
تسمعين لفظ اجوابي
بالله ذِكري شبابي
من دون كل صحابي

229


عطشان أنا يا والده حين الشرب ذكريني

ثمّ انحدر القاسم نحو الميدان ودموعه جارية على خدّيه، وهو يقاتل قتال الرجال الأبطال الشجعان، فأنكره بعضهم وصاروا يتساءلون من هذا الفتى الذي يقاتل قتال الأبطال، فأنشأ يقول:

إِنْ تُنْكِرُونِي فَأَنا نَجْلُ الحَسَنْ
هَذا حُسَيْنٌ كَالأَسِيرِ المُرْتَهَنْ
سِبْطُ النَّبِيِّ المُجْتَبَى والمُؤْتَمَنْ
بَيْنَ أُناسٍ لا سُقُوا صَوْبَ المُزُنْ

يقول حميد ابن مسلم: خرج علينا القاسم ووجهه كفلقة قمر طالع، بيده السيف يضرب به قُدماً قُدماً، وعليه قميص وازار وفي رجليه نعلان، فبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله ولا أنسى أنَّها اليسرى، فوقف ليشدّها (وكأنَّه لا يحسب حساباً للجيش من حوله من شجاعته العظيمة..) وكان عمر بن سعد بن نفيل الأزديّ إلى جانبه، فقال: والله لأشدّنّ على الغلام، ولأثكلنَّ به أمّه، قلت: يا هذا يكفيك ما به وقد احتوشوه من كلّ جانب ومكان، قال: والله لأفعلن، فشدّ على الغلام فما ولّى حتّى ضرب الغلام بالسيف على رأسه، ففلق هامته فخرّ إلى الأرض صريعاً ينادي: عليك منّي السلام يا عمّاه أدركني..


230


فجاءه الحسين كالصقر المنقضّ على فريسته، فرّق الأعداء عن مصرع ابن أخيه (رحم الله المنادي واقاسماه وا مظلوماه) وجده يفحص بيديه ورجليه، نادى: بني قاسم عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا يعينك، أو يعينك فلا يُغني عنك، بُعداً لقومٍ قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة جدّك وأبوك، هذا يومٌ والله كثر واتره وقلّ ناصره.

بكا اوناداه يا جاسم اشبيدي يريت السيف قبلك حزّ وريدي

هان الكم تخلوني اوحيدي او على اخيمي يعمي القوم تفتر
ثمّ أنّ الحسين عليه السلام وضع صدره على صدر القاسم، وحمله إلى المخيّم - ساعد الله قلبك أبا عبد الله- (تقول الرواية: احتمله ورجلاه تخطّان في الأرض)، لم يُطق الحسين أن يحمل القاسم مستوياً لأنَّ المصائب التي مرَّت عليه خاصّة مصيبة القاسم أحنت ظهره.

ضلع احسين على القاسم محنه
شاله احسين وبدمه محنه
يعمي ابموتتك زادت محنة
آه اشلون حال أمّه الزكية

231


جاء بالقاسم إلى الخيمة التي فيها عليّ الأكبر، وضعه إلى جنبه، فجعل ينظر تارةً إلى وجه الأكبر وإلى وجه القاسم تارةً أخرى، وهو يكفكف دموعه بكمّه، وتمدّد بينهما وأخذ يقبّلهما وينادي (واولداه واعليّاه، واقاسماه وابن أخاه).

شاله لخيمته ويسكِب دمع عينه
نِده وصاح يا رمله وسكينه
وقعد ما بين شِبله الأكبر وبينه
تعالن للعزيز واشوفن اشحاله


 

غَرِيبُونَ عَنْ أَوْطانِهِمْ وَدِيارِهِمْ
وَكَيْفَ لا تَبْكِي العُيونُ لِمَعْشَرٍ  
بُدورٌ تَوارَى نُورُها فَتَغَيَّرتْ
تَنوحُ عَلَيْهِمْ فِي البَرارِي وُحُوشُها
سُيوفُ الأَعادِي فِي البَرارِي تَنُوشُها
مَحَاسِنُها تُرْبُ الفَلَاةِ نُعُوشُها

                            

شباب اوبدور وابدمهم تحنُّوا 
عله موت الشرف والعز تعنُّوا
وابلذَّت الدنيا ما تهنُّوا
ولا ذلّوا لعند اسيوف اميّه

صار الحسين ينظر إلى ولده عليّ الأكبر وقتلى حوله من أهل بيته، ورفع طرفه إلى السماء وقال:
اللهم أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً،


232


صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً.

يا شبان بالله لا تونّون
تصدعون قلبي المن تحنون
وسفه على الغبرة ينامون
او بونينكم قلبي تكطعون
شبان مثل الورد يزهون

ساعد الله أمّه رمله لمّا نظرت إلى ولدها الوحيد مشقوق الهامة مخضّباً بدمه ألقت نفسها عليه منادية: واولداه، واقاسماه:

شعبيّ:

امبارك ما بين سبعين ألف جابوك
ابدال الشمع بالنِّشاب زفُّوك
ربيتك يا عيني وعيني بعينك
عن الحنه ابدما الراس حنوك
املبَّس فوق راسك نبل تنثر
واتنطّر لعرسك واحسب سنينك

233


تاليها يا جاسم اسمع أنينك
جابوك يبني اولا عرفتك من الجروح
عگب الفرح يا حيف تالي العمر بالنوح
يا لبيدي افرشلك كنت يبني وأغطِّيك
لو يرضه منّي الموت والله ابروحي أفديك
وحَسِّب للعرس يبني وعدلك
تعوف العرس وآنه ابقى ابعزيه
واشوفك داير ابشخصك خيالها
يا شمعة البيت اوزهرته اوفرحة الروح
أگضّيه يبني لا عسن ظليت بعدك
نايم عله التربان هِسّه اولا نفس بيك
ليالي اسهرت برباتك وعدلك
أتاري النوب تاليها وعدلك

 

مُرَمَّلاً مُذْ رَأَتْهُ رَمْلَةٌ صَرَخَتْ أَيَا مُهْجَتِي وَسُرورِي يا ضِيا بَصَرِي

يا الله


234