المجلس الثالث

يَا عَيْنُ جُودِي بِالدُّمُوعِ السُّكَّبِ                                  
عَشِقَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ فِي دَوْرِ الصِّبَا                                   
هُوَ قَاسِمٌ نَجْلُ الإِمَامِ المُجْتَبَى                                      
يَحْكِي أَبَاهُ شَمَائِلاً فَكَأَنَّهُ                                           
لَمَّا رَأَى زُمَرَ الضَّلالِ بِكَرْبَلا                                   
زَحَفَتْ لِقَتْلِ السِّبْطِ سِبْطِ مُحَمَّدٍ                       
فَانْصَاعَ يَطْلُبُ رُخْصَةً مِنْ عَمِّهِ                                          
يَا عَمُّ نَادَى ضَاقَ صَدْرِي وَانْطَوَتْ                                   
كَيْفَ الحَيَاةُ تَطِيبُ بَعْدَ أَحِبَّتِي                                               
وَهُنَاكَ آَهَاتُ الحُسَيْنِ تَتَابَعَتْ                                              
وَهَوَى عَلَيْهِ لَاثِمَاً وَجَنَاتِهِ                                                           
نَادَاهُ أَنْتَ لَنَا بُنَيَّ عَلَامَةٌ                                                         
فَارْجِعْ لِكَيْ تَرْعَى عَقَائِلَ حَيْدَرٍ                                                          
لِفَتىً بَكَى شَجْواً لَهُ سِبْطُ النَّبِي
وَسِوَى الشَّهَادَةِ مُذْ مَشَى لَمْ يَرْغَبِ
أَفْدِيهِ لَوْ يُجْدِي الفِدَا بَأَبِي وَبِي
هُوَ نَفْسُ وَالِدِهِ الزَّكِيِّ الأَنْجَبِ
زَحَفَتْ وَمِنْ رَبِّ السَّمَا لَمْ تَرْقُبِ
سَئِمَ الحَيَاةَ بِذِلَّةٍ وَهُوَ الأَبِي
حَتَّى يَنَالَ بِها عَظِيمَ المَطْلَبِ
مِنِّي الضُّلُوعُ عَلَى سَعِيرٍ مُلْهِبِ
أَوْ أَسْتَلِذُّ بِمَطْعَمٍ أَوْ مَشْرَبِ
وَأَهَاجَ وَجْدَ فُؤَادِهِ طَلَبُ الصَّبِي
وَالدَّمْعُ يَهْمِي كَالسَّحَابِ الصَّيِّبِ
عَنْ ذَاتِ وَالِدِكَ السَّمِيمِ الأَطْيَبِ
فِي حِينِ تُؤْسَرُ فَوْقَ أَخْشَنِ مَرْكَبِ

235


شعبي:

وامه الحزينه تنتحب واتنوح يمه
والشعر منها اتخضبه من فيض دمه
يا بني انقطع رجواي منك يبن الطياب
واتصيح يا نسوان ماحر موتة الشاب
تلطم صدرها او تلثم اجروحه او تشمه
واتقول قبلك ليت يابني غالني البين
من بعد ماني امأمله بيك الأمل خاب
منلام لو مني على اجله عميت العين

جاء في نفس المهموم أنّ السيّد المرتضى علم الهدى زار القاسم بن الإمام الحسن المجتبى بهذه الكلمات:
السلام على القاسم بن الحسن بن عليّ ورحمة الله وبركاته, السلام عليك يا بن حبيب الله, السلام عليك يا بن ريحانة رسول الله, السلام عليك من حبيب لم يقض من الدنيا وطراً ولم يشفِ من أعداء الله صدراً حتّى عاجله الأجل وفاته الأمل, فهنيئاً لك يا حبيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ما أسعد جدّك وأفخر مجدك وأحسن منقلبك!.

بعدما قضى أصحاب الحسين عليه السلام, واستُشهد عليّ الأكبر, جاء القاسم إلى عمّه الإمام الحسين عليه السلام وقال: يا


236


عمّاه العطش العطش أدركني بشربة من الماء, فصبّره الإمام وأعطاه خاتمه وقال: ضعه في فمك ومصّه, قال القاسم: فلمّا وضعته في فمي كأنّه عين ماء فارتويت, ثمّ خرج القاسم بن الحسن وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم بعدما سمع نداءات عمّه الحسين عليه السلام: هل من ذاب يذبّ عن حرم رسول الله؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟ وما من أحد يغيثه وينصره, فلمّا نظر إليه الحسين قد برز اعتنقه وجعلا يبكيان حتّى غشي عليهما, ثمّ استأذن من عمّه بالمبارزة, فقال له الحسين عليه السلام: يا بن الأخ, أنت من أخي علامة, وأريد ان تبقى لأتسلّى بك, فأبى الحسين أن يأذن له, فجعل يقبّل يديه ورجليه وهو يقول: يا عمّاه لا طاقة لي على البقاء وأرى بني عمومتي وإخوتي مجزّرين كالأضاحي, وأراك وحيداً فريداً, فلم يزل يستأذن عمّه حتّى أذن له, فخرج ودموعه تسيل على خدّيه وهو يقول:

إِنْ تُنْكِرُونِي فَأَنَا نَجْلُ الحَسَنْ
هَذَا حُسَيْنٌ كَالأَسِيرِ المُرْتَهَنْ
سِبْطُ النَّبِيِّ المُصْطَفَى وَالمُؤْتَمَنْ
بَيْنَ أُنَاسٍ لَا سُقُوا صَوْبَ المُزُنْ

وكان وجهه كفلقة القمر, فقاتل قتالاً شديداً, قال حميد بن مسلم: كنت في عسكر ابن سعد فكنت أنظر إلى هذا الغلام


237


عليه إزار وقميص ونعلان, وقد انقطع شسع نعله اليسرى, فوقف يشدّه وهو لا يزن الحرب إلّا بمثله غير مكترث بالجمع ولا مبال بالألوف...

لَوْ كَانَ يَحْذَرُ بَأْسَاً أَوْ يَخَافُ وَغًى
أَمَامَهُ مِنْ أَعَادِيهِ رِمَالُ ثَرًى
مَا انْصَاعَ يُصْلِحُ نَعْلاً وَهْوَ صَالِيهَا
مِنْ فَوْقِ أَسْفَلِهَا يَنْهَالُ عَالِيهَا

فقال لي عمرو بن سعد الأزديّ: والله لأشدنّ عليه, فقلت: سبحان الله, وما تريد بذلك والله لو ضربني ما بسطت إليه يدي, يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه, قال: والله لأفعلنّ, فشدّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسيف ووقع الغلام لوجهه, منادياً يا عمّاه أدركني, فجاء الحسين كالصقر المنقضّ فتخلّل الصفوف وشدّ شدّة الليث الغضبان, فضرب الأزديّ قاتل القاسم بالسيف فاتقاه بيده فأطنّها من لدن المرفق, فصاح صيحة سمعها أهل العسكر, ثمّ تنحّى عنه وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا قاتله من الحسين عليه السلام, فاستقبلته الخيل بصدورها وجرحته بحوافرها ووطئته حتّى مات, فانجلت الغبرة فإذا بالحسين عليه السلام قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه...

فقال الإمام: يعزُّ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك, أو يجيبك فلا يعينك, أو يعينك فلا يغني عنك, بعداً لقوم قتلوك ومن


238


خصمهم في يوم القيامة جدّك وأبوك, هذا يوم كثر واتره وقلّ ناصره, ثمّ احتمله على صدره.

ضلع احسين إعلى الجاسم محنَّه
شاله احسين وابدمه محنَّه
يا عمي بموتتك زادت محنَّه
آه اشلون حال أمّه الزكيه

يقول حميد بن مسلم: فكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان في الأرض خطّاً وقد وضع الحسين صدره على صدره, فقلت في نفسي: ما يصنع به؟! فجاء به حتّى ألقاه بين الشهداء من أهل بيته وجعل يقول:
اللهمّ إنّك تعلم أنّهم دعونا لينصرونا فخذلونا وأعانوا علينا أعداءنا, اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً ولا تغفر لهم أبداً, صبراً يا بني عمومتي, صبراً يا أهل بيتي لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً, اللهمّ إن كنت حبست عنّا النصر في دار الدنيا فاجعل ذلك ذخراً لنا في الآخرة وانتقم لنا من القوم الظالمين..

وَأَتَى بِهِ حَامِلاً نَحْوَ المُخَيَّمِ وَالْـ
تَخُطُّ رِجْلَاهُ فِي لَوْحِ الثَّرَى
آَهٍ عَلَى ذَلِكَ البَدْرِ المُنِيرِ مَحَا
آَمَاقُ فِي وَجْهِهِ حُمْرٌ مَجَارِيهَا
صُحُفَاً ألدَّمْعُ مَنْطِقُهَا وَالقَلْبُ تَالِيهَا
بِالْخَسْفِ غُرَّتَهُ البَيْضَاءَ مَاحِيهَا

239


شاله احسين وايخطن اجدامه
يگله للحسن ردتك علامه
اوجابه الخيمته او محني الگامه
يجاسم تظل يا شمعة الشبان


ولكن ما كان حال تلك الأمّ التي فُجعت به؟
وما حال تلك الحرائر من بنات الرسالة؟

وقد جئن إليه, كأنّي بهنّ وقد درن حوله يبكين وينحن عليه... ولمّا وصلت أمّه رملة إليه ألقت بنفسها عليه وتحادرت الدموع وارتفع الصراخ وجعلت تردّد: واولداه, واقاسماه..

ويحكي السيّد صالح الحليّ حالها بأبيات من الشعر:

بُنَيَّ تَقْضِي عَلَى شَاطِي الفُرَاتِ ظَماً 
بُنَيَّ فِي لَوْعَةٍ خَلَّفْتَ وَالِدَةً
وَدِدْتُ قَبْلَ تَمَامِ الحَمْلِ أُسْقِطُهُ 
وَالمَاءُ أَشْرَبُهُ صَفْوَاً بِلَا كَدَرِ
تَرْعَى نُجُومَ الدُّجَى فِي اللَّيلِ وَالسَّهَرِ
أَوْ أَنَّنِي لَمْ أَجِدْ حَمْلاً مَدَى العُمُرِ


 

نايم يبعد الكبد والروح لو نفذ دمك من الجروح

240


ما تسمع أمك يمك اتنوح
يالحنتك دمك المسفوح
والوالده تطلب رباها
يبني انطفه عيني ضواها
وضلوعي القصر حناها
عريان ومسلبه اهدومك
لون تنشره ابروحي لسومك
لبوك الحسن وهلك وقومك
اويلاه يبني يوم يومك
نوح الحمام اليحن بالدوح
أنا الوالده ونته ضناها
ليش انقطع منك رجاها
يومك يالوحيد عماها
يبني امهنه ابطيب نومك
حرّ الشمس غير ارسومك
وين الذي ياخذ اعلومك
اويلاه يا لغسلك ادمومك

241


لِمُصَابِهِ أَظْلَمَ الصَّبَاحُ وَفَجْرُهُ
وَالبَدْرُ بَعْدَ البَدْرِ مَارَ نُورُهُ
وَكَذَا تَكونُ كَوَاكِبُ الأَسْحَارِ
وَلِفَقْدِهِ أَغْبَرَ النَّهَارُ وَعَصْرُهُ
يَا كَوْكَبَاً مَا كَانَ أَقْصَرَ عُمْرَهُ

يا الله


242