الليلة العاشرة

قصيدة الشيخ مرتضى آل ياسين‏

بَكَتكَ السَمَاءُ وأهلُ السَماءِ            فَما قَدرُ أدمُعِنَا البَاكيَة

وَفَاضَت دِماؤكَ فَوقَ الصَعيدِ          فَمَا فَيضُ أدمُعِنَا الجَاريَة

وَقيتَ بِنَفسِكَ دِينَ الإلَهِ                فَكُنتَ لهُ الجَنَّةَ الوَاقيَة

وَصِنت قَواعِدَهُ الراسِيَاتِ              بأرواحِ فِتيَتِكَ الغَاليَة

دَعَوتَهُمُ لاتباعِ الهُدَى                 فَلَم تَلقَ مِن أُذُنٍ صَاغيَة

فَتَباً لَهُم كَمْ أراقوا دَماً                وَكَمْ أثكَلوا مُهجَةً داميَة

وَكَم أبرَزوا حُرّةً بَرّةً                  كَمَا تُبرَزُ الأمَةُ الجَاريَة

وسَاقوا بِناتَ الهُدى لِلعِدَى           لإحضارِها مَجلِسَ الطاغيَة

وإنْ أنسَى لا أنسَى ذاكَ الرضيع      طريحاً على كَفِّكَ الحانيَة

خَرَجتَ بِهِ طالِباً رَيَّهُ                   فَعُدتَ بِهَ جُثَّةً غافيَة

رَمَتْهُ يَدُ الرِّجسِ في نَحرِهِ             فَتَبَّاً لِتلكَ اليدِ الراميَة


73


مجاريد

ردّوك يبني ابسهم مفطوم          يالرحت عن الماي محروم‏

بعدك لحرّم لذّة النوم                واصبغ يعگلي سود الهدوم‏

وابكي عليك ابگلب مالوم‏


ولمّا قتل أصحاب الحسين عليه السلام وأهل بيته جميعاً، ولم يبق منهم أحد إلّا أبو عبد الله الحسين عليه السلام وحيداً مع تلك النسوة الأرامل فما كان منه إلّا لقاء الحقّ (جلّ وعلا).

جعل يكثر من ندائه "هل من ناصر ينصرنا.. هل من معين يعيننا"، وإذا بزينب منادية: أخي حسين هذا عبد الله قد دلع لسانه من شدّة العطش( وكان- بأبي ونفسي- قد مضى له ثلاثة أيام لم يذق قطرة من الماء)، فهل تأخذه يا أبا عبد الله لهؤلاء القوم كي يسقونه شربة من الماء فإنّ أمّه قد جفّ لبنها.

فأخذه الإمام وأجلسه في حجره يقبّله، وجعل يقول بعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدّك المصطفى خصمهم. ثمّ أقبل نحو القوم يطلب له الماء، يقول حَميد بن مسلم: خرج علينا الحسين ومعه شيء يُظلِّلُهُ من حرارة الشمس، رفعه ثمّ قال:


74


"يا قوم قتلتم إخوتي وأولادي وأنصاري، وما بقي غير هذا الطفل، وهو يتلظّى عطشاً من غير ذنب أتاه إليكم، فاسقوه شربة من الماء".

اختلف العسكر فيما بينهم، منهم من قال: إن كان ذنب للكبار فما ذنب الصغار، ومنهم من يقول: لا تبقوا من أهل هذا البيت باقية. فالتفت عمر بن سعد إلى حرملة، وقال: ويحك يا حرملة اقطع نزاع القوم، قال: فما أصنع؟ قال: ارم الطفل بسهم.

يقول حرملة: حكّمت سهماً في كبد القوس، وجعلت أنظر إلى الطفل أين أرميه. يقول: بينا أنا كذلك إذ هبّت ريح فكشفت البرقع عن وجه الرضيع، وإذا برقبته تلمع على عضدي أبيه كأنّها إبريق فضّة، يقول: فرميته فذبحته من الوريد إلى الوريد.

قيل له: ويلك أما رقّ قلبك لهذا الرضيع؟! قال: بلى، قيل: وكيف؟! قال: لأنّ الطفل كان مغمىً عليه من شدّة العطش، لمّا أحسّ بحرارة السهم انتزع يديه من قماطه، واعتنق رقبة أبيه وصار يرفرف بين يديه كأنّه الطير المذبوح.

زريجي:

گطع اگماطه الطفل بيده         من صابته ابنحره الحديده

مال اعلى زند احسن جيد        والدم تشاخب من وريده


75


آجركم الله يا شيعة الحسين، ماذا فعل الحسين عليه السلام؟ فوضع يده تحت مجرى الدم، وجعل يملأ كفّه ويرمي به نحو السماء، قائلاً: "اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح".

نصّاري:

تلگه احسين دم الطفل بيده          اشحاله الينگتل بحضنه وليده

سال وترس كفّه من وريده           او ذبّه للسمه وللگاع ما خر


فلم تسقط منه قطرة واحدة. وأخذ يقول الإمام عليه السلام: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله، يا ربّ إن كنت حبست عنّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين".

ثمّ أقبل به نحو المخيّم، (ولكن بأيّ حال عاد به إلى الخيمة؟!) حمله تحت ردائه، فكان أوّل من خرج لاستقباله ابنته سكينة، وهي تقول: أبه، لعلك سقيت أخي الرضيع ماءً وجئتنا ببقيّته؟! فأخرجه الإمام من تحت الرداء، وهو يقول:" بنيّة خذي أخاك مذبوحاً من الوريد إلى الوريد"، عندما نظرت إليه ورأته بتلك الحالة صاحت: وا أخاه، وا عبد الله.


76


نعي مجاريد:

يبويه الطفل للماي اخذته             ابسهم العده مذبوح جيته

شنهو الذنب خويه العملته            والماي حاضر ما شربته

ولسانك على صدرك دلعته

يبويه الطفل عني دغطيه             مالي گلب بالعين اصد ليه

اشوفه ذبيح اوماد رجليه             هذا الخفت منه طحت بيه


ولكن الموقف الأصعب حينما رأته أمّه الرباب والسهم مشكوك في نحره صاحت: ووالداه، واعبد الله...

أبو ذيّة:

مياتم للحزن ننصب ونبني            فجعني حرمله بسهمه ونبني

الطفل عاده يفطمونه ونبني          نفطم يا ناس بسهام المنية

مجاريد

ردّوك يبني ابسهم مفطوم             يالرحت عن الماي محروم

بعدك لحرّم لذّة النوم                   واصبغ يعگلي سود الهدوم

وابكي عليك ابگلب مألوم


77


ولمّا بقي الحسين عليه السلام وحيداً فريداً، التفت إلى أصحابه وهم مجزّرون كالأضاحي على رمضاء كربلاء، فنادى برفيع صوته:

"يا أبطال الصفا، ويا فرسان الهيجاء، مالي أناديكم فلا تجيبون وأدعوكم فلا تسمعون؟! أنتم نيام أرجوكم تنتبهون؟ أم حالت مودّتكم عن إمامكم فلا تنصروه؟ هذه نساء الرسول لفقدكم قد علاهن النحول، فقوموا عن نومتكم يا كرام، وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام، ولكن صرعكم والله ريب المنون، وغدر بكم الدهر الخؤون، وإلّا لما كنتم عن نصرتي تقصّرون"، ثمّ نادى بصوت حزين أصحابه واحداً واحداً، "يا حبيب بن مظاهر، ويا زهير بن القين، ويا مسلم بن عوسجة، ويا فلان ويا فلان، حتى نادى أهل بيته أخي أبا الفضل، ولدي علي، بني قاسم...".

نصّاري:

نادى وينكم يا أهل الحميّة              غبتوا فرد غيبة عليّه

انه منين اجتني الغاضرية              خلصوا هلي كلهم سويه

لَمّا رَأى السِبطُ أهلَ الوَفَى قُتِلُوا        نَادَى أبَا الفَضلِ أينَ الفَارِسُ البَطَلُ

أينَ مَنْ دُونِيَ الأروَاحَ قَد بَذَلوا         بالأمسِ كَانوا مَعِي وَاليَومَ قد رَحَلوا

وَخَلَّفُوا في سُوَيْدِ القَلبِ نِيرَانا

يا الله


78