الليلة الرابعة

قصيدة السيّد صالح الحلّي

لَو كَانَ ينفعُ للعليلِ غَليلُ                          فاضَ الفُراتُ بِمَدمَعي والنِيلُ‏

كَيفَ السُلُوُ ولَيسَ بَعدَ مُصيبَةِ                    ابنِ عَقيل لي جَلَدٌ ولا مَعقولُ‏

حَكَمَ الإلهُ بِما جَرى في مُسلِمٍ                     واللهُ ليسَ لِحُكمِهِ تَبديلُ‏

خَطبٌ أصابَ محمّداً وَوَصيَّهُ                      للهِ خَطبٌ قد أَطَلَّ جَليلُ‏

خَذَلوهُ وانقَلَبوا إلى ابنِ سُميَّة                    وَعنِ ابنِ فاطمة يَزيدُ بَديلُ‏

سَلْ ما جَرى جُمَلاً ودَع تَفصِيلَهُ                  فَقليلُهُ لَم يُحصِه التَفصِيلُ‏

قَتَلوهُ ثُمَّ رَمَوهُ مِن أعَلى البِنا                     وعَلى الثَرى سَحبُوهُ وَهُوَ قَتيلُ‏

رَبطوا بِرِجَليهِ الحِبالَ ومَثَّلوا                     فِيهِ فَليتَ أصابَني التَمثيلُ‏

ولَهُ ابنةٌ مَسَحَ الحُسينُ بِرأسِها                  واليُتمُ مَسحُ الرأسِ فِيهِ دَليلُ‏

لَمَّا أحَسَّتْ يُتمَها صَرخَتْ ألَا                     يا والدي حُزني عَلَيكَ طَويلُ


31


‏فايزي:

صاحت گلبي كسرته يا غريب الغاضرية               مثل اليتامى تمسح بكفّك عليّه

تمسح على راسي ودمع العين همّال                   كنّي يتيمه الكافي الله منها الاحوال

ما عودتني بها الفعل من گبل يا خال                  خلّيت عبراتي على خدّي جريه


وكان ما كان مع مسلم بن عقيل في الكوفة حيث انقلبوا عليه، حتى بقي وحيداً غريباً يسير في أزقّة الكوفة وشوارعها، ولا يدري أين يذهب، إلى أن وصل إلى دار امرأة يقال لها طوعة، كانت جالسة على باب دارها، تنتظر عودة ولدها المشؤوم، فرآها مسلم وسلم عليها، ردّت عليه السلام، فقال لها: أمة الله، اسقيني شربة من الماء، دخلت تلك المرأة وجاءته بالماء، ودخلت، وما لبثت أن خرجت فرأت مسلماً جالساً على باب دارها، قالت: يا عبد الله ألم تشرب الماء؟! قال: بلى، فقالت له: فاذهب إلى أهلك، أنا لا أحلّ لك الجلوس على باب داري، فقال لها: أمة الله، ما لي في هذا المصر من أهلٍ ولا عشيرة، فهل لك إلى أجر ومعروف،


32


أن تضيفيني سوادَ هذه الليلة، ولعلّي مكافئك بعد هذا اليوم؟ (استفزّت هذه الكلمات تلك المرأة)، فسألته: ومن تكون؟ فقال لها: أنا مسلم بن عقيل، خذل بي أهل مصركم هذا. فقالت: أنت مسلم؟! أدخل على الرحبة والسّعة- فداك أبي وأمّي-، أدخلته داراً غير الدار الذي كانت تسكن فيه، وقدّمت له الطعام، فلم يأكل منه شيئاً، وأمضى تلك الليلة قائماً وقاعداً يصلّي، إلى أن أصبحَ الصباح، فسمع بوقع حوافر الخيل، وأصوات الرجال، فعرف أنّهم قد جاؤوا لطلبه، بسبب وشاية ذلك الولد، فلبس لامة حربه بعد أن اقتحموا عليه الدار، فخرج مسلم وشدّ عليهم حتى أخرجهم من الدار، وهو يقول:

هو المَوتُ فَاصنَعْ مَا أنتَ صَانِعُ                 فَأنتَ بِكَأسِ المَوتِ لا شَكَ جَارِعُ

فَصَبْراً لِأمرِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ                        فَحُكمُ قَضَاءِ اللهِ في الخَلْقِ ذَائِعُ


وحمل عليهم يقاتلهم حتى قتل منهم مقتلة عظيمة، وكان من قوّته أن يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت، وبعدما أكثر فيهم القتل، طلب محمّد بن الأشعث النجدة من عبيد بن زياد، قائلاً: أدركني بالخيل والرجال، فأنفذ ابن زياد إليه قائلاً: ثكلتك أمّك، وعدموك قومك، رجل واحد يقتل هذه المقتلة العظيمة! فكيف لو أرسلناك إلى من هو أشدّ بأساً؟!( يعني الحسين عليه السلام)، فأرسل ابن الأشعث يقول: أتظن أنّك


33


أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، أو إلى جرمقان من جرامقة الحِيرة؟! وإنّما وجّهتني إلى بطل همام وشجاع ضرغام من آل خير الأنام.

فأرسل إليه بالعساكر، وقال: أعطه الأمان، فإنّك لا تقدر عليه إلّا به. وفعلاً جاؤوا إليه من كلّ حدب وصوب، فحمل عليهم فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من أعلى السطوح، وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطناب القصب ثمّ يرمونه بها، حتى أثخن بالجراح وعجز عن القتال، فأسند ظهره على جدار بيت فضربوه بالسّهام والأحجار.

فقال: ما لكم ترمونني بالأحجار كما تُرمى الكفّار، وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار، ألا ترعون رسول الله في عترته.

(قال السيد في لهوفه: عند ذلك طعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فتكاثروا عليه) وانتزعوا سيفه وأخذوه إلى ابن زيادٍ مكتوفاً، ولمّا انتزعوا سيفه جعل يبكي، فقال له عبيد الله بن العباس: إنّ من يطلب مثل الذي طلبت، إذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ، قال: والله ما لنفسي بكيت وإن كنت لم أحبّ لها طرفة عين تَلَفا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليَّ، أبكي للحسين عليه السلام وآل الحسين عليه السلام.

وجاءوا بمسلم إلى ابن زياد، وعندما وصل إلى باب القصر، وكان


34


قد أعياه نزف الدم، فطلب الماء، فلم يعطوه، فجلس مسلم متسانداً إلى الحائط، فبعث عمرو بن حريث غلاماً، فجاءه بقلّة من الماء، أراد مسلم أن يشرب فامتلأ القدح دماً، فأراقه مسلم، ولمّا أراد أن يشرب مرّة أخرى سقطت ثناياه في القدح، فقال: لو كان من الرزق المقسوم لشربت.

أدخلوه على ابن زياد، والناس مجتمعة حول القصر، منهم من يقول بأنّ مسلماً مقتول لا محالة، ومنهم من يقول: بأنّه يساق إلى الشام، ومنهم من يقول بأنّه يحبس حتى يأتي الخبر من يزيد، فبينما هم كذلك إذا بمسلم قد صعدوا به إلى أعلى القصر، وهو مثخن بالجراح، قد نزف دمه والعطش قد أضرّ به، وبكر بن حِمران شاهراً سيفه يريد أن يحتزّ رقبته، لمّا رأى مسلم ذلك طلب منه أن يصلّي ركعتين، فقال له بكر: صلّ ما شئت، صلّى مسلم رَكعَتين، ثمّ توجّه نحو المدينة وصاح: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا بن رسول الله..

فايزي:

يحسين انا مگتول ردّوا ولا تجوني              خانوا اهل كوفان عگب ما بايعوني

وللفاجر ابن زياد كلّهم سلّموني                   مفرد وانتو يا هلي عني بعيدين


35


عظّم الله لك الأجر يا أبا عبد الله، وإذا باللعين قد رفع سيفه، واحتزّ رأسه الشريف، ثمّ رموا بجسده من أعلى القصر.

ثمّ جاءوا بهاني بن عروة وفعلوا به كما فعلوا مع مسلم، ثمّ ربطوا رجليهما بالحبال وجعلوا يجرونهما في الأسواق.

أبوذيّة

عمل كوفان هد حيلي وهاني                     ولا شربي صفه طيِّب وهاني‏

يا وسفه رِجل مسلم وهاني                      بحبل بالسوگ شدّوهن سويّة


هذا والحسين أضحى قريباً من الكوفة في منطقة يقال لها زَرُود، لمّا وصل إليه خبر شهادة مسلم، إختنق بعبرته، وأقام في ذلك المكان مأتماً، سمعت زينب عليه السلام بكاء إخوتها وبني عمومتها، وقفت قليلاً على باب الخيمة لترى ما الخبر...! بينا هي كذلك، وإذا بأخيها الحسين عليه السلام أقبل إليها يمسح دموعه بطرف ردائه، قالت: ما يبكيك أخي أبا عبد الله؟ قال لها: "أُخيّه، عظّم الله لك الأجر بابن عمّك مسلم فلقد قَتَلَهُ أهل الكوفة وغدروا به..."!
عندها صاحت: وا ابن عمّاه.... وامسلماه...


36


نصّاري:

والمقدّر جره وشاعت اخباره                   رموه القوم من قصر الامارة

وهاني انگتل بعده وبگت داره                  مظلمة ولا بعد واحد يصلها


قال عليه السلام: "أخيّه زينب أين يتيمة مسلم" (حميدة طفلة مسلم لا يتجاوز عمرها الخمس سنوات) جاءت بها دفعتها إلى سيّد شباب أهل الجنّة، أخذها وأجلسها في حجره، جعل يمسح على رأسها يطيّب قلبها، وهو مختنق بعبرته، شعرت هذه الطفلة باليتم، جعلت تتفحّص في وجه عمّها الحسين عليه السلام تقول: عمّاه أبا عبد الله، ما لي أراك تصنع معي كما تصنع مع اليتامى؟! هل أصاب والدي مكروه... لعل والدي قد قتل...؟!

قال: "بنيّة أنا أبوك وبناتي أخواتك"، لمّا سمعت من الحسين هذه الكلمات صاحت واأبتاه... وامسلماه...‏

نصّاري:

يعمّي گلّي بويه وينه              امن ازمان ما بيّن علينه‏

واخبار منّه ما تجينه              يمكن يعمّي لبييّ گاتلينه‏

تبكي عليه... هذا وسكينه واقفة تنظر إليها، حابسة لدمعتها تحاول


37


ملاطفتها. ولكن كيف كان حال سكينة عندما استشهد الحسين عليه السلام يوم عاشوراء.

جاءت إلى أبيها الحسين، وقد رأته بتلك الحالة،( مقطوع الرأس، مقطّع الأوصال)، رمت بنفسها عليه، صاحت: أبه، من الذي خضّب شيبك، أبه، من الذي قطع رأسك، من الذي حزّ وريدك، أبه، من الذي أيتمني بعدك؟! بينا هي محتمية بأبيها الحسين عليه السلام جاء جمع من الأعداء، وأرادوا أن ينحوها عن جسد أبيها، ما تمكنوا، فجعلوا يضربونها بالسياط، وهي تلوذ بأبيها...

نصّاري:

تگله من گطع راسك ابسيفه                  اومن هشّم اعظامك واخذ حيفه

يبويه الجيش سلبنه اعله كيفه               اومتني ابسوط عدوانك تورّم

وَيَتِيمَةٌ فَزِعَت لِجِسمِ كِفِيلِهَا                   حَسْرَى القِنَاعِ تِضِجُّ في أصوَاتِها

وَقَعَت عَليهِ تُقَبِّلُ مَوضِعَ نَحرِهِ                وَعُيُونُها تَنهَلُّ في عَبَرَاتِها


38