الليلة التاسعة

قصيدة جدّ الشيخ حسين البحراني‏

على القاسِم العِرّيسِ أمُّ المَكارِمِ                أشَاعَتْ بِيْومِ العُرسِ نَشرَ المآتِمِ‏

لقد جُمِعَتْ فيه العجائِبُ كلُّها                   كما جُمِعَت فيهِ دَواهِي العظائِمِ

ولم أنسَهُ لمّا هَوَى بَعدَ أنْ هَوَتْ              بِبَطشتِهِ الكُبرى كُماةُ الضيَاغِمِ

غَداةَ هَوَى يَشكُو الظَمَا قَدْ كُسِي دَماً          جوارحُهُ كَلْمَى حَطيمُ مَبَاسِمِ

يُنادِي أيَا عَمَّاهُ أودعتُكَ الّذي                 إليهِ مَصيرُ الخَلقِ يا خَيرَ عاصِمِ

لئنَ فُزتَ من عِزّي بِسَبقِكَ للعِدَى             فقد عزَّ أن تلقى العِداةَ بِلا حَمِي

وعزَّ عليهِ أنْ يَراهُ مُقَطّراً                    عليهِ بُرودٌ من دماءٍ سَواجِمِ

ولم أنسَ تلكَ الأُمّ إذ ثُكِلَتْ بهِ                وقد شَكَرَتْ مَا حَازَهُ مِن مَغانِمِ

تقولُ لقَدْ بَيَّضْتَ وَجهِي لِفَاطِمٍ               وإنْ سَوَّدَتْ دُنيايَ سودُ القَواصِمِ

بُنيَّ لئن جلَّ المُصابُ بما جَرى              فقد فُزتَ في العُقبى بأربى الغنائم


67


نصّاري:

يم جاسم غدت للحرم حنّه             لمن شافته بدمه تحنّه

أمّه تصيح يا جاسم مهنّه             بهل الزفه يبعد الخال والعم

ربيتك وعيني عليك تربى             ويحسب بيك ليل نهار قلبي

يجاسم بيش وجد بعد دربي           وضوه عيوني طفاه الدهر واظلم

تكاثرت نداءات الحسين عليه السلام في العاشر من المحرّم: "هل من ناصر ينصرنا... هل من ذاب يذّب عنا... هل من معين يعيننا..." فخرج الشبّان من الأنصار، وخرج الهاشميون يلبّون نداءات سيّد الشهداء عليه السلام.

وممن لبّى هذه النداءات إبن أخيه القاسم بن الحسن عليه السلام، لمّا رأى وحدة عمّه الحسين عليه السلام وقد تكاثرت عليه الأعداء، أقبل مستجيباً مندفعاً لعمّه منادياً: لبيك... عمّاه أبا عبد الله، ولم يكن القاسم قد بل بلغ الحلم، لمّا نظر الإمام عليه السلام إلى ابن أخيه القاسم كالبدر يتهادى إليه، اختنق بعبرته، فاعتنقه الإمام عليه السلام، وجعلا يبكيان حتى غشي عليهما، فلمّا أفاقا طلب القاسم المبارزة، فأبى الحسين عليه السلام، فقال القاسم: يا عمّاه، لا طاقة لي على البقاء، وأرى بني عمومتي وأخوتي مجزرين، وأراك وحيداً فريداً.


68


فقال الإمام عليه السلام: "يا ابن أخي، أنت البقيّة الباقية من أخي الحسن، كيف أعرّضك لضرب السيوف"؟! فلم يزل القاسم يقبّل يديه ورجليه، حتى أذن له الإمام، وأمره بتوديع أمّه والنساء والأطفال، فخرجت أمّه رملة وعمّته زينب وأخواته لوداعه...

شعبي:

لزمت ركابه سكينة          وعمّته بحلقه تشمّه

ومن الخيم مدهوشة         طلعت تنادي أمّه

يبني يجاسم هلوقت         حيلك لعمّك ضمّه

لهاليوم أنا ذاخرتك          ما لك تخيّب ظنوني

هزّ الرمح وناداها           يا والده دادعيلي

رايح أنا يا والده            من غير ما تگليلي

عمّي وحيد بكربلا           المن اضمّن حيلي

انتِ وعمتي زينب           حين لْأغِير إنخولي

اوصيك يمّه وصيّه          تسمعين لفظ جوابي

شبّان لو شوفتيهم           بالله ذِكْري شبابي

محروم من شم الهوا        من دون كلّ صحابي

عطشان انا يا والده         حين الشرب ذكريني


69


ثمّ إنّ الحسين عليه السلام ألبس القاسم ثوباً كهيئة الكفن، وأخذ عمامة القاسم شقّها نصفين، نصف عمّمه بها والنصف الآخر أدلاه على خدّيه، ودفع إليه السيف ووجّهه نحو الميدان ماشياً على قدميه.

فحمل على القوم وهو يرتجز ويقول:

إن تُنكرونِي فَأنَا نَجلُ الحَسَن            سِبطُ النَبيِّ المُجتَبَى والمُؤتَمَن

هَذا حُسينٌ كَالأسيِرِ المُرتَهَن             بَينَ أُنَاسٍ لا سُقُوا صَوبَ المُزُن


يقول حَميد بن مسلم: خرج إلينا غلام، وبيده سيف، ووجهه كفلقة القمر، وعليه قميص وإزار، وفي رجليه نعلان، فبينما هو يقاتل، إذ انقطع شسع نعله اليسرى، فوقف ليشدّها، فقال عمر بن سعد بن نُفَيل الأزْدي: والله لأشدّنّ عليه، وأثكلنّ به عمّه. فقلت: وما تريد بذلك؟ والله لو ضربني ما بسطت يدي، يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه من كلّ جانب. قال والله لأفعلنّ.

فشدّ على الغلام فما ولّى حتى ضرب الغلام بالسيف على رأسه، فوقع القاسم لوجهه وصاح: أدركني يا عمّاه، لمّا سمعه الحسين أقبل كالصقر المنقضّ على فريسته، وقتل قاتل القاسم، ثمّ جاءه فرآه يفحص بيديه ورجليه، انحنى عليه، ضمّ رأس القاسم إلى صدره، عند ذلك أخذ الإمام يقول: "عزّ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا


70


 يعينك، أو يعينك فلا يغني عنك، بعداً لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة جدّك وأبوك، هذا يوم والله كثر واتره وقلّ ناصره".

ثمّ صاح الإمام عليه السلام: "اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، صبراً يا بني عمومتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً".

نصّاري:

بكى ونادى يجاسم اشبيدي             يريت السيف گبلك حز وريدي

هان الكم تخلّوني وحيدي               او على خيمّي يعمّي الگوم تفتر

أبوذيّة:

ضلع احسين على الجاسم محنّه         يعمي ابموتتك زادت محنّه‏

شاله احسين وابدمه محنّه              آه اشلون حال أمّه الزكيّة


حمله الحسين عليه السلام وجعل صدر القاسم على صدره، ثمّ جاء به إلى المخيّم وكانت رِجْلا القاسم تخطّان في الأرض خطّاً (هل كان القاسم طويلاً إلى هذا الحد حتى كانت رجلاه تخطان الأرض، أم أنّ الهموم والرزايا التي انهالت على أبي عبد الله لا سيّما مقتل القاسم هدّت ظهر الحسين عليه السلام فكان عند حمل ابن أخيه القاسم بن الحسن منحني الظهر؟!).


71


جاء به إلى المخيّم، وطرحه إلى جانب جثمان ولده عليّ الأكبر، ثمّ جلس بينهما، صار ينحني تارة على ولده ينادي: "واولداه واعليّاه"، وأخرى على ابن أخيه ينادي: "واقسماه".

نصّاري:

جابّه ومدّده ما بين اخوته          بكى عدهم يويلي وهم موته

بس ما سمعن النسوان صوته      اجت رملة تصيح الله أكبر


فلمّا سمعت النساء بالخبر، جئن إليه وهنّ باكيات لاطمات، ومعهنّ أمّه رملة، فلمّا وصلنّ إليه ألقين بأنفسهنّ عليه، وأمّه تنادي:واولداه، واقسماه...

أبو ذيّة:

يبني ردتك ما ردت دنيا ولا مال              تحضرني لو وگع حملي ولا مال

يجاسم خابت ظنوني ولا مال                 عند الضيق يبني گطعت بيه

ومرملٌ مُذْ رَأتْهُ رَملةٌ صَرَخَت                 يا مُهجَتِي وَسُرورِي يا ضِيَا بَصَرِي

بُنَي تَقضِي على شَاطِي الفُراتِ ظَماً          والماءَ أشرَبُهُ صَفْواً بِلا كَدَرِ

يا الله


72