الليلة العاشرة: مجلس وداع الأصحاب وشهادة الطفل الرضيع

وَرُبَّ مُرْضِعَةٍ مِنْهُنَّ قَدْ نَظَرَتْ
تَشُوطُ عَنْهُ وَتَأْتِيهِ مُكَابِدَةً
فَقُلْ لِهَاجَرَ إِسْمَاعِيلُ أَحَزَنَهَا
وَمَا حَكَتْهَا لَا وَلا أُمُّ الكَلِيمِ أَسًى
هَذِي إِلَيْهَا ابْنُهَا قَدْ عَادَ مُرْتَضِعَاً
فَأَيْنَ هَاتَانِ مِمَّنْ قَدْ قَضَى عَطَشَاً
بَلْ آَبَ مُذْ آَبَ مَقْتُولَاً وُمُنْتَهِلاً
كَانَتْ تُرَجِّي عَزِيزاً فِيهِ بَعْدَ أَبٍ
قَدْ شَارَكْنَهَا بِعُمُومِ الجِنْسِ وَانْفَرَدَتْ
فَأَصْبَحَتْ بِنَهَارٍ لَا ضِيَاءَ لَهُ
رَضِيعَهَا فَاحِصَ الرِّجْلَيْنِ فِي التُّرَبِ
مِنْ حَالَةٍ وَظَمَاهَا أَعْظَمُ الكُرَبِ
مَتَى تَشَطَّطَ مِنْ حَرِّ الظَّمَا تَئِبِ
غَدَاةَ فِي اليَّمِّ أَلْقَتْهُ مِنَ الطَّلَبِ
وَهَذِهِ قَدْ سُقِي بِالبَارِدِ العَذْبِ
رَضِيعُهَا وَنَأَى عَنْهَا وَلَمْ يَئِبِ
مِنْ نَحْرِهِ بِدَمٍ كَالغَيْثِ مُنْسَكِبِ
لَكِنَّهَا مَا حَظَتْ بِابْنٍ وَلا بِأَبِ
عَنْهُنَ فِيمَا يَخُصُّ النَّوْعَ مِنْ نَسَبِ
وَبَاتَتِ اللَّيْلَ فِي جَوٍّ بِلا شُهُبِ


101


شعبي:

يبني يعبد الله اعله فرگاك
يادين يبني الحرملة وياك
گدّر بسهمه عليك وارماك

صبري انفنه ودرّن ثداياك
للماي حين شبحت عيناك
وخيّب رجاي الكان برباك

أبوذية:

مياتم للحزن ننصب ونبني
الطفل عاده يفطمونه ونبني

رماني حرملة بسهمه ونبني
انفطم ياناس بسهام المنيه

102


لمّا كانت ليلة عاشوراء يقول عليّ بن الحسين: كنت جالساً وعمّتي زينب تمرّضني والحسين في خيمته وإذا بي أسمع صوتاً وأنيناً يقطّع القلوب والحسين يقول:

يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ
وَكُلُّ حَيٍّ سَالِكٌ سَبيِلِي
كَمْ لَكَ بِالإِشْرَاقِ وَالأَصِيلِ
وَإِنَّمَا الأَمْرُ إِلَى الجَلِيلِ

يقول: فهمت كلامه, فخنقتني العبرة, أمّا عمّتي زينب فلمّا سمعت الكلام خرجت من الخيمة مهرولة, وقفت على أخيها الحسين, نادت: أخي حسين حبيبي حسين, أتنعى نفسك بالموت؟! أخي حسين, أَتُغْتَصبُ نفسك اغتصاباً؟! ليت السماء أطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدت على السهل, أخي حسين ماذا تقول؟ ماذا تنعى؟

قال الحسين: أخيّة زينب, لا يذهبنَّ بحلمك الشيطان, إعلمي أنّ أهل الأرض يموتون, وأهل السماء لا يبقون, لقد مات جدّي وهو خير منّي, مات أبي وهو خير منّي, مات أخي وهو خير منّي, أخيّة زينب لا بدّ من مصرع أنا لاقيه.

قالت: أخي حسين, إذا كان لا بدّ من ذلك فردّنا إلى وطن جدّنا. قال: هيهات هيهات لو تُرك القطا لغفا ونام. فصارت تلطم رأسها وتنادي: واضيعتاه.


103


ثمّ قالت: أخي حسين, هل استوثقت من أصحابك؟ هل بلوتهم؟ هل اختبرتهم؟ أخاف أن يسلّموك عند الوثبة, أخي حسين جرّبهم واختبرهم. وإذا بالحسين يجمع الأنصار ليختبرهم, يقول لهم: أنصاري, هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا, وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي, وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم فإنّ القوم لا يريدون غيري ولو حصلوا عليّ لذهلوا عن غيري.

قام إليه مسلم بن عوسجة قائلاً: أبا عبد الله, ماذا تقول؟ والله لو أقطّع بالسيف إرباً إرباً, وأحرق ثمّ أنشر سبعين مرّة ما تخلّيت عن نصرتك يا أبا عبد الله.
وقام إليه زهير ابن القين وهو يقول: يا أبا عبد الله, ماذا نقول لجدّك رسول الله, ماذا نقول لأمّك فاطمة الزهراء؟ تخلّينا عن نصرة ابن بنت نبيّنا؟ لا والله لا كان ذلك أبداً.

عند ذلك قال الإمام لأصحابه: يا أصحابي قوموا وقفوا على خيمة زينب, أقبل الأنصار ووقفوا على خيمتها, فقال الحسين لأخته: أخيّة زينب قومي وكلّمي الأنصار, قامت السيّدة زينب وقفت على باب الخيمة نادت: يا أنصارنا يا أصحابنا الله الله فينا, يا محيي الليل بالعبادة, الله الله في نصرة الغريب أبي عبد الله..


104


 

ويلي يهل الشيم هذا محلكم
يا كرام شنهو العذر منكم

للموت ما نذخر هممكم
تخلون بالشدة حرمكم

وبات الأصحاب ليلة العاشر ولهم دويّ كدويّ النحل قائمين قاعدين راكعين ساجدين يتودّعون من العبادة ويتزوّدون منها, فلمّا أصبح صباح يوم عاشوراء صلّى بهم الحسين صلاة الصبح, وما فرغ من الصلاة إلّا والسهام تترى عليه كرش المطر, قال: أصحابي, هذي رسل القوم إليكم, قوموا بارك الله فيكم. فقام الأصحاب يتسابقون إلى القتال وهم يرون منازلهم في الجنان, ثمّ ثارت غبرة فلم تنجل الغبرة إلّا والحسين وحيد فريد. دخل خيمة بني عليّ وجدها خالية, دخل خيمة بني عقيل وجدها خالية, دخل خيمة الأنصار وجدها خالية, دخل خيمة بني الحسن وجدها خالية, توسّط الخيام وهو يتوكّأ على سيفه...

بِالأَمْسِ كَانُوا مَعِي وَاليَوْمَ قَدْ رَحَلُوا

وَخَلَّفُونِي بِأَرْضِ الطَّفِّ حَيْرَانَا


حبيبي حبيب برير, زهير, أخي عبّاس, بُنَيَّ قاسم, ولدي عليّ, ما لي أناديكم فلا تجيبون؟, أنيام فأوقظكم أم غيّاب فأرتجيكم أم موتى فأبكي عليكم؟


105


 

بأَحِبَّايَ لَوْ غَيْرَ الحِمَامِ أَصَابَكُمْ

عَتَبْتُ وَلَكِنْ مَا عَلَى المَوْتِ مَعْتَبُ

عظّم الله أجوركم, وإذا بالصوت من الخيمة قائلاً: لبيّك لبيّك أبا عبد الله, التفت الحسين وإذا بزين العابدين قد خرج متوكّئاً على عمّته زينب وهو يقول: لبيك يا حسين لبيك يا أبا عبد الله. نظر إليه الحسين وبكى قال: أخيّة زينب, أرجعيه فإنّه حجّة الله على خلقه لئلّا تخلو الأرض من الحجّة. أرجعته إلى الخيمة, جمع الحسين العيال والأطفال في خيمة العليل السجّاد, قال الحسين: يا زينب يا أمّ كلثوم يا بنات عليّ وفاطمة, هذا عليّ بن الحسين إمام مفترض الطاعة استمعن لكلامه استجبن لأمره ولنهيه. ثمّ التفت إلى الإمام زين العابدين قال: بُنّيَّ عليّ سكّن روعتهنّ, بُنَي عليّ نشّف دمعتهن, بُنَيّ عليّ هدِّئ لوعتهنّ فأنّهنّ يتامى بعدي.

ثمّ همس في أذنه وقال: بُنَيّ عليّ وأبلغ شيعتي عنّي السلام, (وعليك السلام يا أبا عبد الله...).

ثمّ خرج الحسين من الخيمة أقبلت إليه أخته العقيلة زينب, قالت: أخي حسين هذا ولدك عبد الله قد دلع لسانه على صدره من شدّة الظمأ فخذ به إلى الأعداء لعلّهم يسقونه قطرة


106


من الماء, فأخذ الطفل الرضيع وجاء به إلى القوم ووقف على مرتفع من الأرض وهو يبكي..
 

فَدَعَا فِي القَوْمِ يَا للهِ مِنْ خَطْبٍ فَظِيعْ
أُنْظُرُوهُ فَعَلَيْهِ شِبْهُ الهَادِي الشَّفِيع

نَبِّئُونِي أَأَنَا المُذْنِبُ أَمْ هَذَا الرَّضِيع


يقال: إنّه عندما جي‏ء بحرملة بن كاهل إلى المختار الثقفيّ قال له المختار: أنت الذي ذبحت عبد اللَّه الرّضيع؟ كيف تمكّنت من ذلك!! أو ما رقّ قلبُك له؟ قال: كانت العادة الجارية أنّ الإمام الحسين إذا أراد الحملةَ على الجيش ركب فرساً، وإذا أراد الوعظ والتحذير والتذكير ركب ناقةً له، وفي هذه المرّة جاءنا ماشياً ومعه شي‏ء يظلّلُ له من حرارة الشّمس فتكلّم مع ميمنة الجيش فلم يستمعوا له، فمال إلى ميسرةِ الجيش فلم يستمعوا له، فعاد إلى قلب المعسكر فقال: يا قوم لقد قتلتم أصحابي وإخوتي وأهل بيتي, إن كان ذنبٌ للكبار فما ذنبُ الصّغار؟ ثمّ أخرج ولداً ورفعه وقال: هذا عبد اللَّه اسقوه شربة من الماء فإنّه إن عاش لا يضرّكم وإن مات طولبتم بدمه، فاختلف العسكر وانقسم ثلاثاً, قسم قال: اسقوه فإنّه طفلٌ رضيع، وقسم اكتفى بالبكاء لحال الرّضيع، وقسم قال: لا تبقوا لهذا البيت صغيراً ولا كبيراً, فقال لي عمر بن سعد: يا حرملة اقطع نزاع القوم,


107


 قلت: أرمي الوالد أم الولد قال: بل الولد، فتنحيّت جانباً ووضعت سهماً في كبد القوس ولم يرقّ قلبي له، فنظرت أين أرميه لصغره وإذا بالهواء يكشف رقبته فحكّمت السهم ورميته فذبحتُهُ من الوريد إلى الوريد وما رقّ قلبي له، فعندما أحسّ بحرارةِ السهم أخرج يديه واعتنق والده الحسين, هنا رقّ قلبي له. ولسان حال الحسين عليه السلام بعد ذبح ولده:

تلگه حسين دم الطفل بيده
سال وترس كفّه من وريده
عليك انفتح جفن العين وافتاك
بقتل الطفل من آمرك وافتاك

شحال اليذبح بحجره وليده
وذبّه للسّمه وللأرض ما خرّ
وسهـــم نحــرك بگلـــــبي ‏وگـــع وافتـــــاك
يابن كاهل شله ويَّاك أذيّه


رجع به إلى المخيّم يقولون: استقبلتهُ ابنتُهُ سكينة وما كانت تتصوّر أن تبلغ بهم القسوة إلى هذا الحدّ بحيث يقتلون الطفل الرّضيع, ولسان الحال:
 

بويه الطفل للماي أخذته

بسهم العده مذبوح جبته


108



 

شنهو الذّنب خويه العملته
والماي حاضر ما شربته

مذبوح ولسانك دلعته


ولسان حال أُمّه الرباب عندما رأته مذبوحاً من الوريد إلى الوريد:
 

ماني أُمّك يعبد الله ويبعد أمك
شعب گلبي السّهم من فجّره الدمّك
ست اِشهر بعد يلما وصل عمرك
يا بني سهم المثلث خسف بدرك

ما أنساك وألهج يالولد باسمك
يا سلواي بعدك من يسليني
شذنب اللي جنيته او ينگطع نحرك
ياريت الرماك بسهم راميني


 

لَا ضَيْرَ فِي قَتْلِ الرِّجَالِ وَإِنَّمَا
طَلَبَ الحُسَيْنُ المَاءَ يَسْقِي طِفْلَهُ

 قَتْلُ الرَّضِيعِ بِهِ الضَّمِيرُ يُضَامُ
 فَاسْتَقْبَلَتْهُ مِنَ العُدَاةِ سِهَامُ


109