مجلس الركب الحسينيّ في طريقه إلى الشام

للهِ مَطْروحٌ حَوَتْ مِنهُ الثَرى                 نَفْسَ العُلَى والسُؤْدُدَ المَفْقُودا

وَمُجَرَّحٌ ما غَيَّرتْ مِنهُ القَنا                 حُسْناً وَلا أَخْلَقْنَ مِنهُ جَديدا

قَدْ كانَ بَدْراً فاغْتَدى شَمْسَ الضُحَى         مُذْ أَلبَسَتْهُ يَدُ الدِّماءِ لُبُودا

وَثَواكِلٌ فِي النَّوْحِ تُسْعِدُ مِثْلَها              أَرَأَيْتَ ذَا ثَكْلٍ يَكونُ سَعيدا

ناحَتْ فَلَمْ تَرَ مِثْلَهُنَّ نَوائِحاً                 إذْ لَيْسَ مِثلَ فَقِيدِهِنَّ فَقيدا

وَغَدَتْ أَسِيرةَ خِدْرِها ابنةُ فَاطِمٍ             لَمْ تَلْقَ غَيْرَ أَسِيرِها مَصْفُودا

تُخْفِي الشَّجَى جَلَداً فإِنْ غَلَبَ الأَسَى        ضَعُفَتْ فَأَبْدَتْ شَجْوَها المَكمُودا

نادَتْ فَقَطَّعَتِ القُلوبَ بِشَجْوِها              لَكِنَّما انتَظَمَ البَيانُ فَرِيدا

إنْسانَ عَيْنِي يا حُسينُ أُخَيَّ يا              أَمَلِي وَعِقْدَ جُمانِيَ المَنْضُودا


75


ما لِي دَعَوْتُ فَلا تُجِيبُ وَلَمْ تَكُنْ           عَوَّدَتَنِي مِنْ قَبْلِ ذَاكَ صُدُودا

أَلِمِحْنَةٍ شَغَلَتْكَ عَنِّي أَمْ قِلىً                حَاشَاكَ إِنَّكَ ما بَرِحْتَ وَدُودا

شعبي:

أناديك ما يشجيلك انداي                   ولا تسمع اعتابي ونخواي

إلمن بعد يحسين شكواي                  ظنّي انقطع وانقطع رجواي

يحسين يا بن امي يمذبوح                عليك البكا والحزن والنوح

عاري وتظل بالشمس مطروح            وللشام زينب عنّك تروح

والراس فوق السمهري يلوح             لون تنفدي لفديك بالروح


76


لمّا أرسل اللعين عبيد الله ابن زياد رأس الحسين عليه السلام والرؤوس التي معه إلى الشام، أمرهم أن يشهروها في كلّ بلد يأتونه..

وفي بعض المنازل في الطريق أدركهم المساء عند صومعة راهب، فجعلوا الرأس المقدّس في صندوق، وجلسوا يأكلون ويشربون ويغنّون، فبينا هم كذلك، وإذا بكفّ تكتب على حائط، (وفي بعض الروايات أنّ هاتفاً هتف):

أَتَرجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسيْناً                   شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الحِسابِ

فَلا وَاللهِ لَيْسَ لَهُمْ شَفِيعٌ                  وَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ فِي العَذابِ

وَقَدْ قَتَلُوا الحُسينَ بِحُكْمِ جَوْرٍ             وَخَالَفَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ الكِتابِ


فامتنعوا وما هنأوا بالأكل، فلمّا عسعس الليل سمع الراهب دويّاً كدويّ الرعد، وتسبيحاً وتقديساً، وأصواتاً تقول:
السلام عليك يا بن رسول الله، السلام عليك يا أبا عبد الله.. فجزع جزعاً شديداً، وسأل القوم عنه فقالوا رأس خارجيّ، فقال: ما اسمه؟ قالوا: الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام ، وأمّه فاطمة الزهراء، وجدّه محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله، فقال الراهب: تبّاً لكم ولما جئتم.. صدقت الأخبار في قولها


77


إذا قتل هذا الرجل تمطر السماء دماً..ثمّ طلب منهم الرأس ساعة واحدة وأعطاهم المال.. فدفعوا له الرأس وأخذه الراهب فطيّبه بالمسك والكافور وجعله على قطنة من الحرير، وجعل يقبِّله ويبكي ويقول: يعزُّ والله عليَّ يا أبا عبد الله أن لا أواسيك بنفسي، ولكن يا أبا عبد الله إذا لقيت جدَّك المصطفى رسول الله صلى الله عليه وآله فاشهد لي أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمّداً رسول الله وأشهد أنّ عليّاً وليّ الله..

وفي الطريق سمعوا أيضاً بكاءً وقائلاً يقول:

مَسَحَ النَبِيُّ جَبِينَهُ              فَلَهُ بَرِيقٌ فِي الخُدُودِ

أَبَوَاهُ مِنْ عَلْيا قُرَيشٍ          جَدُّهُ خَيْرُ الجُدُودِ


وفي الإقبال عن جعفر بن محمّد عليهما السلام قال: قال لي أبي محمّد بن عليّ: سألت أبي عليّ بن الحسين عن حمل يزيد له فقال: حملني على بعير يضلع بغير وطاء، ورأس الحسين عليه السلام على علم، ونسوتنا خلفي على بغال فأكفّ، (أي أميل وأشرف على السقوط)، والفارطة (الظلمة) خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح، حتّى إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت الملعون!!


78


طلعوا كل أهالي الشام ليهن            ابحالة فرح تتفرج عليهن

وعلي السجاد وياهن وليهن           ابقيد وجامعه وبالحبل ينجر

وعن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السلام قال: لمّا قدم على يزيد بذراري الحسين عليه السلام أدخل بهنّ نهاراً مكشّفات وجوههن، فقال أهل الشام الجفاة: ما رأينا سبياً أحسن من هؤلاء فمن أنتم؟ فقالت سكينة بنت الحسين: نحن سبايا آل محمّد!

تبكي وتنادي بدمع سجام                        يسره خذونه الديرة الشام

من عقب أهلنه حرم ويتام                       واعلى الرماح الروس كدام

وفرحوا بين ميّه الظلام                         ابقتلت احسين وحرگ الخيام

ولمّا جاءت الرؤوس كان يزيد في منظرة على ربا جيرون فأنشد لنفسه:

لمّا بّدَتْ تِلْكَ الحُمولُ وأَشْرَفَتْ                  تِلْكَ الرُؤوسُ عَلى رُبا جِيرونِ

نَعَبَ الغُرابُ فَقُلْتُ صِحْ أَوْ لا تَصِحْ             فَلَقَدْ قَضَيْتُ مِنَ الرَّسولِ دُيُونِي

قال الراوي: وسار القوم برأس الحسين ونسائه والأسرى من رجاله فلمّا قربوا من دمشق دنت أمّ كلثوم من شمر وكان من


79


جملتهم فقالت له: لي إليك حاجة، فقال: ما حاجتك؟ قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال!

فأمر في جواب سؤالها أن يجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة..

بنات المصطفى بيا حال سارت                  وبالبلدان بيها الگوم دارت

عن نظَّارها بالستر حارت                       ما ظل الها ستر بيه تستّر


حتّى أتى بهم باب دمشق فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي!

فروي: أنّ بعض فضلاء التابعين لمّا شاهد رأس الحسين عليه السلام بالشام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه فلمّا وجدوه بعد إذ فقدوه سألوه عن سبب ذلك فقال ألا ترون ما نزل بنا وأنشأ يقول:

جَاؤوا بِرَأْسِكَ يا بنَ بِنْتِ مُحمَّدٍ                 مُتَرَمِّلاً بِدِمائِهِ تَرْمِيلا


80


وَكَأَنَّما بِكَ يا بنَ بِنْتِ مُحمَّدٍ                   قَتَلُوا جَهاراً عَامِدِينَ رَسُولا

قَتَلُوكَ عَطْشاناً وَلَمْ يَتَرَقَّبُوا                   فِي قَتْلِكَ التأْوِيلَ وَالتَنْزِيلا

وَيُكَبِّرُونَ بِأنْ قُتِلتَ وَإِنَّما                     قَتَلُوا بِكَ التَكْبِيرَ وَالتَهلِيلا



قال الراوي: وجاء شيخ ودنا من نساء الحسين عليه السلام وعياله وهم في ذلك الموضع فقال الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد عن رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم.

فقال له عليّ بن الحسين عليه السلام: يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل عرفت هذه الآية:
﴿ألَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى. قال الشيخ: نعم قد قرأت ذلك، فقال عليّ عليه السلام له: فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت في بني إسرائيل﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ فقال الشيخ: قد قرأت، فقال عليّ بن الحسين: فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى. قال: نعم، فقال له عليّ عليه السلام: فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال عليّ عليه السلام: فنحن أهل البيت الذي خصّنا الله بآية الطهارة يا شيخ.


81


قال الراوي: فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به وقال: بالله إنّكم هم، فقال: عليّ بن الحسين عليهما السلام تالله إنّا لنحن هم من غير شكٍّ وحقّ جدّنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبكى الشيخ ورمى عمامته ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنّا نبرأ إليك من عدوّ آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من جنّ وإنس، ثمّ قال: هل لي توبة؟ فقال له: نعم إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا، فقال: أنا تائب، فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقتل.

وَلِلشَّامِ قَدْ سِيقَتْ حَرائِرُ هَاشِمٍ                      وَغَيرَ العِدا لَمْ تَلْقَ فِي السَيرِ حادِيا

تَجوبُ بِها بِيْدِ القِفارِ أُمَيَّةٌ                          عَلى هُزُلٍ فِي السَيْرِ تَطْوِي الفَيافِيا


82