تحقيق حول الأربعين
الحسينيّ1
تمهيد
تعتبر مسألة أربعين سيّد
الشهداء عليه السلام،
ومسألة عيال الإمام عليه
السلام وما إذا كانوا
توجّهوا إلى كربلاء بعد
خلاصهم من الأسر أم لا,
وما إذا استطاعوا زيارة
ذلك المرقد الشريف في ذلك
اليوم أم لا, من المسائل
التي وقع فيها الاختلاف
بين الباحثين، وقد استشهد
كلّ منهم بأدلّة تاريخيّة
لإثبات ذلك أو نفيه. إنّ
هذه المقالة ستبيّن لنا
الإحتمالات الممكنة في
تلك المسألة من خلال
الأدلّة التاريخيّة
المعتبرة. ونحن مع
الإلتفات إلى رأي
المعتقدين بهذه الحادثة،
سنثبت الرأي الآخر، لعدم
وجود أي دليل كافٍ يعتمد
عليه في مسألة أربعين
سيّد الشهداء عليه السلام، بل إنّ وصول قافلة
الأسرى إلى كربلاء في
الأربعين الأوّل يعتبر
أمراً شبيهاً بالمحال.
وفي النتيجة، فإنّ الدليل
الذي يتحدّث عن إلحاق
الرأس الشريف للإمام
الحسين عليه السلام بجسده
سيقع موضعاً للإشكال
والطعن.. نعم نحن نعتقد
بأنّ الحديث الشريف
القائل: (إنّ من
علامات المؤمن زيارة
الأربعين) يكفي
لإثبات تلك الزيارة
وفضيلتها.
المقدّمة
إنّ من الحوادث الغامضة
في واقعة عاشوراء،
والوقائع التي حصلت
بعدها، هو
وصول سبايا سيّد الشهداء
عليه السلام إلى كربلاء
في طريق العودة من الشام
إلى المدينة في يوم
الأربعين، وإلحاق الرأس
المقدّس لأبي عبد الله
الحسين عليه السلام
بالجسد الطاهر في ذلك
اليوم.. صحيح أنّ حادثة
عاشوراء تعتبر من الوقائع
المفجعة وأفظعها، التي
أدمت وجرحت قلوب الشيعة
والموالين لأهل بيت
العصمة والطهارة، وقد
نقلت أحداث تلك الواقعة
في كتب التاريخ من دون
أيّة نقيصة. ولكن للأسف,
فإنّ شيعة أمير المؤمنين
عليّ عليه السلام وأبنائه
المعصومين عليهم السلام
قد تعرّضوا لأشدّ أنواع
التهديد والأذى، وتحمّلوا
أقسى أصناف الحرمان
والعذاب، سواء في زمن
واقعة عاشوراء أو في ما
بعدها، وعمليّاً فقد تمّ
إبعادهم وإقصاؤهم. لذلك
كلّه، لم يكن في الإمكان
ضبط ونقل الأحداث
العاشورائيّة المؤلمة،
وحفظ ما جرى على عيال
سيّد الشهداء عليه السلام
وأهل بيته. في الحقيقة،
إذا كنّا لا نستطيع, حتّى
الآن, أن نقطع ونتيقّن من
قضيّة كمصير الرأس الشريف
للإمام الحسين عليه
السلام، والذي هو من
القضايا المهمّة جدّاً
والتي تلفت الأنظار, ونجد
الأقوال والآراء حول دفن
الرأس المقدّس مختلفة
ومشتّتة.. فكيف يمكن أن
نثبت ونضبط بشكل واضح
وبيّن- من دون
وقوع أي اختلاف أو نزاع
حول قضايا صغيرة وجزئيّة
مثل: المدّة الزمنيّة
لحبس عيال سيّد الشهداء
عليه السلام في الكوفة-
يوم الإنطلاق من الكوفة
نحو الشام, والطريق الذي
سلكوه من الكوفة إلى
الشام, ومدّة إقامتهم في
بلاد الشام, وأخيراً طريق
رجوعهم من الشام إلى
المدينة.
وإذا كنّا نعلم بأنّ
القسم الأكبر من حوادث
عاشوراء وما بعدها، قد
نقلت بوساطة المؤرّخين من
أهل السنّة الذين حاول
البعض منهم تبرئة أذيال
يزيد وبني أميّة من وصمة
هذا العار الأبديّ
المخزي، فلا ينبغي أن
نتوقّع نقل تلك الوقائع
والأحداث من دون أي تحريف
وتبديل. وبغض النظر عن
ذلك فلو فرضنا أنّ
المؤرّرخين أرادوا نقل
الحوادث بصورتها الصحيحة
ومن دون تغيير وتحريف،
فإنّ حكّام تلك الأزمنة
كانوا سيمنعون ذلك، ومن
غير المعلوم ما هو المصير
والنهاية التي كانت تنتظر
ذلك المؤرّخ ومصير
كتاباته أيضاً.
إنّ ما يريده كاتب هذه
السطور هو التحقيق حول
مسألة رجوع قافلة أسرى
بني هاشم عليهم السلام من
الشام، وأخذ النتيجة
النهائيّة, في ضوء المتون
والمصادر الموجودة.
ولعلّ
هذا البحث يكون خطوة
إيجابيّة من أجل أقصى حدّ
ممكن من التوضيح والبيان
لحوادث ما بعد عاشوراء،
ويكون مرضيّاً عنه عند
الله تعالى.
إنّ المشهور بين عموم
الشيعة أنّ الإمام
السجّاد عليه السلام رجع
من الشام, مع أهل بيت
سيّد الشهداء عليه السلام
إلى كربلاء، وزاروا القبر
المطهّر للإمام الحسين
عليه السلام وقبور أصحابه
الأوفياء, في يوم
الأربعين، ثمّ رجعوا إلى
مدينة النبيّ صلى الله
عليه واله وسلم بعد إقامة
مجالس العزاء هناك لمدّة
ثلاثة أيّام. ومن المشهور
أيضاً عند الشيعة أنّ
الإمام زين العابدين قد
ألحق الرأس المقدّس لأبيه
عليه السلام ببدنه
الشريف, في ذلك اليوم.
ولكن مع كلّ ذلك فإنّ
المحقّقين والباحثين قد
اختلفوا, منذ زمن بعيد,
حول وصول قافلة الأسرى
يوم الأربعين الأوّل إلى
كربلاء, فأيّده بعضهم
وأقام عليه شواهد
تاريخيّة, بينما ذهب
البعض الآخر إلى إنكار
حضور أهل بيت سيّد
الشهداء عليه السلام في
الأربعين الأوّل, وأنّ
ذلك غير ممكن, أو أنّه
غير قابل للتحقّق.
يعتقد كاتب هذه السطور
أيضاً أنّ قافلة الأسر لم
تصل إلى كربلاء يوم
الأربعين، وفي عقيدته
أيضاً أنّ مسألة (إحتمال
وصول قافلة الأسرى إلى
كربلاء في يوم الأربعين)
تختلف عن مسألة (تحقّق
ذلك في الواقع) فهما
أمران مستقلّان، وليس من
الضروريّ أن يحصلا معاً
في الخارج. بناء على هذا,
فباعتقاد الكاتب أنّه لا
يمكن القول أبداً بأنّ
المنكرين لمسألة الأربعين
قد ابتعدوا عن الحقيقة.
إنّ ما نقصده نحن, في هذه
المقالة, هو بيان تحقيق
مختصر, حول الوقائع التي
حصلت, بعد أسر أهل بيت
سيّد الشهداء عليه السلام
والتي لها ارتباط مباشر
بمسألة وصول أو عدم وصول
قافلة الأسرى إلى كربلاء
في يوم الأربعين الأوّل.
البحث حول الوقائع
المتعلّقة بحادثة
الأربعين
بشكل عام، يمكن اختصار
الوقائع التي لها علاقة
مباشرة بوصول قافلة
الأسرى إلى كربلاء, في
الأمور الآتية:
1- مدّة حبس أهل بيت سيّد
الشهداء عليه السلام في
الكوفة، والزمان الذي
تحرّكوا فيه نحو الشام.
2-
الطريق الذي سلكته قافلة
الأسرى من الكوفة إلى
الشام.
3- الوقت الذي استهلكته
القافلة للوصول إلى
الشام.
4- المدّة الزمنيّة
لإقامة أهل بيت الإمام
عليه السلام في الشام.
5- طريق الرجوع من الشام
إلى المدينة، والبحث حول
احتمال توجّه قافلة
الأسرى إلى كربلاء
ووصولها إلى هناك في
الأربعين الأوّل.
والآن نبحث حول كلّ واحد
من الأمور السابقة, على
حدة.
1- مدّة حبس أهل بيت
الإمام عليه السلام في
الكوفة، والزمان الذي
تحرّكوا فيه نحو الشام.
ليس هناك أيّ شكّ
تقريباً, حول خروج أهل
بيت الإمام الحسين عليه
السلام، وحركتهم, حال
الأسر, من كربلاء إلى
الكوفة, في اليوم الحادي
عشر من المحرّم، وكذلك-
حسب القول المشهور- فإنّ
دخولهم إلى الكوفة كان في
اليوم الثاني عشر منه.
ولكن بالنسبة إلى ترحيلهم
نحو الشام, فلا يوجد بين
أيدينا تاريخ محدّد دقيق
يطمأنُّ إليه. وهذا
باعتبار أنّ مدّة بقائهم
وحبسهم في الكوفة غير
واضح كثيراً. طبعاً موضوع
سجن الأسرى والسبايا في
الكوفة يعتبر من
المسلّمات التاريخيّة,
كما صرّحت بذلك بعض
المقاتل المعتبرة. وقد
أشار الطبريّ إلى هذه
المسألة بروايته عن عوانة
بن الحكم الكلبيّ2.
والشيخ الصدوق أيضاً ينصّ
في مقتله على حبس الأسرى
ويقول:ثمّ أُمر بعليّ بن
الحسين فغُلّ وحُمل مع
النسوة والسبايا إلى
السّجن... فأمر ابن زياد
بردّهم إلى السّجن3.
ولكن أكثر المقاتل لم
تذكر زمان خروج قافلة
الأسرى من الكوفة نحو
الشام، ولا يوجد مستند
واضح وصحيح لتاريخ حركتهم
من الكوفة. يقول بعض
المؤلّفين
في
هذا الخصوص:
مع أنّ مقدار بقاء أسرى
أهل البيت في الكوفة غير
معلوم، إلّا أنّهم بقوا
هذه المدّة في سجن ابن
زياد، أرسل خلالها ابن
زياد ليزيد يسأله عن
مصيرهم وما يصنع بهم, وهل
يأمر بقتلهم جميعاً أو
بتسريحهم إلى الشام4.
وأمّا أصحاب الرأي الآخر
الذين قبلوا مسألة
الأربعين الأوّل، وذهبوا
إلى أنّ قافلة الأسرى قد
زاروا القبور المطهّرة
لشهداء كربلاء, في يوم
الأربعين, فعليهم أن
يبيّنوا الوقائع والأحداث
بحيث تتناسب مع وصولهم
إلى كربلاء في الأربعين،
ويجب أن يكون زمان حبسهم
في الكوفة لمدّة قصيرة
جدّاً. ومن هنا ذهب بعضهم
إلى أنّ الأسرى من آل
محمّد صلى الله عليه واله
وسلم قد حبسوا لمدّة
يومين فقط، قام خلالها
الحمام الزّاجل بحمل جواب
الرسالة من يزيد إلى ابن
زياد، والتي أمره فيها
بإرسال الأسرى إلى الشام.
وهذا يعني أنّ الأسرى قد
تحرّكوا نحو الشام في
اليوم الخامس عشر من
المحرّم ووصلوا إلى هناك
في اليوم الأوّل من صفر.
وقد ذكر هؤلاء عدّة
شواهد لإثبات هذا
المدّعى, واستنتجوا منها
أنّ الحمام الزّاجل كان
يُستفاد منه في ذلك
العصر. ومن هذه الشواهد
ما يلي:
ينقل المرحوم أحمد بن تاج
الدّين حسن سيف الدّين
الأستر آباديّ- وهو من
محدّثي الإماميّة- في
كتابه (الآثار
الأحمديّة): ممّا ورد
صحيحاً عن عبد الله
الأنصاريّ أنّه كان يقول:
كنّا مع جمع من الناس عند
الإمام الحسين عليه
السلام، فإذا بريح عاصفة
قد هبّت من ناحية الشام,
فقال أحد الموالين
لمعاوية, وقد كان حاضراً
هناك مخاطباً الإمام
الحسين عليه السلام: يا
ابن رسول الله لقد كان
جدّك صلى الله عليه واله
وسلم يفيد الناس أخباراً
من هبوب الريح، فأخبرنا
أنت أيضاً بنبأ هذه
الرياح؟
فأجاب الإمام عليه السلام: هي تقول بأنّ حاكم
الشام قد مات وقد تجرّع
غصّة. (وقد).. تلقى كلام
الإمام عليه السلام
بصعوبة شديدة ولكنّه لم
يجد حيلة غير السكوت. وفي
اليوم التالي وصل الخبر
بموت معاوية.. ثمّ قال
المحدّث الخيابانيّ: من
هنا يُعلَم بأنّه لا
يمكن
إيصال هذا الخبر إلّا
بوساطة الحمام الزاجل5.
صاحب كتاب (تحقيق حول
الأربعين الأوّل لسيّد
الشهداء عليه السلام )
يعتقد من خلال الرواية
السابقة بأنّ بني أميّة
كانوا يستفيدون من الحمام
الزّاجل لإيصال رسائلهم.
معنى ذلك أنّ ابن زياد
استخدم الحمام الزّاجل
لأخذ الأمر من يزيد في ما
يتعلّق بموضوع الأسرى.
والنتيجة هي أنّ الأسرى
من آل محمّد صلى الله
عليه واله وسلم قد بُعثوا
إلى الشام بعد توقّف
لثلاثة أيّام فقط في
الكوفة. وعليه تكون مدّة
سجن أهل بيت الإمام عليه
السلام في الكوفة من يوم
12 إلى 15 من المحرّم6.
وخلال تلك الأيّام
الثلاثة وصلت رسالة ابن
زياد بوساطة الحمام
الزّاجل إلى يزيد، وفيها
تنفيذ الأمر بإرسال
الأسرى ورؤوس الشهداء إلى
الشام.
نحن لا نصرّ على إنكار
وصول قافلة الأسرى إلى
كربلاء, في يوم الأربعين،
ولكن نحن نعتقد أيضاً
بأنّ تحقّق ذلك ليس من
المسلّمات التاريخيّة، بل
هناك شواهد وقرائن معتبرة
تدلّ على خلاف ذلك.
على سبيل المثال:
لو أردنا نقد ما نقل
سابقاً عن بعض من يتبنّى
نظرية وصول أهل بيت
الحسين عليه السلام إلى
كربلاء في يوم الأربعين
الأوّل، فباستطاعتنا
القول: هناك حادثتان
وقعتا في التاريخ نحن
نقطع بزمان وقوعهما،
الأولى: موت معاوية الذي
وافق الخامس عشر من شهر
رجب. والثانيــة: زمـان
خــروج الإمــام
الحســـين عليه السلام من
المدينة والذي وقع أيضاً
في رجب، في اليوم الثامن
والعشرين منه7.
وهناك أيضاً حادثة أخرى
مؤكّدة تاريخيّاً وهي أنّ
والي المدينة الوليد كان
قد أحضر الإمام الحسين
عليه السلام وأخبره بموت
معاوية ولزوم البيعة
ليزيد, في نفس تلك الليلة
التي وصلت إليه رسالة
يزيد, التي تحمل نبأ موت
معاوية, وضرورة أخذ
البيعة من الحسين بن عليّ
عليه السلام وعبد الله بن
الزبير8.
ثمّ بعد هذه الحادثة
بيومين خرج الإمام الحسين
عليه السلام من المدينة
وتوجّه نحو مكّة
المكرّمة.
هنا, لو أخذنا بهذه
الأمور الثلاثة، وحيث إنّ
كتب المقاتل لم تذكر يوم
وصول رسالة يزيد إلى
المدينة، فإنّنا نستنتج
أنّ رسالة يزيد قد وصلت
إلى المدينة في اليوم
السادس والعشرين من رجب,
وليس في السادس عشر منه.
وهذا هو الدليل الأوّل
على أنّ وصول رسالة يزيد
إلى المدينة لم يكن
بوساطة الحمام الزّاجل بل
بوساطة بريد من جنس
البشر. وأمّا البرهان على
صحّة خبر المرحوم الأستر
آباديّ فهو أنّه لم يذكر
فيه تاريخ هبوب الرّياح
وإخبار الإمام عليه
السلام بذلك مسبَّقاً,
فيعلم أنّ تلك الواقعة قد
حصلت قبل يوم واحد من
وصول رسالة يزيد، وكذلك
إخبار الإمام عليه السلام
كان قبل وصول خبر موت
معاوية إلى المدينة, وليس
في نفس زمان وفاته.
والدليل الثاني:
هو ما نقله صاحب الطبقات
الكبرى، في الطبقة
الخامسة من الصحابة: وقدم
رسول من قبل يزيد بن
معاوية يأمر عبيد الله أن
يرسل إليه بثقل الحسين
ومن بقي من ولده وأهل
بيته ونسائه9.
إنّ ظاهر هذه العبارة
يدلّ على أنّ رسول يزيد
لم يكن من جنس الحمام، بل
من البشر؛ لأنّ كلمة
(رسول) تستعمل في البريد
والمبعوث الذي يتلقى
الأوامر، وقد يحمل بعض
الأحيان خبراً أو رسالة
شفهيّة، ولا تستعمل في
الحمام الذي أقصى ما يقال
فيه: (حامل الرسائل).
الدليل الثالث على
عدم استفادة يزيد من
الحمام الزّاجل, هو: ما
جاء في كلام الطبريّ في
وجود رسالة صغيرة بحجم
أذن الفأرة مع رسالة يزيد
الأصليّة. وفي تلك
الرسالة أصدر يزيد أمره
باعتقال الإمام الحسين
عليه السلام وعبد الله بن
الزبير في حال لم يبايعا
يزيد بالخلافة10.
من هذا النقل نستطيع
القول بأنّ هكذا رسالة
كبيرة ومعها أخرى صغيرة
لا يستطيع عادة الحمام
الزّاجل حملها، لأنّ
حملها إلى مسافة بعيدة
يعني من الشام إلى
المدينة سيكون فوق طاقة
الحمام, لأنّ ما ينقله
الحمام غالباً من مكان
إلى آخر هو رسائل مختصرة
وصغيرة جداً، أمّا في
مورد كلامنا فالرسالة
كبيرة والمسافة طويلة
جدّاً.
الدليل الرابع:
أنّ ما قاله المحدّث
الخيابانيّ (الذي اعتمد
عليه السيّد القاضي) لم
يكن على سبيل القطع
واليقين، بل هو على نحو
الإحتمال والإمكان فقط.
ثمّ على فرض ثبوت
الإستفادة الرائجة من
الحمام الزّاجل, في ذلك
الزمان, فإنّ حفظ أمن
البلاد- لا سيّما المدينة
المنوّرة- يوجب إرسال
الرسائل بوساطةٍ موثوقة
وماهرة، كي لا تقع هذه
الأسرار في أيدي الغرباء؛
لأنّ الحمام, وإن كان
أسرع في إيصال هذه
البيانات إلى مقاصدها،
فهو لا يورث الإطمئنان
القويّ، بل إنّ الخوف من
وقوع الحمام في أيدي
العابثين, أو وصول
الرسائل إلى غير أصحابها
يبقى وارداً.
الآن، وبعد بطلان احتمال
تلقي إبن زياد الأوامر من
يزيد بوساطة الحمام، وحيث
لا يوجد كتاب تاريخيّ
واحد يشير إلى موضوع
استخدام الحمام الزّاجل،
فهنا سيكون أمامنا,
بالنسبة إلى هذه المسألة,
إحتمالان, لا ثالث لهما:
الإحتمال الأول:
بقاء أسرى بني هاشم في
السّجن, مدّة ذهاب مبعوث
إبن زياد بالرسالة إلى
يزيد ورجوعه إلى الكوفة
بالجواب، وهذا يستغرق
عادة ذهاباً وإياباً مدّة
أسبوعين.. وبناء على ذلك
سيكون بقاء أهل بيت
الحسين عليه السلام في
سجن الكوفة ما يقرب من
الأسبوعين, ومعنى ذلك أنّ
خروجهم من الكوفة إلى
الشام سيكون بعد أسبوعين.
ينقل الطبريّ حول سجن أهل
بيت الحسين عليه السلام
في الكوفة, بأنّه قد
استمرّ لأيّام متتالية،
فهو يروي:
وأمّا عوانة بن الحكم
الكلبيّ فإنّه قال: لمّا
قُتل الحسين وجيء
بالأثقال والأسارى حتّى
وردوا بهم الكوفة إلى
عبيد الله, فبينا القوم
محتبسون, إذ وقع حجر في
السجن معه كتاب مربوط,
وفي الكتاب: خرج البريد
بأمركم في يوم كذا وكذا
إلى يزيد بن معاوية, وهو
سائر كذا وكذا يوماً
وراجع في كذا كذا, فإن
سمعتم التكبير فأيقنوا
بالقتل, وإن لم تسمعوا
تكبيراً فهو الأمان إن
شاء الله. قال: فلمّا كان
قبل
قدوم البريد بيومين أو
ثلاثة, إذا حجر قد أُلقي
في السجن مربوط وموسى،
وفي الكتاب: أوصوا
واعهدوا, فإنّه ينتظر
البريد يوم كذا وكذا,
فجاء البريد ولم يُسمع
التكبير, وجاء كتاب بأن
سرّح الأسارى إليّ11.
هذا النقل يبيّن لنا بشكل
واضح أمرين اثنين،
الأوّل: أنّ الرسالة
وصلت بوساطة مبعوث
إنسانيّ وليس الحمام
الزّاجــل. الثــاني: أنّ
مــدّة سجــن أهل البيت
عليهم السلام في الكوفة
كانت طويلة، بل إنّ
الجملة الواردة في النص:
(فلمّا كان قبل قدوم
البريد بيومين أو ثلاثة)
تدلّ على أنّ فترة الإياب
وحدها تمتدّ لأكثر من
ثلاثة أيّام، لأنّ
الكوفيين كانوا يحسبون
هذه الأيّام الثلاثة هي
أواخر الإنتظار. بناء على
ما مضى، فلو قبلنا بذاك
النقل, فيجب أن نحسب خروج
قافلة الأسرى من الكوفة
إلى ما بعد الخامس
والعشرين من المحرّم؛
لأنّ الحدّ الأدنى
واللازم من الوقت لذهاب
الرسول إلى الشام ورجوعه
منها هو ما يقرب من
الأسبوعين, فحركة الأسرى
من الكوفة نحو الشام لا
يمكن أن تكون قبل (25) من
المحرّم.
الإحتمال الثاني:
أن يقوم ابن زياد بحمل
الأسرى ورؤوس الشهداء نحو
الشام, من دون أن يرسل
أيّة رسالة إلى يزيد، بل
يبعث رسالة مع الرأس
الشريف للإمام الحسين
عليه السلام نحو الشام.
ومن ثمّ يرسل مباشرة رؤوس
الشهداء وقافلة الأسرى
إلى الشام.
بناء على هذا الإحتمال
سيكون حبس أهل البيت في
الكوفة قصيراً؛ لأنّ ابن
زياد اضطرّ للإسراع
بإرسال رؤوس الشهداء
والأسرى نحو الشام ليفوّت
الفرصة على الناس لئلّا
يتحرّكوا ويثيروا القلاقل
والفوضى في الكوفة.
ويمكن إستفادة هذا الأمر,
من خلال الأخبار التي
تدلّ على انتقال الرأس
المقدّس للإمام عليه
السلام إلى الشام مع
الأسرى. وهذا ما كان من
عادة العرب، حيث يرسلون
إلى أميرهم، بعد الإنتصار
في الحرب، رأس قائد جيش
العدوّ مرفقاً برسالة
تتضمّن بشارة النصر، ثمّ
ترجع بعد أيّام فلول
العسكر مع الغنائم
والأسرى. وإذا كان بعض
المقاتل يعترف بوجود
رسالة من ابن زياد مرفقة
مع
الرأس المقدّس لسيّد
الشهداء عليه السلام
فبالإمكان أن نستنتج أنّ
ابن زياد بعث بقافلة
الأسرى ورؤوس الشهداء
مباشرة إلى الشام من قبل
أن يتلقّى أيّة أوامر من
يزيد، وامتنع عن حبسهم
لمدّة طويلة للتخلّص من
أيّ تحرّك وثورة شعبيّة
قد يقوم بها أهل الكوفة.
هذه الفرضيّة أيّدتها بعض
الكتب التاريخيّة
المعتبرة, حيث لم تأت على
ذكر أيّة رسالة من ابن
زياد إلى يزيد لمعرفة ما
يفعله بالنسبة إلى الأسرى
ورؤوس الشهداء. بل هناك
بعض المقاتل تصرّح بأنّ
ابن زياد بعث برسالة
تبيّن قيامه بالمهمّة
التي كلّف بها في الكوفة,
وبعث بها مع رأس الإمام
الحسين عليه السلام إلى
الشام.
ينقل ابن الأعثم
الكوفيّ في مقتله:
وسبق زجر بن القيس
الجعفيّ برأس الحسين إلى
دمشق حتّى دخل على يزيد
مسلماً عليه ودفع إليه
كتاب عبيد الله بن زياد،
فأخذ كتاب عبيد الله
فوضعه بين يديه ثمّ قال:
ما عندك12
13.
2-
مسير قافلة الأسرى
من الكوفة إلى الشام:
في
الحقيقة، فإنّه لا يوجد
أيّ خبر معتبر ويقينيّ في
موضوع مسير قافلة الأسرى
من الكوفة إلى الشام،
ولذلك فإنّ صاحب كتاب
(نفس المهموم) عليه
الرحمة, يقول في كتابه: (إعلم
أنّ ترتيب المنازل التي
نزلوها في كلّ مرحلة
باتوا بها أم عبروا منها,
غير معلوم ولا مذكور في
شيء من الكتب المعتبرة,
بل ليس في أكثرها مسافرة
أهل البيت إلى الشام)14.
ولكن لو رجعنا إلى
الخريطة الجغرافيّة
للمنطقة، والطريق
المتعارفة ما بين الكوفة
والشام, في ذلك الزمان
حسب بعض الوثائق، فيمكن
القول بأنّه يوجد
ثلاثة
طرق لا غير:
الطريق الأوّل: قد
سبق القول منّا إنّه لا
يوجد أي دليل معتبر يدلّ
على حركة قافلة الأسرى من
الكوفة إلى الشام، لكنّ
كثيراً من الكتب الضعيفة
غير المعتبرة قد ذكرت
المنازل التي عبرت فيها
قافلة الأسرى، وهذه
الأخبار هي السبب في
اشتهار الطريق السلطانيّ.
هذه الشهرة هي التي جعلت
بعض المحقّقين والمؤلّفين
المتأخّرين الذين كتبوا
في تاريخ عاشوراء،
يؤيّدون هذه الفرضيّة
ويعتبرون أنّ مسير حركة
قافلة الأسرى هو الطريق
السلطانيّ الذي يمرّ عبر
مدن مثل: تكريت، الموصل،
تل عفر، نصيبين، وعين
الورد.
فإذاً الطريق الأوّل الذي
تدلّ عليه الأخبار
الضعيفة وغير المسندة هو
الطريق السلطانيّ. ولعلّ
شهرة هذا الطريق باعتبار
أنّ أغلب الناس يسلكونه
في ذلك الزمان للسّفر من
الكوفة إلى الشام. ولكن
يجب الإنتباه إلى أنّ
مسافة هذا الطريق طويلة
جدّاً، مع وجود طرق أخرى
مختصرة!!
الطريق الثاني: ما
ذكره بعض المحقّقين
واحتمله آخرون، وهو
الطريق في خطٍّ مستقيم من
الكوفة إلى الشام. هذا
المسير يمرّ بمنطقة
صحراويّة قاحلة، قاسية
وحارّة تسمّى باسم بادية
الشام, حيث لا يوجد فيها
أيّ عمران.
المرّة الأولى التي ذكر
فيها هذا الطريق ورد في
كتاب (أعيان الشيعة) وقد
وصف المؤلّف ذلك الطريق
بالمستقيم من أجل أن
يفسّر إمكانيّة وصول
مبعوث إبن زياد إلى الشام
خلال أسبوع واحد.
في البداية يستبعد مؤلّف
(أعيان الشيعة) ما ذكره
بعض مؤلّفي المقاتل بأنّ
قطع المسافة بين الكوفة
والشام يحتاج إلى أسبوع
واحد فقط. ولكن مؤلّف
الأعيان, في محاولته لدفع
ذلك الإستبعاد,
يقول:ويمكن دفع الإستبعاد
بأنّه يوجد طريق بين
الشام والعراق يمكن قطعه
في أسبوع لكونه مستقيماً,
وكان عرب عقيل يسلكونه في
زماننا. وتدلّ بعض
الأخبار على أنّ البريد
كان يذهب من الشام إلى
العراق في الأسبوع وعرب
صليب يذهبون من حوران إلى
النجف في نحو ثمانية
أيّام. فلعلّهم سلكوا هذا
الطريق وتزوّدوا ما
يكفيهم من الماء وأقلّوا
المقام في الكوفة والشام،
والله أعلم15.
ورجّح محمّد أمين
الأمينيّ أيضاً في كتابه,
هذا المسير، وقال:(ونحن
أيضاً نرجّح أنّ أعداء
الله ورسوله صلى الله
عليه واله وسلم كانوا قد
سلكوا ببقيّة الركب
الحسينيّ في سفرهم من
الكوفة إلى الشام أقصر
الطرق مسافة، سواء أكان
طريق عرب عقيل أو غيره،
ونستبعد أنّهم سلكوا ما
سمّي بالطريق السلطانيّ
الطويل)16.
وأخيراً صرّح أيضاً
الشهيد القاضي
الطباطبائيّ, في كتابه,
بوجود هذا الطريق
المستقيــم, إلّا أنّه
لــم يعــط رأيــه في
مــا إذا كانت قافلة حرم
سيّد الشهداء عليه السلام
قد سلكوا ذلك الطريق أم
لا، بل الظاهر من كلامه
قبوله للمسير الأوّل, وهو
المسير السلطانيّ؛ لأنّه
ينقل, بحسب الأخبار
الضعيفة, بعض الوقائع
التي حدثت أثناء السير في
الطريق السلطانيّ
ويؤيّدها أيضاً.
ولكن الحقّ أن يقال: إنّ
سيرهم على الطريق
المستقيم الذي لم يؤيّده
إلّا اثنان من المحقّقين
المتأخّرين، ليس فقط لا
شاهد عليه ولا مستند، بل
يوجد شواهد على خلافه؛
لأنّه, وكما مرّ سابقاً,
فإنّ بعض الكتب الضعيفة
وغير الموثّقة، نقلت
حوادث في مسير الأسرى
كلّها ذات علاقة بالمسير
السلطانيّ، لا مسير بادية
الشام.
هذا بالإضافة إلى وجود
شاهد معتبر آخر ينفي
المسير في بادية الشام،
وذاك الشاهد هو مقطع من
كلام السيّدة زينب الكبرى
عليه السلام حيث تخاطب
يزيد وتقول له:(أمن
العدل يا بن الطلقاء
تخديرك حرائرك وإماءك
وسوقك بنات رسول الله صلى
الله عليه واله وسلم
سبايا قد هُتكت ستورهنّ
وأُبديت وجوههنّ يحدو
بهنّ الأعداء من بلد إلى
بلد)17.
ومن الواضح جدّاً، أنّه
لو كان مسير قافلة الأسرى
من صحراء بادية الشام
القاحلة والمحرقة, لكان
ينبغي من السيّدة زينب
عليه السلام أن تتحدّث عن
مشقّات الطريق وصعابه،
مثل عطش وجوع أطفال أبي
عبد الله عليه السلام،
وهذا ما يحصل عادة في
طريق الصحراء، أو تشكو من
الإهمال الذي مارسه جنود
ابن زياد عندما سلكوا بهم
تلك الطريق الصحراويّة.
لكن كانت شكوى زينب عليه
السلام من المرور في
المدن والبلاد، وعرضهم
أمام أعين الناس بصورة
الأسرى والخوارج، ولم تشر
إلى شيء آخر، وهذا بنفسه
دليل على مسيرهم من
الطريق السلطانيّ وليس من
طريق بادية الشام.
الطريق الثالث: هو
الطريق الذي نعتقده
مسيراً لقافلة الأسرى من
الكوفة إلى الشام. وهذا
الطريق, حسب الظاهر, كان
متعارفاً ومحدّداً ما بين
الكوفة وبين الشام، وهو
المسير الذي يمرّ عبر
الساحل الغربيّ لشطّ
الفرات إلى مدن مثل:
الأنبار- هيت- قرقيسيا-
الرقّة- ومنطقة صفّين.
ومن مميّزات هذا
المسير: أوّلاً: هو
طريق محدّد ومعروف ما بين
الكوفة والشام. ثانياً:
ليس طويلا ً كما ورد
الإشكال على الطريق
السلطانيّ, وليس
صحراويّاً وقاحلا
ًومحرقاً كما هو الحال في
مسير بادية الشام
المهجورة، ولا يسافر فيها
إلّا من كان مضطرّاً لذلك
وكان له خبرة واسعة في
معرفة تلك البلاد, أو كان
من أهلها.
هذا المسير هو نفس الطريق
الذي سلكه جيش أمير
المؤمنين عليه السلام
للقتال مع معاوية18،
وفي زمان الإمام المجتبى
عليه السلام أيضاً كان هو
الطريق الذي سلكه جيش
معاوية من الشام إلى
منطقة المسكن (وهي
المحلّة التي التقى فيها
عسكر الإمام الحسن عليه
السلام بعسكر معاوية
للقتال).
طبعاً إنّ مشاهدة خريطة
المنطقة، والطرق الثلاثة
الموجودة بين الكوفة
ودمشق سيورث اعتقاداً
جازماً لدى كلّ بصير أنّ
سلوك هذا الطريق هو
الخيار المنطقيّ
والمعقول؛ لأنّ اختيار
المسير السلطانيّ والذهاب
إلى تكريت والموصل
ونصيبين، مثله كمثل من
يريد أن يضع لقمة في فمه
بعد أن يديرها من وراء
رقبته. وكذلك انتخاب
الطريق الصحراويّ غير
معقول في الحالات
المتعارفة من قبل رجال
مقاتلين مثل رجال ابن
زياد، الذين خبرتهم في
تلك المنطقة غير كافية.
ثمّ لنفرض حصول هذا
المسير الشاق والطويل مع
مجموعة من النساء
والأطفال, فكيف لا نجد
أحداً ينقل ويصف لنا مثل
هذه الحادثة العظيمة؟!!
وعلى هذا الأساس، فالظاهر
أنّ اختيار طريق المسير
الغربيّ للفرات- وهو
المسير الوسطي- إحتماله
أقوى من إحتمال اختيار
الطريقين الآخرين. ومن
الواضح أنّ الشواهد
الموجودة بالنسبة إلى
مدن: حلب وقنّسرين وحماه
وحمص ودير الراهب لا
تعتبر شواهد خاصّة
بالنسبة إلى الطريق
الوسطي أو الطريق
السلطانيّ، ولكن لو كانت
هذه الشواهد قويّة فإنّها
ستكون دليلا ًعلى عدم
سلوك طريق بادية الشام
حتماً.
3-المدّة اللازمة
للوصول إلى الشام:
الظاهر أنّ وصول
قافلة الأسرى إلى الشام
في الأوّل من شهر صفر غير
مقبول، وكما مرّ سابقاً،
فقد أشار مؤلّف كتاب (التحقيق
حول الأربعين الأوّل
لسيّد الشهداء عليه
السلام ) إلى الطريق
المستقيم ما بين الكوفة
والشام, وأنّ الوقت
اللازم لطيّ ذلك المسير
من قبل أهالي تلك البلاد,
يقدّر بأسبوع كامل.
فهو يقول في كتابه:(يوجد
طريق بين الشام والعراق
وهو ذو خطٍّ مستقيم
ومباشر يسلكه في زماننا
عرب عقيل، وفي مدّة أسبوع
واحد يصلون إلى العراق)19.
ثمّ يكمل كلامه فيقول:(إنّ
عرب صليب من حوران- وهي
مساحات واسعة من بلاد
دمشق وتقع في جهة القبلة
منها وتحتوي على قرى
ومزارع كثيرة، ومركز هذه
البلاد هو (بصرى) وقد ورد
ذكر تلك المناطق كثيراً
في أشعار العرب- يسافرون
من بلادهم إلى العراق
فيصلون خلال ثمانية أيّام
إلى النجف الأشرف)20.
وهو
يستفيد أيضاً من قصّة
ميثم التمّار رضوان الله
عليه فيقول: (من هذه
القضيّة يتّضح جيّداً
بأنّهم يصلون من العراق
إلى الشام بمدّة أسبوع
واحد، والبريد وصل خلال
أسبوع واحد إلى الكوفة،
وهذا الخبر ورد صحيحاً عن
ميثم التمّار- قدّس الله
روحه)21.
وفي النهاية يقول:(ينقل
البعض بأنّه خلال أحد عشر
يوماً استطاعوا الوصول من
الشام إلى الكوفة من دون
توقّف)22.
من خلال ما مرّ سابقاً،
وبناء على الأدلّة
التالية, يمكن الوصول إلى
هذه النتيجة ونقول: إنّ
قافلة الأسرى لم يكن
بمقدورهم الوصول إلى
كربلاء في اليوم الأوّل
من صفر.
والأدلّة على ذلك هي
الدليل الأوّل: لا
يوجد أيّ شاهد ومؤيّد
لمقولة الإستفادة من
الحمام الزّاجل، ورسالة
ابن زياد وصلت من خلال
رسول ومبعوث، وهذا يعني,
حسب ظاهر الأمور, أنّ
رجوعه مع أوامر يزيد
سيمتدّ إلى ما لا يقلّ عن
أسبوعين اثنين.
وعليه، فإنّ قافلة الأسرى
بقوا في سجن الكوفة عند
ابن زياد لأسبوعين على
أقلّ التقادير، وبعد ذلك
أمر ابن زياد بنقلهم إلى
بلاد الشام.
الدليل الثاني:
إنّ الأسرى لم يسلكوا
الطريق الصحراويّ لبادية
الشام؛ لأنّه مسير شاقّ
جدّاً، ولا يوجد له أيّ
مؤيّد وشاهد حتّى في
الكتب الضعيفة.
الدليل الثالث:
الشواهد المثبتة لامتداد
زمان وصولهم إلى الشام
أكثر من أسبوع واحد؛
لأنّه إذا كان الطريق
المستقيم من الكوفة إلى
الشام يحتاج إلى أسبوع
كامل من قبل ساعي البريد
السريع، فما بالك بالمدّة
التي يحتاج إليها المسافر
عن الطريق السلطانيّ الذي
يبلغ ضعف مسافة طريق
البادية تقريباً؟ وكذلك
المدّة التي يحتاج إليها
المسافر عن طريق المسير
الوسطيّ الذي هو أطول
بكثير من مسير بادية
الشام؟ فهي أيضاً ستمتدّ
لأكثر من أسبوع واحد.
وهذه المسألة يمكن
إثباتها بأربعة أدلّة،
وهي:
الدليل الأوّل:
إنّ قافلة الأسرى التي
تتألّف من عدد من النساء
والأطفال، لا تستطيع
السير بسرعة كما هو الحال
بالنسبة إلى المبعوثين
الذين يتنقلون على مراكب
سريعة وقويّة.
الدليل الثاني:
إنّ السفر الجماعيّ يفرض
المداراة في قطع الطريق
بقدم وحركة الأضعف، وهذا
الأمر يصدق في المركوب
أيضاً. بمعنى أنّه لو
أردنا أن نسير بمجموعة من
وسائل النقل، فلا بدّ أن
تكون حركة الجماعة حسب
حركة الأضعف بالمراكب
وأبطئها، لأنّ السرعة
الزائدة ستفرّق الجمع
وتشتّت الجماعة، وهو أمر
لا بدّ من الإحتراز عنه.
الدليل الثالث:
إنّ قطع المسير الأطول
يحتاج بطبيعة الحال إلى
وقت أكثر، بمعنى أنّ طريق
بادية الشام يتطلّب
أسبوعاً واحداً، أمّا
الطريق الأطول وهو
السلطانيّ أو الوسطيّ
فحتماً يحتاج إلى مدّة
أكبر.
الدليل الرابع:
إنّ وجود البلاد
المتعدّدة, كما هو الحال
في المسير السلطانيّ, أو
المسير الوسطيّ, سيفرض
توقّفاً متكرّراً، وسيضعف
من سرعة الحركة. وعليه،
فحتّى لو فرضنا بأحسن
الأحوال أنّ عائلة الإمام
الحسين عليه السلام ورؤوس
الشهداء كانوا يقطعون كلّ
يوم مسافة (100) كلم،
فإنّ الوصول إلى الشام-
مع ملاحظة أنّ المسافة
إليها من الطريق
السلطانيّ في حدود (1500)
كيلومتر- يتطلّب أكثر من
خمسة عشر يوماً. ولو
تبيّن أنّ الرأس الشريف
لسيّد الشهداء قد أرسل
إلى الشام قبل بعث
الأسرى, فلن يبقى أيّ
تردّد وشكٍّ في هذه
المسألة، بل سنتقدّم خطوة
إلى الأمام وسيجعلنا
مطمئنّين أكثر إلى ما
ذهبنا إليه, من تأخّر
وصول قافلة الأسرى في
الأوّل من صفر, بل نقول
الذي وصل هو رأس الإمام
الحسين عليه السلام فقط,
حسب بعض الروايات.
طبعاً نحن لا ننكر وجود
عدّة روايات تتحدّث عن
مرافقــة رأس الإمــام
الحســين عليه السلام مع
الأسرى، ولكن في المقابل
هناك عدّة روايات أيضاً
تدلّ على أنّ ابن زياد قد
بعث برأس الإمام عليه
السلام إلى الشام أوّلا.
على كلّ حال، فإنّ أحد
هذين النقلين ليس صحيحاً،
ويجب, في عالم التحقيق,
أن
نقبل ذلك النقل الذي
ينطبق على الواقع في
العالم الخارجي أكثر،
وتؤيّده الشواهد والقرائن
بشكل أقوى.
لعلّه يمكن القول بأنّ
إرسال الرأس المطهّر
للإمام عليه السلام إلى
الشام, وفصل أحد الرؤوس
عن المجموع هو أمر
مستبعد. هذا الكلام أوقع
بعض المؤرّخين في الخطأ،
وجعلهم يعتقدون بأنّ رأس
الإمام عليه السلام كان
مرافقاً لبقيّة الرؤوس مع
قافلة الأسرى.
وأمّا الشواهد الدالّة
على سبق بعث الرأس الشريف
للإمام عليه السلام مع
بقيّة رؤوس الشهداء قبل
قافلة الأسرى فهي
الشاهد الأوّل:
كلّ الكتب التي ذكرت أنّ
أوّل يوم من صفر هو يوم
وصول رأس الإمام الحسين
عليه السلام إلى الشام،
ولم تذكر تلك المصادر أيّ
شيء عن وصول الأسرى في
ذلك التاريخ إلى الشام،
كما ورد في هذين
النقلين:(وفي أوّله-
أي أوّل صفر- أدخل رأس
الحسين عليه السلام إلى
دمشق وهو عيد عند بني
أميّة)23.
وقال الكفعميّ (وفي
أوّله (صفر) أدخل رأس
الحسين إلى دمشق وهو عيد
عند بني أميّة)24.
وفي بعض المقاتل يقول:(وقد
كان عبيد الله بن زياد
لمّا قتل الحسين عليه
السلام بعث زجر بن قيس
الجعفيّ إلى يزيد بن
معاوية يخبره بذلك)25.
الشاهد الثاني:
حسب المنقولات الواردة,
في كثير من كتب التاريخ،
ومنها: الفتوح لابن أعثم,
ومقتل الخـــوارزميّ،
فــإنّ زجـــر بـــن
قيـــس قد حمل رأس الإمام
عليه السلام إلى الشام
ليبلغ يزيد خبر انتصار
ابن زياد. هذه المصادر
تؤيّد مسألة إرسال رأس
الإمام عليه السلام قبل
قافلة الأسرى، وممّا ورد
فيها:(وسبق زجر بن قيس
الجعفيّ برأس الحسين إلى
دمشق حتّى دخل على يزيد
مسلماً عليه ودفع إليه
كتاب عبيد الله بن زياد،
فأخذ كتاب عبيد الله
فوضعه بين يديه ثمّ قال:
هات ما عندك يا زجر...
قال: ثمّ أتى بالرأس حتّى
وضع بين يدي يزيد بن
معاوية في طشت من
الذهب...)26.
الشاهد الثالث:
هنـــاك نقــل آخر يروي
حكاية إرســال الــرأس
المقــدّس للإمـــام عليه
السلام بوساطة محضر بن
ثعلبة.. فهنا حتّى لو كان
حامل الرأس الشريف شخصاً
آخر، فهو يؤيّد- حسب
ظاهره- مسألة إرسال رأس
الإمام عليه السلام قبل
قافلة الأسرى:(وقدم
رأس الحسين محفز (مخفر)
بن ثعلبة العائذيّ على
يزيد فقال: أتيتك يا أمير
المؤمين برأس.. (كذا
وكذا)، فقال يزيد: ما
ولدت أمّ محضر أحقر وألأم)27.
الشاهد الرابع:
وأخيراً، فإنّ أحد
الشواهد التي تدلّ على
عدم مرافقة الرأس الشريف
للإمام عليه السلام مع
قافلة الأسرى، هو حكاية
مجلس يزيد، وقد نقل ذلك
المجلس على هذا النحو:(ثمّ
أدخل نساء الحسين عليه
والرأس بين يديه، فجعلت
فاطمة وسكينة ابنتا
الحسين تتطاولان لتنظرا
إلى الرأس، وجعل يزيد
يتطاول ليستر عنهما
الرأس، فلمّا رأين الرأس
صحْن)28.
النقطــة المهمّة التي
نستفيدها من هذا النقل
هي: أنّ محاولة بنات
أبي عبد الله عليه السلام
لرؤية رأس أبيهنّ
المقطوع، وصراخهنّ عند
مشاهدته يدلّ على عدم
مرافقة الرأس المقدّس
للإمام عليه السلام
لقافلة الأسرى؛ لأنّ
الرأس الشريف لو كان
معهنّ على طول مسافة
الطريق، وكان رأس أبيهنّ
عليه السلام دائماً تحت
أنظارهنّ فهذا يعني
أوّلاً: أن لا يبذلن
الجهد حتّى يرينه في مجلس
يزيد. وثانياً: عند
مشاهدة الرأس الشريف لا
داعي لفقدان الصبر والبدء
بالصراخ.
ومن هنا، فإنّه من الصعب
جدّاً القبول بأنّ رؤوس
الشهداء ورأس الإمام
الحسين عليه السلام كانت
مرافقة لقافلة النساء
والأطفال إلى الشام, بحيث
كان الأسرى والرؤوس تعرض
في كلّ مدينة يصلون
إليها، ثمّ نقول بأنّ
أولاد سيّد الشهداء لم
يشاهدوا الرأس المقدّس
لأبيهم عليه السلام على
طول ذاك المسير!!
هذا بالإضافة- كما مرّ
سابقاً- إلى أنّ التقليد
المعروف في ذاك الزمان,
كان بإرسال رأس قائد
الأعداء بعد الإنتصار في
الحرب، مع رسول إلى أمير
القوم وزعيمهم, كي تصل
إليه بشارة النصر بسرعة
وقبل أي خبر آخر، ليتّخذ
التدابير اللازمة، ولا
يكون هذا الأمير هو آخر
من يطلع على هذا الأمر
المهم.
في النتيجة لا يمكن
القبول ظاهراً، بأنّ دخول
الأسرى إلى الشام كان في
اليوم الأوّل من صفر؛
لأنّ الحبس في الكوفة
لمدّة أسبوعين، والبقاء
على الطريق من الكوفة إلى
الشام لمدّة أسبوعين
آخرين سينفي أي احتمال
لوصولهم إلى الشام في
أوّل صفر.
4- المدّة التي بقي فيها
أهل بيت الإمام في
الشام:من الأمور
المتعلّقة مباشرة بمسألة
وصول أهل بيت سيّد
الشهداء, في اليوم
الأربعين إلى كربلاء,
معرفة مقدار إقامتهم في
الشام. وكما أنّه, في
الموارد السابقة, كان
هناك شكّ وتردّد، هذه
المسألة أيضاً لا يقين
فيها، بل إنّ اختلاف
الأقوال والآراء هنا أكثر
من اختلافها هناك.
من أجل بيان الآراء
المرتبطة بمقدار إقامتهم
في الشام يمكن الإشارة
إلى الأمور الآتية:
1- بقاء قافلة الأسرى في
الشام لمدّة ثمانية أيّام29.
2- يروي القاضي النعمان
بقاءهم في مكان بلا سقف
لمدّة شهر ونصف بالإضافة
إلى الأيّام السبعة التي
بقوا خلالها في بيت يزيد,
يقيمون مجالس العزاء:(وقيل:
إنّ ذلك بعد أن أجلسهنّ
في منزل لا يكنهنّ من برد
ولا حرّ فأقاموا فيه
شهراً ونصف حتّى أُقشرت
وجوههنّ من حرّ الشمس ثمّ
أطلقهن)30.
يؤيّد المحدّث النوريّ
هذا القول، ويعتقد بأنّ
إقامة أهل البيت في دار
يزيد لمدّة عشرة أيّام هي
غير مدّة الحبس في مكان
دون سقف لا يمنع من حرّ
ولا برد31.
3- ذكر ابن طاووس أيضاً,
في إقبال الأعمال, مدّة
إقامتهم شهراً كاملا ً32.
وكذلك المرحوم الطبسيّ
النجفيّ اعتبر إقامتهم في
حبس الشام لا يقلّ عن شهر
تامّ، فهو ينقل في كتابه:
(إنّ ظاهر عدّة
التواريخ أنّ توقّفهم في
الشام لا يقلّ عن شهر)33.
4- هناك قول آخر يعتقد
أنّ إقامتهم امتدّت لستّة
أشهر، والسيّد ابن طاووس
يذكره من دون قائل34.
5- إنّ بعض الروايات
المنقولة تدلّ على أنّ
الإقامة استمرّت ثمانية
عشر يوماً35
أو خمسة وأربعين يوماً36
أو سنة كاملة.. وهذا
طبعاً من الأقوال النادرة
والشاذّة.
إنّ هذه المسألة عند
الشيعة الإماميّة يلفّها
الإبهام والغموض؛ لأنّهم
من ناحية, هم يوافقون
الآراء التي تتحدّث عن
الحبس الطويل لأهل البيت
عليهم السلام في مكان لا
سقف له، ولا يحفظ من حرّ
ولا برد، بل يصرّحون بأنّ
وجوه أهل بيت الإمام عليه
السلام قد تغيّر لونها,
وجلودهم قد تقشّرت، ولكن
من ناحية أخرى لإثبات
وصول قافلة الأسرى إلى
كربلاء في الأربعين
الأوّل نراهم يتحدّثون عن
توقف قصير في بلاد
الشام!! وهذان الأمران لا
يتوافقان أبداً، وقد
عقّدت هذه المسألة الأمر
على أتباع الإماميّة
أكثر.
طبعاً الرجوع إلى الأخبار
المرتبطة بإقامة قافلة
سيّد الشهداء في الشام
يورثنا تقريباً الإطمئنان
بأنّ إقامتهم لم تكن
بمقدار ثمانية أو عشرة
أيّام، لأنّه: أوّلاً:
الإقامة في مكان لا يمنع
حرّاً ولا برداً إلى حدّ
أنّه يغيّر وجوه المقيمين
فيه، ويحرق جلودهم، لا
يمكن أن يكون لمدّة
قصيرة، وحسب النقل
المعتبر فإنّ قافلة
الأسرى انتقلت إلى بلاد
الشام على مراكب لا هودج
لها، ووجوههنّ أيضاً كانت
مكشوفة، فإذا كانت
وجوههنّ ستحترق وجلودهنّ
ستنسلخ فيجب أن يحصل ذلك
من قطع الطريق، وليس من
المدّة القصيرة التي
قضوها في مكان لا سقف له.
ولكن بسبب الأخبار
المعتبرة المتعدّدة جعلوا
علّة تغيّر الوجوه
والجلود عند أهل بيت
الإمام عليه السلام هي
المدّة الطويلة التي
أقاموها في الحبس، وهذا
هو أحد الأهداف التي
أرادوا بيانها من خلال
تبدّل الوجوه والجلود. من
خلال هذا يمكن لنا أن
نأخذ فائدة أيضاً, وهي
أنّ مسير قافلة الأسرى لم
يكن من بادية الشام
المحرقة, وإلّا كانوا
سينسبون تبدّل الجلود
والوجوه إلى المسير من
الكوفة إلى الشام.
وكذلك إنّ إضافة السكن
الذي أتاحه يزيد في دارته
لمدّة سبعة أيّام لأجل
العزاء, وضمّها إلى ذلك
الحبس الطويل، وأيضاً
تفويض الأمر لأهل البيت
ليختاروا بين الإقامة في
الشام وبين الرجوع إلى
المدينة واختيارهم
الرجوع، ثمّ الزمان
اللازم من أجل تجهيز
القافلة لانتقال عيال
سيّد الشهداء عليه السلام
من الشام إلى مكان أبعد
من الكوفة- وهو المدينة-
كلّ واحد من هذه الأمور
يحتاج إلى وقت خاصّ يضاف
إلى مجموع الأزمنة
المذكورة سابقاً. ومن هنا
يظهر أنّ إقامة الأسرى في
الشام لمدّة ثمانية أيّام
أو عشرة منها, ليس
مطابقاً للواقع، واختيار
هذا الرأي بعيد عن
التحقيق.
إنّ تبدّل سلوك يزيد مع
الرأس المقدّس للإمام
عليه السلام ومع عياله،
يعني أنّ ذاك التغيّر في
سلوكه إنّما حصل خلال
مدّة معتدّ بها؛ لأنّ
يزيد باعتبار أنّه
الخليفة والحاكم المطلق
لبلاد الإسلام لا يستطيع
أن يغيّر من سلوكه القاسي
الذي يوجد فيه الطعن
والشتم والأذى لعيال سيّد
الشهداء عليه السلام خلال
أيّام قليلة وبسهولة،
ليصبح ودوداً وعطوفاً
حتّى مع الإمام السجّاد
عليه السلام.
وللتوضيح نقول:
إنّ يزيد في البــداية
تجــرّأ علـــى الرأس
المقدّس لسيّد الشهداء
عليه السلام في مجالس
متعدّدة، وقام بمحاولة
إذلال وإهانة عيال الإمام
عليه السلام من أجل إطفاء
نار الحقد والعداوة تجاه
آل محمّد صلى الله عليه
واله وسلم، ولهذا تعامل
معهم من دون
أيّة
رأفة، وسجنهم في مكان غير
لائق ولا سقف له، ولكن
عندما وجد أنّ الأوضاع
غير ملائمة ومضطربة،
وشاهد انتقاد الناس
ونفورهم- حتّى المقرّبين
منه- بدأ بتغيير سلوكه
تدريجيّاً ليمتصّ غضب
الناس وانتقاداتهم، فأسكن
أسارى آل محمّد صلى الله
عليه واله وسلم في منزله
وأجلس الإمام السجّاد
عليه السلام على مائدته
وسمح لهم بإقامة مجالس
العزاء لسيّد الشهداء
عليه السلام وأصحابه
الأوفياء، وفي النهاية
تعامل بلطف وعطف مع
الإمام السجّاد عليه
السلام، ووضع وزر قتل
سيّد الشهداء عليه السلام
في رقبة ابن زياد، وبرّأ
نفسه من هذه الجناية
الكبيرة.
من المعلوم أنّ يزيد
يحتاج إلى مدّة من الزمن
كي يتنبّه إلى أخطائه
ويقيّم الأوضاع الجارية،
وكذلك تغيير سلوكه بعد
اكتشاف تلك الأخطاء يلزمه
وقت كافٍ أيضاً. فهو
عندما رأى أنّ العداوة
الزائدة مع حرم النبيّ
صلى الله عليه واله وسلم
أخذت تزلزل أركان حكمه،
غيّر من سلوكه وأيقن
حينها بلزوم اتباع طريقة
أبيه معاوية باستعمال
الحيلة والنفاق ليستطيع
السيطرة على الأوضاع،
ولمنع أيّ اضطرابات
وتحرّكات شعبيّة. لهذا
بدأ تدريجيّاً, من خلال
التعامل بلطف مع أهل بيت
سيّد الشهداء وإسكانهم في
قصره والسماح لهم بإقامة
مجالس العزاء الحسينيّ،
بتغيير أفكار الناس
اتجاهه لمنع أيّ فوضى من
قبلهم.
طبعاً بعد تسكين نار
كبريائه، وبعد إدراكه
عظيم الفاجعة التي كان قد
ارتكبها، ومن أجل أن يمنع
ظهور أيّة فوضى عامّة, أو
انتقادات في الشام وفي
غيرها من البلاد، كان
يزيد- ومن خلال التسامح
مع الأسرى وإظهار الحزن
لهم- قد وضع ثقل الجـريمة
على عاتق ابن زياد،
واضطرّ أن يحتفــظ
بأهـــل بيـــت الإمــام
الحسين عليه السلام عنده
مدّة من الزمن مع كلّ
تكريم واحترام، وأن يأمر
الجميع باحترامهم
وتقديرهم طبعاً. كلّ هذا
كان من أجل أن يضبط
الأوضاع في البلاد. ولهذا
فإنّ إرجاع عوائل الأسرى
إلى المدينة, قبل أن يزول
حزن المصائب عنهم، وقبل
أن يستريحوا من مشاق
الأسفار الطويلة والبعيدة
من مكّة إلى كربلاء ومن
كربلاء إلى الشام, لن
يكون ذلك إلّا سبباً
لظهور التحرّكات الشعبيّة
والإضطرابات والثورة في
أنحاء وأطراف بلاد العالم
الإسلاميّ.
طبعاً نحن لا ننكر أنّ
يزيد- حتّى في حال كان
أهل بيت النبيّ صلى الله
عليه واله وسلم محتجزين
في
بيت لا يحميهم من حرّ ولا
برد- كان يستطيع أن يحتال
وينافق مع الناس ويقول
لهم: إنّ أهل بيت النبيّ
صلى الله عليه واله وسلم
قد نزلوا ضيوفاً مكرّمين
في بيته الخاصّ.
على كلّ حال، إنّ يزيد-
وإن كان لا يستطيع أن
يبقي حرم نبيّ الإسلام في
الشام, بحيث تتحرّك مشاعر
المسلمين هناك- ولكن هو
يستطيع أن يبقيهم, ولو
مضطرّاً, بحالة الإحترام
والتكريم في الشام, ويظهر
لهم أيضاً الأسى والحزن
على ما أصابهم. كلّ ذلك
من أجل منع اشتعال فتيل
الغضب لمحبّي أهل البيت
عليهم السلام ولتسكين
سخطهم, ولضبط أوضاع
البلاد. ثمّ بعد أن تهدأ
الأجواء نسبيّاً، وتمحى
مصيبة سيّد الشهداء من
أذهان عامّة الناس، عندها
يرجع أهل بيت الإمام عليه
السلام إلى المدينة.
فالنتيجة التي نصل إليها:
أنّ يزيد ليس فقط يستطيع
إبقاء أهل البيت عليهم
السلام بهذه الوضعيّة
المكرّمة في الشام، بل هو
مضطرّ أيضاً ليقوم بذلك
حتّى تعود المياه إلى
مجاريها ويعمّ الهدوء في
المجتمع؛ لأنّ إرسال حرم
سيّد الشهداء- في حال أنّ
آثار العزاء لا زالت على
وجوههم، والغمّ والأسى
يموجان في قلوبهم، والبغض
يضغط على خناقهم- يعتبر
أمراً مستغرباً، وهو بعيد
عن كلّ وعي سياسي. ومن
الواضح أنّ هذا الأمر
سيهيّئ أجواء التحرّك
الشعبي والفوضى في
المناطق التي يمرّ فيها
أهل البيت عليهم السلام
أثناء رجوعهم إلى المدينة
المنوّرة، ويجعل الأوضاع
أيضاً غير آمنة حتّى
بالنسبة إلى الحكومة
المركزيّة.
فإذاً بقاء أهل البيت في
الشام لمدّة أكبر ممّا هو
مشهور (ثمانية أو عشرة
أيّام) يعتبر تقريباً
أمراً قطعيّاً، والشواهد
التاريخيّة أيضاً تدلّ
عليه.
ثمّ إنّ تسلسل الأحداث
التي وقعت في الشام, تورث
الإنسان اطمئناناً بأنّ
هذه الوقائع لا يمكن أن
تحصل خلال ثمانية أيّام
فقط، ونحن هنا نستعرض هذه
الأحداث ونترك الحكم على
عهدة القارئ المحترم:
1- وصول الرأس المقدّس
لسيّد الشهداء إلى الشام
في الأوّل من صفر، ووجود
بعض الشواهد الدّالة على
وصول قافلة الأسرى في ما
بعد ذلك التاريخ.
2- مجلس يزيد في اليوم
الأوّل لوصول الأسرى إلى
الشام، والذي يوجد شواهد
كثيرة تدلّ على أنّه لم
يكن أوّل صفر، بل بعده
بأيّام كثيرة.
3-
السّجن لمدّة طويلة في
مكان بلا سقف, ولا يحمي
من برد ولا حرّ.
4- خطاب الإمام السجّاد
عليه السلام في المسجد
الأمويّ بعد الكلام الذي
ألقاه خطيب يزيد.
5- المجالس التي حصلت بعد
ذلك بين الإمام السجّاد
عليه السلام وبين يزيد.
من الواضح أنّ تهيئة
الأجواء ليسمح للإمام
السجّاد عليه السلام
بإلقاء الخطابة في المسجد
الأمويّ، أو مشاركة
الإمام عليه السلام في
مجالس يزيد, يحتاج إلى
وقت وزمان معتدّ به.
6- إحضار يزيد الإمام
السجاد عليه السلام إلى
مائدته، وكذا المجلس الذي
طلب فيه يزيد من ابن
الإمام المجتبى عليه
السلام لمنازلة ابنه
بالقتال.
7- المجالس التي أقامها
يزيد مع أعوانه، وقد وضع
رأس الإمام عليه السلام
أمامه، ثمّ أخذ يتناول
الخمر37.
8- إسكان أهل البيت في
دار يزيد، وإقامة مجالس
العزاء فيه لمدّة أسبوع
كامل.
9- لقاء المنهال مع
الإمام السجّاد عليه
السلام في سوق الشام,
والذي يعني أنّ الأسرى قد
بقوا مدّة طويلة نسبيّاً
في الشام؛ لأنّ الإقامة
فيها لو كانت لمدّة
قصيرة, لما كان حضور
الإمام عليه السلام إلى
السوق والملاقاة مع
المنهال مفهوماً.
10- الوقت اللازم لتهيئة
القافلة للسفر من الشام
إلى المدينة، وهو سفر
طويل جدّاً..
11- دفع يزيد ديات قتل
الشهداء وقصاص سفك دماء
أهل البيت عليهم السلام،
والإعتراض الشديد من قبل
فاطمة بنت الحسين عليه
السلام.
12- تغيير مسلكيّة يزيد-
180°- وتبديل العداوة
الواضحة تجاه الحسين بن
عليّ وأبيه العظيم عليّ
ابن أبي طالب عليه السلام
إلى التودّد مع العطف،
وتفقّد أحوال الإمام
السجّاد عليه السلام وأهل
بيت الحسين عليه السلام.
طبعاً، ما ذكرناه حتّى
الآن, هو الوقائع الواردة
في كتب التاريخ، ولكنّنا
على
يقين
من أنّ هناك حوادث أخرى
قد حصلت, إلّا أنّ
المؤرّخين لم يذكروها
رعاية للاختصار.
الآن يستطيع القارئ
المحترم أن يجيب عن
السؤال الآتي: هل يمكن
لهذه الوقائع, بحسب
العادة, أن تتحقّق خلال
ثمانية أو عشرة أيّام؟ أم
أنّها تتطلّب زماناً
أطول؟
وهناك نقطة أيضاً يجب
الإلتفات إليها؛ وهي
مراعاة حال ووضع أهل بيت
سيّد الشهداء عليه السلام، فالقافلة التي تتألّف
من عشرين امرأة وخمسة عشر
طفلاً، وقد أُخذوا أسرى
وضُربوا في حال من الأسى
والمصيبة, وقضوا أيّاماً
طويلة في السفر إبتداءً
من الثامن من ذي الحجّة
إلى أوائل شهر صفر, أي ما
يقرب من شهرين، وتحمّلوا
أقسى الظروف الجسديّة
والنفسيّة وأشدّها.. فهل
يمكن بعد مدّة قصيرة تبلغ
ثمانية أيّام أو عشرة
أقاموها في الشام- وهذه
أيضاً أيّام عصيبة ومؤذية
وشديدة،لم يحصّلوا فيها
قسطاً من الراحة ولم
يخلصوا بعد من عناء
الأسفار- هل يمكن لهم أن
يتهيّأوا للرحيل وأن
يبدأوا المسير من جديد
نحو المدينة؟!!
طبعاً هذه الأمور لن
تشكّل برهاناً قاطعاً
لإثبات الإقامة الطويلة
في الشام، ولكنّها
بالتأكيد هي قرائن وشواهد
يمكن لها أنّ تقرّبنا
أكثر نحو الحقيقة.
أمّا في ما يرتبط بزمان
خروج القافلة من الشام,
فمع الإلتفات إلى ما مرّ
سابقاً, لا يمكننا أن
نحدّد تاريخاً مؤكّداً
إلّا إذا اعتمدنا على بعض
المنقولات التي تجعل يوم
خروج أهل البيت من الشام
هو يوم العشرين من صفر.
مثلا ًيقول الشيخ الطوسيّ
في مصباح المتهجّد:(وفي
اليوم العشرين منه (صفر)
كان رجوع حرم سيدنا أبي
عبد الله الحسين بن عليّ
بن أبي طالب عليه السلام
من الشام إلى مدينة
الرسول صلى الله عليه
واله وسلم)38.
بعض المصادر الأخرى أيضاً
تؤيّد هذ القول،
وعباراتها شبيهة بما ذكر
في المصباح
39, لكن صاحب
كتاب (مع الركب الحسينيّ)
بعد نقل هذه الأقوال,
يحمل
معناها على زمان الخروج
من الشام, لا زمان الوصول
إلى المدينة40.
طبعاً، وكما مرّ معنا
سابقاً، إنّ إقامة أهل
البيت في الشام كانت
طويلة. وأمّا القول بأنّ
خروجهم من الشام كان في
العشرين من صفر, فهو لا
يتوافق مع أيّ قول من
الأقوال السابقة التي
تبيّن لنا مدّة إقامتهم
في الشام، ولهذا يبقى هذا
الرأي الأخير أيضاً في
دائرة الغموض والإبهام.
5- التوجّه إلى كربلاء
والوصول إليها في
الأربعين الأوّل:المسألة
الأخيرة- التي لها ارتباط
بالأربعين, وإقامة العزاء
عند المرقد الشريف في ذلك
اليوم, من قبل أهل بيت
سيّد الشهداء, هي قصد
التوجّه إلى كربلاء أثناء
الرجوع إلى المدينة، ثمّ
الوصول إلى هناك في يوم
الأربعين.
هذه المسألة يمكن لنا
أن نلخّصها من خلال
الإجابة عن الأسئلة
الآتية:
1- في الواقع: هل يمكن
القول بأنّ ركب سيّد
الشهداء كانوا قاصدين
التوجّه إلى كربلاء
أوّلاً, ثمّ يرجعون إلى
المدينة؟
2- هل كان ذلك القصد إلى
كربلاء موجوداً عندهم,
منذ البداية, أم أنّه حصل
أثناء المسير بحيث أنّهم
كانوا متّجهين إلى
المدينة إبتداءً, ثمّ
أثناء الطريق بدّلوا
مسيرهم نحو طريق كربلاء؟
3- هل يمكن لحرم سيّد
الشهداء عليه السلام أن
يتّجهوا إلى المدينة من
دون أن يعرّجوا على
كربلاء أوّلاً؟
4- إذا كان مقصودهم هو
كربلاء, ففي أيّ يوم
وصلوا إليها؟ هل وصلوا في
الأربعين الأوّل أم في
الأيّام المتأخّرة عن
الأربعين؟
هذه هي الأسئلة التي يمكن
طرحها هنا، والإجابة عنها
لن تكون سهلة بسيطة؛
لأنّه لا يوجد بين أيدينا
أخبار موثّقة ومن دون أيّ
معارض، تعطي إجابات عن
هذه الأسئلة الواردة
معنا.
إنّ صاحب كتاب (التحقيق
حول أربعين سيّد الشهداء
عليه السلام) ليس فقط
من
المؤيّدين لوصول أهل بيت
الحسين عليه السلام إلى
كربلاء واللقاء مع جابر
هناك، بل هو أيضاً من
المتشدّدين في موضوع رأس
سيّد الشهداء عليه السلام
وإلحاق الرأس الشريف
ببدنه الطاهر على يد
الإمام السجّاد عليه
السلام في يوم الأربعين،
فهو بعد النقل والبحث حول
الأقوال المختلفة
المرتبطة بمسألة دفن
الرأس المقدّس في عسقلان
أو مصر أو النجف أو
كربلاء، يستنتج ويقول:
(والحاصل: أنّ القول
الصحيح هو ما قاله علماء
الإماميّة وعملوا به، وهو
أنّ الإمام السجّاد حمل
معه الرأس المقدّس مع
رؤوس الشهداء إلى كربلاء,
وإن لم يكن هناك يقين
بأنّ كلّ رؤوس الشهداء قد
حُملت, ولكن الرأس الشريف
لأبي عبد الله عليه
السلام كان حتماً مع
الإمام السجّاد، برفقة
مخدّرات الرسالة
والطهارة، وقد ألحقه
بالجسد الأطيب الأطهر في
كربلاء في العشرين من صفر
يوم الأربعين من سنة
(61).. وأمر أيضاً بدفن
رؤوس الشهداء هناك41.
وفي مورد آخر أيضاً يقول:
(إنّ الإمام السجّاد
عليه السلام قطعاً قد حمل
معه الرأس المقدّس لسيّد
الشهداء عليه السلام وفي
يوم الأربعين- العشرين من
صفر- ألحقه بالجسد الأطهر
الأطيب)42.
إنّ أهمّ الأدلّة بالنسبة
إلى هذه الدعوى, هو رواية
عطيّة، مع أنّ هذه
الرواية- بحسب نقل كتاب
(بشارة المصطفى)- لم تذكر
شيئاً عن لقاء جابر
الأنصاريّ مع الإمام عليه
السلام ومع ركب الأسرى،
بل صرّحت فقط بزيارة جابر
للقبر الشريف لسيّد
الشهداء عليه السلام.
ولكن صاحب كتاب (التحقيق
حول الأربعين) يدّعي بأنّ
رواية عطيّة نُقلت مقتطعة
من كتاب (بشارة المصطفى),
وأمّا في المصدر الأساس
فهي تنصّ على وصول قافلة
الأسرى إلى كربلاء في يوم
الأربعين، وتصرّح بلقاء
جابر مع الإمام السجّاد
ومع ركب السّبايا43.
ولكن يمكننا نحن الردّ
عليه بالقول
1- إنّ تقطيع الرواية
ونقصها في (بشارة
المصطفى) لا يستند إلّا
إلى السيّد
الأمين الذي كان من
العلماء المتأخّرين، ولا
يمكن فرض التقطيع في
الرواية لمجرّد ادّعاء
ذلك.
2- نحن لا نجد في رواية
عطيّة أيّ إشارة ليوم
الأربعين؛ لأنّه من
الممكن أنّ جابر قد ذهب
إلى القبر الشريف للإمام
الحسين عليه السلام مرّات
عديدة خلال إقامته في
الكوفة، وفي واحدة منها
كان عطيّة قد رافقه فيها.
لا سيّما وأنّه يمكن
الاستفادة من أوّل روايته
أنّ خروجهما إلى كربلاء
كان من مكان قريب لا بعيد
مثل المدينة المنوّرة.
فأوّل الرواية هكذا ورد:(خرجــت
مــع جابـــر بن عبد الله
الأنصاريّ, رضي الله عنه,
زائراً قبر الحسين عليه
السلام فلمّا وردنا
كربلاء...).
من الواضح جدّاً، أنّه لو
كان عطيّة يريد من
(الخروج) الخروج من
المدينة, لم يكن ليختصر
كلامه بهذا الشكل، بل كان
حتماً سيذكر شيئاً عن
المدينة المنوّرة, أو عن
بعد السفر, أو بعض
الوقائع التي حدثت أثناء
المسير.
ومن المهمّ, في رواية
عطيّة, معرفة أنّ الراوي
(وهو عطيّة) من أهل
الكوفة، وقد صرّح بذلك
السيّد القاضي