عبد الله بن جعفر وثورة
كربلاء1
تمهيد
عبد الله بن جعفر بن أبي
طالب من جملة الشخصيّات
المعروفة في التاريخ
الإسلاميّ, وهو واحد من
الأصحاب المقرّبين من
أئمّة الشيعة الأوائل.
أدرك رسول الله صلى الله
عليه واله وسلم وروى عنه.
ويحتلّ عبد الله مكانة
مرموقة لدى مؤرّخي الشيعة
والسنّة حيث يذكره الجميع
بمزيد من الإحترام. نُقلت
عنه روايات عديدة. ومع
أنّ عبد الله من أصحاب
الإمام الحسين عليه
السلام الخواصّ
والمقرّبين منه ومن
الوجوه الهاشميّة
البارزة، إلّا أنّه لم
يشارك في ثورة كربلاء.
اختلفت الآراء حول علّة
عدم مشاركته في ثورة
كربلاء, وهذا ما سنبحثه
في هذا المقال الذي بين
أيدينا.
المقدّمة
عبد الله بن جعفر بن أبي
طالب أوّل مولود للإسلام
في أرض الحبشة وأكبر
أبناء جعفر الطيّار. ولد
في السنة الثالثة للبعثة.
كان له من العمر عشر
سنوات عندما هاجر رسول
الله إلى المدينة، وتوفّي
عام 80 هـ ق (مع بعض
الإختلافات في سنة وفاته)
عن عمر ناهز التسعين
عاماً ودفن في المدينة أو
في الأبواء2.
المشهور عن عبد الله بن
جعفر أنّه شخص فاضل جواد
كريم. لقب في التاريخ
الإسلاميّ
بـ "الجواد،
وبحر الجود وقطب السخاء"3.
كان محلّ احترام عند رسول
الله صلى الله عليه واله
وسلم والإمام عليّ
لقرابته ومقام والده
العظيم عندهما. وبعد
شهادة والده أتى رسول
الله صلى الله عليه واله
وسلم إلى منزله يتفقّد
أحوال أبنائه ويشملهم
بعطفــه وحنــــانـــه
ثمّ قــال صلى الله عليه
واله وسلم: "أنا
إمامهم في الدنيا والآخرة",
وقال: إنّ عبد الله شبيهي
في خلقي, وقد دعا له
النبيّ صلى الله عليه
واله وسلم أيضاً في بعض
الأيّام, قائلاً: "أللهمّ,
اخلف جعفراً في أهله
وبارك لعبد الله في صفقة
يمينه"4.
كان الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام والأئمّة
الآخرون يستشيرون عبد
الله بن جعفر في الصلح
والحرب حيث كان مورد ثقة
عندهم. وكان في حرب صفّين
أحد قادة جيش الإمام علي
عليه السلام5
وهو من الشهود الذين
أرسلهم الإمام عليّ عليه
السلام في مسألة التحكيم.
كان الإمام عليّ عليه
السلام يستشيره في عزل
وتنصيب القادة6.
وكان إلى جانب الإمام
عليّ عليه السلام عند
إبعاد أبي ذرّ إلى الربذة
حيث قام بتوديعه7.
وأجرى الحدّ على الوليد
بن عقبة بأمر من الإمام
عليه السلام
8. وحضر غسل
وتكفين الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام حيث
جرى ذلك ليلاً, بعيداً عن
أعين الناس ودون علمهم9.
وقف عبد الله إلى جانب
الإمام الحسن عليه السلام
بعد شهادة الإمــــام
أميـــر المؤمنــين عليه
السلام. وكان من جملة
الأشخاص الموكلين الدفاع
عن حرم أهل البيت عليه
السلام عند حركة جيش
الإمام نحو جيش معاوية.
أظهر في كثير من الأحيان
العشق والحبّ والتعلّق
بالإمام الحسين عليه
السلام ، وعندما أراد
معاوية10
خطبة ابنة عبد الله بن
جعفر (أمّ كلثوم)
ليزيد أجابه بأنّ لنا
أميراً لا نفعل شيئاً من
غير إذنه
11, وبهذا
النحو
وضع أمر تزويج ابنته إلى
الحسين بن عليّ.
وعبد الله بن جعفر من
جملة الأشخاص الذين
تمسّكوا بحديث الغدير
لإثبات ولاية الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام
وأدرج اسمه بين رواة حديث
الغدير12.
وتدلّ مناظراته
واحتجاجاته القاطعة في
الدفاع عن الولاية, على
إيمانه واعتقاده الكامل
بالإمامة والولاية. كان
لا يخشى إنساناً في قول
الحقّ, وتحدّث مراراً, في
مجلس معاوية, موضحاً
حقانيّة أهل البيت وعدم
شرعيّة حكومة بني أميّة13.
وقد سجّل التاريخ
مناظراته العديدة مع بني
أميّة. وكانت طريقته
المهمّة في العمل
السياسيّ هي الإمتناع عن
بيعة يزيد. وكان معاوية
قد كتب له:"أمّا بعد,
فقد عرفت أثرتي إيّاك على
من سواك وحسن رأيي فيك
وفي أهل بيتك، وقد أتاني
عنك ما أكره، فإن بايعت
تُشكر وإن تأب تُجبر".
أجاب عبد الله: "أمّا
بعد, فقد جاءني كتابك
وفهمت ما ذكرت فيه من
أثرتك على من سواي، فإن
تفعل فبحظّك أصبت، وإن
تأب فبنفسك قصّرت. وأمّا
ما ذكرت من جبرك إيّاي
على البيعة ليزيد، فلعمري
لئن أجبرتني عليها لقد
أجبرناك وأباك على
الإسلام حتّى أدخلناكما
كارهين غير طائعين"14.
عندما انتقل معاوية, عام
50 هـ ق إلى المدينة لأخذ
البيعة ليزيد, التقى
بكبار القبائل وبشكل خاصّ
مع بعض الشخصيّات ومنهم:
عبد الله بن عبّاس، عبد
الله بن جعفر، عبد الله
بن عمر وعبد الله بن
الزبير. حيث دعاهم إلى
البيعة ليزيد، وقد تحدّث
عبد الله بن جعفر بحديثٍ
قاطعٍ وحاسمٍ فضح فيه
مخطّطات معاوية, ورفض
إعطاء البيعة ليزيد,
وأكّد على حقّانيّة أهل
البيت عليهم السلام
بالولاية والخلافة15.
ومن هنا فإنّ المواقف
السياسيّة لعبد الله
ومخالفته لبني أميّة دليل
واضح على اعتقاده الراسخ
بضرورة مواجهة ومحاربة
الأمويّين.
وبما أنّ عبد الله من
جملة خواصّ الشيعة ومن
المقرّبين إلى أهل البيت
عليهم السلام،
فإنّ
مطالعة حياته وسيرته تحوز
أهميّة خاصّة. وفي هذا
الخصوص أحيط عمله
المتعلّق بنهضة الإمام
الحسين عليه السلام بهالة
من الإبهام. والحقيقة أنّ
السؤال الذي ما زال يطرق
أذهان الباحثين هو, لماذا
لم يشارك عبد الله بن
جعفر في ثورة عاشوراء ولم
يلتحق بركب الإمام الحسين
عليه السلام؟ وقد قدّم
الباحثون أسباباً وآراءً
مختلفة في تعليل عدم
حضوره كربلاء, وعدم
مرافقته الإمام الحسين
عليه السلام. وحاول
بعضهم- من خلال شواهد
تاريخيّة عدّة- تقديم
إجابات بنحوٍ لا تمسّ ولا
تخدش بإيمان عبد الله
واعتقاده ووفائه للإمام
الحسين عليه السلام.
ويعتقد آخرون أنّ رأي عبد
الله بن جعفر في خصوص
ثورة كربلاء يختلف عن رأي
الإمام الحسين عليه
السلام؛ ولذا لم يرافق
الإمام عليه السلام.
ويعتمد كلا الرأيين على
شواهد وقرائن تاريخيّة
سنتعرض لها في ما يأتي.
أ-
الشواهد والقرائن
التاريخيّة الدالّة على
موافقة عبد الله على
النهضة الحسينيّة.
1- إرسال زوجته
وأبنائه برفقة الإمام
الحسين عليه السلام.
إنّ الذي يمكنه أن يوضح
موقف عبد الله من حركة
الإمام الحسين عليه
السلام إرسال عائلته في
قافلة الإمام عليه
السلام. كيف يمكن لشخص
مخالف للثورة ولا يعتقد
بها أن يرسل في ركابها
أعزّ الناس إليه، لا بل
ويشجّعهم على ذلك؟ من
المؤكّد أنّه لو كان عبد
الله بن جعفر مخالفاً
لثورة الإمام الحسين عليه
السلام ولمواجهة بني
أميّة، فإنّه لن يقدّم
أبناءه قرابين في هذا
الطريق, مع العلم أنّه
أرسل زوجته زينب الكبرى
وولديه: عوناً ومحمّداً
مع ركب الإمام الحسين
عليه السلام وضحّى بهم
بكلّ سخاء في سبيل إمامهم16.
2-
ردّة فعل عبد الله بن
جعفر بعد شهادة الإمام
الحسين عليه السلام:
تشير ردّة فعل عبد الله
بن جعفر, بعد سماعه نبأ
شهادة الإمام الحسين عليه
السلام وابنيه عون
ومحمّد، إلى إيمانه
واعتقاده بالثورة
الحسينيّة. ويذكر
المؤرّخون أنّه- بعد عودة
قافلة المتبقّين من حادثة
كربلاء ووصولهم إلى
المدينة- أسرع أبو
السلاسل وهو غلام عبد
الله بن جعفر ليخبره
بشهادة ابنيه. استرجع عبد
الله عندما سمع النبأ.
فقال الغلام: هذا ما
لقيناه من الحسين. فحذفه
ابن جعفر بنعله قائلاً:
يا بن اللخناء, أللحسين
تقول هذا؟ والله لو شهدته
لأحببت أن لا أفارقه حتّى
أُقتل معه. والله إنّه
لممّا يسخي بنفسي منهما
ويهوّن عليّ المصاب بهما
أنّهما أصيبا مع أخي وابن
عمّي مواسيين له صابرين
معه.
ثمّ قال: إن لم تكن آست
الحسين يدي فقد آساه ولدي17.
إنّ هذا الكلام لا يترك
مجالاً للشكّ والإبهام
حول رأي عبد الله في ثورة
الإمام الحسين عليه
السلام ويوضح اعتقاد عبد
الله بن جعفر الكبير
بثورة الإمام عليه السلام
ويبيّن أيضاً معرفته
بالنهضة الحسينيّة والقيم
والفضائل التي تركها
الشهداء. لقد تحدّث بوضوح
وشجاعة حول استعداده
للشهادة في ركاب الإمام
الحسين عليه السلام وهذا
يعني أنّ أيّ خوف أو وجل
بعيد عنه.
3- رسالة عبد الله بن
جعفر إلى الإمام الحسين:
يتّضح ممّا تقدّم أصل
اعتقاد عبد الله بن جعفر
بالثورة ضدّ بني أميّة،
ومع ذلك فإنّ من جملة
الأمور التي أدّت إلى
وجود إبهام في المسألة،
رسالته للإمام الحسين
عليه السلام يدعوه فيها
لعدم الذهاب إلى العراق.
بدايةً نذكر رسالة عبد
الله وجواب الإمام,
ثمّ نحاول دراسة وتحليل
الرسالتين:
رسالة عبد الله إلى
الإمام الحسين عليه
السلام:"بسم الله
الرحمن الرحيم... أمّا
بعد, فإنّي أسألك بالله
لما انصرفت حين تقرأ
كتابي هذا, فإنّي مشفق
عليك من هذا الوجه أن
يكون فيه هلاكك واستئصال
أهل
بيتك, إن هلكت اليوم طُفئ
نور الأرض فإنّك علم
المهتدين ورجاء المؤمنين,
فلا تعجل بالسير فإنّي في
أثر كتابي, والسلام"18.
جواب الإمام الحسين عليه
السلام:"أمّا بعد!
فإن ّكتابك ورد عليّ
فقرأته وفهمت ما ذكرت،
وأعلمك أنّي رأيت رسول
الله صلى الله عليه واله
وسلم في منامي فخبرني
بأمر وأنا ماض له، لي كان
أو عليّ، والله يا بن
عمّي لو كنت في جحر هامة
من هوامِّ الأرض
لاستخرجوني يقتلوني,
والله يا بن عمّي ليعدين
عليّ كما عدت اليهود على
السبت, والسلام"19.
يُستفاد من رسالة عبد
الله إلى الإمام الحسين
عليه السلام مطالب عدّة:
1- اعتقاده بمقام الإمامة
وشأنه وعظمته. ويدلّ على
هذا الأمر العبارات التي
ذكرها أمثال: "نور الأرض"
و "علم المهتدين".
2- تعلّقه بالإمام ووفاؤه
له حيث كان خائفاً عليه
ومشفقاً من شهادته وشهادة
أصحابه وأهل بيته عليهم
السلام: "فإنّي مشفق عليك
من هذا الوجه أن يكون فيه
هلاكك واستئصال أهل بيتك"
وكان يخشى من الناحية
الاجتماعيّة والسياسيّة
على وضع العالم الإسلاميّ
ومستقبله بعد شهادة
الإمام الحسين عليه
السلام ويراه عالماً
مظلماً: "إن هلكت طفىء
نور الأرض فإنّك علم
المهتدين ورجاء
المؤمنين".
3- طلبه من الإمام تغيير
أسلوب جهاده. ويفوح من
رسالة عبد الله بن جعفر
للإمام رائحـة المشــاورة
وإرادة الخيـر. وكما أنّ
عبد الله كان يقف إلى
جانب الأئمّة عليهم
السلام المتقدّمين يقدّم
لهم المشورة, كذلك هنا,
فهو في موقع تقديم رؤيته
للإمام عليه السلام حول
طريقة وأسلوب الثورة التي
سينطلق بها. وكان على علم
دقيق بمصير حركة الإمام
إلى العراق, وكان يدرك
جيّداً أنّ هذه الحركة
ستحمل معها شهادة الإمام
عليه السلام وأصحابه. كان
يخشى أن يستشهد الإمام
عليه السلام فينفرط
النظام فيكون العالم
الإسلاميّ في مواجهة حالة
فقدان الإمام والقائد
الإلهيّ. لذلك عمل جاهداً
على تغيير رأي الإمام في
الخروج إلى العراق,
وبالتالي الحؤول دون وقوع
تلك
الحادثة الأليمة, ولو عن
طريق الحوار والمصالحة
بين الإمام عليه السلام
وبني أميّة.
4- عذر عبد الله في
عدم الإلتحاق بالإمام:
يثبت ممّا تقدّم أصل
اعتقاد عبد الله بثورة
كربلاء وعشقه للشهادة في
ركاب الإمام الحسين عليه
السلام وتعلّقه بها، ولكن
لماذا لم يحضر عبد الله
بنفسه في عاشوراء ولم
يرافق الإمام؟ هنا نجد
أنّ التاريخ ساكت عن
إبداء الرأي بحيث لا نحصل
على جواب من النصوص
التاريخيّة الأصليّة.
طبعاً طرح المتأخرّون, في
آثارهم, بعض الإحتمالات
التي هي عبارة عن أعذار
ساهمت في عدم مشاركة عبد
الله بن جعفر في ثورة
كربلاء وأهمّ هذه
الأعذار:
1- يقول البعض: "وكان
تأَخُّرَه عن حضور الطفّ
ذهابُ بصره"20.
2- الإحتمال الثاني
أن يكون مكلّفاً من قبل
الإمام عليه السلام بأمر
ما, وكان عليه البقاء في
المدينة, مثال ذلك
المحافظة على بني هاشم
حيث كان يتوقّع وجود
مؤامرة للقضاء على بني
هاشم بعد خروج الإمام
وكبار بني هاشم من
المدينة؛ لذلك فإنّ وجود
شخصيّات مثل عبد الله بن
جعفر كان بإمكانها الحؤول
دون وقوع أي خطر ضدّ بني
هاشم21.
3- كهولته، حيث كان له من
العمر آنذاك سبعون عاماً,
وهذا يعني أنّه لم يكن
قادراً على المستوى
الجسديّ, من الحضور في
ساحة الجهاد22.
طبعاً الأمور المتقدّمة
تعتمد على الظنّ والحدس,
والشواهد التاريخيّة لا
تؤيّدها. من جملة ذلك
فقدان عبد الله البصر
والذي لم يذكر في المصادر
التاريخيّة الأساسيّة،
كذلك الحال في مسألة
كهولته والتي لا تعتبر
مانعاً حقيقيّاً أمام
مشاركته, فهو كان له من
العمر حينها 71 عاماً
وكان بإمكانه المهاجرة مع
الإمام, وقد جاء في بعض
الأخبار أنّه سافر من
المدينة إلى دمشق بعد
عدّة سنوات على حادثة
عاشوراء. يضاف إلى ذلك
أنّ جيش الإمام كان فيه
أشخاص كبار في
السنّ أمثال حبيب بن
مظاهر، ومسلم بن عوسجة
وأنس بن حارث و...
أمّا احتمال تكليفه من
قبل الإمام بأمر ما فهو,
وإن كان مناسباً لشخصيّته
ومكانته، إلّا أنّ
الشواهد والقرائن
التاريخيّة لا تدل عليه.
ويضاف إلى ذلك أنّه إذا
ثبت بأنّ محمّد بن
الحنفيّة كان مكلّفاً من
قبل الإمام مراقبة أوضاع
المدينة، فلا معنى بعد
ذلك لتكليف عبد الله بن
جعفر بذلك. طبعاً لم تثبت
مسألة تكليف محمّد بن
الحنفيّة بمراقبة أوضاع
المدينة أيضاً، بل الإمام
وافق على بقائه في
المدينة وطلب منه إيصال
أخبارها إليه, بعد أن رأى
منه عدم استعداده
لمرافقته إلى مكّة.
ب ـ
الشواهد والقرائن
التاريخيّة الدالّة على
مخالفة عبد الله للثورة الحسينيّة:
هناك بعض الشواهد التي
تبين أنّ عبد الله بن
جعفر كان ينظر إلى أسلوب
الإمام الحسين عليه
السلام بعين التردّد, مع
إيمانه واعتقاده بأصل
مواجهة بني أميّة, ومن
جملة هذه الشواهد:
1- طلب الأمان من بني
أميّة
بغضّ النظر عن الرسالة
التي كتبها عبد الله بن
جعفر للإمام الحسين عليه
السلام, والتي يمكن أن
تفسّر على أنّها نوع من
معارضة قرار الإمام
بالثورة، فإنّ طلبه
الأمان من بني أميّة بهدف
الحفاظ على أرواح وأموال
وعائلة الإمام، شيء غريب.
جاءت رسالته للإمام وطلبه
الأمان من بني أميّة بعد
أن أخبر الإمام الجميع
بعزمه القاطع على الخروج
من مكّة إلى العراق. وكان
المجتمع الإسلاميّ على
علم كامل بعزم الإمام حيث
تجلّى هذا الأمر في مواقف
عدّة, من جملتها: كلام
الإمام في مكّة، رسائله
إلى رؤساء القبائل في
الكوفة والبصرة، الدعوات
المتتالية التي جاءت من
العراق إلى الإمام، رسالة
الإمام إلى محمّد بن
الحنفيّة ودعوته بني هاشم
إلى مرافقته ومشاركته في
الثورة. بناءً على ما
تقدّم فعبد الله بن جعفر
بدأ
نشاطه متأخّراً عن بداية
نهضة الإمام الحسين عليه
السلام. ويبقى السؤال
الملحّ: لماذا لم يكتب
رسالة للإمام ولم يبدأ
نشاطه في ثني الإمام عن
السفر إلى العراق، عندما
كان الإمام لا يزال في
المدينة, أو على الأقل في
مكّة؟ ولماذا لم يشر عليه
بذلك؟
إنّ رفض عبد الله, في
مقابل تصميم الإمام عليه
السلام القاطع, أمر غير
قابل للفهم، فهل كان يشكّ
في معرفة وعلم وعصمة
الإمام عليه السلام فوقف
متردّداً وعمل من ثمّ على
ثنيه عن تصميمه وعزمه على
الخروج؟ هذا الأمر بعيد
عن عبد الله فهو كان
معروفاً بأنّه من الشيعة
المقرّبين للإمام عليه
السلام.
على كلّ حال فإنّ من
المسلّم به أن عبد الله
بن جعفر عمل بشكل جادّ
على طلب الأمان من بني
أميّة للإمام الحسين عليه
السلام. يكتب الطبريّ في
هذا الشأن:
وصار عبد الله بن جعفر
إلى عمرو بن سعيد فسأله
أن يكتب للحسين أماناً
ويمنّيه ليرجع عن وجهه،
فكتب إليه عمرو بن سعيد
كتاباً يمنّيه فيه الصلة
ويؤمنه على نفسه، وأنفذه
مع أخيه يحيى بن سعيد،
فلحقه يحيى وعبد الله بن
جعفر, بعد نفوذ ابنيه,
ودفعا إليه الكتاب وجهدا
به في الرجوع فقال: "إنّي
رأيت رسول الله صلى الله
عليه واله وسلم وأمرني
بما أنا ماض له",
فقالا له: فما تلك
الرؤيا؟ قال: "ما حدثت
أحداً بها، ولا أنا محدّث
أحداً حتّى ألقى ربّي
عزَّ وجلّ"23.
أمّا رسالة عمرو بن
سعيد إلى الإمام الحسين
بن عليّ، فكانت على النحو
الآتي: من عمرو بن
سعيد إلى الحسين بن عليّ،
أمّا بعد، فإنّي أسأل
الله أن يصرفك عمّا يوبقك،
وأن يهديك لمّا يرشدك،
بلغني أنّك قد توجّهت إلى
العراق، وإنّي أعيذك من
الشقاق، فإنّي أخاف عليك
فيه الهلاك، وقد بعثت
إليك عبد الله بن جعفر
ويحيى بن سعيد، فأقبل
عليّ معهما، فإنّ لك عندي
الأمان والصلة والبرّ
وحسن الجوار، لك الله
بذلك شهيد وكفيل ومراع
ووكيل, والسلام.
وكتب إليه الإمام
الحسين عليه السلام:وأمّا
بعد، فإنّه لم يشاقق الله
ورسوله من دعا إلى الله
عزَّ وجلّ وعمل صالحاً
وقال إنّني من المسلمين،
وقد دعوت إلى الأمان
والبرّ والصلة، فخير
الأمان أمان
الله،
ولن يؤمن الله يوم
القيامة من لم يخفه في
الدنيا، فنسأل الله مخافة
في الدنيا توجب لنا أمانة
يوم القيامة، فإن كنت
نويت بالكتاب صلتي وبرّي
فجُزيت خيراً في الدنيا
والآخرة، والسلام"24.
نحصل, من خلال دراسة
هذه الرسالة, على الآتي:
أوّلاً: إنّ هذه
الرسالة تحتوي على مضمون
غير مؤدّب تجاه مقام
الإمام عليه السلام.
وتوضح اللغة غير المؤدّبة
التي كتبت بها الرسالة
أنّها لم تكتب بيد عبد
الله بن جعفر، بل لغة
الرسالة تتّفق مع أسلوب
وثقافة الأمويّين لأنّهم
كانوا يعتبرون الخروج عن
نظام يزيد الظالم يؤدّي
إلى الهلاك, وهو عامل
تفرقة وسبب في عدم وحدة
كلمة المسلمين. وهذه
الرسالة تختلف بشكل كبير
عن الرسالة التي كان قد
كتبها عبد الله بن جعفر
إلى الإمام عليه السلام
وقد مرّت معنا سابقاً,
حيث أشرنا أنّ عبد الله
بن جعفر اعتبر الإمام في
رسالته نور الأرض، وعلم
المهتدين... بينما اعتبرت
هذه الرسالة الإمام عامل
وسبب التفرقة, لا بل طلب
عمرو بن سعيد من الله
هداية الإمام من الضلال!
يضاف إلى ذلك:
تأكيد ابن الأعثم أنّ
كاتب الرسالة هو عمرو بن
سعيد, وأنّ الذي حملها
للإمام هو يحيى بن سعيد
وحيداً حيث لم يرافقه أحد25.
فإذا كان كاتب الرسالة
وحاملها هو عبد الله بن
جعفر كما يقول الطبريّ
فلا مجال للدفاع عنه،
إلّا أنّ مضمون الرسالة
ولغتها لا يتناسبان مع
أفكار وروحيّات عبد الله,
بالإضافة إلى رفض ابن
الأعثم اعتباره كاتباً
وحاملا ً لها.
وبغضّ النظر عن مضمون
ولغة الرسالة, فإنّ الذي
يدعو للتأمّل هو محاولة
الصلح التي قام بها عبد
الله بن جعفر. فلو قبلنا
بأنّ عبد الله بن جعفر هو
اليد اليمنى للأئمّة
عليهم السلام, بالأخصّ
على مستوى المشورة، فيمكن
حينها إدراج رسالته
الأولى في هذا الإطار،
أمّا محاولته طلب الأمان
والعمل لإيجاد الصلح بين
الإمام الحسين عليه
السلام وبني أميّة فهي
خطوة أكبر من المشاورة،
لا بل هي نوع من تعيين
التكليف للإمام ووقوف في
وجهه. لذلك ينبغي إمّا
إنكار حادثة طلبه الأمان
من بني أميّة, واعتبار
ذلك من الأمور التي
طالتها التحريفات
التاريخيّة, أو التردّد
في بصيرة عبد الله
ودرايته السياسيّة. كيف
يمكنه أن يطلب من عمرو بن
سعيد بن العاص الأمويّ
الظالم الفاسد، الأمان
للإمام الحسين عليه
السلام على روحه وماله
ويعده بالهدايا والجوائز
ليعود عن قراره؟! هل
المشكلة بين الإمام عليه
السلام وبني أميّة هي
مجرّد عدم الأمان على
المال والروح؟ وهل وعود
بني أميّة بإمداده بالمال
والوعود الدنيويّة يمكنها
أن تصرف الإمام الحسين عن
رسالته الإلهيّة؟ وما
معنى الصلح مع يزيد
واليزيديّين بالأخصّ,
وأنّ الإمام وشيعته كانوا
يفكّرون بحفظ الدّين
ومواجهة الحكومة الفاسدة
والمنحرفة ليزيد,
ويعتبرون الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر والجهاد
في سبيل الله تعالى من
جملة وظائفهم؟ ممّا لا
شكّ فيه أن سيّد الشهداء
عليه السلام كان بين
خيارين: إمّا مصالحة بني
أميّة ومحاورتهم, وإمّا
الحفاظ على دين الله
وإصلاح المجتمع ونجاة
الأمّة الإسلاميّة, والتي
تعني الشهادة في سبيل
الله. وكان جواب الإمام
على رسالة عمرو بن سعيد
بن العاص واضحاً في رفض
كلّ أنواع التذلّل
للمستكبرين.
فكيف يمكن أن يقبل الإمام
الأمان المذلّ الذي
يقدّمه له الفاسق والفاجر
والظالم والمستبدّ؟ مع
العلم أنّه اعتبر في
رسالته أنّ طلب الأمان من
بني أميّة ما هو إلّا
فقدان للأمان الإلهيّ: "فخير
الأمان أمان الله"، "ولن
يؤمن الله يوم القيامة من
لم يخفه في الدنيا".
وفي نهاية رسالة الإمام
نراه ينظر بعين الشكّ
والتردّد إلى هذه الحيلة
المشؤومة والأمان المذلّ
الذي أطلق عليه عنوان
الأمان: "فإن كنت نويت
بالكتاب صلتي وبرّي...".
من خلال هذه العبارة نجد
أنّ الإمام يكشف القناع,
أمام الملأ, عن نفاق بني
أميّة للأجيال القادمة.
2- روحيّة عبد الله بن
جعفر في الصلح وإقامة
العلاقات مع بني أميّة
تشير بعض الشواهد إلى أنّ
عبد الله بن جعفر كان
أكثر جرأة من باقي
الأصحاب, في إقامة علاقات
مع بني أميّة. كان عبد
الله محلّ احترام الخلفاء
آنذاك بسبب موقعه
الإجتماعيّ المميّز. وقد
ذكروا أنّ معاوية كان
يرسل له كلّ عام مليون
درهم, وعندما جاء يزيد
زاد المبلغ إلى مليونين26.
وكانت هدايا معاوية لعبد
الله تصل بعض الأحيان إلى
درجة اعتراض الأمويّين.
كان بنو أميّة يتحدّثون
مع معاوية بأنّك تعطي عبد
الله هذه المبالغ الطائلة
بينما لا يتجاوز ما يصل
إلينا, نحن المقرّبين,
مئة ألف درهم27.
صحيح أنّ عبد الله- بسبب
جوده وكرمه- كان يوزّع
هذه الأموال بين الفقراء
والمحتاجين، ولا يستعملها
في شؤونه الخاصّة، إلّا
أنّ الشيء الذي لا تردّد
فيه أنّ عطايا معاوية لم
تكن من دون أهداف خاصّة.
ومن هنا, قد يصحّ القول,
في خصوص العلاقات
الماليّة بين معاوية وعبد
الله, أنّ أحد أهداف
معاوية هو إظهار عظمة عبد
الله بهدف الحطّ والتقليل
من شأن وقيمة أبناء عليّ
عليه السلام وقد أشار
معاوية في أحاديثه إلى
هذا الأمر:"روى سليم بن
قيس قال: سمعت عبد الله
بن جعفر بن أبي طالب قال:
قال لي معاوية: ما أشدّ
تعظيمك للحسن والحسين، ما
هما بخير منك، ولا أبوهما
بخير من أبيك، ولولا أنّ
فاطمة بنت رسول الله
لقلت: ما أمّك أسماء بنت
عميس بدونها.
قال: فغضبت من مقالته
وأخذني ما لا أملك فقلت:
"أنت لقليل المعرفة
بهما وبأبيهما وأمّهما،
بلى والله إنّهما لخير
منّي..."28.
على كلّ حال, يظهر من
علاقاته مع بني أميّة
وتعاطيه الدائم معهم,
ذهاباً وإياباً, أنّه
كانت تسيطر عليه روحيّة
التساهل والتسامح على
المستوى السياسيّ. وأنّه
كان, مع مرور الزمان,
يميل إلى الصلح والهدنة
أكثر من النزاع والخصومة.
لذلك نراه في وقعة الحرّة
يعمل جاهداً للحؤول دون
بروز الحرب حيث تحدّث
آنذاك مع يزيد في المسألة
فأجابه يزيد بأنّ جيشه
يستعدّ للحرب مع الزبير
بن العوام في مكّة، فإذا
رغب أهل المدينة في
العودة للطاعة، فالأمان
لهم.عند ذلك
كتب
عبد الله إلى قادة
المدينة يخبرهم بطلب يزيد
ولكنّهم رفضوا ذلك29.
وفي ما بعد أيضاً نجد عبد
الله قد أخذ الأمان لعبيد
الله بن قيس الرقيات
30, وهو من
أصحاب مصعب بن الزبير وقد
أصدر عبد الملك31
بن مروان حكم قتله،
وتشفّع له عند عبد الملك.
وقد سجّل التاريخ موارد
متعدّدة تشير إلى روحيّة
الصلح التي كان يعمل بها
أحياناً في النزاعات
الاجتماعيّة والسياسيّة,
وهذا كلّه يشير إلى ميله
للصلح, رغم شجاعته وطلبه
للحقّ. أمّا رسائله إلى
الإمام وسعيه للصلح بين
الإمام عليه السلام وبني
أميّة, فيشير ذلك إلى
اعتقاده بالأساليب الأخرى
غير الحرب والجهاد.
النتيجة
عبد الله بن جعفر الطيّار
واحد من الشخصيّات
المميّزة والمشهورة في
التاريخ الإسلاميّ، وله
سوابق مشرّفة في الدفاع
عن أئمّة أهل البيت عليهم
السلام. أظهر في أقواله
وأفعاله، إيمانه واعتقاده
بأهل البيت عليهم السلام
وتحكي مواقفه السياسيّة
في مواجهة بني أميّة عن
اعتقاده ووفائه لمدرسة
أهل البيت عليهم السلام
ومخالفته لحاكميّة بني
أميّة. وهو واحد من
الشخصيّات التي لم توفّق
للمشاركة في نهضة
عاشوراء, ولم يوضح
التاريخ سبب عدم التحاقه
بالإمام الحسين عليه
السلام. مع العلم أنّ
زوجته وابنيه كان لهم دور
مهمّ في نصرة الإمام
الحسين عليه السلام. أمّا
عبد الله فقد نُقِلَ عنه,
بعد حادثة عاشوراء, حسرته
وتأسّفه بعد سماعه خبر
شهادة الإمام, وكان
يتمنّى المشاركة في ركاب
الإمام في كربلاء, وقد
شعر بالسعادة عندما عرف
أنّ ولديه قد استشهدا في
طريق الحسين عليه السلام
واعتبرهما قد حلّا مكانه
في كربلاء.
ومع ذلك لا يمكن إنكار
رسائله التي توجّه بها
إلى الإمام يطلب منه عدم
الخروج إلى العراق. عمل
جاهداً لثني الإمام عن
تصميمه الحاسم والقاطع
بالخروج على
يزيد, والتوجّه نحو
العراق, حتّى وصل الأمر
إلى تواصله مع بني أميّة
توسّلاً منه بالأساليب
الدبلوماسيّة, بل وبإعطاء
الأمان للإمام عليه
السلام ووعده بالعطايا
والجوائز لمنعه من
التوجّه نحو العراق. أمّا
محاولاته للصلح فتدلّ على
مدى الخوف من تداعيات
نهضة الإمام, وأنّه كان
يفكّر بأسلوب آخر غير
الجهاد والثورة.
عجز العديد من خواصّ
الشيعة وكبار بني هاشم عن
إدراك وتحليل حركة
الإمام, آنذاك, بشكل
صحيح، فنظروا إلى الثورة
الإلهيّة من خلال
حساباتهم العاديّة فحكموا
عليها بالفشل. طبعاً
الإمام لم يجبر أحداً من
أصحابه وشيعته والمقرّبين
منه، على المشاركة في هذه
النهضة, فرافقه فقط أصحاب
البصيرة والإيمان
والإخلاص الكبير الذين
أدركوا حقيقة الولاية.