تمهيد
لا أوصيكم بتكريس المنبر
والخطابات للجوانب
الفردية فقد تكرس لهذه
الجوانب محاضرة أو سلسلة
محاضرات لا مانع من ذلك
ولكن يجب أن تكون ساحة
الحياة الإجتماعية
والسياسية للإنسان ميداناً
للعبودية الإلهية أيضاً...
وأما الركن الآخر فيتلخص
في الأساليب التي تستخدم
في التبليغ؛ لأن للأساليب
أهميتها الآية الكريمة:
﴿ادْعُ
إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ﴾1 هذه
الآية بينت الأسلوب
الواجب إتباعه. والحكمة
تعني الكلام المتقن الذي
لا شبهة فيه ولا ضعف
والكلمة الحكيمة هي التي
تتسم بالحكمة والإحكام في
مقابل المتشابه
﴿ادْعُ
إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾2 الحوار والنقاش ومخاطبة
العقول والقلوب بلسان
مبين، وبأسلوب أخوي لين
له أهمية كبيرة.
إعلموا يا أعزائي أن من
جملة الأشياء المهمة في
التبليغ هو أن تجيبوا على
استفسارات المخاطبين فإذا
كان يجلس في مقابلنا شاب
تختلج في ذهنه عشرات
الأسئلة، ولكننا لم نقدم
له جواباً على أي منها
طوال خطبتنا التي تستغرق
ساعة مثلاً، فهل تعتقدون
أن مثل هذه الخطبة ناجحة؟
طبعاً لا.
فنحن يجب علينا أن نجيب
على الأسئلة التي تختلج
في ذهنه ولا يثيرها
أحياناً أو أنه لا يستطيع
اثارتها، أو أنه غير
منتبه لوجوب طرحها، أو أن
الظروف لا تسمح له بذلك.
لكن لا يمكننا الإجابة
عليها إلا بعد أن نكتشف
ما يدور في ذهنه ونعرف ما
يختلج في نفسه من الأسئلة.
وهذا هو السبب الذي
يجعلني كثيراً ما أوصي
الفضلاء والعلماء
بالاتصال بالشباب، اتصلوا
بهم وتعرفوا على ما لديهم
من أسئلة واستفسارات،
وانظروا إلى ماذا يتطلعون
عند استماعهم إلى كلام
علماء الدين لا تنظروا
إلى ما يتأملون منكم قوله،
وإنما انظروا إلى ما
يرجون منكم بيانه لهم إذ
أن معرفة المتطلبات أمر
مهم جداً. والأهم من ذلك
هو معرفة متطلبات المجتمع.
فقد توجد أحياناً حاجة
تبليغية في المجتمع لا
يلتفت إليها الأفراد، إلا
أنكم تلتفتون لوجود مثل
هذه الحاجة، فأنتم على
سبيل المثال سمعتم
بالدعايات التي يبثها
العدو، وأدركتم الأمور
التي يركز عليها، وتعلمون
أنها يجب أن تكون موضع
اهتمام من قبلكم، عليكم
أن تزيلوها من أذهان
الناس، وإن لم يكن
المخاطبون ملتفتين إلى
ذلك، هذا معناه أداء بعض
متطلبات الناس وقضاء
حاجاتهم العلمية3.
خصائص التبليغ الناجح
مراعاة مقتضى الحال:
لقد تعلمنا في دراستنا
للأدب العربي واللغة
العربية أن البلاغة هي
انسجام المقال مع مقتضى
الحال ومطابقته له فإذا
لم يتحّل الكلام بهذه
الصفة فقد خرج عن البلاغة
ولا يعتبر بليغاً، ولا
مبيناً، ولا ينفذ إلى قلب
المستمع أو يتغلغل في
فكره وعقله... هذا هو
تعريفهم للبلاغة بمطابقة
مقتضى الحال وإلا فإن
البلاغة هي البلاغة وحسب،
وهي من البلاغ والبلوغ.
إن المطابقة مع مقتضى
الحال هي في الحقيقة
الميزة الرئيسية للكلام
البليغ وشرطه الأساسي
الذي بفقدانه تنعدم صفة
البلاغة عنه، إن المضمون
الأساسي لحقيقة البلاغة
والبلوغ ينبغي أن يكون
المطابقة مع مقتضى الحال.
أريد أن أقول: إذا أردنا
اليوم تحقيق المطابقة مع
مقتضى الحال فماذا يجب أن
نفعل؟ إذا شئنا أن نمارس
التبليغ الجيد في العالم
فينبغي أن ندرك ما هو
القسم الذي يحتاج العالم
بيانه من بين أقسام
الإسلام؟!... في بعض
الأحيان تُطرح أمور الغرض
منها التبليغ للإسلام على
الصعيد العالمي، لكنها
ليست إجابات
كافية عن
تساؤلات العالم. ينبغي أن
نرى ما هي تساؤلات العالم
لنا حول الإسلام لنوضحها
لهم. وهكذا الأمر على
صعيد المجتمعات
الإسلامية4.
إحكام الخطاب واتقانه:
إن من يمارس الخطاب
الديني اليوم عليه مراعاة
بعض الأمور منها، إحكام
الخطاب واتقانه
فالتصريحات والخطابات
توضع اليوم تحت مجهر
الأعداء، وتتعرض أذهان
وأفكار مخاطبينا لهجوم
الأعداء فعلينا أن نحذر
كثيراً، حتى لو خاطبنا
الأطفال فليكن خطابنا
صحيحاً وقوياً
ومبرهناً5.
"فإرتقاء المنبر يستدعي
المطالعة، والمنبر دون
مطالعة معناه أننا نطرح
على الناس همّنا وغمّنا
الأمر الذي يستبطن أننا
لا نهتم بالناس"6.
"ولتكن الأقوال
والتصريحات علمية اجتنبوا
الهزيل من القول، ولا
ترتقوا المنبر دون
مطالعة، اطلعوا على آخر
وأفضل الأقوال المتعلقة
بالقضايا الإسلامية وقد
يسفر ذلك عن تقليل
خطاباتنا، لكن لا اشكال
في ذلك فهذه الوظيفة تحتم
على المرء لكي يتحدث
جيداً أن يقلل كلامه"7.
الإقناع وتثبيت المفاهيم:
على المبلغ الذي يخاطب
الناس أن يتحدث إليهم
بأمور تثري أذهانهم لمدة
يعتد بها، لا أن يتلاشى
جهده التبليغي بكلمة أو
بشعار أو بكتيب، فالمشكلة
تكمن في أننا نوصل
أحياناً المفاهيم إلى
أذهان الناس بطريقة
طوباوية فيأتي الآخرون،
ودون ضجيج ليغسلوا كل ما
أوصلناه، إنها مشكلتنا
الكبيرة حتى الآن، إن ما
نريد إقراره في الأذهان
يجب أن يُقر بطريقة
تمكّنه من البقاء في
الذهن مدة من الزمن، خمس
أو عشر سنوات، ولا أقول
يجب أن يظل إلى آخر
العمر، باعتبار أن ذهن
الإنسان ينمو، وتنبثق منه
تساؤلات جديدة8.
معرفة الزمان ومراعاة
الحاجات:
ارجعوا وانظروا، ما هي
متطلبات العصر وما هي
احتياجات الناس واستنبطوا
ذلك من الشرع الإسلامي
المقدس... فنضجوه وهيئوه،
ثم قدّموه طازجاً
للناس9.
الحكمة في أن المرء يؤدي
عمله في الظرف المناسب
وأن يعرف زمانه... فحكمة
سماحة الإمام الخميني{
تجلت في إدراكه الدائم
لمتطلبات كل لحظة بالطبع
فإن هذا الأمر مهم جداً
ويستدعي أولاً: ادراكاً
واستعداداً ونظراً ثاقباً
وثانياً: شجاعة وشهامة.
يعني أنه
يقوم بالعمل في
الوقت الذي لا يقدم فيه
الآخرون على العمل10.
كان في إيران نوعان من
الخطباء: أحدهما: الخطيب
الذي لا يهتم أحد بحديثه،
لأنه لا يتناول أموراً
مرتبطة بعصره، والآخر
الخطيب الذي يزدحم الناس
وبخاصة الشباب حوله
للاستماع إليه (فكل من
باع الحلوى كثرت زبائنه).
ما الفرق بينهما؟ أفي قوة
البيان وضعفه؟ أم في
رخامة الصوت؟ أم في
الرشاقة والشكل؟ إن جميع
الناس إما في هذا الطراز
أو في ذاك، لكن الفرق
يكمن في أن ضآلة عدد
المستمعين تعود إلى أن
الخطيب لا يفهم مقتضيات
العصر ويتطرق إلى أمور
أخرى فالناس كانوا
متعطشين لمجموعة من
المفاهيم الإسلامية التي
لا يتناولها هؤلاء أو أنّ
عقولهم لا تصل إليها،
لكنهم بسبب أو بآخر لا
يعتبرونها ضرورية11.
الكلام المتقن والمضمون
الصحيح:
ليكن عملكم محكماً منذ
البداية سواء كنتم معلمين
أو متعلمين، لا تنطقوا
بكلام واهن ولا تعربوا عن
رأي ضعيف ولا تعتمدوا
استدلالاً خاوياً، وحتى
في المستويات المنخفضة
علينا أن نعلّم الشخص
المنطق الصحيح الذي يظل
في ذهنه مقبولاً حتى ولو
قوي عقله ونضج بالتجارب
واتسع بالمعلومات فلا
نقوم بتعليم المرء في
الصف الأول
كلاماً لا
يقبله في الصف الخامس
فإثنان زائد إثنان يساوي
أربعة، هذا الأمر
تعلّمونه في الصف الأول
والثاني أيضاً، هذا ما
تعلمونه للطفل وبعد عشرين
سنة تظل النتيجة واحدة
لهذا الشخص كل ما في
الأمر أننا في الصف
الثاني نثبت له النتيجة
بإستدلال معين، وعندما
يرتقي في المراحل
الرياضية العليا يبرهن له
نفس الحقيقة ونفس النتيجة
ولكن ببرهان آخر. وهكذا
يجب تعليم معنى التوحيد
والنبوة والإسلام والقرآن
والدين والقيم الإنسانية
والأهداف الدينية12.
لنلتفت إلى أن ما نقوله
يجب أن يكون صحيحاً
وقابلاً للدفاع عنه
وإثباته وينسحب ذلك على
القضايا السياسية
والقضايا الإسلامية، وكذا
على الفيلم والمسرحية
والشعر والخطابة والدرس
العقائدي وبقية
الأمور13.
فالاستدلال الضعيف القابل
للنقد. يعني عدم تصوير
الواقع كما هو، ولا اشكال
في توجيه خطاب بسيط إذا
كان المستمع من العامة
ومستواه منخفضاً لكن
بساطة الحديث لا تعني
الخطأ في الحديث.
اجتنبوا الكلام الضعيف
والمعلومات المظنونة في
القضايا الدينية، فلو
كانت الفضاءات الذهنية
لعوام الناس تتقبل أمراً
ما، لكنه غير صحيح فإياكم
والخضوع لتلك الفضاءات
فتطلقون تصريحات خاوية
تحت غطاء الرأي
الديني14.
مراعاة الاعتدال في
الخطاب
عليكم بمراعاة الاعتدال،
والاعتدال يعني تفادي
الإفراط في أي اتجاه كان،
فبعض الخطباء يفرطون إما
في الجهات الأخلاقية أو
الجهات السياسية، لا فرق
أياً كانت الجهة،
فالإفراط مذموم في كل
الأحوال. بالطبع أكثر ما
يحتاج الناس إلى
الأخلاقيات، فنحن بحاجة
إلى ثورة أخلاقية، لكن لا
يكون الأمر بحيث إذا
تناولنا القضايا
الأخلاقية، أو قرأنا على
الناس حديثاً أغفلنا
تماماً القضايا الراهنة
والقضايا الثورية وقضايا
العالم وقضايا الحياة
وكما ذكرت، فالبعض يرتقي
المنبر، لكن السامع يظن
أنه لم تحدث ثورة في
البلد! هذا إفراط في جانب
والإفراط في الجانب
السياسي خاطئ أيضاً
فالبعض يخصص جميع خطبته
من بدايتها إلى نهايتها،
للأمور السياسية، ولا نجد
عبارة في الأخلاق
والنصيحة والتهذيب
والأحكام15.
الحكمة وإجتناب التكفير:
ارتكبنا نحن المعمّمين
وعلماء الدين طوال
التاريخ. أخطاءً كبيرة في
نقد بعضنا بعضاً، فقد
تصورنا أن النزاع
والإبعاد وأحياناً
التكفير بمقدوره أن يجتث
جذور الأفكار الخاطئة من
المجتمع، بينما هذا أمر
خاطئ.
لماذا استقرت الأفكار
الخاطئة للفرق الضالة في
عقول كثير من
الناس وما
زالت حتى الآن؟ السبب
يكمن في أن التعامل معها
لم يكن منطقياً
واستدلالياً وإنما كان
تعاملاً خشناً، وحسب.
هذا التفكير الإلتقاطي
موجود في مجتمعنا، إلا أن
الرد عليه ليس في العصا
والشجار والإبعاد
والتكفير والتفسيق، بل في
العمل الصحيح16. المجابهة يجب أن تتناسب
مع المصلحة والحكمة
فاليوم ليس كالأمس ففي
السابق إذا تكلم شخص ولم
يكن بإمكاننا أن نقوم بأي
عمل كنا نصرخ أو نعلن
البراءة منه، أو نكّفره،
أما اليوم فلا حاجة لهذه
الأمور ويجب تجنب هذه
الممارسات فإنها تضرّ
بالمجتمع الإسلامي17.
ضرورة معرفة المجتمع
المخاطب:
لا توجد مواد تبليغية،
مثل تصنيف البحوث
وتشخيصها لكل فئة من
المستمعين فعلى سبيل
المثال، إذا أردتم التوجه
إلى بلد معين ستستفيدون
من مطالب معينة لا تنفعكم
في بلد آخر. وهكذا فإن ما
تحتاجون إليه في المدينة
الكبيرة. وفي طهران
والجامعة والبيئة
الطلابية تتباين
المقتضيات فيها عن مجلس
عزاء نسائي.
أحياناً يتمتع الطلبة
بخلفيات ذهنية وعقلية
جيدة جداً، لكن عدم
معرفتهم بالمجتمع
وتطلعاته وما يحمله
(المجتمع) من تصور عن
المبلّغ يوقعهم في
ممارسات تخالف المطلوب،
فمن الضروري إعطاء
دروس
حول تصورات الناس عن
المبلِّغ وتوقعاتهم منه.
فيتعين على الطالب
"الحوزوي" أن يعرف قدر
نفسه وقدر المبلِّغ كما
هو، لا أكثر ولا
أقل"18.
عدم الإنسياق وراء رغبات
المخاطبين:
الشباب يتّسمون بالإخلاص
والإيمان فعلينا أن نحافظ
على صفائهم وإيمانهم وهذا
لا يعني أن نقبل منهم ما
ليس داخلاً ضمن تخصصهم.
وللأسف فإننا نشهد هذه
الأمور في بعض الحالات،
وهذا مؤشر على تأثر بعض
المبلغين بالجو السائد،
فهم يردّدون ما يمليه
الجو المتأثر بفكر ما أو
عقيدة ما أو انطباع ما...
إن الإعراض والرفض
والجفاء أمور غير صحيحة،
ولا نوافق عليها، ولكننا
لا نوافق أيضاً على أن
يبدي أحد العلماء رأياً
لا ينسجم مع تشخيصه
وبنائه الفقهي وفتاويه أو
فتوى مقلده أو يتعارض مع
مسلماته، وهذا ذنب لا
يرضى به الله ولن يعفو
عنه بالتأكيد19.
يجدر بالكاتب أن يطرح
الموضوع من خلال نظرة
عميقة وبعيدة المدى،
وبشجاعة تامة، أي بعيداً
عن أي مهادنة للجامعيين
وغيرهم وبعبارة أخرى يجب
أن لا أتأثر في كتابتي
للموضوع بالأحكام التي
أتوقع أن يصدرها القارئ
ضدي بل يجب أن أكتب
الحقائق بشجاعة، فالموقف
الشجاع يعود بالفائدة على
صاحبه، وقد شاهدنا إبان
السنوات العشر الفائتة
أفراداً لم يتخذوا مواقف
شجاعة، خشية أن يستاء طرف
معين منهم، أو لأن طرفاً
ما ينتظر ذلك فهؤلاء
ينطلقون من خلفيات خاصة
وهذا الأمر يعود عليهم
بالضرر.
على أنه لا ينبغي إغفال
بُعد النظر، فعلى المرء
أن يتمتع بسعة الصدر
وببعد النظر وعليه أن
يجمع إلى سعة الصدر،
الشجاعة والصراحة
والثبات20.
لقد عاد الإمام إلى إيران
في وقت كانت أجواء الصراع
في بعض المستويات على
الأقل مشحونة بالتصورات
المستوردة وكان بعض
العلماء قد شارك في
تصعيدها وجاء الإمام
فأقصاها جميعها وقد تجسد
موقفه في أول خطاب له في
المطار، حيث انتابني
الحيرة عندما كان يلقي
خطابه وقلت لنفسي عجباً!
إن الإمام لا يتأثر
بالملاحظات التي نتأثر
بها... وفي الأشهر الأولى
طرح مسألة السفور والحجاب
بشكل قاطع21.
مخاطبة الفكر والقلب:
وما يتمتع بالدرجة الأولى
من الأهمية بنظري هو فكر
من تخاطبون وقلوب من
تخاطبون، فالفكر أولاً ثم
القلب. الفكر يعني وجوب
تقوية البنية الاعتقادية
لهذا الشاب، فالشاب يكون
عرضة للتبدلات والتحولات
والتغيرات والمؤثرات
الموجودة التي أضحت
في
عالمنا كثيرة جداً فيجب
تقوية البنية الفكرية
للشاب بحيث إنه لا يتأثر
بالعوامل السلبية، بل
يتمكن أن يؤثر على محيطه
ويعرِّف محيطه على
المباني والمعارف
الإسلامية وأن يكون
رائداً في هذا الطريق،
فمن الناحية الفكرية يجب
أن يحقق هذه الحالة.
وإنما نذكر الناحية
القلبية لا لعروج الإنسان
بل لثباته على الصراط
المستقيم، لا يكون الفكر
لوحده كافياً في الحقيقة،
فبالإضافة إلى البعد
الاعتقادي، فإن البعد
القلبي والروحي أمر لازم
فحالة الخضوع لازمة وكذلك
الخشوع والذكر والتوجه
إلى الله، كلها أمور
ضرورية للإنسان ولو كان
هذا الأمر موجوداً لارتفع
الكثير من النقص ولو لم
تكن هذه الأمور فإن
القدرة الفكرية وقوة
الاستدلال والاحتجاج لن
تسعف الإنسان في الكثير
من الحالات وتعينه،
فإعداد قلب الشاب ينبغي
أن يكون بالنصيحة
والموعظة الحسنة والسلوك
الحسن وينبغي تعريفه على
الخشوع والتوسل والتوجه
والتذكر، فهذا ما يمكن أن
يشكل دعامة لهذا الفكر،
ففي ميدان العمل ما ينفع
هو القلب الرقيق وهذا
التوجه والتذكر، هذه
الأمور التي تثّبت
الإنسان وهي أمور ضرورية
فيجب تقوية هذين الأمرين
في الشاب22.
التواصل المباشر مع
الناس:
صحيح ولله الحمد أن
الاذاعة والتلفزيون يبثان
خطابات عديدة للعلماء،
سواء في العاصمة أو في
المدن الأخرى، تحت عناوين
مختلفة
كصلاة الجمعة أو
بعض المناسبات الأخرى
علاوة على الدروس
والبحوث، إلا أن أياً
منها لا يشكل بديلاً
لحركية العالِم التي
يباشر من خلالها الناس
وجهاً لوجه، إن الناس على
فئات متعددة موّزعة في
مختلف مناطق المدن
والقرى. فينبغي أن يكون
لكل فئة عدد كافٍ من
العلماء يعيشون في
أوساطها ويسعون إلى حل
مشكلاتها الدينية. إذن
وبالرغم من ضرورة أمور
أخرى، إلا أنه لا شيء
يكون بديلاً عن هذا
الأمر؛ حتى الكتاب لا
يمكنه ذلك. هذا هو الشيء
الذي يملكه مجتمعنا...
ونادراً ما نجد مثله في
البلدان الأخرى... فهذا
يتعلق بمجتمعنا حيث
العلماء في مختلف
المستويات وفي المدن
والمحلات والقرى المختلفة
وفي أوساط العشائر،
يباشرون الناس وجهاً
لوجه، ويحادثونهم مباشرة،
ويتعاملون معهم ويستمعون
لشكاويهم ويوضحون لهم
الشبهات التي ترتسم في
أذهانهم ويحلّون مشكلاتهم
النفسية فيجب علينا تدعيم
وترسيخ هذه الممارسات
التي صدرت عن علمائنا في
الماضي، ولا نسمح
بزوالها، وأحسب أننا
نعاني من نقص على هذا
الصعيد23.
تشخيص النمط المطلوب:
يتفاوت التبليغ (أي
التوصيل وأدواته) تبعاً
للظروف. فتارة نريد نقل
شيء إلى الغرفة المجاورة،
وأخرى إلى مكان يبعد
مسافة فرسخ، وتارة ثالثة
إلى أقصى نقطة في العالم،
أحياناً تعترضنا الحجب
والجدران، وأحياناً يجب
علينا اجتياز العقبات
والجبال وقد يستجيب
المقابل طواعية لنا، وقد
نحتاج إلى الأدلة
والبراهين لإقناعه، بل قد
يظل يقف على مسافة منا
ممتنعاً عن القبول
بأفكارنا.
إذن، فالتبليغ يتقوم
بأقسام وأنواع متعددة
تبعاً للظروف المختلفة،
تُرى ما الذي يشخص أداة
التوصيل وأسلوبه؟ إنه
ابداعكم وذوقكم وفهمكم
وسرعتكم في النقل، إذا
كان المطلوب نقل مقدار من
الماء مسافة فرسخ
وحملتموه في كأس كل هذه
المسافة بحيث تساقط أغلبه
أثناء النقل، فإن العقلاء
يدهشون لعملكم، لأنه ليس
هكذا ينقل الماء بل يحتاج
إلى جرّة أو كوز24.
عدم التعصب للإنماط
التبليغية السابقة:
لا ينبغي لنا الإكتفاء
بالقول: هكذا كنا نبلغ في
السابق، وكانت طريقتنا في
التبليغ مؤثرة. أجل ارتقى
الشيخ جعفر الشوشتري
رضوان الله تعالى عليه
المنبر يوماً في إحدى
مدارس طهران وخاطب الناس
قائلاً: "أيها الناس!
يكفي أن تعلموا أن الله
موجود" فأحدث تحولاً في
قلوب الناس بهذا المقدار
من التذكرة. لقد أثر
كلامه في النفوس سواء كان
السبب في ذلك يعود لنفسه
أو للمدد الإلهي أو
لأجواء تلك الأيام، أو
لاستعداد المستمعين وإذا
أردنا اليوم أن نرتقي
المنبر ونقول: أيها
الناس! اعلموا أن الله
موجود فإن الناس سيعجبون
بعملنا25.
من غير المنطقي أن نطرح
كلامنا الحق اليوم بذات
الطرق والمناهج التي
اعتمدت قبل مئة عام، بل
هناك تفاوت بين اليوم وما
قبل الثورة فالمنبر الذي
كان مفيداً ومؤثراً قبل
الثورة. في الأعوام
(1976/1978) قد لا يكون
مؤثراً ومفيداً في كل
مكان هذه الأيام26.
الوعي لمنطق العصر:
عرض المرحوم المجلسي
رضوان الله تعالى عليه في
"حق اليقين" و"حياة
القلوب" وأمثالهما
الأخلاق والعقائد الدينية
بلغة عصره فيما قرّب
الآخرين من الفكر الشيعي
واجتذبهم إليه. ولا تظنوا
أن كتب المجلسي جاءت
جزافاً، إنما رسخت دعائم
التشيع، في ذلك العصر
الذي كان فيه التشيع
جديداً في بلادنا، وعمّقت
العقائد الشيعية في قلوب
الناس. لقد كانت هذه
الكتب مفيدة وقتذاك. ومع
ذلك لا نستطيع اليوم
اعتماد "حق اليقين"
و"حياة القلوب" فضعوهما
على الرف باعتبارهما
جزءاً من التراث، وليتركز
جهدنا على تقديم مضمونهما
بلغة العصر27.
الاستفادة من الفن
المعاصر:
ينبغي الاستفادة القصوى
من الفن، وأعني الاستفادة
من الفنانيين الموجودين.
فثمة استعدادات وتوجهات
فنية عند الطلبة وغيرهم،
إذ
لا بديل للفن في
المجال التبليغي، أي لا
يملأ مكان الفن في
التبليغ أي شيء سواه،
وهذا أمر ثابت في العالم
ويجري العمل به، فيقال:
إن عرض عبارة واحدة ناهية
أو آمرة من خلال أسلوب
فني معين يجعل من شأنها
الاستقرار في أعماق نفس
المستمع فيستجيب لها.
فاليوم يترافق التبليغ
والفن... فيجب علينا إذن
أن نجمع التبليغ إلى
الفن28.
لست من الذين يقارنون كل
ما يطرح عندنا مع
الأجانب، وأوجه
الانتقادات إلى جانبنا،
فأنا أعتز بالحقائق
الموجودة في مجتمعنا...
لكن ثمة أموراً تجري أمام
أعيننا في هذا العالم...
ليس للكنيسة علم ديني
بتلك الصورة المعمّقة
والاستدلالية، لكنها في
الوقت نفسه متقدمة في
الجانب التبليغي، لقد
أنتجوا أفلاماً كثيرة في
اطار الدعاية للمسيحية
دون أن يظهروا ذلك.
حتى إن أصدقاءنا في
التلفزيون وفي أيام كانون
الثاني وأعياد الميلاد
يعرضون عدداً من الأفلام
المسيحية والكنيسة مجاملة
للمسيحيين. وقد لاحظت أن
أغلبها يروّج للكنيسة...
فمن يشاهد الفيلم يتأثر
به، إذ يعرض قسيساً بوجه
نوراني وهو يقوم بعمل
ايجابي29.
اعتماد المصادر الموثوقة:
لا ينبغي تحشيد الخرافات
في التبليغ الديني وتشويه
الحق بالأباطيل، وحذار من
أن ينقل إلى الناس
الأساطير والأقوال
المشكوك فيها والروايات
غير المسندة، بدلاً من
الدين الحق فالمبلّغ لا
يحط
من قدر خطابه ومكانته
بتضمينه الأساطير فحسب،
بل يسئ إلى الدين، فيقدم
صورة مزيفة ومشوهة لدين
الحكمة والمنطق ويهيء
أرضية خطبه للتشكيك في
الحقائق الأساسية للدين
وإساءة الظن بها.
على المبلّغ أن لا يعتبر
متانة كلامه تكمن في عرض
العجائب والغرائب، فحتى
لو فرضنا أن هذا النحو من
الكلام يجتذب أنظار
وأسماع العقلاء اليوم،
لكن من المؤكد أنه لن
يجتذب قلوبهم أبداً.
ليس من الصحيح أن يرتقي
أحدهم أعواد المنبر
ليتفوه بكلمات خاوية
ويتطرق إلى موضوعات
تافهة، لا تقوي الإيمان
بل تضعفه. وأقول لكم بكل
أسف إِن هذه الحالات تقع
أحياناً، وهذا يحول دون
بلوغنا الأهداف والمنافع
المتوخاة من عقد هذه
الجلسات. فيلاحظ في بعض
الأحيان أن الخطيب ينقل
في أحد المجالس موضوعاً
ليس له أساس عقلي أو نقلي
من الصحة ويفضي في الوقت
ذاته إلى تشويه وعي
المستمع المتبصر وصاحب
المنطق والاستدلال...
يجب أن يزيل كلامكم
الشبهة لا أن يكرِّسها
فبعضهم يعتلي المنبر دون
الالتفات إلى هذه
المسؤولية الخطيرة،
ليضاعف الإيهامات
والتساؤلات المستقرة في
الأذهان لا ليمحوها30.
الأسلوب العلمي لتفسير
الدين:
الفقاهة أسلوب علمي في
الاستنباط يجب تعلمه، وهي
العلم الأساسي للعلماء،
طبعاً هناك الفلسفة
والعرفان الإسلامي اللذان
يدخلان في علم الفقاهة
بمعناه الواسع، فلو زالت
طريقة الفقاهة، فلن يبقى
حينئذ من الدين شيء.
طبعاً الطريق مفتوح
للجميع لتعلم الدين
والاستنباط منه، لكن
للاستنباط أسلوب علمي ،
وليس بمهمة العوام أو
مهمة غير تخصصية بحيث
يمكن لأي أحد أن يستنبط
من القرآن والسنة.31
الاستدلال والمنطق:
يجب على العلماء
والمبلغين، والمفكرين،
والحريصين على نشر
الإسلام، ومحبي الإسلام
وأهل البيت عليهم السلام
أن يلتفتوا إلى أن
الإسلام والقرآن يتميزان
بقوة المنطق والبرهان،
وأن مذهب أهل البيت عليهم
السلام مذهب الاستدلال
ورصانة المنطق. ولو حذف
منه البرهان المنطقي وحل
محله - لا سمح الله - شيء
آخر بعيد عن البرهان
المنطقي ويتسم بصبغة
خرافية، فسيكون له فعل
مضاد تماماً لفعل البرهان
المنطقي. إذن فالأداة
الأساسية لسيادة الإسلام
وغلبته على الأديان
والشعوب والبلدان هو
عبارة عن البرهان المنطقي
إضافة إلى العدالة
الاجتماعية.32
الاستفادة من أهل
الإختصاص
في الدول الإسلامية
الأخرى، قد يقوم مأمورو
الدولة بكتابة النص
ويضعونه في يد إمام
الجمعة ويقولون له أقرأ
هذا على الناس في خطبة
الصلاة، وهذا شيء مرفوض،
لأن التفكير والمطالعة
والدراسة والاستفادة من
أساتذة الفن أمر ضروري
ويجب وضع موازين خاصة
لتعيين القول المناسب
والقراءة الصحيحة لأجل
إصلاح القول
والقراءة.33
التنظيم والتصنيف
والترتيب
توجد لدينا ضوابط في كثير
من المجالات اليوم وإن
الحوزات العلمية وعلى
رأسها الحوزة العلمية في
قم تتجه ولحسن الحظ نحو
التنظيم والتصنيف
والترتيب وهذه حركة
مباركة قد ابتدأت أخيراً
وإن كانت متأخرة في
شروعها.
علينا أن نقوم بمثل هذا
العمل في هذا المجال
أيضاً، وبالطبع إنه أمر
صعب ويحتاج إلى جهد
ومثابرة ولكنه ضروري
جداً، لأن الجيل الذي
يريد أن يستفيد من كلامنا
الديني سوف لا يغفر لنا
أن لم نزين كلامنا ونضفي
عليه طابعاً مقبولاً
ومناسباً.34
مراعاة المستوى المعرفي
لدى المخاطب:
إن أساس العمل عند علماء
الشيعة عبارة عن التبليغ
وإيصال حقائق الدين،
وطبعاً لهذا العمل
مستويات مختلفة أحدها
مستوى
عامة الناس،
والمستوى الآخر يتعلق بمن
يتمتعون بشيء من الوعي
والمعرفة، والمستوى
الثالث يتعلق بالمتفوقين
في المجتمع والذين وإن لم
يكونوا على معرفة وإحاطة
بعلوم الدين إلا أن لهم
باع طويل في العلوم
والفنون المختلفة
ويتمتعون بذهن وقّاد
وذكاء كبير وذوو تجربة
ووعي ومعرفة، فهؤلاء
أيضاً يعتبرون من جملة
مخاطبي مبلغي الدين، وهم
أيضاً بحاجة إلى أن يُبين
لهم الدين. إذن بنظرة
عامة يواجه مبلغ الدين
مختلف الطبقات لا العوام
فقط بل يواجه حتى الأشخاص
الذين يتمتعون بوافر من
المعرفة والعلم والتجربة،
وهذا مطلب يستحق
الالتفات، ويكون أساساً
وملاكاً لاتخاذ
القرار.35
تطوير المخاطب ورفع
مستواه:
إن مبلغ الدين عالم منتخب
وأن تبليغ الدين من وظائف
علماء الدين، فهل يمكننا
أن نقول: على غير العلماء
أن يقوموا بتبليغ الدين؟
كلا فتبليغ الدين إنما هو
مسؤولية العالم، فعلى
الذين يرومون ممارسة
تبليغ الدين أن يتوفروا-
في حدود حاجتهم - على
العلوم الدينية، وهذا
معناه أن على مبلغ الدين
أن يعقد العزم على رفع
مستوى مخاطبيه، وإن أساس
العمل التبليغي قائم على
تطوير المخاطب، فينبغي
توعيتهم وترقيتهم وتنمية
قابلياتهم الفكرية والأخذ
بهم إلى المعرفة الدينية
والتقرب إلى الله والكمال
الروحي، كالتلميذ الذي
يربيه الأستاذ بالتدريج
ويدفعه إلى الأمام.36
|